The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل التاسع والثلاثون ترتيب الأقوات بالنقصان منها أو بزيادة الأوقات

 

 


الفصل التاسع والثلاثون ترتيب الأقوات بالنقصان منها أو بزيادة الأوقات

أما الأقوات فقد كان بعض السلف ينقص منها حتى يرد النفس إلى أقل قوامها،، فمن أراد هذا الطريق فلينقص في كل أكلة ربع سبع رغيف فيكون تاركاً لرغيف في شهر برياضة وتمهل، فلا يؤثر النقصان عليه شيئاً حتى تقف النفس على الأكل في ثلث بطنها وهو ثلث أكله المعتاد، وهذا طريق المريدين، ومن العلماء من لم يكن يعرض للأقوات ولكن يعمل في زيادة الأوقات فيؤخر أكله وقتًا بعد وقت حتى ينتهي إلى أكثر طاقة النفس لحمل الجوع بضعف الجسم عن الفرض أو خشية اضطراب العقل، فمن أراد هذا الطريق أخّر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل حتى يكون قد طوى ليلة في نصف شهر؛ وهذا طريق من أراد الطي السبع والعشر والخمس عشرة يومًا إلى الأربعين، لأنه يعمل في تجوعه على مزيد الأيام ولا يعمل في نقصان الطعام فلا يؤثر ذلك نقصًا في عقله ولا ضعفًا عن أداء الفرائض، إذا كان على صحة قصد وحسن نية وصدق عقد، فإنه يعان على ذلك ويحفظ فيه ويكون طعمه إذا أكل عند كل وقت يزيد فيه النقص ضرورة عن غيرتعمل لنقصانه، لأن معاه تضيق لا محالة، فكلما زاد جوعه نقص أكله على هذا إلى أن ينتهي في الجوع، وينتهي في قلة الطعم، ولا ينال فضيلة الجوع التي وردت به الأخبار إلاّ بالطي، ومن الناس من يقول: حدّ الجوع الأول من الوقت إلى مثله كالغد أربعة وعشرون ساعة، وحدّه الآخر اثنان وسبعون ساعة؛ فهذا حدّ الجوع من الأوقات فأما حدّه في الأقوات فكان بعضهم يقول: حدّ الجوع أن لا تطلب نفسك الأدم، فمتى طلبت نفسك الأدم مع الخبز فلست جائعًا؛ فهذا حدّ الأوّل، وقيل: حدّه الجوع أن تطلب الخبز فلا تميز بينه وبين غيره، فمتى تاقت النفس إلى الخبز بعينه فليست بجائعة لأن لها شهوة في التخير، ومتى لم تميز بين خبز وغيره من مأكول؛ فهذا حدّ الجوع وهو الفاقة والحاجة إلى الطعام الذي جعله الله تبارك وتعالى غذاء للأجسام؛ وهذا يكون في آخر الحدّين من الأوقات بعد الثلاث إلى خمس وسبع، ويكون طلب العبد عند هذا الجوع القوام من العيش والضرورة من القوت وهو ما سدّ الجوعة وأعان على أداء الفريضة؛ وهذا حال الصديقين وقد سمعت بعض هذه الطائفة يقول: حدّ الجوع أن يبزق العبد، فإذا لم يقع على بزاقه ذباب فقد خلت معدته من الطعام يريد أنّ بزاقه قد خلا من الدسومة والدهنية وصار صافيًا مثل الماء فلا يسقط عليه الذباب مع نطق حاسته التي ركبت فيه وخفيّ إدراكه لما يقع عليه، فأما أكل العادات والتنقل في الشهوات والأكل حتى يشبع، فهذا عند العلماء مكروه، وأهله عندهم بمنزلة البهائم وأما الأكل على شبع والامتلاء حتى يتخم فهذا فسق عند العلماء وقد قاله لي بعض العارفين.

وروينا أنه قيل لأبي بكر: إنّ ابنك أكل البارحة حتى بشم، فقال: لو مات ما صلّيت عليه، فأما الصوم فليس هو عندهم الجوع المقصود لإسكان النفس وإخماد الطبع لأن الصوم يصير عادة ويرجع الصائم إلى قوة طبعه إذا أفطر، فأما إذا كان يصوم ويفطر على الشهوت ويمتلئ من الأكل فإن صوم هذا لا يزيده إلاّ قوة طبع وظهور نفس، وتفتق عليه الشهوات، ويدخل عليه الفتور عن الطاعات، ويجلب عليه الكسل والسبات، وربما قوي طبعه جملة واحدة فظهرت عليه نفسه بقوة مجملة إلاّ إنه لا يجري في نهاره إلاّ فيما أجريت عادته عليه وجعل حاله فيه من أبواب الدنيا والتنقل في الهوى، وإن كان ظاهر حاله أسباب الآخرة عنده لقصور علمه، فإن شهودها دنيا، فالتقلل وأخذ البلغة من القوت في الأوقات مع الإفطار أصلح لقلب هذا، وأدوم لعمله، وأبلغ في آخرته من مثل هذا الصوم، لأن هذا الذي وصفناه هو صوم أبناء الدنيا المترفين ليس بصوم أهل الآخرة الزاهدين ولكن بالتقلل والطي وترك الشهوات واجتناب الشبهات تنكسر النفس وتذلّ، ويخمد الطبع، وتضعف الصفة عن العادة، وتقوي إرادة الآخرة، ويعمل المريد في سعيها وتخرج حلاوة الدنيا من القلب فيصير العبد مع التجوع والطي وترك النزهات كأنه زاهد.

وروينا في حديث أسامة بن زيد وأبي يزيد الطويل اختصرته: إنّ أقرب الناس من الله عزّ وجلّ يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحفّ بهم ملائكة السماء، نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عزّ وجلّ، افترش الناس الفرش وافترشوا الجباه والركب، ضيّع الناس فعل النبيّين وأخلاقهم وحفظوهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الله تعالى على كل بلدة ليس فيها منهم، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا الفلق ولبسوا الخرق، شعثًا غبرًا، يراهم الناس يظنون أنّ بهم داء، يقال: قد خولطوا وقد ذهبت عقولهم، ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أن ذهبت الدنيا عنهم، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول، عقلوا حيث ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لتلك البلدة، لا يعذّب الله عزّ وجلّ قومًا هم فيهم، الأرض بهم رحيمة، والجبّار عنهم راض، اتخذهم لنفسك أخداناً عسى أن تنجو بهم، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحلّ مع النبيّين، وتفرح بقدوم روحك الملائكة، ويصلّي عليك الجبّار عزّ وجلّ، وممن اشتهر بالطيّ وكثر النقل عنه بذلك الخمس عشرة يومًا إلى عشرين إلى شهر، جماعة من العلماء يكثر عددهم؛ منهم: ابن عمرو العوفي، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وإبراهيم التميمي، وحجاج بن قرافصة، وحفص بن العابد المصيصي، والمسلم بن سعد، وزهير البنائي، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله، وإبراهيم الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستًا، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً، وروي أن الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثًا ثلاثًا، وقد رأينا من كان يطوي تسعًا وخمسًا، وكثيرًا ممن يطوي ثلاثًا ثلاثًا.

وقد قال بعض العلماء: من طوى أربعين يوماً من الطعام ظهرت له قدرة من الملكوت، وكان يقول: لا يزهد العبد حقيقة الزهد الذي لا مشوبة فيه إلاّ بمشاهدة قدرة من غيب الملكوت، وبعضهم يقول: لا يوقن العبد يقيناً ثابتاً بحكم عليه لاستقامة فيه، ولبسة حال لازمة، وعلم نافذ في الملكوت، إلاّ بمشاهدة قدرة من قدرة الغيب، برأي عين تظهر له بشهادة دائمة، يقوم بها ويضطره؛ فعند هذا يعرف من الله تعالى، ومنه المخصوص القيوم به، ويصحّ لعبد مراد بهذا الطريق المنهج أربعين في سنة وأربعة أشهر، على ما نزلنا من تأخير الأوقات وقتًا بعد وقت، ورتبنا من رياضة النفس في الأوقات حتى تندرج الليالي في الأيام، وتدخل الأيام في الليالي، فتكون الأربعون بمنزلة يوم واحد وليلة واحدة، وهذا طريق بعض المقربين، لا يقدر عليه إلاّ مراد به، محمول فيه، مكاشف بشهادة تشغله عن نفسه، وتقطعه عن طبعه وعادته، وتنسيه جوعه، ويكشف له حقيقته ومرجوعه، وقد عرفنا من كان فعل ذلك، وظهرت له آيات من الملكوت، وكشف له عن معاني قدرة من الجبروت، تجلى الله له عزّ وجلّ بها ومنها كيف شاء، وقد وقف بعض هذه الطائفة على راهب فذاكره بحاله، وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: فإن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وأن معتقد إعجاز هذا وأنه لا يكون إلاّ النبي، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يومًا ما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام، وتعلم أنّ ما نحن عليه حقّ وأنك على باطل؟ قال: نعم فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلاّ من حيث يراه الراهب إلى أن طوى خمسين يومًا، فقال: أزيدك أيضًا، فطوى إلى تمام الستين فعجب الراهب منه واعتقد فضله وفضل دينه، وقال: ما كنت أظن أنّ أحداً يجاوز فعل المسيح عليه السلام ولكن هذه أمة تشبه الأنبياء في العلم والفضل، فكان سبب إسلامه، وممن كان يطوي أربعين يومًا إبراهيم التميمي وحجاج بن قرافصة، فأما الثلاثين والعشرين فقد حكي عن عدد كثير منهم: سهل بن عبد الله وجماعة من البصريين، وأما من يأكل في الشهر أكلتين وثلاثة وأربعة فهم كثير من الشاميين والجزريين، وإن أحبّ المريد أن يقسم فطره قسمين فيأكل رغيفاً عند إفطاره في أول الليل فيسكن بذلك جوعه، ويأكل رغيفًا عند السحر يستعين به على صومه فحسن، وإن أحب عمل في تأخير الإفطار على رياضة، ووقف عند السحر فلم يجاوزه، فيكون أكله سحراً فيحصل له بذلك خمسة أشياء جوع النهار للصائم، وجوع الليل للقائم، وخلوّ القلب لفراغ المعدة، ورقة الفكر واجتماع الهمّ لخلوّ القلب، وسكون النفس للمعلوم فلا ينازعه قبل وقته؛ وهذا أوسط الطرقات وأحبها إليّ وهو طريق السائرين.

وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: ما قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تزلع رجلاه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يواصل إلى السحر، فإن كان المريد يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ وهو أعدل طرقات الصيام أيضًا، أكل يوم فطره بعد الظهر وليلة صومه عند الفجر، فإن لم يفعل فليأكل يوم فطره نصف أكله بالأمس فكأنه صائم، فإن لم يفعل اضطراب جسمه وداخله الفتور في حاله، ومن لم يكن له معلوم فلا بأس أن يأكل شبعه ثم يتربص حتى ينتهي جوعه؛ فعلامة جوعه، أن لا تختار نفسه الخبز دون غيره من المأكولات، فإن اختارت نفسه الخبز ففيه بقية من الشبع، وعلامة شبعه بعد الأكل أن يأكل الخبر البحت على شهوة، فإذا تاقت نفسه إلى الأدم فقد ابتدأ شبعه، فإن تخيرت الأدام فهو شبعان، وترك المعلوم في الطعام طريق صوفية البغداديين، والوقوف مع المعلوم طريقة البصريين، ولما قدم صوفية أهل البصرة على أبي القاسم الجنيد بعد وفاة سهل رحمه اللّّه تعالى قال لهم: كيف تعملون في الصوم؟ فقالوا: نصوم بالنهار فإذا أمسينا قمنا إلى قفافنا، فقال: آه آه لو كنتم تصومون بلا قفاف كان أتم لحالكم؛ أي لا تسكنون إلى معلوم، فقالوا: لا نقوى على هذا ولعمري أنّ طريق البغداديين بترك المعلوم من المطعوم أعلى؛ وهو طريق المتوكلين من الأقوياء وطريقة البصريين بالمعلوم، والتوقيت أسلم من آفات النفوس وأقطع للتشرف والتطلع؛ وهو طريق المريدين والعاملين.

ذكر رياضة المريدين في المأكول وفضل الجوع وطريقة السلف في التقلّل والأكل

كان أبو ذر يقول في بعض إنكاره: قد غيرتم بنخلكم الشعير ولم يكن منخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين أدمين، واختلف عليكم بألوان الطعام وغداً أحدكم في ثوب، ورجع في آخر، ولم يكونوا هكذا في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يقول: قوتي في كل جمعة صاع من شعير والله العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه، فإني سمعته يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبّكم إلىّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من مات على مثل ما تركته عليه، وقد كان قوت جماعة من الصحابة صاع من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا صاعًا ونصفًا، وكان قوت أهل الصفة مدّ من تمر بين اثنين في كل يوم، والمدّ رطل وثلث، وكان الحسن يقول: المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف، والقبضة من السويق، والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع سرطًا سرطًا وبلعًا بلعًا، لا يطوي بطنه لجاره، ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: إذا وجد الفقير الماء سقط عنك فرضه.

وفي الحديث المشهور العام: المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء، هذا على التمثيل في الاتساع والكثرة؛ أي يأكل أضعاف أكل المؤمن، فكان المؤمن يأكل سبع أكل المنافق، والعرب ترفع في ذكر ضعف الشيء وإضعافه إلى سبعة، وقد فسّر ذلك عالمنا أبومحمد سهل فقال: معنى يأكل في سبعة أمعاء؛ أحدها شره، وطمع، وحرص، ورغبة، وغفلة، وعادة، أي فالمنافق يأكل بهذه المعاني، والمؤمن يأكل بمعنى الفاقة، والزهد، ولهذا كان يقول: لو كانت الدنيا دمًا غبيطًا كان قوت المؤمن منها حلالاً، لأنّ أكل المؤمن عنده ضرورة للقوام، ومن الناس من يضيف هذا الكلام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مخطئ في ذلك، إنما هو كلام إمامنا سهل بن عبد الله التستري رحمه الله، وقد سئل عن قوت المؤمن فقال: قوته الله تعالى، قال: سألت عن قوامه، فقال: الذكر فقال: إنما سألت عن غذائه، فقال: غذاؤه العلم، قلت: سألت عن طعمة الجسم، فقال: ما لك والجسم، دع الجسم على من تولاه قديماً يتولاه الآن، ثم قال: الجسد صنعة إذا عابت ردّها إلى صانعها، وسئل أيضًا عن الحلال، فقال: ما لم يعص الله في أوله ولم ينس في آخره، وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان يقول: القوت للمؤمنين والقوام للصالحين، والضرورة للصدّيقين، ومن كان ذا معلوم فالمستحبّ له أن لا يزيد على رغيفين في يوم وليلة، وليجعل بينهما وقتاً طويلاً مرة وقصيرًا أخرى على حسب الحاجة وتوقان النفس إلى الغذاء، لاعلى طرد العادة والشهوة، والرغيف ستة وثلاثون لقمة يكون قوام النفس في كل ساعة ثلاث لقمات، فإذا أراد أن يأكل الرغيف على هذا التقسيم فليجرع بعد كل ثلاث لقم جرعة ماء، فذلك اثنا عشر جرعة في تضاعيف ستة وثلاثين لقمة، ففي ذلك قوام الجسم وصلاحه في كل يوم وليلة على هذا الترتيب.

وقد روينا في مجمل هذا أثرًا، كان أبوذر يقول: كان قوتي على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعًا في كل جمعة، واللّّه العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه؛ فهذا يكون في كل يوم رطل أو نحوه، والأصل في جمل ما ذكرناه من التنزل في القوت ما رويناه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى رجل سمين فأومأ إلى بطنه بأصبعه، فقال: لو كان هذا في غير ها كان خيراً لك؛ يعني لو قدمته لآخرتك وآثرت به إخوانك فكان في غير جوفك لكان ذلك خيراً لك، ويعني قلة الطعم خير من كثرته وتجشاً أبو جحيفة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثريد ولحم، قال: كنت أكلته، فقال: اكفف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في الدنيا أطولكم جوعًا يوم القيامة، قال: فوالله ما ملأت بطني من طعام بعدها إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، وقد روينا عن الحسن عن أبي هريرة أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال البسوا الصوف وشمروا وكلوا في إنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء.

وروينا عن عيسى عليه السلام: أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعلّ قلوبكم ترى اللّّه عزّ وجلّ، وقد رواه عبد الرحمن بن يحيى الأسود عن طاوس رفعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: وقيل لأبي يزيد البسطامي وهو أعلى هذه الطائفة إشارة بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ قال: ببطن جائع وجسد عارٍ، وفي التوراة مكتوب: أن الله تبارك وتعالى ليبغض الحبر السمين، وفي بعض الكتب: ويمقت أهل بيت لحمين، وقد جاءا مسندين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق، وقد روينا عن ابن مسعود أنّ الله عزّ وجلّ يبغض القارئ السمين، وفي خبر مرسل: أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، فإذا جعل العبد شبعه بين جوعين كان جوعه أكثر من شبعه وسلم من حديث أبي خحيفة، ومن كانت له جوعة بعد كل شبعة اعتدل جوعه وشبعه، ومن أكل يوم في كل مرتين فقد تابع الشبع وتحقق بخبر أبي جحيفة وشبعه، حينئذ أكثر من جوعه؛ وليس ذلك من السنّة وهو من فعل المترفين وقد كانوا يعدونه سرفًا.

وقد روينا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا تغدى لم يتعشَّ، وإذا تعشّى لم يتغدَّ، وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقد روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضي الله عنها: إياك والإسراف، فإن أكلتين في يوم من الإسراف، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلمْ يَقْتُرُوا) الفرقان: 67 فكأنّ أكلتين في يوم إسراف، وأكلة في يومين إقتار وأكلة في يوم قواماً بين ذلك، وأقول على هذا إنّ أكل أربعة أرغفة سرف، وزغيفين قتر، وثلاثة أرغفة قوام حسن؛ وهذا أعدل الأقوات ولا يعجبني أكل أربعة أرغفة في مقام واحد لأني لا آمن به ازديادًا فيصير ذلك مقتاً، وقد يروى في خبر الأكل على الشبع يورث البرص، وقال بعض السلف: إنّ من السرف أن يأكل العبد كلما يشتهيه، وقد كان للصحابة أكلتان وشربتان، فالأكلتان الوجبة والغبوق، فالوجبة من الوقت إلى الوقت، وكقولك الوقعة، ومنه قوله: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها؛ أي إذا وقعت جنوب البدن على الأرض، والغبوق أن يشرب مذقه لبن، أو يأكل كفّ تمر عند النوم، أو بعد عتمة، أو يكون عند الظهيرة، وقد يكون ذلك سحرًا، والشربتان العلل والنهل، فالنهل الشربة الأولى من اللبن بمنزلة الوجبة، والعلل الشربة الثانية بمنزلة الغبوق من نقيع تمر أو زبيب يقوم مقام الأكلتين فهنّ تمام الري، والأولى علالة النفس من العطش فسمي عللاً، وكان من أخلاف السلف ترك الشبع اختيارًا لأنفسهم لخفة الجسم، أو مواساة الفقراء، أو مساواة لهم في الحال لئلا يفضل عليهم في حالهم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: أوّل بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبع، إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا.

وروينا في خبر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجوع لا من عوز أي مختارًا له مع الإمكان في الأوقات، وقال بعض العلماء: أبغض الأشياء إلى الله عزّ وجلّ بطن مليء ولو من حلال.

وقد روينا معناه مسندًا وفي الخبر الإسرائيلي أنّ يحيى عليه السلام ظهر له إبليس فرأى عليه معاليق من ألوان الأصباغ من كل شيء، فقال له: ما هذه المعاليق؟ قال: شهوات بني آدم، قال: فهل لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: هل غير ذلك؟ قال: لا، قال لله تبارك وتعالى على أن لا أملا بطني من طعام أبداً، قال إبليس: ولله علي أن لا أنصح مسلماً أبداً، وقد كان من أخلاق التابعين الصبر على الطعم إلى أحد حدّي الجوع؛ الأول منها وهو أربعة وعشرون ساعة، ولم يكن من أخلاقهم الأكل للعادة ولا تخيّر الأطعمة، ولا تعمّد الخبر خاصة دون غيره من المأكولات إذا سدّ الجوعة وقامت به البلغة، وكان أبو سليمان الداراني يقول: إذا عرضت لك حاجة من حوائج الآخرة فاقضها قبل أن تأكل، فما من أحد شبع إلاّ نقص من عقله، أو قال: تغير تقله عماً كان عليه، وكان يقول لأن أترك من عشائي لقمة أحبّ إليّ من قيام ليلة، هذا لإيثاره الجوع والتقلل على العباد مع التكثر.

وروينا عن وهب بن منبه وغيره أنّ عابداً دعا بعض إخوانه فقرّب إليه رغيفان فجعل أخوه يقلب بعض الأرغفة ليختار أجودها، فقال له العابد: من أي شيء تصنع؟ أما علمت أنّ هذا الرغيف الذي رغبت عنه ولم تقنع به قد عمل فيه كذا وكذا صانع، وظهرت فيه كذا وكذا صنعة؛ منها السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض، والأرض التي أنبتتت، والرياح، والبهائم، وبنو آدم حتى صار إلىك، ثم أنت بعد هذا تقلبه لا ترضى به؟ وقال الآخر زيادة في الخبر: إنّ الرغيف لا يستدير فيوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعاً وصنعة؛ أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس القمر والأفلاك وملكوت الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز، (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تَحْصُوها) إبراهيم: 34 والخبر المشهور: ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّّا من بطن فدل أنّ ما نقص من ملء البطن فذلك خير، ثم قال: حسب ابن آدم لقيمات يشددن صلبه، ففي قوله: لقيمات معنيان؛ التقلل والتصغير، لأن التاء تدخل للجمع القليل وهو ما دون العشرة من العدد، والمعنى الآخر هو التصغير لأن لقيمة تصغير لقمة، ثم قال: فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس، وفي لفظ آخر: وثلث للذكر، فدل أيضًا أنّ ملء البطن يمنع من الذكر وما منع من الذكر فهو شرّ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَالله خيْرٌ وَأبْقى) طه: 73، وقال: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 ومعنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلث طعام أن يأكل شبعه المعتاد فيصير ثلث الشبع قوام الجسد باعتياد ثان، كما كان ملء البطن من الشبع هو العادة الأولى، وثلث الشبع هو ثمان أواق؛ فهذا على معنى الخبر الآخر: طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الانين يكفي الأربعة، ففي هذا خمسة أوجه، قال بعض علمائنا البصريين: طعام الواحد شبعاً يكفي الاثنين قوتاً، وطعام الاثنين شبعاً يكفي الأربعة قوتاً، ومنهم من قال: طعام المسلم يكفي مؤمنين، وطعام مسلمين يكفي أربعة من خصوص المؤمنين، ويجوز أيضًا أن يكون طعام الواحد من المنافقين يكفي مسلمين على معنى قوله: المؤمن يأكل في مِعًى واحد والمنافق في سبعة أمعاء، ويصلح أن يكون معناه طعام الواحد من الصناع المتصرفين في المعايش يكفي اثنين ممن هو قاعد لا يتصرف، ويصلح أيضاً طعام الواحد من المفطرين يكفي طعام صائمين من الخصوص، وفي خبر عمر رضي الله عنه حين قال لابن مسعود وأبي موسى في قصة المرتد الذي قتلاه قبل أن يستتيباه ويحكما: ألا طينتم عليه بيتًا وألقيتم إليه كل يوم رغيفًا ثلاثة أيام، فلعله أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، اللهم إني لم آمر ولم أعلم ولم أرض إذ بلغني فدل هذا أنّ في كل رغيف كفاية يوم وثلاثة أرغفة عندنا بالحجاز رطل، لأن الرطل المكي عدد ستة أقراص مذ ذاك إلى يومنا، هذا فيكون كل رغيف ثمان أواق؛ فهذا كما قلناه: إنّ ثمانيَ أواق ثلث الشبع لقوله ثلث طعام بعد قوله لقيمات جمع لما دون العشرة، وهذا مواطئ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأكل سبع لقم، وحدثونا في أخبار الخلفاء أنّ الرشيد جمع أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي، فقال لهم: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه، فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الاهليلج الأسود، وقال الرومي: الدواء الذي لا داء فيه حبّ الرشاد الأبيض، وقال العراقي: الدواء الذي لا داء فيه الماء الحار، فقال السوادي، وكان أعلمهم: إنّ الاهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وإنّ حبّ الرشاد يرق المعدة وهذا داء، وإنّ الماء الحار يرخي المعدة وهذا داء، قالوا: فما عندك؟ قال: الدواء الذي لا داء فيه أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، فقالوا: صدق.

وحدثني بعض العلماء قال: ذكرت لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فتعجب منه واستحسنه وقال: ما سمعت كلامًا في قلّة الأكل أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جهدت الأطباء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلل من الأكل فلم يهتدوا إليه فأكثر ما قالوا: لا تقعد على طعامك حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع ويرفع قبل الشبع، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع المفرط ولا يشبع شديداً، وإنما كان مراده هذا الذي ذكره نبيّكم، وقد كان بعض علمائنا يقول: من أكل خبز الحنطة بحتًا بأدب لم يعتلّ إلاّ علّة الموت، قيل له: وما الأدب قال: يأكل بعد الجوع، ويرفع قبل الشبع، والأصل في هذا أنّ العلل داخلة على الأجسام من اختلاف نبات الأرض، لأن المعدة مركبة على طبائع أربع: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وكذلك منابت الأرض على هذه الطبائع فإذا أكثر من اختلاف منابتها أمالت الحرارة والبرودة من النبات غرائز الطبائع من الحرارة والبرودة من المعدة، وأمالت الرطوبة واليبوسة من النبات غرائز الطبائع من الرطوبة واليبوسة، فزاد بعض على بعض وقوي وصف على مثله فكانت الأمراض من مثل ذلك، لأن كل مأكول من نبات الأكل يعمل في وصف من معاني الجسم، وأنّ الحنطة مخالفة لسائر نبات الأرض المعتدلة في الطبائع الأربع كاعتدال الماء في سائر الأشربة، وقد شبّهوا لحم الدراج في خفته وقلة دهنه من سائر اللحوم بطبع الحنطة في سائر الحبوب.

وقال بعض الأطباء: كل من الخبز بحتًا ما شئت، فإن لا يضرّك، وقال غيره: أكل الخبز وحده خير من الأدم المردي، وقال بعضهم: لم يدخل الإنسان إلى معدته أنفع من الرمان، ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان، وقد مثل الأترج من سائر الفاكهة على سائر المعدة في الطبائع الأربع، وقد شبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمن بالأترجة طعمها طيب وريحها طيب؛ فهذه لطيفة من اللطيف، وحكمة من الحكيم تعالى، إذا أراد صحة جسم عبد أوحى إلى المعدة أن يأخذ كل طبع منها ضده من نبات الأرض الذي وقع في المعدة، فيأخذ طبع الحرارة طبع البرودة، ويأخذ طبع الرطوبة طبع اليبوسة من المأكول، فتعتدل الطبائع، فاستوى المزاج فيكون ذلك سببًا لصحة الجسم من علله، فإذا أراد أسقام جسم أمر كل طبيعة أن تأخذ جنسها ومثلها من المأكولات من نبات الأرض مثله، فتضرب المزاجات، ثم يدور ذلك في الجسد بمجاري العروق ومصباته إلى الأعضاء المتفاوتة الأدوات، فتقع كل أداة في عضو ضدها فتثقل بها، ويغشي كل آلة من جارحة ما لا يلائمها من طبعها فيسقم الجسم وتتفاوت العلل، فيكون هذا سبب الأمراض والعوارض، نعوذ بالله ذلك تقدير العزيز العليم.

وقد روينا: أصل بنية الإنسان عن الله تعالى في صفة خلق آدم عليه السلام، حدثنا عن البراء قال: حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال: حدثني أبي عن ابن منبه اليماني أنه وجد في التوراة صفة آدم عليه السلام حين خلقه الله عزّ وجلّ وابتدعه، فقال: إني خلقت آدم ركّبت جسده من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده تنمي في أجسادهم، وينمون عليها ركّبت جسده من رطب ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من التراب، ورطوبته من الماء وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم جعلت في الروح بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هنّ ملاك الجسم بإذني وقوامه لا يقوم الجسم إلاّ بهن، ولا يقوم منهن واحدة إلاّ بأخرى منهن المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم، ثم أسكت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه فكانت كل واحدة منهن ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته؛ فإن زاد منهن واحدة عليهن قهرتهن ومالت بهن، ودخل عليه السقم من ناحيته بقدر غلبتها حتى تضعف عن طاعتهن، وتعجز عن مقاربتهن، ثم ذكر الحديث بطوله: وقد تغلب الحرارة على بعض المريدين من قبل قوة المزاج وحدّة الشبهات، فيظهر الطبع فيتسع المني على العزب، كما تقوى الحرارة فينبع الدم؛ لأن أصل المني هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب وهناك مسكنه فتنضجه الحرارة فيستحيل أبيض، فإذا امتلأت منه خرزات الصلب وهو الفقار طلب الخروج من مسلكه فقويت الصحة بذلك، فهذا حين هيجان الإنسان إلى النكاح، ولا يصلح لمثل هذا أن يأكل الحرارات من الأطعمة، وليطفئ ذلك بأكل البرودات والأشياء القاطعة، وليجتنب أكل كل حار يابس أو بارد رطب؛ فإنه يهيّج الطبع ويقوي العضو.

وقد روينا عن قتادة في تفسير قوله تعالىك (وَلا تُحَمِّلْنامَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) البقرة: 286، قال الغلمة وقال فياض بن نجيح: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلث عقله.

وقد روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) الفلق: 3 قال: قيام الذكر، وقد أسند بعض الرواة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاّ أنه قال: الذكر إذا دخل، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري ولساني وقلب ومَنِيي وروينا عن أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهن أجمعين السلام أنهن كنّ يأكلن الخلّ والبرودات بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطعن به الشهوة، وروى بعض أشياخ الصوفية قال: اشتدت علي صفتي في بدء إرادتي بما لم أطق فكنت أضج إلى اللّّه تعالى في كل وقت فرأيت شخصًا في النوم فقال لي: ما لك؟ فشكوت إليه، فقال: تقدم إليّ فتقدمت فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤداي وجميع جسدي، قال: فأصبحت وقد انكشف مابي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك بمثله أو أشد فأكثرت الضجيج إلى الله عزّ وجلّ فجاءني شخص في المنام قال: تحبّ أن يذهب ما تجد وأضرب عنقك؟ فقلت: نعم، فقال: مدّ رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي، قال: فأصبحت وقد انكشف ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني بمثله من الاغتلام وأشدّ فرأيت شخصًا يخاطبني فيما بين صدري وثوبي: فقال ويحك كم تسأل اللّّه تعالى رفع ما لم يحبّ رفعه؟ قال: فتزوجت فانقطع عني ولم يعاودني، فكان ذلك سبب ذريته وولد له، فإذا كان العبد ناسيًا لجوعه ذاكرًا لربّه عزّ وجلّ فهو يشبه الملائكة، وإذا كان شبعان مهمومًا في طلب الشهوات فهو أشبه بالبهائم.

ويقال إنّ الجوع ملك والشبع مملوك، إنّ الجائع عزيز والشبعان ذليل، وقيل: الجوع عزّ كله، والشبع ذلّ كله، وقال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة.

وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لكل شيء باباً، وباب العبادة الصوم، والخبر المشهور: صوموا تصحوا فصحة القلوب من علل الرؤوس أعلى وأحسن من صحة الأجسام من علل الأسقام.

وقد روينا عن عائشة رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم، قلت: وكيف نديم قرع باب الجنة يا رسول الله؟ قال: بالجوع والظمأ، وقد نوّع أبو سعيد الخراز مقامات أهل الجوع في مقاصدهم عن مواجيدهم وهممهم، فحدثني الجهضمي عن أحمد بن شاكر قال: سمعت أبا سعيد يقول: سمعت الثقة من علمائنا يقول عن عبد الواحد بن زيد: إنه كان يقسم بالله ما صافى أحد إلاّ بالجوع، ولا مشوا على الماء إلاّ بالجوع، ولا طويت لهم الأرض إلاّ بالجوع.

وكان يعد الأخلاق السنية الشريفة المحمودة ويحلف أنهم ما نالوها إلاّ بالجوع، قال أبو سعيد: معنى الجوع اسم معلق على الخلق افترقوا في الدخول فيه والعمل به لعلل كثيرة، فمنهم من يجوع ورعًا إذا لم يصب الشيء الصافي، ومنهم من وجد الشيء الصافي فتركه زهدًا فيه من مخافة طول الحساب والوقوف والسؤال، ومنهم من استلذ العبادة والنشاط بها والخفة فرأى النيل من الطعام والشراب قاطعاً له وشغلاً عن الخدمة والخلوة، ومنهم من قرب من الله عزّ وجلّ فلزم قلبه حقيقة الحياء حين علم أنّ الله تبارك وتعالى مشاهده، وكان الحياء مقامه لا غير، فتوهم أنّ الله تعالى يراه وهو يمضغ بين يديه ويأكل ويشرب فيؤديه ذلك إلى الكنيف فيجوع من هذه العين، وهكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومنهم من أدركه السهو عن حاجاته فسلا عن نيل مصلحتين حتى يذكر في الغيب أو يذكر.

وقال أبو سعيد الخراز أيضاً: قال جماعة من الحكماء: إنّ الله تعالى لا يكلم أحدًا، وفي بطنه شيء من الدنيا؛ فهذا يدل على أمره لموسى عليه السلام، يقول: النيل ليلقاه خالياً من الدنيا، وبنفس ساكنة عن المنازعة إلى شيء من الملك، وروح روحانية قد أحياها الحي لحياته فعند ذلك يصلح هذا الشخص لمخاطبته مثلاً بلا ترجمان.

وحدثني الحسن بن يحيى البستي عن ابن مسروق قال: لقيت سهل بن عبد الله، فلما دخلت عليه وبشرني وقبلني وكان في إرادة وتذلل فقلت له: أحبّ أن تصف لي بدايتك وما كنت تقوت به، فقال: في كل سنة ثلاثة دراهم؛ كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم سمنًا، وبدرهم دقيق الرز، وأشوبه مخلصًا ثلاثمائة وستين أكرة آخذ ليلة أكرة أفطر عليها، فقلت: الساعة كيف تعمل؟ فقال: أكلاً بلا حدّ ولا توقيف.

وحدثونا في أخبار الملوك أنّ ملك الهند أهدى إلى المنصور تحفًا منها أنه وجه إليه بفيلسوف طبيب قال: فأنزله المنصور وأحسن إليه، فلما دخل عليه قال الفيلسوف: قد جئتك يا أمير المؤمنين بثلاث خصال يتنافس الملوك فيها لا نصنعها إلاّ لهم قال: وماهي؟ قال: أخضب لحيتك بسواد لا تنصل أبدًا ولا تتغير عن حالها، قال: وما الخصلة الثانية؟ قال: أعالجك بعلاج تتسع به في المأكل فتأكل أي شيء شئت فلا تتخم ولا يؤذيك الطعام، قال: وما الثالثة؟ قال: أقوّي صلبك بقوة تبسط إلى الجماع فتجامع ما شئت لا تملّ من ذلك ولا يضعف بصرك ولا ينقص من قوتك، قال: فأطرق المنصور ثم رفع رأسه إليه فقال: قد كنت أظن أنك أعقل مما أنت، أما السواد فلا حاجة لي به؛ فإن ذلك غرور وزور، والشيب هيبة ووقار، ولم أكن لأغير نورًا جعله الله تبارك وتعالى في وجهي بطلمة السواد، وأما ما ذكرت من الأكل فوالله ما أنا بشره، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة، لأنه يثقل الجسم ويشغل عن النوائب وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء فأرى ما أكره وأسمع ما لا أحب، وأما ماذكرت من النساء فإن النكاح شعبة من الجنون، وما أقبح بخليفة مثلي يجثو بين يدي صبية، ارجع إلى صاحبك مذمومًا مدحورًا فلا حاجة لي بما جئت به.

وحدثونا عن بعض هذه الطائفة قال: أتيت قاسمًا الجوعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال لي: أي شيء فيه؟ فقلت: قالوا الزهد قصر الأمل، فقال: وأي شيء سمعت فيه؟ فقلت: قالوا الزهد ترك الادخار، فقال: حسن؛ حتى عددت عليه أقوالاً فسكت، فقلت: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أعلم أنّ البطن دنياً العبد وبمقدار ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبمقدار ما يملكه بطنه تملكه الدنيا، وعلى هذا المعنى قال وهب بن منبه حكيم هذه الأمة: لكل شيء وسط وطرفان، فإذا أمسكت أحد الطرفين مال الآخر، وإن أمسكت الوسط اعتدل الطرفان، فكذلك البطن وسطاً بين الجوارح إن امسكتها اعتدلت الأطراف السمع والبصر واللسان والفرج والرجلان، وكذلك كان شيخنا ابن سالم يقول: إذا أعطيت البطن حظه من الشبع طلبت كل جارحة حظها من اللهو فجمحت بك النفس إلى الهلكة، وإذا منعت البطن حظه قصرت عنك كل جارحة عن حظها فاستقام القلب لذلك.

وكان بشر بن الحارث قد اعتل فسأل عبد الرحمن المتطبب عن شيء يوافقه من المأكول فقال له عبد الرحمن: تسألني؟ فإذا وصفت لك لم تقبل مني، فقا له بشر: صف لي حتى أسمع، فقال: تحتاج تستعمل ثلاثة أشياء، فإن فيهنّ صلاح جسمك، قال: ما هنّ؟ قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك إسفيذاجًا، فقال له بشر: تعلم شيئًا أقل شيء من السكنجبين يقوم مقامه؟ قال: لا، قال: فأنا أعرف، قال: وما هو؟ قال: الهندبا بالخل يقوم مقامه فتعرف شيئاً أقل ثمناً من السفرجل يقوم مقامه قال: لا قال: فأنا أعرف قال: ما هو؟ الخرنوب الشامي؟ قال: تعرف شيئاً أقل ثمنًا من الاسفيذاج يقوم مقامه؟ قال: أما هذا فلا، قال: بلى، قال: ما هو؟ قال: ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: فأنت أعلم مني بالطب فلِمَ تسألني؟.

ويستحبّ للعبد إذا كان جائعًا فتاقت نفسه إلى الجماع أن لا يأكل لئلا يجمع لنفسه بين حظين فيطلبهما، فربما طلبت الجماع للتعفف وهي تريد الأكل لتنبسط به إلى الجماع، وفي الجمع بين شهوتين تقوية النفس واجراء عادة لها، ويستحبّ للعبد إذا أكل أن لا ينام على أكله فيجمع بين غفلتين، فيعتاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصلِ أو يجلس فيذكر الله تعالى، فإنه أقرب إلى الشكر، وفي الحديث: أذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر لا تناموا فتقسو قلوبكم، فأقل ذلك أن يصلّي أربع ركعات، ويسبح مائة تسبيحة، ويقرأ أجزاء من القرآن عقيب كل أكلة، وقد كان سفيان الثوري إذا شبع في ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يتمثل فيقول: أشبع الزنجي وكده، ومرة يقول: أشبع الحمار وكده، وكان إذا جاع كأنه يتراخى في ذلك، وينبغي للمتقشف أن يأكل اللحم والدسم في الشهر مرتين، فإن أكله أربعًا فلا بأس قد كان السلف يفعلون ذلك، وفي خبر عن عليّ عليه السلام: من ترك أكل اللحم أربعين يومًا ساء خلقه، ومن داوم عليه أربعين يومًا قسا قلبه، وقد نهى عن مداومة اللحم، وقيل: إنّ له ضراوة كضراوة الخمرة، وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول للمتقللين من أهل عبادان: احفظوا عقولكم وتعاهدوها بالأدهان والدسم، فإنه ما كان وليّ للّّه عزّ وجلّ ناقص العقل، وإن أحبه المريد أن يأكل شيئاً من الطيّبات والفاكهة فليجعل ذلك بدلاً من الخبز ويقطع به جوعه؛ فيكون ذلك له قوتًا عند الحاجة إلى طعم ولا يكون تفكّهًا لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة، فإنه أسرع لِمَلَلهِ لأنه إذا شبع من الطِيبات غير الخبز شبعة أو شبعتين كان أقرب إلى تركه وانقطاع شهوته، ونظر أبو محمد سهل إلى ابن سالم شيخنا رحمه الله وفي يده خبز وتمر فقال له: ابتدئ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلاً أخذت من الخبز بعده حاجتك، قال: إن التمر مبارك، والخبز شؤم؛ يعني أنه كان سبب إخراج آدم من الجنة، وأما بركة التمر فإن الله تعالى ضرب النخلة مثلاً لكلمة التوحيد في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتُ وَفَرْعُهَا في السًّماء) إبراهيم: 24.

قال ابن عباس: كلمة التوحيد لاشيء أحلى منها كشجرة طيبة وهي النخلة، وليس في الثمار أحلى من الرطب، ولذلك شبّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمن في حلاوته ولينه وقوته وثبات أصله بالنخلة، فقال: لا يسقط ورقها مثلها كمثل المؤمن، يقول سهل رحمه الله: إذا استغنيت عن الخبز بغيره من الطعم كان خيرًا لك؛ يريد أن أتوقف نفسك مع عادة فتنازعك إليه ا، وقد ذكرت هذه الحكاية لأبي بكر بن الجلاء فأعجبته، وقال: هذا كلام الحكماء، وكان هذا يلائم حاله، وإن خشي المريد أن يكون شيء من المآكل والطيبات له عادة ولم يأمن تألّه قلبه وتوقان نفسه إليه ومنازعتها إياه، وكان العبد مبتدئًا غرّاً لا يعرف خبء النفس ودواهيها ولايفطن لمكرها وآفاتها؛ فإن ترك ذلك أفضل.

فليتركه حينئذ لأجل الله خوفًا أن يشتهيه فيحرص على مثله، ويدخل مداخل السوء من أجله، ويبيع دينه فيه أو خشية تمكّن العادة فيه، فتعذر عليه التوبة لدخوله في الشبهات عند اعتياد الشهوات لأنّ العادة جند الله تغلب العقل، والابتلاء سلطان من سلطان الله تعالى يقهر العلم، لأجله تعذرت الاستقامة، ولولا العداوة لكان الناس تائبين، ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين، فليترك حينئذ أكل الطيّبات إذا صارت شهوات، وخشي منها مطالبة العادات، ودعاوي النفس بالآفات، ناويًا بذلك ما ذكرناه لصلاح قلبه، وتسكين نفسه، ليملك بذلك نفسه قبل أن تملكه، ويفطم عادتها قبل أن تهلكه، ويغلب بالترك طبعه وهواه قبل أن يكونا بالشهوة يغلبانه، كما قال بعض الحكماء: إن لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون أروح لنفسي، وكما قال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي، فيصير الترك حينئذ والمنع للنفس غذاء وعادة، كما كان الأخذ والأكل عادة، ففي هذا عون له على صلاح قلبه ودوام حاله، وكان إبراهيم بن أدهم يسأل أصحابه عن الشيء من المأكول فيقال: إنه غال، فيقول له: أرخصو هـ بتركه، وقال بعض الأدباء في معناه:

وإذا غلا شيء على تركه ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا

وهو حينئذ تارك للشهوات لأجل الله تعالى وعامل من عمال الله؛ وقد كان هذا طريق طائفة من السلف إلى الله تعالى، ثم انقرضوا فانمحى طريقهم وخلف بعدهم خلف من العلماء ابتغوا الشهوات؛ ولم يقاموا في هذه المقامات ولاسلك بهم هذه الطرقات، فلم يتكلموا في ترك الشهوات؛ فلذلك درس هذا الطريق وعفا أثره لفقد سالكه وعدم كاشفه، فمن عمل به وسلكه فقد أظهره، ومن أظهر فقد أحيا أهله، حدثني بعض علمائنا عن بعض المريدين من أهل البصرة قال: نازعتني نفسي خبز أرزة وسمكاً فمنعتها فقويت مطالبتها فاشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، قال: فمات، فرأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: لا أحسن، أصف إليك ما يلقاني به ربي من النعيم والكرامة؟ وكان أول شيء استقبلني به خبز أرزة وسمكاً، فقال: كل شهوتك اليوم هنيئاً بغير حساب، وقد قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبَوُا هَنِيئًا بِمَا أَسْلُفْتُمْ في الأيَّامِ الخَالِيَة) الحاقة: 24، فكأنهم أسلفوا ترك الشهوات لما تركوها، وقدموا الجوع والعطش في خلو أيامهم فاستقبلهم بالأكل والشرب، ويقال: لكل عمل جزاء في الآخرة من جنسه وبمعناه، وقال سري القطي: منذ ثلاثين سنة أشتهي أن أغمس جزرة في دبس وأنا أمنع نفسي، وكان أبو سليمان الداراني يقول: ترك شهوة من شهوات النفس أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة ذلك إيثاراً للتقلل وخفة للعدة من الطعام أو خشية الاعتياد للشبع، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول: أنا أعرف إنساناً تقول له نفسه: أنا أصبر لك على طيّ عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تصبري على طيّ عشرة أيام، ولكن اتركي هذه الشهوة التي تشتهيها، وقال لي رجل: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فأخذ بجلد ذراعه وجعل يقول: جعت هذا الجوع كله؟ ولم يقل لي أترك الجوع، ولو قال لي: أتركه لعله كان يتركه، وقد كان رحمه الله قد ترك أكل الشهوات وأكل الخبز أيضًا ثلاثين سنة، وكان الجنيد رحمه الله يقول: يقوم أحدهم في صلاته فيجعل بينه وبين الله تعالى زنبيل طعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة، أو يسمع فهم الخطاب، ومثل البطن مثل الزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار، إنما حسن صوته لخفته ورقته، ولأنه أجوف غير ممتلئ، ولو كان ثقيلاً جالساً ممتلئاً لم يكن له صوت، وكذلك الجوف إذا خلا من الامتلاء كان أرقّ للقلب وأعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام، وروي عنه أنّ عتبة الغلام قل لعبد الواحد بن زيد: إنّ فلانًا يصف من قلبه منزلة لا أعرفها، قال: إن فلانًا لا يأكل التمر وأنت تأكله، قال: فأنا إنْ تركت التمر وأكله عرفت تلك المنزلة، قال: نعم وغيرها، فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه أبكى الله عنك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه عرفت صدق عزمه في الترك، هو إذا ترك شيئًا لم يعاود فيه أبدًا، وكان بعض أشياخنا ترك أكل الخبز الحار لأن كان يحبه ويشتهيه سنين كثيرة فعوتب في ذلك فقال: لو طمعت نفس في أكل الخبز عشرين سنة ما أطعمتها الساعة، وكان ربما يبكي من شدة شهوة نفسه وشدة عزم مجاهدته لاستشعار نفسه صدقه وحسن وفائه، فتيأس من شهوتها آخر الدهر، فكذلك كان يقع عليه البكاء للإياس من المشتهي، واعلم أنّ الشهوت لا حّد لها، ومثل القوة مثل العلم ذو حدود، فكم من شهوة دنية منعت رتبة علية، فإن لم تقطع الشهوات وتحسمها أحبّ ما كانت إليك أعطتك أرغب ما تكون فيها، فلا تقعد عن التوبة تنتظر آخرها، فإن النفس لا آخر لشهواتها إلى أن ترى الملائكة فعند ذلك تمحي صفاتها فتغيب الشهوات لأنها من أوصافها، فإن لم تترك الشهوات المعتادة فلا تعمل في مثلها من الزيادة بل يكون عملك في النقصان؛ فهو أقرب إلى أخلاق الإيمان، وقد كان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها، فإن طلبتموها فلا تحبوها، وكانوا يقولون ما زاد على الخبز فهو شهوة حتى الملح، وقال بعضهم: الخبز من أكبر الشهوات واعلم أنّ مازاد على الخبز فهو فاكهة يتفكّه به.

وقد روينا عن ابن عمر أنه قال ما تأتينا من العراق فاكهة أحبّ إلينا من الخبز، فإن كان لابد من تفكّه بفاكهة مع الخبز الذي هو قوت النفس فكما أطعم الله عز وجلّ الفقراء في الكفّارة وهو التوسط في الأدام الذي أمر به وأحبه لفقرائه مثل الخبز واللبن، لأن أعلى الأدام اللحم والحلو، وأدناه الملح والخلّ، فلم يأمر سبحانه وتعالى بأعلاه لأن يشقّ على الأغنياء، ولم يأمر بالأدنى لأنه يشقّ على الفقراء، وتوسط الأمر بينهما، فقال عزّ من قائل: (مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْليكُمْ) المائدة: 89 فهو ما ذكرناه، وعلى ذلك فإن ابتلى العبد كل الشهوات وحبّها فليظهر ذلك ولايخفيه وليشترها بنفسه ولا يسترها؛ فإن هذا من صدق الحال؛ وهو طريق السلف إن فاته المجاهدة في الأعمال فلا يفوتّنه الصدق في الحال، وإن لم يكن صديقًا فليصدق في كذبه؛ فإنّ الصدق في الكذب أحد الصدقين، وإن خفاء الكذب والنقص وإظهار ضده من الإخلاص والتمام هو كذبان لأنه نقص، وأظهر حال الكاملين واعتل وأبدى شعار المعصومين فكذب من طريقين، واستحق المقت من وجهين؛ فلذلك غضب الله عزّ وجلّ على المنافقين ومقتهم مقتين ثم لم يرض منهم إلاّ بتوبتين واشترط علهيم شرطين فقال تعالى: (إِنَّ المُناَفِقينَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ منَ النَّارِ) النساء: 145 يعني أسفل من الكفّار؛ لأنّ الكافر أخلص في كفره فسوي بين باطنه وظاهره، والمنافق كفر وأشرك في إيمانه فخالف بين باطنه وظاهره واستخف بنظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه وعظم عين المخلوق، فزاد اللّّه عزّ وجلّ في هوانه وشدد في توبه بما وكد من شرطه فقال تعالى: (إلاَّ الَّذين تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بالله وَأخْلصُوا دَيَنهُمْ للّّه) النساء: 146 الآية، وهذا الضرب من الرياء مما لا يمتحن به عالم بالله عزّ وجلّ ولا عاقل عن الله عزّ وجلّ ولله الحمد، وإن ابتلى بأكل الشهوات وببعض المعاصي، كما تجري الذنوب على العارفين، ولايبتلون برياء المخلوقين وليس للسلف في هذا الباب إلاّ طريقان؛ طريق هو المجاهدة للنفس وترك الشهوات، فمنهم من كان يخفيه لأنه أسلم له، ومنهم من كان يظهره لأنه مؤمن قوي نيته في ذلك القدوة والتأسي، وطريق آخر كان فيه طائفة من العلماء والعاملين وكانوا يأكلون الطيّبات ويتسعون في المآكل إذا وجدوها، إلاّ إنهم كانوا يظهرون ذلك ويكسفون نفوسهم به، فإن فاتك الطريق الأعلى فاسلك الطريق الأوسط الأسلم، فإما أن يكون عبدًا يأكل الشهوات في السرّ ويخفيها في العلانية، أو يظهر شعار ضدها من الترك لها والزهد فيها؛ فليس هذا طريق الموقنين ولامسلك الصادقين هذا وقد عرج طريق المسالك وسلك سبيل المهالك فإياك أن تترك محجّة الطريق فتقع في حيرة المضيق.

حدثنا أنّ عابدًا من بني إسرائيل انتهى في سياحته إلى أرض لقوم رأى في وسطها طريقًا مستطرقًا يسلك فيه السابلة فقال: هذه أرض لقوم كيف أسلكها؟ وشقّ عليه أن يجاوز الأرض فيبعد عليه طريقه فتفكر وقال: هذا طريق مسلوك لا بأس عليّ أن أسلكه فسلكه، فلما خرج من تلك الأرض عوقب على ذلك ونسي ذنبه فجعل يستكشف فقيل له: لأنك سلكت إلى غير طريق ودخلت في حرث قوم بغير إذنهم، فقال: يارب معذرة إلىك إني رأيته قد جعل طريقًا فأوحى الله عزّ وجلّ إليه، وكلما اتخذ الظالمون طريقًا جعلته إليّ سبيلاً، فمن سلك طريق ظالم بغرور لم يكن في ذلك معذورًا وأوقعه في الحيرة والغرور فهلك وأهلك من اقتدى به؛ وهذا طريق متصنّع جاهل متطرف بذلك إلى الدنيا، متشوف عند الناس بترك الشهوات، مظلم التوحيد في الوجد، ضعيف اليقين في غيبة عن العيون، وقد كان من شأن الصادقين من السلف اشتراء الشهوات بأنفسهم وتعليقها في منازلهم يظهرون للناس شعار الراغبين وهم فيها عند الله عزّ وجلّ من الزاهدين، لا يأكلونها، إنمايريدون بذلك إسقاط منزلتهم من قلوب الجاهلين، وإخفاء حالهم عن الناظرين وليصرفوا عنهم قلوب الغافلين، يقطعون بذلك المقامات ويشترون به المعاملات، لأن هذا مقام من زهد في الأشياء وأخفى زهده، فمن نهاية إخفاء الزهد إظهار ضده واستشعار المزهود فيه، ثم لا يتناول ولايتمتع به فيكون هذا أشدّ على النفس من المجاهدة، لأنه حمل عليها ثقلين: ثقل المنع من الحظ وثقل سقوط المنزلة عنه، فعدمت النفس لذة المتعة به، وفقدت أسباب المنزلة بتركه فجرعها كأس الصبر مرتين؛ فهذا حال الصادقين في تلك الشهوات، وطريق الأقوياء من أهل الإرادات، وهو يشبه فعل الزاهدين في باب العطاء، إنّ منهم من كان يأخذ العطاء علانية ثم يخرجه سرّاً فيكون له في الأخذ سقوط الجاه بظهور الرغبة، ويكون له في الإخراج معاملة السر بحقيقة الزهد فلا هو متّع نفسه بالجاه مع الرّد ولا هو أنالها حظها بتناوله مع الأخذ، فهذا أشد شيء على النفس، وهو طريق علماء الزهد، ومن سلكه أخرجه إلى مقام الصدّيقين، وهذان طريقان قد درسا وقد عفا أثرهما في وقتنا هذا لا يسلكه إلاّ من عرفه الفرد بعد الفرد والسابلة من القرّاء على طرقات التصنع والتزين.

وروي عن جعفر الصادق رضوان الله عليه: إذا قدمت إليّ شهوة نظرت إلى نفسي، فإن أظهرت شهوتها لها أطعمتها منها، وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوف عنه عاقتبها بالترك ولم أنلها منها شيئًا؛ تفسير ذلك أنّ إظهار النفس الشهوة أن لا تبالي أن تعرف بأكل الشهوات، وأن تحبّ أن يظهر على ذلك من يعرف من أهل الديانات، وإخفاء النفس الشهوة أن تشتهي وتحبّ أن لا يعلم أنها تشتهي، وتكره أن تعرف بأنها ممن تشتهى، فقال: هذه هي المعاقبة بترك أكلها لأنه إذا ترك أكل شهوة لأجل الشهوات ثم اشتهى أن لا يعرف بتركها؛ فهذا شهوة الشهوات، فقد وقع في أعظم مما كره، وتمتعه بشهوة النظر إليه اوالمدح له أكثر من تمتعه بترك شهوته المأكولة؛ وهذا من الشهوة الخفية، التي جاء في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء، والشهوة الخفية، والرياء بالمعاملات، وخفيّ الشهوة أنْ تشتهي أن تعرف وتوصف بترك الشهوات.

وسئل بعض العلماء عن بعض الزّاد فسكت عنه فقال: تعلم به بأساً؟ فقال: ما أعلم به بأساً إلاّ في شيء واحد مكروه يأكل في الخلوة ما لا يأكله في الجماعة، فأعلّه بذلك، ولعمري أنه موضع علّة؛ لأن الصادقين قد كانوا يأكلون في الجماعة ما لا يأكلون في الخلوة، فهذا ضد حالهم، فإن اتفق للعبد لونان أحدهما ألطف من الآخر ابتدأ فأكل الألطف منهما، فلعل كفايته تتّم به فيستريح من الآخرة، فإنما قدم أهل الدنيا غليظ الألوان على رقيقه ليتسعوا في الأكل وتنفتق شهواتهم فيكون لكل لون لطيف مكان آخر، وشبّه بعضهم المعدة بمنزلة جراب ملأته جوزاً حتى لم يبقَ فيه فضل للجوز، فجئت بسمسم فصببته عليه، فأخذ لنفسه موضعاً في خلال الجوز، فوسّع الجراب السمسم للطفه مع الجوز؛ فكذلك المعدة إذا ألقيت فيها طعامًا رقيقاً لطيفًا بعد طعام غليظ خشن أخذته الشهوات في أماكنها فتمكن فيها بعد الشبع مما قبله والعرب تعيب ذلك ولا تفعله إذ من سنتها أن تبتدئ باللحم قبل الثريد، قال رجل لبعض الأنباط: أنت من الذي يبتدئون بالثريد قبل الشواء، يذم أهل العراق بذلك هذا إذا استوى اللونان في الحكم أو لم يكن للمريد في ترك الأفضل منهما نية، فأما إن كان قد ترك الشهوات ثم قدمت إليه وكان على عقد نيته وقوة عزمه فلا بأس بأكل الأدون، وقد كان بعض الصادقين ممن ترك أكل الشهوات في الانفراد إذا قدمت إليه نال منها شيئاً يسيراً ليستر عن نفسه أبصار الناظرين ويصرف عنه قلوب المادحين، وقال أبو سليمان: إذا قدمت إلىك شهوة وقد كنت تاركًا لها فَأصِبْ منها يسيرًا ولاتعط نفسك منتهاها فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة، وتكون قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم

قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم يعتل بالنظر فيتداوى بالتناول للبعض، فأما إن كان قد اعتقد ترك شهوة لمعنى دخل علىه منها يخرجه من الورع، أو يعزم على المجاهدة، ثم أتى بها؛ فهذا اختبار من الله سبحانه وتعالى لينظر كيف يعمل في الوفاء بالعقد، فأحبّ إليّ أن لا ينال منها شيئاً وليتعلّل ويدافع عن نفسه بالمعاريض والمعاني حتى لا يفطن به أنه قد تركها للمجاهدة، فيكون قد فعل الوصفين معًا؛ الوفاء لعقد في تركها، والتورية بلطيف الحيلة من الفطنة له في قصده؛ وهذا طريق المريدين وصفات المتّقين؛ وهو الطريق الأدنى الذي ذكراه أولاً، فإن ظهر قرب الله تعالى منه وغلب نظره إليه أغناه عن الحيلة والاحتىال لقربه وشهادته ذا الجلال والإكرام؛ وهو الطريق الأعلى الذي ذكرناه آخراً، وهذا للموقنين، فأما إنْ كان الغليظ الخشن هو الأحل في الحكم وأبعد من الشبهة فهو الأطيب والأفضل في العلم فلا يأكل إلاّ منه، يقال: أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنبه، فلعل الله تعالى أن يشر له ترك لقمة شبهة لذيذة في الطعم إن كانت كريهة في الحكم، يتركها لأجله فيغفر له ما سلف من ذنبه، إنه غفور شكور، قيل: غفور لذنوب كثيرة، شكور لعمل يسير، كيف وقد صف المؤمنين أولي الهدى والتوحيد وذوي الرحمة والرشد بحسن التفقد في الطعمة فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهمْ وَزِدْنَاهمْ هُدًى) الكهف: 13، (وَرَبطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقَالُوا) الكهف: 14 يعني بشهادتهم بالتوحيد، فكان من قيامهم حسن تفقدهم في المأكول، ومراقبتهم للواحد في قولهم: (فَابْعَثَوا أَحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلى المدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكِى طَعَامًا فَْليأْتِكُمْ بِرِزقٍ منهُ) الكهف: 19 يعني أيها أحلّ وأفضل فأمروا رسولهم يتحرى الحلال إذ قاموا لذي الجلال والإكرام لما أمرهم بأكله إذ قدمه على الأعمال الصالحة في قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، ورعًا منهم وتقوى، وكذلك فافعل لتتبع سبيل المؤمنين فتكون معهم ولا تتبع سبيل المجرمين الظالمين فتحشر معهم.

هذه رياضة المريدين وطريق المجاهدين، فأما العارفون فليس لهم في الأكل تجربة وتقسيم إذا أطعموا تقلّلوا وشكروا، فإن رأوا له مكانًا آثروا، وإن جوعوا عملوا وصبروا، قالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء فإن قالوا نعم أكل، وإن قالوا لا قال إني صائم، وكان يقدم إليه الشيء فيقول: أما إني كنت أردت الصوم ثم يأكل، وفي الخبر: أنه خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا فقال: إني صائم ثم دخل فقالت عائشة: قد أهدي لنا حيس فقال: قد كنت أردت الصوم ولكن قرّبيه وكانت بينه وبين الله علامة في فطره وصومه، كان الوجود علامة فطرة يكون مرادًا به وكان العدم علامة صومه يكون معه مرادًا، وعلى المعنى تصريف قلوب العارفين ومن هذه المشكاة تضيء بصائر الشاهدين ولا يوكلون إلى حال، ولا يوقفون مع مقام، ولا تصحّ هذه الثلاث إلاّ بثلاث خلال: أحدها عدم الهوى وتوقان النفس بالعادة، والثانية: أن يكون له في أكله نية كما له في صومه نية فيكون أكله لله فيستوي أكله وصومه إذ كان العامل فيهما واحدًا، والثالثة أن يحفظ الجوارح الست بحسن الرعاية فيكون صائماً بما هو فرض علىه وأفضل له؛ وهنّ البصر، والسمع، واللسان، والقلب، واليد، والرجل، ويكون مفطراً بالبطن والفرج فيكون ما حفظ أكثر وأبلغ وأحب إلى الله عزّ وجلّ، ويكون أفضل ممن صام بجارحتىن؛ فإن لم يكن من أصبح صائمًا ثم أفطر بهذه الأوصاف الثلاث دخلت علىه الشهوة الخفيّة التي فسّرها رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد روينا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: أخاف علىكم الرياء والشهوة الخفيّة فقال: أن يصبح أحدكم صائمًا ثم يعرض له الطعام يشتهيه فيفطر لأجله فالأفضل لمن عقد لله صومًا أن يتمه، فإن فسخه لغير الله تعالى عوقب على ذلك من عقوبات القلوب أو عقوبات الجوارح في طرقات الآخرة؛ فتلك عقوبة ترك فضائل الأعمال، وفي خبر: نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح، هكذا رويناه، وقيل لبشر بن الحارث: إنّ فلاناً الغني يصوم الدهر، فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، إنما حاله أن يطعم الجياع، ويكسو العراة، ويواسي المحتاجين؛ فهذا أفضل له من صيامه الدهر، ثم قال بشر: عبادة الغني كروضة على مزبلة، وعبادة الفقير كعقد الجوهر في جيد الحسناء، ودخل سفيان الثوري يوماً على أبي إسحاق الفزاري فقدم إليه قصعة فيها خبيص، فقل: لولا أني صائم لأكلت معك، فقال الفزاري: دخل عليّ أخوك إبراهيم بن أدهم فقعد في موضعك هذا فقدمت إليه خبيصاً في هذه القصعة فأكل، فلما أراد الانصراف قال: إني كنت صائمًا إلاّ إني أحببت أن آكل معك أسرّك بذلك، قال: فوضع الثور ي يده وجعل يأكل وتأدب بإبراهيم، وحدثونا عن سهل رحمه الله أنه سئل كيف كان في بدايته فأخبر بضروب من الرياضيات منها أنه كان يقتات ورق النبق مدة، ومنها أنه أكل دقاق التبن ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات ثلاثة دراهم في ثلاث سنين، قيل: وما هو؟ قال: كنت أشتري في كل سنة بدانقين تمراً وأربعة دوانق كسباً، ثم أعجنها عجنة ثم أجزئها ثلاثمائة وستين كبة أفطر في كل ليلة على كبة قال فقلت له فكيف أنت في وقتك هذا قال آكل بلا حدّ ولا توقيت.

وقد كان معروف الكرخي يهدي إليه طيّبات الطعام فيأكل فيقال له: إنّ أخاك بشرًا لا يأكل من هذا، فيقول: أخي بشر قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، ما لي والاعتراض والتخّير؟ وقال بعض إخوان بشر الحافي: دخلت عليه وهو يأكل فقال لي: كل، فقلت: إني صائم، فناولني كسرة وقال لي: كل، فأكلتها، فقال: سلمت من آفة الصوم وأدخلت عليّ السرور، وكان بشر رحمه الله قد أصبح ذات يوم صائماً فزاره فتح الموصلي، قال حسين المغازلي: فدفع إليّ كفّاً من دراهم فقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام وأطيب ما تجد من الحلاوة وأطيب ما تجد من الطيب، قال: وما قال لي مثل ذلك قط، ففعلت فوضعت الطعام بين أيديهم فجعل يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، وكان بعض هذه الطائفة يقول: إذ أعطاك مولاك بقطعة فقد شهاك أن تشتري ما تشاء وتشتهي، وإن أعطاك مأكولاً بعينه فكل ذاك ولا تتخير سواه، ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض أخوانه دراهم فقال: خذ لنا بهذه زبدًا وعسلاً وخبزاً حورانياً، فقلت: يا أبا إسحاق بهذا كله؟ فقال: ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال، وأصلح ذات يوم طعامًا فأكثر ودعا نفرًا يسيرًا منهم الثوري والأوزاعي فقال له: أما تخاف أن يكون هذا إسرافًا؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الأثاث واللباس، وهكذا حكي عن سيرة السلف، قال: كانوا في الرجال مخاصيب وكان في الزي والثياب تقصير، وفي الخبر أنّ رجلاً صنع طعامًا فدعا إليه بعض أخوانه فقال: إني صائم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صنع لك أخوك طعامًا فلم تأكل ألا أفطرت يومًا مكانه.

وحدثونا عن بعض العلماء أنه كان قاضيًا بصنعاء فدخل على أمير صنعاء فحضر وقت غدائه فعرض عليه الأكل فقال: إني صائم، فلما أخذ الأمير في الأكل وهو يحدثه إذ نظر القاضي فإذا قد جاؤوا بجمل مشوي، فجعل القاضي يزحف ويتقدم إلى المائدة، ثم مدّ يده يأكل، فقال له الأمير: ألم تقل إني صائم، فقال: أيها الأمير أنا على قضاء يوم أصومه أقدر مني على قضاء مثل هذا الجمل، وكان أبو سليمان الداراني يقول: لا تضرّ الشهوات من لم يتكلفها إنما تضرّ من حرص عليها، وكان يدعو أصحابه فيقدم إليه م الطيبات فيقولون له تنهانا عنها وتقدمها إلىنا؟ فال: لأني أعلم أنكم تشتهونها فتأكلونها عندي خيرًا، ولو جاءني من يزهد ما زدته على الملح شيئاً، وكان يقول: أكل الطيبات يورث الرضا عن الله تعالى، وقال بعض الخلفاء: شرب الماء بثلج يخلص الشكر لله تعالى وأوحى الله سبحانه إلى بعض أوليائه: أدرك لي لطف الفطنة وخفيّ اللطف فإني أحبّ ذلك، قال: ياربّ وما ألطف الفطنة؟ قال: إذا وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني حتى أدفعها، قال: وما خفيّ اللطف؟ قال: إذا أتاك فولة مسوسة فأعلم إني ذكرتك بها فاشكرني عليها وأوحي إلى بعض الأنبياء: لا تنظر إلى قلّة الهدية، وانظر إلى عظمة مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها؛ فإذا أصابك فقر وضرّ فلا تشكني إلى خلقي كما إذا صعدت مساوئك لم أشكك إلى ملائكتي.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !