The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل السابع والثلاثون شرح الكبائر التي تحبط الأعمال وتوبق العمال وتفصيل ذلك ومنازل أهلها فيها ومسألة محاسبة الكفار:

 

 


الفصل السابع والثلاثون شرح الكبائر التي تحبط الأعمال وتوبق العمال وتفصيل ذلك ومنازل أهلها فيها ومسألة محاسبة الكفار:

قال الله تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء: 31، فاشترط لتكفير الصغائر من السيئات اجتناب الكبائر الموبقات، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن لمن اجتنب الكبائر، وفي لفظ آخر: كفّارات لما بينهن إلاّ الكبائر، فاستثنى من كفّارات الذنوب الكبائر، فاختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك، فكان ابن مسعود يقول: هنّ أربع، وكان ابن عمر يقول: الكبائر سبع، وقال عبد الله بن عمر وهنّ تسع، وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر إنّ الكبائر سبع يقول: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع، وقال مرة: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو من الكبائر، وقال هو وغيره: كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار فهو من الكبائر، وقال بعض السلف: كلما أوجب الحد في الدنيا فهو كبيرة، والصغائر عندهم من اللمم وهو ما لا حدّ فيه وما لم يتهدد بالنار عليه، فقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره، وكان عبد الرزاق يقول: الكبائر إحدى عشرة وهذا أكثر ما قيل في جملة عددها مجملاً، وقيل: إنها مبهمة لا يعرف حقيقة عددها كإبهام ليلة القدر وساعة يوم الجمعة والصلاة الوسطى ليكون الناس على خوف ورجاء فلا يقطعون بشيء ولا يسكنون إلى شيء، وقد قال ابن مسعود فيها قولاً حسناً من طريق الاستنباط، وقد سئل عن الكبائر فقال: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عِنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء: 31، فكل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة إلى ها هنا فهو من الكبائر، فأشبه هذا استدلال قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر أنها ليلة سبع وعشرين، أنه عد كلمات سورة القدر حتى انتهى إلى قوله هي فكان سبعاً وعشرين كلمة، والله أعلم بحقيقة هذين القولين والذي عندي في جملة ذلك مجتمعاً من المتفرق سبع عشرة تفصيلها: أربعة من أعمال القلوب وهنّ: الشرك بالله تعالى والإصرار على معصية الله تعالى والقنوط من رحمة الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى، وأربعة في اللسان وهنّ شهادة الزور وقذف المحصن وهو الحرّ البالغ المسلم واليمين الغموس، وهي التي تبطل بها حقّاً وتحقُّ بها باطلاً، وقيل: هي التي يقطع بها مال مسلم ظلماً ولو سواكاً من أراك، وسميت غموساً لأنها تغمسه في غضب الله تعالى، وقيل: لأنها تغمس صاحبها في النار، والسحر وهو ما كان من كلام أو فعل يقلب الأعيان أو يغير الإنسان وينقل المعاني عن موضوعات خلقها، والسحرة هم النفاثات في العقد الذين أمر الله تعالى بالإستعاذة منهم، وثلاثة في البطن وهي: شرب الخمر، والسكر من الأشربة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم، واثنتان في الفرج: وهما الزنا، وأن يعمل قوم عمل لوط في الادبار واثنتان في اليدين وهما: القتل والسرقة، وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنين، غير متحرف إلى الأمام، ولا متحيزاً إلى فئة، ولا معتقد الكرة، وواحدة في جميع الجسد هي: عقوق الوالدين وتفسير العقوق جملة أن يقسما عليه في حق فلا يبرّ قسمهما، وأن يسألاه في حاجة فلا يعطيهما، وأن يأمناه فيخونهما، وأن يجوعا فيشبع ولا تطعمهما، وأن يستبّاه فيضربهما، وذكر وهب بن منبه اليماني: أصل البرّ بالوالدين في التوراة أن تقي مالهما بمالك وتؤخر مالهما وتطعمها من مالك، وأصل العقوق أن تقي مالك بمالهما وتوفر مالك وتأكل مالهما، وفي حديث أبي هريرة: الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلاّ من ثلاثة: إشراك بالله، وترك السنّة، ونكث الصفقة، أن تبايع الرجل ثم تخرج عليه بالسيف تقاتله.

وقد روينا عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق، ومن الكبائر السبّتان بالسبّة، وأما عبادة بن الصامت وأبو سعد الخدري وغيرهما من الصحابة فكانوا يقولون: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر، وهي في بعض الألفاظ من الموبقات، وقالت طائفة كل عمد فهو كبيرة، وقال بعض السلف: أربعة أشياء مبهمة لا يعلم حقائقها: الصلاة الوسطى، وليلة القدر، وساعة يوم الجمعة المرجّو فيها الإجابة، والكبائر ذلك ليكون الناس على خوف من الوعيد في الإتقاء، وعلى رجاء من الوعود في الابتغاء، لئلا يقطعوا بشيء ولا يسكنوا إلى شيء ولله عاقبة الأمور، فالذي ذكرناه من الخصائل هو من أوسط الأقوال وأعدلها وهو ما اتفقوا عليه، وكثرت الأخبار فيه، فهذه الكبائر الموبقات التي من اجتنبها كفرت عنه السيّئات وثبتت له النوافل من الفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام، وذلك أنّ دعائم الإسلام وهذه الكبائر قرينان يعتلجان ويتقاومان في العظم والمعنى بالتضاد، فالكبائر كبرت فكفّر اجتنابها ما دونها من الصغائر، والفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام إذا تممت كفّرت ما بعدها من السيّئات وثبت للعبد نوافله وتبدل سيّئاته حسنات فيكون له فضل عظيم يرجى له الجنة ومنازل العاملين وهو السابق بالخيرات.

قال الله تعالى: (إنْ تَجْتِنَبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء: 31 وقال من بعد الكبائر: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ عَمَلاً صَالِحًا فَأوُلئكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهمْ حَسنَاتٍ) الفرقان: 7، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلوات الخمس كفّارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، فالفرائض الأربع التي هي أبنية الإسلام منوطة بالصلوات الخمس، لا تصّح إلاّ بها كالشيء الواحد بمنزلة الأربع، فالصلوات مرتبطة بالشهادتين، إن ترك خصلة منها كان كترك الخمس لأنها أسّ الإسلام وأبنية الإيمان، واجتناب الكبائر منوط بالشهادتين لا يقع جميع ذلك إلاّ بهما، فإذا انتهكت الكبائر أحبطت الأعمال الفرائض الخمس، أحبطت ما بينها من السيّئات إلاّ الكبائر، فإنهاكبرت فلا تكفرها فلا يبقى للعبد يوم القيامة مع ارتكاب الكبائر من الأعمال إلاّ الفرائض الخمس، وقد أكل سائر نوافله ارتكاب الكبائر فيخاف عليه النار ومنازل المسرفين وهذا هو ظالم لنفسه وهو الذي حذر الله تعالى المؤمنين عنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلا تُبْطِلوا أعْمَالَكُمْ) محمد: 33، ومنه قوله تعالى: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيّئةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطَيئَتُهُ) البقرة: 81 قيل: هي الكبائر أحاطت بجميع حسناته فمحقتها، وعلى هذا اختيارنا هذا الحرف من مقرانا وعلى الوجه الآخر وأحاطت به خطيئة هي الشرك الذي ختم له به فلم ينفعه عمل كان قبله، فإن قصر في الفرائض الخمس التي هي مباني الإسلام إلاّ أنه مجتنب الكبائر كفرّت عنه سيّئاته كلها، وتممت فرائضه بسائر نوافله لأنها ثابتة له بعد أن يحصل له صحة التوحيد ويسلم من كبائر البدع التي تنقل عن الملة؛ وهذا ممن استوت حسناته وسيئاته فيطول وقوفه للحساب ويشاهد الزلازل والأهوال ليكون ذلك رجحان حسناته ويجعل من أصحاب الأعراف على أعراف السور هي شرفه التي بين الجنة والنار هو الحجاب الذي بين أهل النار وأهل الجنة إلى أن يتفضل الله تعالى عليه بفضل رحمته، فإن سمح له مولاه فعفا عنه سقط عنه هذا كله وأدخل الجنة في أصحاب اليمين؛ وهذا هو المقصد المتوسط بين الظالم لنفسه والسابق إلى ربه، فإن لم يكن له نوافل مع نقصان فرائضه لم يبق له من أعماله إلاّ اجتناب الكبائر فيوزن ما بقي من عمله وهو اجتنابه الكبائر بفرائضه النواقص، فإن رحج اجتناب الكبائر مثقال ذرة أو فضلت له حسنة واحدة، ضاعفها الله تعالى بالمزيد وتجاوز عن سيّئاته في أصحاب الجنة ولم تكن له مقامات المقربين ولا درجات السابقين وهو ممن قال الله سبحانه وتعالى: (إنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ منْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء: 40، يعني الجنة وإن خف أضاعته الفرائض لسنّته كان من الموقنين للحساب الطويل واحتاج إلى شفاعة الشافعين، فإن كان فرائضه الخمس ناقصة، وكان مرتكباً للكبائر فهو من الهالكين، لأنه ممن خفت موازينه من المؤمنين، وهذا من المسرفين هم أصحاب النار، فيدخل النار لنقص إسلامه ولوفور سيّئاته عليه إذ لم تمحها حسناته ولتطول نوافله بانتهاكه الكبائر، ولأن هذا نقص من مثقال دينار إلاّ أنه لا يكون من المخلدين لصحة توحيده، وعلى أنه أول من يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينارمن إيمان فهو في أول طبقة يخرج هذا إلى زنة شعيرة إلى ذرة من إيمان؛ وهؤلاء آخر الطبقات خروجًا إلى أن يبدو لبعضهم من الله تعالى ما لا يحتسبه ويظهر له غدًا ما لا يعلمه، فيعفي عن البعض ولا يجعل ممن حق عليه الوعيد لما سبق له من الكلمة الحسنى، ويتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنة.

وقد جاء في الخبر: يؤتى بالرجل من هذه الأمة فيسدّ به ركن من أركان جهنم، وقد جاء في الخبر: أنّ العبد ليوقف بين يدي الله عزّ وجلّ وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة، فيقوم أصحاب المظالم فيوجد قد سبّ عرض هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيقص من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فيقول الملائكة: يا ربنا قد فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير، فيقال: ألقوا من سيّئاتهم على سيّئاته وصكّوا له صكًّا إلى النار، وقد جاء في العلم أنّ آخر من يبقى في جهنم من الموحدين سبعة آلاف سنة.

وروينا عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة: وفيه شدة، وقال: والله لا يخرج عبد من النار بعد أن دخلها حتى يقيم فيها سبعة آلاف سنة، وهذا والله أعلم آخر من يخرج من النار لأنهم يخرجون زمراً متفاوتون من اليوم والجمعة والشهر والسنّة إلى ستة آلاف سنة فأكثرهم إيماناً أقلهم مقاماً وأقلهم مكثاً أولهم خروجاً، أما أول زمرة تخرج من في قلبه مثقال من الإيمان فهذا أقلهم لبثًا وأسرعهم خروجًا إلى شعيرة إلى ذرة؛ فهؤلاء أقلهم إيماناً وأنقصهم توحيداً وأعظمهم جرماً وأشدّهم على الله عتياً وهم أكثرهم مقاماً وقد اشتهر خبر من يخرج من النار بعد ألف عام ينادي: ياحنّان يا منّان، فقال الحسن لما روى هذا الحديث يا ليتني كنت ذلك الرجل لشدة خوفه خاف أن يدخلها ثم عظم خوفه فخاف أن لا يخرج منها فتمنى أن يخرج منها بعد ألف عام.

وقد جاء في الخبر: آخر من يخرج من النار وهو أيضاً آخر من يدخل الجنة، فلعله والله أعلم بعد سبعة آلاف سنة فيعطى من الجنة مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف، رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ومعنى الحكمة في إدخال البشر إلى النار على ترتيب الكون أنهم خلقوا من ماء ثم خالطه ما امتزج به من الأهواء فلا يستخرج ذلك إلاّ بالنار، فإنها تخرج الماء مما مازجه حتى يخلص، وأنهم أيضاً خلقوا من تراب الأرض بمنزلة الخشب المعوجّ يقوم بالنار حتى يستقيم، ثم يقطع عنه النار ويستقيم ذلك فعندها يصلح لغير النار وموضع الحكمة في تخليد الكافرين والشياطين في النار أنّ أرواحهم خلقت من جوهر النار فرجعت إلى معدنها، وهي أيضاً سوداء مظلمة نارية، وهم أيضاً خلقوا لها لا يصلحون لغيرها بمنزلة الحطب والشوك والحراق الذي لا يصلح إلاّ للنار، فتبارك الله تعالى حكمته معتدلة في الأشياء وحكمه غامض فيها، ينظر بعين التعديل فيقسم بها المقادير بمعاني التنقيص والتفضيل، ومجمل ما ذكرناه أنّ كل وصف يكون للعبد من الخير كفر عنه سيّئاته، فإن نوافله ساقطة وكل وصف يكون له من الشرّ لا يحبط نوافله، فإن نوافله موفرة ثابتة ومن كان عاملاً للحسنات وهو في ذلك يرتكب بعض الكبائر فإن أعمال برّه وفضائله موقوفة إلى التوبة، فإن تاب واستقام كفرت توبته ما سلف من كبائره وبدلت استقامته على الطاعة سيّئاته حسنات، وأكثر ما يوبق الناس من الكبائر المظالم، وأكثر ما يدخلهم النار ذنوب غيرهم إذا طرحت عليهم وكثير يدخلون الجنة بحسنات غيرهم إذا طرحت عليهم لأنها صحيحة ثابتة، وقد تبطل حسناتهم لدخول الآفات عليها، بلغني عن أبي عبد الله بن الجلاء أنّ بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه ليستحلّه فقال: لا أفعل، ليس في صحيفتي حسنة أفضل من حسناته، أريد أن أزين صحيفتي بها، وفي الحديث: ذنب يغفر وذنب لا يترك؛ فالذنب الذي يغفر ظلمك نفسك، والذنب الذي لا يترك مظالم العباد؛ والتوبة طريق الكل، والرحمة تسعهم، وباب التوبة مفتوح للكافة إلى طلوع الشمس من مغربها، وكل عبد توبته متقبلة ما لم تبلغ الروح الحلقوم ولم يعاين الملائكة فإذا بلغت الروح التراقي وعاينت الأملاك غلق عليه باب التوبة ومات على الإصرار، وقيل: من راق أي من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وظن أنه الفراق أيقن أنه قد فارق الدنيا بمعاينة الآخرة وفارق الناس والأهل بمعاينة الملائكة، فإن مات عن غير توبة كان ممن قال الله عزّ وجلّ: (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 قيل: التوبة كما فعل بأشياعهم من قبل.

ولما قال تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبةُ لِلَّدينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئات حتّى إذا حضرأحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنّى تُبْتُ الآن) النساء: 18 وحضور الموت يكون عند معاينة ملك الموت إذا خرجت الروح من جميع الجسم فلم يبق إلاّ ما بين القلب والعينين فهو الوقت الذي قال الله عزّ وجلة: (يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرى يَومَئِذٍ لِلمُجْرِمينَ) الفرقان: 22 وهو الذي خوف منه في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ تأتيَهُمُ المَلائِكَةُ) الأنعام: 158 يعني عند الموت؛ وهذا لأهل المعاينة أو يأتي ربك، يعني يوم القيامة؛ وهذا لأهل البرزخ يوم يأتي بعض آيات ربك وهو اليأس الذي يقع عنده من الدنيا؛ اليأس من طلوع الشمس من مغربها وهو آخر التوبة ويؤمن معه كل كافر، فقال سبحانه: (يَوْمَ يَأْت بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ منْ قَبْلُ) الأنعام: 158 أي من قبل المعاينة: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا) الأنعام: 158 قيل التوبة، وهوالوقت الذي قال اللّّه تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) غافر: 84 يعني كشف الغطاء قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنّة الله التي قد خلت في عباده يعني طريقته وشأنه الذي مضى في الخلق لا تبديل له ولن تجد لسنّة الله تبديلاً، وحكم العباد كلهم في المعاد إلى الله عزّ وجلّ إن عذبهم فبما اكتسبوا، ويعفو عن كثير، وإن شاء أن يغفر لهم وهو الغفور الرحيم، وقد يتفاوت الناس في جميع ما ذكرناه من أداء الفرائض ومن ارتكاب المعاصي والعرف، والتخلق بأخلاق النفس من عادات أبناء الدنيا وعرف معاشرتهم فيما بينهم؛ فإنّ ذلك حال الغافلين ومقام الجاهلين غير محمود العاقبة، ولامغبوط الخاتمة، ولا يترك العمل الصالح أيضاً خشية دخول الآفة، ولايدعه إن كان داخلاً فيه لما يعتريه فيه؛ ذلك بغية عدّوه منه لكن يكون على نيته الأولى من جهة القصد، فإن دخلت عليه علّة وضع عليها دواءها فعمل في نفيها وإزالتها وثبت على حسن نيته وصالح معاملته، ولا يدع عملاً لأجل الخلق حياء منهم وكراهة واعتقادهم فضله، لأن العمل لأجل الناس شرك، وتركه لأجلهم رياء، وترك العمل لأجل دخول الآفة فيه جهل، وتركه عند دخول العلّة عليه ضعف ووهن، ومن دخل في العمل للّّه تعالى وخرج منه لله تعالى لم يضرّه ما كان بين ذلك بعد أن ينفيه ولا يساكنه، وقد يضرّه ما يكون بعد ذلك: مثل إن كان سرّاً فأظهره بعد زمان فصار علانية فنقل من ديوان السرّ إلى ديوان العلانية، ومثل أن يتظاهر به ويفتخر ويدل به ويتكبر فيحبط ذلك عمله لأنه قد أفسده، والله لا يصلح عمل المفسدين، ومن دخل في العمل لله تعالى ودخل عليه في وسط العمل علة فخرج من العمل بها بطل عمله، ومن دخل في العلم بآفة وخرج منه بصحة سلم له عمله وجبر بآخره أوّله، وأفضل الأعمال ما دخل في أوّله لله تعالى وخرج منه بالله تعالى، ولما تطرقه فيما بينهما آفة فيكون الله تعالى هوالأول فالآخر معه وعنده، ثم يظهره بعد ذلك ولا يتظاهر به، وأفضل النيات أن لا تريد بعملك إلاّ وجه الله تعالى وحده تعظيمًا لحق الربوبية وإلزامًا للنفس وصفُ العبودية، فإن لم يكن هذا المقام عن مشاهدة وجه ذي الجلال والإكرام فمشاهدة ما رغب فيه وشوق إليه من الآخرة عن مقام الرجاء، ولا ينبغي للعبد أن يدخل في شيء حتى يعلم علمه فيكون داخلاً في علم يعلم مثله، لأن لله سبحانه وتعالى في كل شيء حكمًا، فما علم من ذلك حمد الله تعالى عليه وعمله، وما جهل سأل عنه من هو أعلم به، وما أشكل عليه أمسك عنه حتى يستبين له وجهه فيقدم عليه أو يتركه، وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله تعالى تقريباً إليه لأجل الله تعالى، فهذا أعلى النيات وهو غاية الإخلاص.

ومن أراد بأعماله ما عند الله تعالى من ثواب الآخرة من حظوظ نفسه ومعاني شهواته ولذته من النعيم في الجنان، واتخاذ الحور الحسان، مما وصف الله تعالى وندب، لم يقدح ذلك في إخلاصه ولم يغير صحة نيته من قبل أنّ الله تعالى مدحه ورغب فيه ووصفه، وكان ذلك مزيد مثله، إلاً أنّ هذا نقص في مقام المحبين وعيب عندهم كعيب من عمل لعاجل حظه من دنياه، وهو شرك في إخلاص الموحدين الذي اختصوا بالعبودية، فعتقوا من أسر الهوى بالحرية، فلم يسترقهم سوى الوحدانية لما شهدوا من خالص الربوبية، وإخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة ضرورة، إلاّ أنّ من رزق المقام منها دخل بحقيقة لإخلاص المعاملة ضرورة، فلا ينقيه ولا يصفيه عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين؛ وهذا مقام المحبين، وإنما أتعب المريدين بالتنقية والتصفية للمعاملة لما بقي عليهم من الشرك الخفي والشهوة الخفية، كما أتعب خدام الدنيا بالجمع لها لما استرقهم من الهوى فأما الأحرار فهم من خدمة الخلق برآء؛ وهذا يذهب الإخلاص ويفسد النية ويدخل الانتقاص، وما تلف له من شيء أو ظلم من حقه فلينوِ بذلك لذخر عند الله تعالى وليجعله في سبيل اللّّه بحسن ظنه بالله تعالى وصدق يقينه فإن له من ذلك ما نوى.

حدثونا عن رجل رؤي بعد وفاته فسئل منه كيف رأيت أعمالك؟ فقال كل شيء عملته لله تعالى وجدته، حتى حبة رمان التقطتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا، رأيت ذلك كله في كفة الحسنات، قال: وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيّئات، قال: وكان قد نفق لي حمار قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً، فقلت: موت سنور في الحسنات وهذا حمار قيمته مائة دينار ولا أدري له ثواباً؟ فقيل: إنه وجّه حيث بعثت به لأنك قلت لما قيل لك مات الحمار فقلت: في لعنة الله تعالى، أما بطل أجرك؟ ولو قلت في سبيل الله لوجدته في حسناتك.

وفي رواية أخرى قال: وتصدقت يوماً بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إليّ فوجدته لا علي ولا لي، قال سفيان: وقد رووا هذا ما أحسن حاله حيث وجدها لا له ولا عليه قد أحسن إليه، ومن أوذي أو اغتيب فليحتسب عرضه عند الله تعالى، فلعل ذلك يكون سبيًا لنجاته، فقد روي أنّ العبد ليحاسب على أعماله كلها فتبطل بدخول الآفات فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له أعمال من الحسنات لم يكن عملها فيستوجب به الجنة، فيعجب من ذلك فيقول: يارب هذه أعمال ما عملتها؟ فيقال: هي أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك جعلت حسناتهم لك، ولا تحقرن شيئًا من الأعمال وإن قل فتخليه من النية أو تصغره فربما كان هلاكه وعطبه فيه وهو لا يعلم، وقد روي ابن المبارك عن الحسن: أنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله تعالى: فيقول: والله ما أعرفك، فيقول: بلى أنت أخذت من حائطي تبنة وأنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: هذا أخذ من ثوبي زبيرة، ومات حماد بن أبي سليمان وكان أحد علماء أهل الكوفة، فقيل للثوري: ألا تشهد جنازنه؟ فقال: لو كانت لي نية لفعلت، ومات الحسن البصري فلم يحضر ابن سيرين جنازته فسئل عن ذلك فقال: لم يكن لي نية، وقد كان العلماء إذا سئلوا عن عمل شيء أو سعي فيه يقولون: إن رزقنا الله نية فعلنا ذلك، وقال يحيى بن كثير: حسن النية في العمل أبلغ من العمل، وقال بعض السلف كانوا يستحبون أن يكون لهم في كل شيء نية، وقال الفضيل بن عياض: لا تتحدّث إلاّ بنية، وكان بعضهم يقول: الخوف على فساد النية وتغيرها أشد من ترك الأعمال، وقال الثوري: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له نية في أن يأكل فإن أجابه فأكل فعليه وزران، وإن لم يجبه فعليه وزر واحد فصيّر عليه وزرين مع أكل طعامه بغير نية، لتعرضه للمقت وحمله أخاه على ما يكره، إذ لو علم لما أجابه، فمن أفهمه الله تعالى إخلاص النية وزاده معرفة الإخلاص أخرجه ذلك إلى الهرب من الناس ليخلص له معاملته لأنه ينظر بعين اليقين، وإذا لا ينفعه شيء إلاّ شيء بينه وبين الله عزّ وجلّ لا شرك فيه لسواه؛ وهذا المعنى هو الذي أخرج طائفة الأبدال إلى الكهوف تخليًا من أبناء الدنيا لخلاص أعمالهم إلى النظر إليهم، فهم وإن فارقوا فضائل الأعمال من صلاة الجماعة وغيرها فقد تقرر عندهم أنّ اجتناب معصية واحدة خير من عمل سبعين طاعة، فلذلك فارقوا فضول النوافل خشية دخول معصية واحدة عليهم، والجاهل بالله عزّ وجلّ يعمل في طلب الفضائل ولا يبالي بيسير الذنوب وفيها بعد من الله تعالى، وليس ذلك طريق المقربين، وقد تختلف النيات لاختلاف المقاصد فيصير ما كان بعداً قربًا بحسن النية وما كان حسنًا سيئًا لسوء النية به، من ذلك أنّ داود المحبر لما صنف كتاب العمل جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحًا ثم رده إليه فقال: ما لك؟ فقال فيه أسانيد ضعفاء فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد فانظر فيه بعين الخبر، إنما نظرت بعين العمل فانتفعت به، قال أحمد: رّده عليّ حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت بها، فردّه عليه فمكث الكتاب عنده طويلاً حتى اقتضاه إياه ابن المحبر، ثم رده عليه وقال: جزاك الله خيرًا، قد انتفعت به منفعة بينة، وقال الحسن: النية أبلغ من العمل، وقال: ابن آدم لا يهم بخير الآثار في قلبه منه نوران: فإن كانت الأولى لله عزّ وجلّ فلا تضرّ هذا الآخرة؛ يعني إن كان عنده الإخلاص في الخير في الهمة الأولى فلا تضرّه الوسوسة التي تخالجه بعد ذلك فإنها ضعيفة لا تحل قوة العقد ولا تحلّ محكم مبرمه، وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

وحدثونا عن بعض الصوفية قال: كنت قائمًا مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمرّ به بعض إخوانه من الأبدال فساره بشيء، فقال أبو عبيد: لا، فمرّ كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أنْ أحج معه فقلت لا، فقال: ألا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية، وقد نويت أنّ أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله أتعرض لمقت الله تعالى لأني أدخل في عمل الله تعالى شيئًا غيره فيكون هذا عندي أعظم من سبعين حجة، ومن كان له في مباح نية ولم تكن له نية في فضيلة فالأفضل هو المباح، حينئذ وقد انتقل المعنى فصار المباح هو الفضيلة وصارت الفضيلة هي النقيصة لعدم النية، وهذا لا يعلمه إلاّ العلماء بباطن العلم وهو غوامض التصريف: مثل أن يكون رجل قد ظلم فله أن ينتصر وإن عفا كان أفضل إلاّ أنه له نية في الانتصار وليس له نية في العفو، فالانتصار هو الأفضل، ومثل أن تكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليتقوى بها على الطاعة ويريح بها نفسه لوقت آخر وليس له في الصوم ولا في القيام نية، فقد صار الأكل والنوم حينئذ هو الأفضل، وقد كان أبو الدرداء يقول: إني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونًا لي على الحق، وكل عمل مباح للعبد فيه نية فهو مأجور عليه، وكل عمل فاضل لا نية للعبد فيه فأحسن حاله السلامة منه لا له ولا عليه وربما كان مأزورًا فيه إذا دخلت عليه نية دنيا، وكان عمل مباح أو فضل ليس للعبد فيه نية فهو عقل لا شيء له فيه، ولكنه يسأل عن فراغ وقته، وكل عمل فاضل للعبد فيه نية؛ فالعمل باطل ونيته هوى، وإنما وجد النية فيه القصور واختفاء لشهرته، فإن أراد به وجه الله تعالى سلم من عاقبته ولا فضيلة له به، وإن كان قد خفي عليه الهوى أو دق عليه لطيف حبّ الدنيا لجهله بالعلم فهو مأثوم فيه لتقصيره في طلب العلم الذي يعرف به الإخلاص وسكوته على الجهل الذي يدخل منه الانتقاص، ولا عذر له في ذلك، وقد جاء في الخبر: أنّ الله تعالى لا يعذر على الجهل ولا يحلّ للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت عن علمه، وقد قال الله سبحانه تعالى: (فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43.

وقد كان سهل رحمه الله تعالى سئل: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل؟ قال: نعم، قيل: ماهو؟ قال: الجهل بالجهل يعني أن يكون العبد جاهلاً وهو لا يعلم أنه جاهل، أو يحسب بجهله أنه عالم، فيسكت عن جهله ويرضى به فلا يتعلم فيضيع فرض الفرائض وأصل الفرائض كلها وهو طلب العلم، ولعله أن يفتي الجهل أو يتكلم بالشبهات وهو يظن أنه علم؛ فهذا أعظم من سكوته، وكذلك أيضاً ما أطيع اللّّه تعالى بمثل العلم، ومن العلم العلم بالعلم أي شيء هو؟ وذلك أيضًا واجب من حيث كان العلم واجباً ليكون على بصيرة من تعلّم العلم، لأنه قد دخل مذهب المتكلمين وأقوال الغالطين من الصوفية والقصاص في شبهات العلم، فصار زخرفًا من القول غروواً يشبه العلم وليس بعلم لالتباس المعنى بعضه ببعض ولإشكال دقائق العلوم وغرائبه وخفاء السنّة من طريقة علماء السلف، فاختلط لذلك القصاص والمتكلمون بالعلماء فصار معرفة العلم أي شيء هو والعلم بالعالم من هو علم آخر، وصار العالم بالعلم ما هو دون الزخرف من القول كأنه عالم فكان أيضًا العلم بالمعلم بمنزلة فضل العلم ووجب وجوبه، كما كان الجهل بالجهل أعظم من الجهل، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: قسوة القلب بالجهل من قسوته بالمعاصي لأن الجهل ظلمة لا ينفع البصر فيه شيئاً ونور العلم يهتدي به القاصد وإن لم يمش.

وقد قيل في تفسير وقوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 قال: عملوا أعمالاً لجهلهم ظنوا أنها حسنات فوجدوها سيئات وقيل: ذنوب غيرهم طرحت عليهم فعذبوا بها ولم يكونوا يحتسبون بها في الدنيا؛ يعني هذا مثل ما روي في الخبر: أنّ العبد ليرى من أعماله الحسنات مما يرجو به المنازل في الجنة فتلقى عليه سيّئات لم يعملها فترجح بحسناته كلها فيستوجب النار فيول: يارب هذه سيّئات ما عملتها هلكت بها، فيقول: هذه ذنوب القوم الذي اغتبتهم وآذيتهم وظلمتهم ألقيت عليك وتخلصوا منها، وقد روينا في معناه حديثًا مسندًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ العبد ليوافي القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له دخل الجنة، ويأتي قد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد فنيت حسناته وقد بقي طالبون كثير، فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيّئاتهم ثم صكّوا له صكًّا إلى النار، وينبغي للعبد إن أراد أن يعمل عملاً أن يثبت له فيجدد له نية حسنة، ثم يقف وقفة فيتفقد هل يدخل عليه في ذلك آفة واحدة أو أكثر، فيخرج ما دخل عليه من الآفات بمشاهدة اليقين، ثم يعمل ذلك العمل للّّه وحده لا شريك له في قصده ووجده وطلبه وثوابه ثم يستقيم على ذلك العمل؛ فإن دخلت عليه آفة في خلله نفاها حتى يكون قائمًا بشهادته؛ فهذا هو الإخلاص لأن المخلص يحتاج في إخلاصه إلى شيئين ليس أحدهما أولى به من الآخر صحة القصد لوجه الله تعالى وطلبه ما عنده من الآخرة، ثم إخراج الآفات والحذر على ذلك العمل من دخولها عليه إلى فراغه منه، فبذلك يتم إخلاصه ويصفو من كدرة الهوى ويخلص من الشهوة الخفية فيكون خالصًا من الرياء بالإخلاص، صافيًا من الشهوة، يتفقد دخول الآفة، كما روي في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية، قيل: حبّ الدنيا وقيل: العمل؛ لأنه يؤجر العبد ويحمد ثم إذا همّ العبد بعمل وقف قبله وقفة فتبدبره وتفكّر كم فيه من نية، فربما وجد في العمل الواحد عشر نيّات أو خمسًا وما بين ذلك لما يحتمل ذلك العمل من وجوه البرّ ومعاني القربات المندوب إليه ا، فيكون له بكل نية عمل، فيؤجر على العمل الواحد عشرة أجور لأنه عشرة أعمال أو خمسة، يكون لكل نية عمل وبكل عمل أجر؛ وهو من فضائل الأعمال وتضاعيف الحسنات، ولا يعلمه إلاّ العلماء بالله تعالى وأحكامه؛ وهو طريق الأبدال من صالحيّ أهل الأحوال؛ فبذلك زكت أعمالهم وارتفعت مقاماتهم وكثرت أجورهم وحسنت حالاتهم لا بكثرة الأعمال لكن بتحسينها ووجود النيات الكثيرة فيها، وقد جاء في الأثر: من عمل عملاً لا يريد به وجه الله لم يزل في مقت من الله حتى يفرغ، وقد قال بعض الأدباء: من لم يشكر لك حسن النية فيه لم يشكر لك حسن الصنيعة إليه وأنشدوا في معناه:

لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف

ولا ألومك إذا لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المكتوب مصروف

ولو لم يكن في تجديد النية الحسنة وتفقد الهمة العالية إلاّ أنّ صاحبها لايزال عاملاً من عمال الله تعالى بقلبه وهمه، وإن لم يساعده القدر على الأفعال بجوارحه، فيكون أبداً مأجوراً، ولو لم يكن في نية الشر والهمة الدنية إلاّ أنّ صاحبها في بطالة وخسارة وإن لم يساعده المقدور على الأفعال السيئة بجوارحه فيكون خاسرًا أبدًا مأزورًا، ونعوذ بالله من ذلك، وقال بعضهم: إني لأستعد النية في كل شيء قبل الدخول فيه حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء، والنية في هذا التقوي على الطاعة والاستعانة به على الخدمة لأنّ النفس مطيتك إن قطعت بها قطعت بك ونية التطهر من التحلي لأجل الدين فكان الناس لشدة تفقدهم وحسن رعايتهم صادقين في ترك كثير من أعمال البرّ لضعف النية ويعملون في أحكام الأصل، قال ابن عيينة: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول، والنية أصل الأصول لأنها فرض الفرائض، وقال بعضهم: إنما أبعد القلب من الله عزّ وجلّ مظاهر أعمال الجوارح بغير مواطأة من القلب بصحة القصد؛ يعني بذلك نقص الإخلاص بها لأجل الله تبارك وتعالى، فالنكاح من معظم شأن الدين فنيته فيه أن لا يتزوج المرأة لجمالها ولا لمالها ولا لحسنها بل لدينها وعقلها، ثم ينوي السنّة لها والعفة والتحصين لهما، ويقنع بالمرأة الدون عن غيرها.

وفي الخبر: من نكح لله عزّ وجلّ وأنكح لله تعالى استحق ولاية الله تعالى، وأفضل الأعمال ما دخل فيه للّّه عزّ وجلّ وخرج منه لله ولم يعتوره بعد ذلك علة، وأعلى من هذا من دخل في الأعمال بالله عزّ وجلّ وثبت فيها مع الله وخرج منها بالله تعالى، وهذا مقام الموحدين من الموقنين والعارفين، فأصح الأعمال وأخلصها ما كان لله تبارك وتعالى هو الأوّل في أولها، ومع العامل في أوسطها، وللعبد عنده فيها، والله تعالى هو الآخرة عند آخرها، ثم لايظهرها بعد ذلك ولايتظاهر بها ولايطالع عوضًا عنها من الكبر الأكبر، بل ينساها ويشتغل بذكر مولاه عنها، والقعود في المساجد من أفضل شأن الدين وفضائل أعمال المتقين، فليكن له فيه عشر نيّات منها زيارة مولاه عزّ وجلّ في بيته، كما روي: من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور إكرام زائره، ومنها انتظار الصلاة بعد الصلاة، كما روي في معنى قوله تعالى: ورابطوا وهي المرابطة ومنها كفّ سمعه وبصره وترهبه في تألهه، كما روي: رهبانية أمتي القعود في المساجد، ومنها العكوف وحقيقته عكوف الهمّ على القلب، وعكوف السرّ بالتأله إلى اللّّه عزّ وجلّ، ومنها ذكر الله تعالى واستماع ذكره والتذكير به، كما روي: من غدا إلى المسجد يذكر الله تعالى ويذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله، ومثل ذلك إذا جلس ليعلم علمًا أو يتعلّمه كان أيضًا كالمجاهد، أو جلس لاستفادة أخ في الله عزّ وجلّ أو لتنزل رحمه الله أو لترك الذنوب للخشية والحياء، كما روينا في حديث الحسن بن عليّ عليهما السلام: من أدمن الاختلاف إلى المساجد رزقه الله تعالى إحدى سبع خصال: أخًا مستفادًا في اللّّه تعالى، أو رحمة مستنزلة، أو علمًا مستظرفًا، أو كلمة تدلّه على هدى أو تصرفه عن ردى، أو ترك الذنوب خشية أو حياء منه، فإخلاص النية هو بخروج أضدادها من القلب وعن القصد والهمة وإن كثر أعداده لتنفرد النية بقصدها، ويخلص العمل بانفراد النية لوجه الواحد الفرد المقصود بها، يروى عن بعضهم قال: غزوت في البحرفعرض بعضنا مخلاة فقلت: اشتريها وانتفع بها في غزاتي، فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها، فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأنّ شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: أكتب الغزاة فأملي عليه، أكتب: خرج فلان متنزهًا وفلان مرائيًا وفلان تاجرًا وفلان في سبيل الله، ثم نظر إليّ فقال: أكتب: خرج فلان تاجرًا، فقلت: اللّّه الله فيّ واللّّه ما خرجت أتجر ولا معي تجارة أتجر فيها، ما خرجت إلاّ للغزو، فقال لي: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح فيها فبكيت وقلت لا تكتبوني تاجرًا فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى؟ فقال: أكتب: خرج فلان غازيًا إلاّ أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عزّ وجلّ فيه ما يرى.

فصل

ومن المناقص المشبهة للفضائل الملتبسة على الأفاضل، لشهرة فضلها وروعة الهموم للدخول فيها، والتصبر عليها، وهي منكشفة للعلماء بالله تعالى: ما روي أنّ رجلين تآخيا في الله عزّ وجلّ بعد رفع عيسى بن مريم إلى السماء فترهب أحدهما وهو سرجس ولزم أخوه الآخر الجماعة والمساجد ومخالطة الناس، وكان أعلم منه بالله عزّ وجلّ، وكان يلقى آخاه سرجس فيقول: يا أخي إنّ هذا الأمر الذي دخلت فيه بدعة، وإنّ عليك فيه رعاية لا تقوم بحقها، وإنه ليس لله فيه رضا، فلو دخلت معي في الجماعة والإلفة كان ذلك لله تعالى رضًا وأصبت السنّة، فكان المترهب يعرض عنه ولا يعبأ برأيه ويقول له: إنك قد ركنت إلى الدنيا وأنست بالخلق، فلما أعياه قال له: فاجعل فطرك عندي الليلة حتى يتبين ذلك ففعل فقدم إليه فرخين شواهما وقال له: تعال حتى نجعل هذين الفرخين قاضيين بيننا قال: حتى يدعو الله كل واحد منا، فمن كان سيرته وهديه أحبّ إلى الله ورسوله يبعث بدعائه هذين الفرخين حتى يطيرا حييّن، قال: نعم فادع أنت، فدعا الراهب فقال: اللهم إنْ كان هذا الأمر الذي دخلت فيه أريد به رضاك أقرب إلى الحق مما يدعوني إليه أخي هذا فابعث هذين الفرخين إليّ قال: فلم يجب، فقال الآخر: اللهم إن كان هذا الأمر الذي تمسكت به وخالفت فيه هذا وأصحابه أقرب إلى الحق وأرضاهما عندك مما يدعوني إليه، أخي هذا من الاعتزال والفرقة للجماعة، فابعث لي هذين الفرخين قال: فصارا حييّن فطارا بإذن الله تعالى فعلم الأخ أنّ ذلك ليس لله رضا فرجع إلى الجماعة والمساجد، ومن التباس الفضائل العالية ترك العبد حاله في مقامه طلبًا للفضيلة ليزداد بها قربًا إلى الله عزّ وجلّ فينقلب عليه فيهلك ما أدخل العدو على برصيصًا العابد في تعليم الاسم الأعظم وقصته مشهورة، فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين فسبق إليه قبل فوته وعلم شرّ الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منها، وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به، وعلم شرّ الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وهذا من دقائق العلوم.

فصل

وقد تلتبس النية بالأمنية فتخفي والهمة وبالوسوسة فتشتبه، والنية ما كان يراد به وجه الله عزّ وجلّ ويطلب به ما عنده، والأمنية ما تعلق بالخلق وطلب منه عاجل الحظ من الملك الفاني، وقد تلتبس الإرادة بالمحبة والحاجة بالشهوة؛ فالإرادة أن يريد وقوع الأمر وقد لا يحبّ كونه أو يريد أيضاً وجود ضده، والمحبة ما قهر العقل وغلب الوجد وحلّ في مجامع القلب وكره وجود غيره ولم يرد فقده، والحاجة ما اضطررت إليه، ولم يكن منه بداً ولا يستغني عنه بغيره، والشهوة مزيد لذّة واستدعاء فضل فآفة واجتلاب تقدم عادة، وقد يختلط الذكر بالقلب بالفكر في معاني القرب؛ فالذكر ما أظهر النسيّ وكشف الغيّ وأذكر الشكر، والفكر ما صوّر الأمر وأظهر الخبر، وقد يلتبس الرجاء بالمحبة والهوى بالنية، فالرجاء ما طمعت فيه بسبب ما والمحبة ما تطمعت ذوقه وجدته بغير تسبب تستخرجه وقد يلتبس ذل القلب بضعفه وموته للطمع في الخلق بذل النفس لمشاهدة عز الخالق سبحانه وتعالى، وقد يتداخل ذلّ الطمع لدناءة الهمة والنفس بذل العقل للاعتراف بالحق وخضوع العلم له، وقد يلتبس ذلّ النفس لغلبة الهوى وقهره للعقل بذل القلب لسرعة الانقياد للعالم المحقّ، وقد يختلط عزة القلب بمقلبه بدوام النظر إليه وعزة العقل بعمله الذي كبر عنده، وقد تلتبس عزة النفس بوصفها المتسلّط بعزة الإيمان، المعزز بغيبة اليقين؛ فهذه فروق ظاهرة للعارفين وخروق متسعة ترهب الغافلين، وقد تلتبس العبادة بالعادة مثل أن يكون للعبد نية في علم أو عمل أو صدقة أو نفقة الشهر والسنة ثم تعزب نيته فيبقى على عادته يرب حاله الذي قد عرف به، لا يحبّ أن يخرج من عرف الناس فيتعمل لاستقامة الحال على التكلّف بتلك الأعمال فتذهب النية وتبقى العادة فيخرج بذلك من إرادة الآخرة والسعي لها، ويدخل في إرادة الدنيا بالشهوات على جريان العادة بها، وقد يشهد شهادة الدنيا من طلب الرياسة لوجود الهوى بطرقات الآخرة في معنى العلوم والأعمال فما طلب من أعمال السلف وأريد به تأديب النفس ويعلم به الزهد في الدنيا؛ فهذه طرقات الآخرة، وما كان على ضده فهو طرقات الدنيا؛ إذ هو ضدها، وقالوا: كان الناس إذا علموا عملوا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا هربوا، وقالوا: تفقه ثم اعتزل، وقد يلتبس إظهار الأعمال وكشف ما كتم من الأحوال لأجل التأديب به والابتاع عليه، أو لاظهار قدرة اللّّه عزّ وجل وآياته لمزيد السامع من المعرفة به بفعل مثل ذلك للتزين والفخر أو للمدح به وطلب الذكر، وسئل أبو سليمان عن الرجل يخبر بالشيء عن نفسه فقالوا: إذا كان إمامًا يقتدى به فنعم، وقال مرة هو أو غيره: يختلف ذلك على قدر الإرادة به إذا أراد التأديب للنفس حسن ذلك فهذا يلتبس بمداخلة النفس أو بفنائها بقيومية شاهد اليقين للرب عزّ وجلّ.

فصل

ترك العمل عمل كثير يحتاج التارك للنهي أو المكروه فرضًا أو ورعًا إلى نية حسنة أن يتركه لله عزّ وجلّ طلب مأمنه أو رغبة فيما عنده، لا لوجود الخلق، ولا ليرب به حاله أو يقيم به عند العبيد جاهه، لأنّ ترك المعصية من أفضل الأعمال فيحتاج إلى أحسن النيات، إذ عليها من الله تعالى أجزل المثوبات لبلوى النفس بهاواضطراب الوصف إليها، وقال بعضهم: من أحبّ أن يعرف ورعه غير الله تعالى فليس من الله في شيء، وروي عن زكريا عليه السلام: أنّ قومًا دخلوا عليه وكان يعمل في حائط القوم بالطين، وكان صانعًا يأكل من كدّ يديه، فقدم إليه عندهم رغيفيه وجعل يأكل ولم يدعهم حتى فرغ، فسألوه عن ذلك لعلمهم بزهده وكرمه فقال: إني أعمل لقوم بأجرة، وقربوا إليّ هذين الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم؛ فهذا ممن ترك فضلاً لفرض، وممن كانت له نية في الترك، كما تكون له في الفعل وقال بعضهم: دخلت على سفيان بن أبي عاصم وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه، ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه.

وقد روينا في الخبر: أنّ أعجميّاً مرّ بنفر قعود يتكلمون بكلام فيه استهزاء ولهو فظن أنهم يدعون الله عزّ وجلّ فقال: مثل ما يقولون بحسن نيته، قال: فغفر الله لهم بحسن نيته وقال الحسن: من علامة المسلم أن لا يبدره لسانه ولا يسبقه بصره، ولا تقصر به نيته؛ يعني لا يضعف ولا تقعد به عن المسارعة إلى القربات هي أبد في قوة وزيادة وإن قصرت أعماله فيها وعجزت قوّى جوارحه وقال: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل الله عزّ وجلّ، وقال الحواريون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: ياروح الله ما الإخلاص لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يعمل العمل لله تعالى لا يحبّ أن يحمده عليه أحد من الناس، قالوا: فمن الناصح لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران؛ أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر اللّّه تعالى قبل أمر الدنيا، فحبّ المحمدة من الناس أصل هو فرعها، وهو يحبّ أن يعرف مكانه، ويريد الاشتهار، وينوي بقلبه محبة الإعظام له من وجوه الأنام، فلا ينفعه، مع هذه النية اختفاؤه في الآجام وعمله غير مقبول، كما روي أنّ عابداً من بني إسرائيل عبد اللّّه تعالى في سرب أربعين سنة، فكانت الملائكة ترفع عمله في السماء فلا يقبل، فقالت: ربنا وعزتك ما رفعنا إليك إلاّ حقّاً فقال عزّ وجلّ: صدقتم ملائكتي ولكنه يحبّ أن يعرف مكانه، فلذلك قال بعض السلف: من نجا من الكبر والرياء وحبّ الشهرة فقد سلم، وقال الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تفلت عليّ يعني تشرد أو تضعف، فتحتاج إلى مداواة لها، كما قال المنصور: المداومة على العمل حتى يخلص أشد من العمل، وقال الثوري: ما أعتد بما ظهر من عملي، وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، فإنه لا يقلّ عمل مع تقوى وكيف يقلّ عمل يتقبل؟ وقال بعضهم: من استوحش من الوحدة وأنس بالجماعة لم يسلم من الرياء، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العلم الصالح فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ أيتقبل منهم أم لا.

وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل، وقال ابن عجلان: العمل لا يصلح إلاّ بثلاث؛ التقوى لله عزّ وجلّ، والنية الحسنة، والإصابة وقد فسر الفضيل قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) هود: 7، قال: أخلصه وأصوبه قيل: وما ذاك؟ قال: العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وقال التياحي: للعمل أربع خصال لا يتم إلاً بهنّ: معرفة الله عزّ وجلّ، ومعرفة الحق، والإخلاص به والعمل على السنّة، فأي عمل كان قبل هذه الأربع لا ينفع فمنهم من يكون حسن الأداء لفرضه، كثير الندم والإشفاق من معاصيه، فيكون هذا أحسن حالاً، ومنهم من يكون سيء الأداء، قليل الحزن والندم على ذنوبه، فيكون هذا أسوأ حالاً وليس يجدون في ذلك على قياس واحد، والله تغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، لما سبق لهما في علمه، ولما نفذ لهما من مشيئته وحكمه، وقد يشترك الإثنان في معصية ويتفاوتان في حكم المشيئة ويتوب الله على من أحبّ ويتقبل ممن يحبّ، والقبول غير العمل، على العبد العمل وإلى المولى القبول، يقبل ممن يحبّ ويرد ما يشاء ممن يشاء، والسابقة غير المعصية؛ السابقة في المشيئة يغفر لمن سبقت له الحسنى جميع معاصيه السوأى ويعذب من حقّت عليه كلمة العذاب ويحبط أعماله الحسنى، والخلق مردودن إلى السابقة ومحكوم عليهم بعلم الله تعالى فيهم، وفي الخبر: هلك المصرون قدمًا إلى النار؛ والإصرار يكون بمعنى أن يعتقد بقلبه متى قدر على الذنب فعله أو لا يعقد الندم عليه ولا التوبة منه وأكبر الإصرار العسي في طلب الأوزار، وفي الخبر: سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافًا؛ فهؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى من المقرّبين أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ لهم أوزارًا وضعتها الأذكار.

وقال تعالى: (وَالسَّابقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ) الواقعة: 10 - 11، هذا ما علمناه من أدلة العلوم وتأوى التنزيل وعفو الله تعالى وإرادته من وراء ذلك كله وعلم القديم وللهّّ عاقبة الأمور.

مسألة محاسبة الكفّار

فأما محاسبة الكفّار فهذه مسألة اختلف الناس فيها، فمنهم من ذهب إلى أنهم يحاسبون، ومنهم من أنكر حسابهم، وقد اختلف الآثار في ذلك، فقد جاء في بعضها ما يدل على حسابهم وبه تعلق من قال به، وجاء في كثير منها ما يدل على أنهم لا يحاسبون، وبه احتجّ من أنكر حسابهم، وإنما يرجع عند الاختلاف إلى كتاب الله تعالى، ففيه الشفاء وبه الغنى، فيفصل ما أجمل القائلون ونعدل في القول الشديد فيما تأوّله المتأولون، فنقول: واللّّه أعلم أنّ الله سبحانه ذكر في كتابه آيتين تدل على مسألة الكفّار عن الشرك الذي أدخلوا في التوحيد، وعن إجابة المرسلين وتكذيبهم قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكَائي الَّذينَ كُنْتمْ تَزْعمون) القصص: 62 ثم قال في الآية الأخرى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ مَاذَاَ أجَبْتُمُ المُرْسَلينَ) القصص: 65 فنقول أنهم على هذا يسألون عن التوحيد فقط وعن تكذيب المرسلين هاتين الآيتين، وقال في الآيتين الآخرتين: (وَلا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمون) القصص: 78 وقال في الأخرى: (فَيَوْمَئِدٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جان) الرحمن: 39 ثم قال: (يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنَّوَاصي وَالأقْدَام) الرحمن: 41 فهذا نصّ في ترك المسألة على الذنوب والأعمال، فنقول بهاتين الآيتين: إنهم لا يسألون عن الأعمال، وإنما يحاسب على العمل من كانت بينه وبينه معاملة ومن ثبتت له حسنات يقع بها ترجيح وموازنة.

وقد روينا عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: (وَفِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) الصافات: 42، قال عن قول لا إله إلاّ الله، وقد رويناه مرفوعًا إلى النبي فهذ على معنى ماذكرناه أنهم يسألون عن التوحيد، فالناس من أهل الجنة والنار يحشرون يوم القيامة على ست طبقات؛ طائفة تدخل الجنة بغير حساب وهم السابقون المقرّبون، وطائفة تدخل الجنة بعد الحساب اليسير وهم خصوص المؤمنين والصالحين، ومنهم من يدخل بعد الحساب الطويل والمناقشة وهم أصحاب اليمين وعموم المؤمنين وكذلك أهل النار ثلاث طبقات؛ طائفة تدخل النار بغير سؤال ولا حساب، عالمان من عبدة الأوثان من ولد يافث بن نوح وهم يأجوج ومأجوج خلق خلقوا للنار، وطائفة تدخل النار بعد الحساب الطويل والمناقشة، وهم أهل الكبائر والمنافقون، وطائفة بسؤال وتوقيف من غير محاسبة على الأعمال وهم، أمم الأنبياء المرسل إليه م المرسلون لقوله تعالى: (فَلَنَسْألَنَّ الَّذين أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) الأعراف: 6.

وقد روينا في الخبر المشهور: من نوقش الحساب عذّب فقيل: يا رسول الله أليس اللّّه تعالى يقول: فسوف يحاسب حسابًايسيراً؟ فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذّب، وقد كان إمامنا سهل بن عبد الله يقول: يسأل الكفّار عن التوحيد ولا يسألون عن السنّة، ويسأل المبتدعون عن السنّة، ويسأل المسلمون عن الأعمال، فأما قوله تعالى: (إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية: 25 - 26 ففيها وجهان: أحد الوجهين أن يكون هذا كلامًا منفصلاً عما قبله يراد به المسلمون لأنه ذكر خبر الكفّار فختمه بالعذاب، فقال في أول الكلام: (إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه اللّّه العذاب الأكبر) الغاشية: 23 - 24 هذا آخر خبرهم، ثم استأنف مخبرًا عن غيرهم فقال إنّ إلينا إيابهم ثم إنَّ علينا حسابهم، والوجه الآخر أن يكون قوله تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية: 25 أي جزاءهم، فالحساب أيما ذكر للكفّار يكون بمعنى المجازاة على أعمالهم السيئة وكذلك قوله تعالى: (ووَجَدَ الله عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ) النور: 39 يعني جزاءه، إلاّ إنّ الفراء وغيره من أهل اللسان خالفونا في هذا فاعتبروه بما بعده فجعلوه دليلاً على المحاسبة قالوا: احتمل أن يكون قوله فوفاه حسابه أن يكون جزاءه كما قلنا واحتمل أن يريد محاسبته، فلما قيل: والله سريع الحساب كشف التنزيل التأويل بذلك أنّ حسابه يعني محاسبته، وكذلك قال الزجاج في تأويل ما ذكرناه آنفًا من قوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهمُ المُجْرِمونَ) القصص: 78 فقال معناه لا يسألون لتوجه من قبلهم أو ليرجع إليه م من علم ذلك وسبقه عليهم، أي قد فرغ الله عزّ وجلّ من ذلك فأحكمه بما سبق من علمه، وواطأه مقاتل بن سليمان على هذا التأويل باختلاف معنى بمعنى صنعته التفسير، لأنه لم يكن له في اللغة تمكين، فقال: معنى ذلك: ولا يسأل هؤلاء المجرمون عن ذنوب السالفين؛ فجعل الهاء والميم على من تقدم ذكره من قارون وأصحابه والقرون السالفة، لأنّ ذكرهم كان سياق هذا الخطاب في قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هو أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) القصص: 78، ثم قال: ولايسأل عن ذنوبهم؛ يعني هؤلاء المجرمون؛ يعني مشركي هذه الأمة، وقال أيضاً هو وغيره: إنّ الكفّار سألوا فقالوا: ترى ماذا فعل الله تعالى بالقرون الأولى الذين يقص علينا نبأهم؟ قال: فنزلت هذه الآية فهي بمنزلة قول فرعون، قال: فما بال القرون الأولى؟ فقال موسى عليه السلام: علمها عند ربي، إلاّ أنّ الله عزّ وجلّ قد قال في ذكر الحساب بمعنى الجزاء دعطاء حسابًا يعني مجازاة، وقيل: كفاية بمعنى كفاهم وأحسبهم ذلك، كما قال تعالى: (حَسْبُهمْ جَهَنَّمُ) المجادلة: 8، أي كافيهم ذلك.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!