The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الأربعون فيه كتاب الأطعمة وذكر ما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهة والاستحباب:

 

 


الفصل الأربعون فيه كتاب الأطعمة وذكر ما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهة والاستحباب:

قال الله الجليل جلّ جلاله: (يَا أَيُهَا الذَّي آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقنْاكُمْ واشْكُرُوا الله) البقرة: 172، فقدم الأمر بالأكل على الأمر بالشكر، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لا تَأكُلُوا أمْوَاَلكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ) النساء: 29، فقدم النهي عن الأكل للحرام على القتل للنفس تفضيلاً للأكل الحلال وتعظيمًا للأكل بالباطل، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه أو إلى في امرأته وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أطعم المسلم نفسه وأهل بيته فهو صدقة له، وسئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان؟ فقال: إطعام الطعام وبذل السلام، وقال عليه السلام في الكفّارات والدرجات: إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وسئل عن الحجّ المبرور فقال: إطعام الطعام ولين الكلام، وكان ابن عمر يقول: من كرم الرجل طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه، وروينا عن عليّ عليه السلام لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة.

ورينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا وضع الطعام وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء قبل الصلاة، قال: فكان ابن عمر ربما سمع الإقامة وقراءة الإمام فلا يقوم من عشائه، وعن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الطعام ما كثرت عليه الأيدي، وقال عليه السلام: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويصحّ البصر يعني به غسل اليد، وقال أحمد بن حنبل: الأكل من الطيب قدمه الله عزّ وجلّ على العمل، فقال عزّ وجلّ: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، وكان سهل يقول: من لم يحسن أدب الأكل لم يحسن أدب العمل، قال: والذي يتصنّع في الأكل هو الذي يتصنع في العمل، وقل مرة الذي يؤدي في الأكل هو الذي يؤدي في الصلاة، وكان بعض السلف يقول: إني لأحبّ أن يكون لي نية في كل شيء حتى في الأكل والنوم، وقد كان السلف الصالح يكون لأحدهم في الأكل نية صالحة كما يكون له في الجوع نية صالحة، والذي يأكل بغير نية الآخرة للعادة والشهوة والمتعة قد يجوع لغيره الآخرة للعادة والشهوة أيضًا والتزين للخلق، وهذا من دقيق آفات النفوس، فحسن من يأكل بنية الآخرة ولأجل الله سبحانه وتعالى كحسن من جاع لله تعالى وبنية الآخرة، وإلا كان من أبواب الدنيا، فالطعام والأكل يشتمل على مائة وسبعين خصلة ما بين فرض، وسنّة، وأدب، وفضيلة، واستحباب، وكراهة، ومروءة، وفتوة من طريق السلف وصنائع العرب؛ أول ذلك أن يكون المأكول حلالاً، وعلامة الحلال ثلاث: تكون عينه معروفة لم يخالطها عين ذمها العلم من ظلم وخيانة، ويكون سببه مباحًا لم تحتوه بسبب محظور في الشرع لأجل هوى أو مداهنة في دين ودنيا، ويكون قد وافق فيه حكم السنّة لا يكون على وصف مكروه، ثم ينوي بالأكل التقوى على البرّ والتقوى والاستعانة على خدمة المولى، ويعرف النعمة فيها أنها من المنعم وحده لا شريك له فيها، ويعتقد الشكر له عليها، ويؤثر التقلل على الاتساع، والقناعة على الحرص، والأدب فيه على الشره، ثم غسل اليد في أوله للاستحباب، وفي آخره للنظافة والتسمية في أوله، والحمد في آخره، والأكل باليمين، ويبتدئ بالملح ويختم به وأن لا يذم مأكولاً ولا يعيبه إن أعجبه أكل وإلا تركه والقناعة بالمأكول من القسم والرضا بالموجود من الرزق وأن تكثر الأيدي على الطعام.

وفي الخبر: اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه وتصغير اللقمة وتجويد المضغ، وأن لا ينظر في وجوه الآكلين، ولا يفقد مأكلهم، وأن يقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ولا يأكل متكئًا ولا مضطجعاً، ولا يكون أول من يبتدئ بالأكل حتى يسبق صاحب المنزل، والأكبر فالأكبر إلاّ أن يكون إماماً يقتدى به، أو يكون القوم منقبضين فيبسطهم بالابتداء، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق ولا يجمعهما في كفه، وليضع النواة على ظهر كفه من فيه، ثم يلقيها كذلك وما كان في معناه مما له عجم أو ثفل، ويستحبّ أنّ يأكل من التمر وترًا سبعًا أو إحدى عشرة وإحدى وعشرين، وأن يفطر على رطب إن وجده، وإلاّ فتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وكان وهب بن منبه يقول: الصائم يزيغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة رجع بصره، ولايقرن بين تمرتين في الجماعة إلاّ أنْ يفعلوا ذلك أو يستأذنهم، وأنْ يأكل بعد الجوع، ويرفع يده قبل الامتلاء بمقدار ثلث بطنه أو نصفه، كذلك سنّة السلف وهو أصحح للجسم، وقال حكيم من أهل الطبّ: إن الدواء الذي لا داء فيه هو أنْ لاتأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يديك عنه وأنت تشتهيه، وفي الخبر: أصل كل داء البردة، يقال: هي التخمة، ويقال في اختيار الحكماء: إنّ خادماً لأرسطاطاليس استقضى رجلاً من أهل السواد حاجة له فلم يفعل، فقال له: لعلك تحتاج إليه، فقال: ما لي إليه من حاجة، فأخبر الخادم الحكيم بذلك، فقال: إن كان يأكل بعد الجوع ويرفع قبل الشبع ويتقلل بين ذلك فقد صدق ما له إلىنا من حاجة، وقد أحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن حسب ابن آدم لقيمات يشد بهّن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس والطعام، إنما وضع دواء من داء الجوع، إذا وجدته عالجته به، فإذا لم تجده صار الأكل داء، لأنّ التأذّي بالأكل مثل التأذّي بالجوع أو أشد، وليأكل ما يليه إلاّ الفاكهة له أن يجيل يده فيها ويأكل بثلاثة أصابع، إلا الثريد فليأكل بأصابعه كلها، وأن لا يأكل من ذروة القصعة ولا وسط الطعام، وليأكل من نواحيه، وأن لايصمتوا على الطعام فإنه من سيرة العجم فليتكلموا بالمعروف، ولا يقطع اللحم بالسكين، فقد نهى عن ذلك، ولكن انهشوه نهشًا، ولا يقطع الخبر بالسكين ويأكل من استدارة الرغيف، إلاّ أن يكون في الخبز قلة وفي الآكلين كثرة، فيستعان بتكسير الخبز على التفرقة، ولا يكثر قول: كل على، أخيه فإن ذلك يحشمه وربما قطعه، ولا ينبغي لأخيه أن يحوجه إلى تفقده في الأكل وتكرير قوله له: كل.

وقال بعض الأدباء: أحسن الآكلين أكلاً من لم يحوج صاحبه إلى تفقده في الأكل، ومن حمل على أخيه مؤونة القول، ولايدع شيئًا من المأكول يشتهيه لأجل نظر الغير إليه، فإنه من التصنّع، فإن تركه إيثارًا لإخوانه أو قدمه إلى أخيه فحسن، ولا ينقص من أكله المعتاد في الوحدة، وإن زاد لأجل مساعدة الجماعة أو بنية فضل الأكل مع الإخوان فلا بأس بذلك، والشرب في تضاعيف الأكل متسحبّ من جهة الطب مما لم يبتدئ به أو يكثر منه، يقال: إنه دباغ المعدة، والشرب متكئًا مكروه للمعدة أيضًا من جهة الطب، والأكل متكئاً ونائماً ليس من السنّة إلاّ ما يتناول أو يتنقل به من الحبوب وما في معناها، وقد رؤي علي رضي الله عنه وهو يأكل على ترس مضطجعًا كعكًا، ويقال: منبطحًا على بطنه، والعرب تفعله، وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه، واملكوا العجين فإنه أعظم للبركة، وما ردّ له من المأكول مع الجماعة فلا يرده في القصعة مع الثقل، فيأكله غيره، إن وقع بيده أكله وإلاّ تركه مع الثقل، ولا نتمم الخلّ بالدسم ليطبع بالخل قبل اللحم، ويقال: إنّ الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل، وفي الخبر: أن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل من السماء كان عليها من كل البقول إلاّ الكرّاث، وكان فيها سمكة عند رأسها خلّ وعند ذنبها ملح، وكان عليها سبعة أرغفة على كل رغيف زيتونتان وحبّ رمان، فهذا من أحسن الطعام إذا اتفق، فإن لم يكن فكما قال بعض الأدباء: إذا دعوت إخوانك فقدمت إليه م حصرمية وبورانية وسقيتهم ماء بارداً فقد أكملت الضيافة، ودعا بعض الرؤساء إخوانه فأنفق مائتي درهم، فقال له بعض الحكماء: لم تكن تحتاج إلى هذا كله إذا كان خبزك جيداً وخلك حامضاً وماؤك بارداً فهو كفاية، وقال بعضهم: الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان، والتمكن على المائدة خير من زيادة لونين، وقال آخر: شرب الماء البارد على الطعام خيرمن زيادة الألوان، وقال أبو سليمان الداراني: أكل الطيّبات يورث الرضا عن الله عزّ وجلّ، وقال المأمون رحمه الله: شرب الماء بثلج يخلص الشكر لله عزّو جلّ.

وقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن إكرام الضيف تعجيل الطعام لهم، وأفضل ما قدم إليهم اللحم، وخير اللحم السمين النضيج؛ فإن كان بعد اللحم حلاوة فقد جمع لهم الطيّبات، ينتظم هذه المعاني قوله عزّ وجلّ: (هَلْ أَتَاكَ حديثُ ضَيْفِ إبْراهيمَ المُكْرَمَينَ) الذاريات: 24، قيل في المكرمين قولان؛ أحدهما: خدمته إياهم بنفسه، والثاني أكرمهم بتعجيل الطعام إليه م، قوله تعالى: (فَمَا لَبثَ أنْ جَاءَ بِعْجِلٍ حنيذ) هود: 69 أي فما احتبس ولا أقام والحنيذ النضيج، وقال تعالى: (فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعْجِلٍ سمين) الذاريات: 26، الروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: الذهاب بخفية، وقيل: إنه جاء بفخذ من لحم فسمى عجلاً لأنه عجله ولم يلبث به، ثم وصف بأنه سمين نضيج، يقال: حنيذ ومحنوذ أيضًا، قال: كان نضيجًا، وقال في وصف الطيّبات: (وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى) البقرة: 57 المن: العسل، والسلوى: اللحم، سمي سلوى لأنه يسلى به عن جميع الأدام، إنّ فيه غنية عن جميعها، وليس في كلها مقامه، ثم قال تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رزقْناكُمْ) البقرة: 57، فاللحم والحلاوة من طيّبات الرزق، وليأكل الرجل في منزل أخيه سجية أكله في منزله بغير تكلّف ولاتزين، لأنه قد يدخل من الرياء والتزين في الطعام مثل ما يدخل في سائر الأعمال من الصلاة والصيام؛ والأكل عمل وكل عمل يحتاج إلى نية وإخلاص، فلتكن نيته في أكله الاستعانة على الطاعة، ولتكن نيته مع إخوانه إكرامهم بذلك وإدخال السرور عليهم والتبرك بالجماعة، لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجماعة بركة، وينوي إقامة السنّة في إجابة الدعوة ليكون مأجورًا في أكله، عاملاً في جميع ذلك بسنّة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا كله داخل في حسن الخلق، وهو في معنى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وقد قال بعضهم: هو الرجل يسأل إخوانه أنْ يفطر معهم نهارًا، أو يسهر معهم ليلاً، ويكون من عادته الصيام والقيام، فيساعدهم تخلقًا معهم فيدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم.

وقال بعض العلماء من أهل الأدب: ليس من السنّة والمروءة أن يزور الرجل إخوانه فيتشاغل عنهم بالصلاة النافلة، أو يستزيره إخوانه فيقدمون إليه الطعام فلا يساعدهم عليه لأجل الصيام ولايقصر عن بغيته من الأكول فيترك الأكل مع حاجته إليه، فإنه غير محمود ولا مأجور عليه إن لم يكن سبب أوجب عليه ذلك، وقال جعفربن محمد عليه السلام: أحبّ إخوان إلىّ أكثرهم أكلاً وأعظمهم لقمة وأثقلهم عليّ من يحوجني إلى تعاهده في الأكل، وقال أيضاً: يتبيّن محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله، فإن قلل الأكل مع الفقراء إيثارًا لهم أو لقلة الطعام فحسن.

وروينا أنّ سفيان الثوري دعا إبراهيم بن أدهم وأصحابه إلى طعام فقصروا في الأكل، فلما رفعوا الطعام قال له الثوري: إنك قصرت في الأكل فقال إبراهيم: لأنك قصرت في الطعام فقصرنا في الأكل، قال: ودعا إبراهيم الثوري وأصحابه إلى طعام فأكثر منه فقال له: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف، وليلعق أصابعه قبل أنْ يمسحها بالخرقة، وليأكل ما سقط من فتات الطعام، يقال: إنه مهور الحور العين يقال: من لعق الصحفة وشرب ماءها، كان له عتق رقبة، وإنْ أكل حلالاً فليقل: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات وتنزل البركات، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وأطعمنا طيبًا، واستعملنا صالحًا، وليكثر شكر الله تعالى على ذلك، وإنْ أكل شبهة فليقل: الحمد لله على كل حال، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سينا محمد، ولا تجعله قوّة لنا على معصيتك، وليكثر الحزن والاستغفار، وفي خبر: إذا دعي أحدكم إلى طعام فلم يجب فلا يقل: كل هنيئًا، فلعله يكون أخذه من غير حله، ولكن ليقل: أطعمك الله طيبًا وليقل إذا أكل لبناً: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، وبارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيراً منه.

كذلك روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: لأن اللبن أعمّ نفعًا من غيره، وليقل في أول لقمة: بسم الله، وفي الثانية: بسم الله الرحمن، وفي الثالثة: بسم الله الرحمن الرحيم، وليشرب الكوز في ثلاثة أنفاس يقطعه، وليقل في أول جرعة: الحمد لله وفي الثانية: الحمد لله رب العالمين، وفي الثالثة يزيد: الرحمن الرحيم، وإن سمى في أول كل لقمة فحسن، وليقرأ بعد فراغه من الطعام: قل هو الله أحد ولإيلاف قريش وتقديم الفاكهة قبل الطعام أوفق، وفي كتاب الله عزّ وجلّ ترتيب ذلك من قوله سبحانه وتعالى: (وفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرون) الواقعة: 2، (ولَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) الواقعة: 21، ولا يرفع يده قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون أو يحتاجون إلى بسط، فإن كان قليل الأكل تربّص حتى يضعوا أيديهم فيأكلوا صدراً من الطعام، ثم يقعد بعدهم ليستوي أكله مع أكلهم، فإن كانوا علماء لم يكرهوا ذلك منه، وقد فعله كثير من الصحابة، ولا يتكلف لإخوانه من المأكول ما يثقل عليه ثمنه أو يأخذه بدين أو يكتسبه بمشقة أو من شبهة ولا يدّخر عنهم ما بحضرته ولا يستأثر بشيء دونهم ولا يضرّ بعياله.

وروينا أنّ رجلاً دعا عليّاً رضي الله عنه إلى منزله فقال: أجيبك على شرائط ثلاث؛ لا تدخل من السوق شيئًا، ولاتدّخر ما في البيت، ولاتجحف بعيالك، وقد كان من سيرة السلف إذا دعا أحدهم أخاه قدم جميع ما بحضرته أو أخرج من كل شيء عنده شيئاً، وكان بعض الرؤساء من الأجواد إذا دعا الناس إلى طعامه يدعو الخباز فيقول: أعلم الناس بما عندك من الألوان، قال: ثم يدعهم يأكلون حتى إذا قاربوا الفراغ جثاً على ركبتيه ومدّ يده إلى الطعام فأكل، وقال: ساعدوني بارك الله عليكم، فكان السلف يسحسنون ذلك منه وليس من السنّة أن يقصد الرجل قومًا يتحيّن حضور طعامهم ليصادفه؛ فإن ذلك من المفاجأة، فقد نهى عنه قال الله سبحانه تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرين إناهُ) لأحزاب: 53 يعني منتظرين حينه ونضجه، وفي الخبر: من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقًا وأكل حراماً، ولكن إن صادفهم يأكلون فسألوه أن يأكل معهم، وعلم أنهم يحبون أكله معهم فلا بأس، وليس ذلك داخلاً في المفاجأة، فإن لم يعلم أنهم يحبون أن يأكل معهم وإنما قالوه تعزيزاً وحياء كرهت له الأكل معهم، وإن كان جائعاً فقصد بعض إخوانه ليطعمه ولم يتحيّن وقت أكله فلا بأس بذلك، قد قصد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم منزل أبي الهيثم بن التيهان وأبا أيوب الأنصاريين لأجل طعام يأكلونه وكانوا جياعًا، ومن السنّة أن يخرج الرجل مع ضيفه إذا انصرف إلى باب الدار، وليس من السنّة أن يخرج الضيف من النزل عن غير إذن صاحبه ولا أن يقيم للضيافة فوق ثلاثة أيام حتى يخرجه أويتبّرم به يتأثر في ذلك.

وقال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدّم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبقَ ولا تذر، وفي الخبر: دخلناعلى جابر بن عبد لله فقدم إلىنا خبزًا وخلاة وقال: لولا أنّا نهينا عن التكلّف لتكلفت لكم، وفي حديث يونس عليه السلام أنه زاره إخوانه فقدّم إليهم كسراً من شعير، وخبز لهم بقلاً كان يزرعه ثم قال: كلوا لولا أنّ الله تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم، وروينا عن أنس بن مالك وغيره من الصحابة: كانوا يقدمون إلى إخوانهم ما حضر من الكسر اليابسة والحشف من التمر والدقل ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزرًا الذي يحتقر ما يقدّم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدّمه.

وقد روينا في معناه خبراً مسنداً وقد كان أنس وغيره يقدمون ما عندهم إلى إخوانهم ويقولون إنّ الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق، وفي الخبر: أنّ أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يجتمعون على قراءة القران ولاذكر ولا يفطرون إلاّ عن ذواق ولا ينبغي للمدعو أن يقترح على الداعي شيئًا بعينه فيقول: أريد كذا، فليس ذلك من القناعة، فإن خيّره أخوه بين طعامين فليختر أقربهما منه وأيسرهما عليه كذلك السنة، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، وحدثونا عن الأعمش عن أبي وائل قال: مضيت مع صاحب لي إلى سلمان نزره فقدم إلىنا خبز شعير وملحًا جريشًا، فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح سعتر لكان أطيب، فخرج سلمان فرهن مطهرته وأخذ سعترًا، فما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة، فإن كان أخوه ممن يأنس به وعلم أنّ اقتراحه عليه مما يحبّه فلا بأس بذلك، قد فعله الشافعي مع الزعفراني رحمها الله تعالى، كن نازلاً عليه ببغداد فكانا يخرجان يوم الجمعة إلى الصلاة، فكان الزعفراني يكتب في رقعة للجارية ما تصلح من الألوان، فدعا الشافعي ذات يوم الجارية فنظر فيها ثم زاد لوناً اشتهاه، فلما جاء الزعفراني وقدّمت الجارية ذلك اللون أنكره، إذ لم يأمرها به فسألها عنه فأخبرته أنّ الشافعي زاد ذلك في الرقعة، فقال: أريني الرقعة، فلما نظر إلى خط الشافعي في الرقعة بذلك اللون فرح بذلك وأعجبه، فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى فأعتقها سروراً منه بفعل الشافعي ذلك، وإليه نسب درب الزعفراني بباب الشعير في الجانب الغربي من بغداد، فإن شهاه أخوه وسأله فلا بأس أن يذكر له شهوة ليصنعها فيعينه على فضيلتها.

فقد روينا في فضل ذلك غير حديث، منها الحديث المشهور: من صادف من أخيه شهوة غفر له، ومن سرّ أخاه الممؤمن فقد سرّ الله عزّ وجلّ، وروينا عن ابن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لذذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف درجة، وأطعمه الله تعالى من ثلاث جنات؛ جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة الخلد، والخلال بعد الأكل حسن فلا يبين عنه، ولا بأس بغسل اليد في الطست وليس من الأدب التنخم فيه.

وروينا أنّ أنس بن مالك اجتمع هو وثابت البناني على طعام فقدّم الطست إلى ثابت ليغسل يده فامتنع، فقال أنس: إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته ولاتردّه فإنه إنما يكرم الله عزّ وجلّ، وروى أنّ هارون الرشيد دعا أبا معاوية الضرير فصبّ الرجل على يده في الطست، فلما فرغ قال له: يا أبا معاوية تدري من صب على يدك؟ قال: لا، قال أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين، إنما أكرمت العلم وأجللته فأجلّك الله عزّ وجلّ وأكرمك، كما أجلت العم وأكرمته، وأكره قيام الخادم أحبّ إلى أن يصبّ على يده جالسًا، واجتماع الاثنين أو الثلاثة في غسل اليد وجمع مائهم المستعمل في مرة واحدة في الطست حسن؛ وهو من التواضع، ومن انفرد بغسل يده وحده فلا بأس أن يتنخم في الطست، ومن بزق فيه بعد أن يرفع ويفرغ من غسل يده فلا بأس.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: لا يرفع الطست من بين يدي القوم إلاّ مملوءاً ولا تشبّهوا بالعجم، وقد رويناه عن ابن مسعود أنه قال: اجتمعوا على غسل اليد في طست واحد ولا تستسنوا بسنّة العجم، ولا يزدردن ما أخرج الخلال من أسنانه فإنه داء ومكروه، وما لاكه بأسنانه فلا بأس أن يزدرد وليتمضمض بعد الخلال ففيه أثر عن بعض أهل البيت عليهم السلام، وليقل عند فراغه من الطعام: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأوانا سيدنا ومولانا، ياكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، أطعمت من جوع وأمنت من خوف، لك الحمد، أويت من يتم، وهديت من ضلالة، وأغنيت من عيلة، لك الحمد حمداً كثيراً دائماً طيباً نافعاً مباركاً فيه، كما أنت أهله ومستحقّه، اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً لجعله عونًا لنا على طاعتك ونعوذ بك أن نستعين به على معاصيك.

وفي الأكل مع الإخوان ثلاث فضائل: روي عن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قعدتم مع الإخوان على المائدة فأطيلوا الجلوس فإنها ساعة لا تحتسب عليكم من أعماركم، وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال الملائكة تصلّي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة بين يديه حتى ترفع.

وروي عن الحسن البصري رحمه الله: كل نفقة ينفقها الرجل على نفسه وأبويه فمن دونهم يحاسب عليها إلا نفقة الرجل إذا دعا إخوانه إلى طعام، فإن الله سبحانه وتعالى يستحي أن يسأله عن ذلك، وقد روي عن بعض علماء خراسان أنه كان إذا دعا إخوانه قدّم إليه م نحو القفيز من صوف الأطعمة والحبوب والفواكه اليابسة فسئل عن ذلك فقال: بلغنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الإخوان إذا رفعوا أيديهم عن الطعام لم يحاسب من أكل فضل ذلك الطعام، فأنا أحبّ أن أستكثر مما أقدّم إلىكم لنأكل فضل ذلك، وفي خبر عن بعض السلف: لا يحاسب العبد على ما يأكله مع إخوانه، فكان بعضهم يكثر من الأكل في الجماعة ويتقلّل إذا أكل وحده، وفي الخبر: ثلاث لا يحاسب عليها العبد، أكلة السحور وما أفطر عليه والأكل مع الإخوان، ومن لم يكن له نية في تقديم فضول الأطعم بهذا الخبر، فإني أكره أن يقدّم من الطعام إلاّ ما يريد أن يؤكل، ولا يترك منه شيء ولا يستثنى هو ولا أهل البيت في أنفسهم رجوع شيء منه، وإلاّ كان ما يقدمه مما ينوي رجوع بعضه، ولا يحبّ أكل كله تصنّعًا ومباهاة، فإن علم بذلك من قدم إليه لم استحب له في الورع في أن يأكل منه لأن المأكول إذا قدّم ليؤكل بعضه فهو تصنّع وتزيّن، لا يصنع الورعون ذلك ولا يأكل المتّقون من هذا، لأنه لا يدري كم مقدار ما يحبون أن يأكلوا منه.

وروينا عن ابن مسعود قال: نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه، وقد كره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة والمباداة، وهذا مكروه لم يقدمه بهذه النية إلى إخوانه لأنه قد عرضهم لتناول ما يكرهون، وقد دلس عليهم ما لا يعلمون، وأيضًا فإنه شيء قد قدّم لأجل الله تعالى فلا يصلح أن يستثنى ارتجاع شيء منه بمنزلة من يخرج الرغيف أو الشيء إلى السائل فيجده قد انصرف فكره أن يرجع فيه فيأكله، وقال: يعزله حتى يأتي سائل آخر فيدفعه إليه.

وكان بعض أهل الحديث إذا أكل مع إخوانه ترك من الطعام على رغيف يعزله معه وكان سيّار بن حاتم إذا حضر على مائدة أكل لقيمات، ثم يقول: اعزلوا نصيبي، وأكل ذات يوم على مائدة في جماعة فلما جاءت الحلوى نزع قلنسوته، ثم قال: اجعلوا نصيبي في هذه، فينبغي أن يعزل أنصبة أهل البيت قبل تقديم الطعام إلى إخوانه كيلا يحدثوا نفوسهم برجوع شيء منه فإنه مكروه لهم، ولعله لا يرجع شيء منه فيكون ذلك إحراجًا من الآكلين ومنقصة لهم؛ وهذا عليهم أشدّ من إكرامهم بالطعام، أن يكون ذلك مضرّاً بالأهل فيكون مضيعًا للأصل، ولا ينبغي له أن يقدّم إلاّ ما يحبّ أن يأكلوه من كل شيء أيضاً ومقدار الحاجة والكفاية من المأكول فيجمع بين السنّة والفضيلة.

روي في الخبر: ما رفع من بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلة طعام قط؛ هذا لأنهم كانوا مخلصين في كل شيء فلا يقومون إلا كفايتهم، ولا يأكلون إلاّ بعد جوعهم، ولا يتركون الأكل وفي نفوسهم منه شيء وللاقتصار الذي كان فيهم، ففيما ذكرناه من تقديم الكفاية لئلا يرد فضول الأطعمة موافقة للسنّة، وفي تقديم المأكول ليرجع أكثره نية حسنة، لما جاء فيه: أن من أكل ما فضل من الإخوان لم يحاسب عليه، ومن كان في جماعة فلا يأمر بتأخير الطعام فلعل فيهم من يحتاج إلى تقديمه إلا أن يتفقوا على تأخيره فلا يأمر حينئذ بتقديمه لأجل نفسه، وإذا حضر الطعام والصلاة فإنْ كانت نفوسهم تتوق إليه وفي الوقت سعة قدموا الأكل وإن كانت نفوسهم ساكنة أو ضاق الوقت أو خشوا أن يتطاول بهم الأكل صلّوا أوّلاً واستحبّ الأكل على الأرض، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى بطعام وضعه على الأرض وكان يأكل مقعياً على قدميه ويقول: لا آكل متكئاً، إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، وربماجثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدمه، ونصب وجله اليمنى وهي جلسة العرب للأكل إلى اليوم، وإن أكلو على السفر فهو سنّة فيتزود لسفره، وخير الزاد التقوي، وأكره الأكل على الموائد العالية لأنهم كانوا يكرهون أن يعلون الطعام على الأيدي؛ وهذا محدث وليس من التواضع، قال أنس بن مالك: ما أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حوان ولا في سكرجة قط، قيل: فعلى ما كنتم تأكلون؟ قال: على السفر، وقيل: أول ما أحدثت الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، ومن غسل بأشنان ابتدأ بغسل فيه بعد غسل يده اليمنى، ويجعل الأشنان في بطن كفه اليسرى يابسًا، ثم يغسل فاه حتى ينقيه بأصابعه، ثم يبل الأشنان فيغسل يديه ولايعيد يغسل كفيه وهو فعل ذوي المروءة، وينغي إذا حضرت الألوان أن يبتدئ بتقدمة الألطف فالألطف والأطيب فالأطيب والأمثل أن يبتدئ بالشواء قبل اليريد ويقدم الطباهج قبل السكباج؛ فذلك سنّة العرب ليصادف جوعهم أطيب الطعام فيستوفوا من ذلك أوفر النصيب فيكون أثوب لصاحبه وأقل لأكلهم، فإن احتاجوا إلى مابعده من غليط الألوان والطعام تناولوا منه قليلاً، فإنما قدم أهل الدنيا اللون الغليظ على اللطيف ليتسع أكفهم وتنفتق شهوتهم، فيكون اللون اللطيف في موضع آخر، وليكونوا قد أكلوا من اللون الأجود الأطيب أقلّ؛ وهذا غير مستحبّ عند أبناء الآخرة، وقد كان من سنّة المتقدمين أن يقدّموا جملة الألوان في مكان واحد مما يشتهي، وليكون ماتقدّم معلومًا لهم وقال لهم إذ لم يكن عنده إلاّ لون واحد: ليس يحضر إلاّ هذا ليستوفوا منه ولايتطلعوا إلى غيره كان صوابًا، حدثني بعض شيوخنا عن شيخ له قال: قدم إلى بعض أهل الشام لونًا من طبيخ فقلت له عندنا بالعراق يقدم هذا اللون آخر الآلوان فقال لي: هكذا هو عندنا بالشام، قال: فاستحييت إذ لم يكن عنده غير ذلك اللون، وقال لي آخر: كنا في جماعة عند رجل فجعل يقدّم إلينا ألوان الرؤوس منها طبيخًا وقديدًا فجعلنا نقصر في الأكل نتوقع بعده الألوان وجملاً أو جدياً، قال: فجاءنا بالطست ولم يقدّم غيرها، فقال لي بعض الشيوخ من أهل التصوّف وكان مزّاحاً: وهو تعالى يقدر أن يخلق رؤوساً بلا أبدان، قال: فبتنا تلك الليلة جياعاً فطلب بعضنا في آخر الليل خبزًا أو فتيتاً لسحوره وينبغي أن يمكنهم من بقية الألوان ولا يرفعهاحتى يرفعوا أيديهم، فإنه من الأدب، ولعل فيهم ما يكون عنده ما قدّم أشهى إليه مما يقدم بعد، وقد يكون فيهم من به حاجة إلى فضل أكل فينقص عليه برفعه قبل أن يستوفي ما في نفسه.

حدثني بعض أصحابنا عن الستوري وكان صوفياً أنه حضر على مائدة أبناء الدنيا وكان فيه بخل، قال: فقدم جملاً فجعلوا يأكلون فلما رآهم يمزقون كل ممزق ضاق صدره فقال: يا غلام ارفع إلى الصبيان قال: فرفع الجمل إلى داخل الدار، فقام الستوري بعد وخلف الجمل فقال صاحب المنزل: إلى أين يا أبا عبد الله فقال: آكل مع الصبيان، فاستحيا الرجل وأمر برد الجمل حتى استوفوا منه، وكان سفيان الثوري يقول: من دعا رجلاً إلى طعامه وهويحبّ أن لا يجيبه فإن لم يجب كتبت عليه خطيئة، وإن أجاب كتبت عليه خطيئتان؛ فالمعنى في الخطيئة الأولى لأنه أظهر بلسانه خلاف ما في قلبه فتصنّع بالكلام وهذا من السمعة وداخل في محبة أن يحمد بما لم يفعل، والمعنى في الخطيئتين أنه أجابه أخوه، فالخطيئة الثانية لأنه حمل أخاه على ما لم يعلم حقيقته منه وعرضه لما يكره فلم ينصحه فيما أظهر له من نفسه، لأن أخاه لو علم غير محبّ لإجابته لم يأكل من طعامه، ولأنه قد أدخله في السمعة، فلذلك كانت عليه خطيئة ثانية، وقد كان من المتقدمين من إذا دخل عليه وهو يأكل قوته لم يعرض على إخوانه الأكل إذا لم يحب أن يأكل معه خشية التزين بالقول أو لئلا يعرضهم لما يكرهون.

دخل قوم على سمير أبي عاصم، وكان زاهدًا، وهو يأكل فقال: لولا أني أخذته بدين لأطعمتكم منه، وكان بعض السلف يقول في تفسير التكلف: أن تطعم أخاك ما لا تأكله أنت أي لا يكون من مأكلك في الجودة ومما له قيمة فتشق على نفسك بذلك.

وكان الفضيل يقول: إنما تقاطع الناس بالتكّلف، يدعو أحدهم أخاه فيكلف له فيقطعه عن الرجوع إليه، وكان بعض السلف يأمر بتقديم ما حضر فإنه أدوم للرجوع، وأذهب لكراهة صاحب المنزل، وقال بعضهم: ما أبالي من أتاني من إخواني فإني لا أتكلف له إنما أقرّب ما عندي، ولو أني تكلّفت ماليس حاضرًا لمللته وكرهت دوام مجيئه، وقال لي بعض الشيوخ: كنت آنس بعض إخواني فكنت أكثر زيارته، فكان يتكلف الأشياء الطيبة فقلت له يومًا: حدثني عن شيء أسألك عنه: إذا كنت وحدك تأكل مثل هذا الذي تقدّمه إليّ؟ قال: لا، قلت: وكذلك أنا في منزلي إذا كنت وحدي لا آكل مثل هذا فلِمَ إذا اجتمعنا نأكله ونحن لا نأكل مثله على الانفراد هذا من التكلف فأما أن تقطع هذا وتقدّم إلىّ ما تأكله على الانفراد أو أقطع مجيئي إلىك، قال: فقطع ذلك، وكان يقدّم ماعنده وما يأكل مثله فدامت معاشرتنا، ومن دعي إلى طعام وعنده إنسان أو جماعة من حيث يعملون فليستثن الواحد أو الجماعة معه، فإنه من السنّة والأدب، فإن دعي وحده أو مع نفر بأعيانهم أو أعدادهم فتبعهم واحد لم يكن في العدد فليذكر للداعي قبل دخولهم إليه ليأذن له معهم، كذلك السنّة ومن دعي في جماعة وفوّض إليه الأمر فيهم فليعرف صاحب المنزل عدتهم قبل مجيئهم ليستعدّ لهم بعد أن يعرض عددهم، من دعا رجلاً في غير دعوة عامة وعنده قوم أو رجل بعينه فليعلمه بمن عنده ليدخل على بصيرة، فلعلّ أن يكون عنده من يكره هذا المدعو لاجتماع معه، أو لعله أن يجيبه لأنه يحسب أن ليس عنده غيره لأن الأكل معاشرة وليس كل إنسان يحبّ أن يعاشر كل أحد خاصة الرؤساء، ومن أكل مع رجل من طعامه فوقف عليه سائل فلا يعطينّ شيئاً إلاّ بأذنه أو يسأل صاحب الطعام حتى يكون هو الذي يعطيه، فإن أعطاه بغير إذن كان الأجر لصاحب الطعام والوزر عليه، روي ذلك عن أبي الدرداء قال لإنسان كان يأكل معه فأعطى سائلا بغير أمره: لقد كنت غنياً أن يكن الأجر لي والوزر عليك، ومثله لا يدعو إلى طعام غيره أحداً بغير إذن صاحبه ومن دعا خصوص إخوانه فدخل عليه داخل فلا يقعده معهم للأكل وليصرفه أو يفرده عنهم.

حدثني بعض أشياخنا عن بعض الخلف الصالح أنه دعا إخوانه من الصوفية على طعام فدخل رجل من العامة فجلس يأكل معهم فقبض على يده ونحاه وقال: هذا عملناه لهؤلاء خاصة لا يصلح أن يكون معهم غيرهم، ثم أفرده بطعام خصّه به وعمله لأجله عوضاً مما فعل ومن دخل عليه داخل وهو يأكل فلا يرفع الطعام فليس ذلك من السنّة ولا من فعل المروءة ولعل الداخل أحوج إليه منه وقد بعث إليه اختباراً له، وإذا عرضت على أخيك الطعام مرة أو مرتين فلا تلحن عليه، وكذلك إذا دعوته فكره فقد قالوا لا تكرم أخاك بما يشقّ عليه ولا تزيدن على ثلاث مرات فإن إلالحاح واللجاج مازاد على ثلاث مرات وليس ذلك من الأدب، قالوا: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خوطب في شيء ثلاثاً لم يراجع بعد ثلاث.

وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وقال مرة: من أنْ يدعى إليه ذلك لعظيم حق، وكان الثوري يقول: إذا زارك أخوك فلا تقل له تأكل أو أقدم إليك ولكن قدّم ما عندك، فإن أكل وإلا فارفعه، وكان الحسن وابن المبارك إذا أرادا الغداء أو العشاء فتحابا بهما فمن دخل عرضاً عليه الأكل، وقد كان هذا من سيرة السلف أنهم يفتحون الباب عند حضور الطعام ومن صادف دخوله أكل معهم، ومنهم من كان يقعد في دهليز داره ويفتح الباب فكل من مرّ عليه في الطريق دعاه إلى طعامه من غني أو فقير، وقال بعض التابعين: إلاّ إنّ خياركم آكلكم في الأفنية وأوسعكم آنية وأحلاكم أطلية إلاّ إنّ شراركم آكلكم في الأخبية وأصغركم أطلية، ومن دعا رجلاً إلى طعامه وهويعلم أنّ الأحبّ إليه أن لا يأكل فمكروه له أن يأكل ولا يعبأ بقوله إذا علم منه خلافه، فإن لم يعلم حقيقة ذلك فله أن يجيبه على ظاهر قوله وليس له أن يسيء الظن به، دعا رجل الأحنف بن قيس في سفر إلى طعامه فقال له الأحنف: لعلك من العارضين، قال: وما العارضون؟ قال: الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فسكت الرجل فلم يجبه الأحنف إلى الطعام، وكان الثوري يمشي مع رجل فمّر بباب منزله فعرض عليه الدخول ليأكل عنده فقال له الثوري: أصدقني عن شيء أسألك: أيما أحبّ إليك أدخل أو أنصرف؟ فسكت، فانصرف الثوري، ومن علم من أخيه أنه يحبّ أن يأكل من طعامه فلا بأس أن يأكل بغير إذن لأن علمه بحقيقة حاله ينوب عن إذنه له في الأكل.

وقد كان محمد بن واسع وأصحابه يدخلون منزل الحسن فيأكلون مايجدون بغير إذن، وكان الحسن ربما دخل فيجدهم كذلك فيسرّ ويقول هكذا كنا، وروي عنه أنه كان يأكل من متاع بقال يأخذ من هذه الجونة تينة ومن هذه فستقة فقال له هاشم الأوقص: يا أبا سعيد تأكل من متاع الرجل بغير إذنه؟ فقال: يالكع أما قرآت آية الأكل؟ ثم تلا عليه: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) النور: 61، إلى قوله تعالى: (أوْ صَدىقِكُمْ) النور: 61، ثم قال الحسن الصديق: من استروحت إليه النفس واطمأن إليه القلب فإذا كان كذلك فلا يأذن له في ماله، وجاء قوم إلى منزل سفيان الثوري فلم يجدوه ففتحوا الباب وأنزلوا السفرة فجعلوا يأكلون ما فيها فدخل الثوري فجعل يقول: ذكرتموني أخلاق السلف، هكذا كانوا، وزار قوم بعض التابعين ولم يكن عنده ما يقدمه إليهم، فذهب إلى منزل بعض إخوانه فلم يصادفه في المنزل فدخل فنظر إلى قدر قد طبخها وإلى خبز قد خبزه وغير ذلك فحمله كله فقدّمه إلى أصحابه وقال: كلوا، فجاء رب المنزل فلم ير الطعام، فسأل عنه فقيل له: قد جاء فلان فأخذه، فقال: قد أحسن، فلما لقيه قال: يا أخي إن عادوا فعد، وقد أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحماً تصدق به على بريرة من غير أن يستأذنها، ولم تكن حاضرة، لعلمه أنها تسرّ بذلك، وقال: إنّ الصدقة قد بلغت محلها هو عليها صدقة ولنا هدية، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رسول الرجل إلى الرجل إذنه أي قد علم بإذنه له في الدخول عليه فأغناه عن الاستئذان، ففي تدبر فعله عليه السلام أنّ من علمت كراهته لأكلك من طعامه أن لا تأكل وإن أذن لك بقوله، فتدبر عمل بعض السلف صنيعاً، فدعا رجلاً فلم يصادفه الرسول، ثم أعلم وقد انصرف الناس من عنده فقصد منزله، فدقّ عليه الباب، فخرج إليه الرجل فقال: هل من حاجة؟ قال: إنك دعوتني فلم يتفق ذلك فقد جئت الآن لماعلمت، فقال: قد انصرف الناس، قال: فهل بقي منه بقية؟ قال لا، قال: فكسرة، إنْ بقيت، قال: فلم يبقَ شيء، قال: فالقدور أمسحها، قال: قد غسلناه فانصرف بحمد الله تعالى فقيل له في مسألته عن ذلك فقال: وقد أحسن الرجل دعانا بنية فنفس؛ هذا في الضعة والذلة وسقوطها من مراتب الأنفة والعزة تشبه نفس ابن الكديني، وهو أستاذ أبي القاسم الجنيد دعاه صبي إلى دعوة أبيه فردّه الأب أربع مرات في دعوة واحدة وهو يرجع في كل مرة وهو يرده؛ فهذه نفوس مطمئنة بالتوحيد، مشاهدة بالبلوى من المولى المبلى للعبيد، مذللة بالذلة، موضوعة على الضعة؛ وهذا طريق مفرد لأفراد وحال مجرد لآحاد، والمتكبرون لا يجيبون الدعوات؛ وهم عند بعضهم من أنفة النفوس، قال قائلهم: أنا لا أجيب دعوة، قيل: ولِمَ؟ قال: انتظار المرقة ذلّ، وقال آخر: إذا وضعت يدي في قصعة غيري ذلّت له رقبتي، ومنهم من لم يكن يجيب الفقير لكبر في نفسه ويجيب الأغنياء لعظمهم في عينه، ومن أبناء الدنيا الموصوفين بها من لايجيب إلاّ نظراءه وأشكاله من مثل طبقته ومرتبته في الرياضة في الدنيا؛ وهذا على خلاف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفعاله أنه كان يجيب دعوة المسكين ويجيب دعوة العبد، ومن قوله: بئس الطعام وشرّ الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ثم قال: من لا يجيب الدعوة فقد عصى الله تعالى، ومرّ الحسين بن عليّ رضي الله عنهما بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على قارعة الطريق، وقد نثروا كسراً على الأرض في الرمل وهم يأكلون، وكان على بغلته، فلما مرّ بهم سلّم عليهم فردوا عليه وقالوا: هلمّ إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: نعم إن الله لا يحبّ المستكبرين ثم ثنى وركه فنزل عن دابته وقعد معهم على الأرض وأقبل يأكل ثم سلم عليهم وركب، وفي خبر آخر - زيادة - فقال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم فوعدهم المجيء في وقت من النهار فجاؤوا فرحّب بهم ورفع مجلسهم، ثم قال: يا واذات هاتي ما كنت تدّخرين، فأخرجت الجارية فاخر ما عندها من الطعام فأقبل يأكل معهم، وكان ابن المبارك يقدم إلى إخوانه فاخر الرطب ويقول: من أكل أكثر أعطيته بكل نواة درهماً فكان يعد النوى فيعطي من كان له فضل نوى بعددها دراهم.

وقال بعض أهل الاعتبار: ما أجبت إلاّ لأتذكر بها نعيم الجنة، طعام ينقل بغير كلفة ولا مؤونة، ولذلك قيل: إنّ اجتماع الإخوان في وجود الكفاية على الأنس والأُلفة ليس هو من الدنيا، وقد كان بعض الصوفية يقول: لا تجب دعوة إلاّ من يرى لك أنك أكلت رزقك وأنه سلمه إليك وديعة كانت لك عنده، ويرى لك الفضل عليه في قبولها منه؛ فهذه شهادة العارف من الداعين، كذلك شهادة المدعوين من الموحدين؛ أن يشهدوا الداعي الأول، والمجيب الآخر، والمعطي الباطن، والرازق الظاهر، كما امتحن أصحابه بذلك بعض الصوفيين: بلغني أنّ رجلاً دعا إماماً من الصوفية في أصحابه إلى طعام، فلما أخذ القوم مجلسهم ينتظرون فضل الطعام إليهم، خرج إليهم شيخهم فقال: إنّ هذا الرجل زعم أنه دعاكم وأنكم تأكلون طعامه ففي حرج، أو قال: حرام على من لم يشهده في فعله أن يأكل، قال: فقاموا كلهم فخرجوا ولم يستحلوا الأكل، إذ كانوا لا يرونه في الفعل إلاّ غلاماً حدثاً، فإنه قعد إذ لم تثبت شهادته ولم ينفذ نظره العبارة والمعنى لقائله مثله أو نحوه: وإن دعاك أخوك وأنت صائم فعلمت أنه يسرّ بأكلك فلا بأس أن تفطر لأجله، فإن لم تعلم ذلك منه وقال لك: أنا أسرّ بأكلك فصدقه وأحسن به الظنّ، وإن لم تعلم ذلك منه ولم يلفظ به لساني فإني أكره خروجك من عقد الصوم لغير نية، هي أبلغ منه أو مثله، فصومك حينئذ أفضل، وإنْ أكلت مع أخيك تريد إكرامه بذلك فهذه نية صالحة، قد كان بعضهم إذا أكل يوم فطره أكل مع إخوانه ويحتسب في أكله ما يحتسب في صو مه.

وروينا عن ابن عباس أنه قال: من أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومن لم يرد أن يطعم قوماً من طعام فلا يظهرهم عليه ولا يصفه لهم سواء كان هو قد أكله أو لم يأكله، وكان الثوري يقول: إذا أردت أن لاتطعم عيالك من شيء تأكله فلا تحدثهم به ولا يرونه معك، وينبغي أن يكون للمجيب إلى الدعوة نيّات سبع؛ إذ الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى، إذ الإجابة من الأعمال، فمن نواها دنيا كانت له دنيا لعاجل حظه، ومن أراد بها آخرة فهي له آخرة بحسب نيته، وإنْ لم تحضر نية أو أعتلّ بفسادها توقف حتى يهيئ الله عزّ وجلّ له نية صالحة تكون الإجابة عليها أو ترك الإجابة إذا كانت بغير نية، لأنها من أفاضل الأعمال، فتحتاج إلى أحسن النيّات لوجود العالم فيها فتكثر بها الحسنات، ولفقد الهوى منها فيسلم فيها من السيئات وإلاّ كانت إجابته هزواً، وكان عاملاً في باب من أبواب الدنيا، وساعياً ف حظّ نفسه وملء جوفه وقد قال الرسول عليه السلام: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيصير مأزوراً بفساد النية، أو يكون غير مأجور لعدمها.

فأول النيات طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله عليه السلام: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والثانية إقامة سنته لقوله عليه السلام: لو دعيت إلى كراع لأجبت وهو موضع على أميال من المدينة أفطر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان لما بلغه وقصر عنده في سفره، وقال في الخبر الآخر: لو دعيت إلى ذراع لأجبت؛ فهذا ظاهر في الإجابة عن القليل، والأول محتمل في الإجابة إلى الموضع البعيد، فقد نقل أنّ في التوراة أو في بعض الكتب سر ميلاً عد مريضاً، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخاً في الله عزّ وجلّ، فبعد في إجابة الدعوة وفضّلها على العبادة وشهود الجنازة لأن فيها قضاء حق الحي، وفيها إجابة داعٍ.

والنية الثالثة إكرام أخيه، وفي الخبر: من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله تعالى، وفي حديث الحسن وعطاء: من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يرده على الله تعالى، فترك الإجابة ردّ العطاء، وفي تأويل الخبر عن الله تعالى بمعناه أنه يقول للعبد يوم القيامة: جعت فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول: جاع أخوك المسلم فلم تطعمه، ولو أطعمته كنت قد أطعمتني، فمن ظاهره تعظيم حرمة المسلم لأنه أقامه مقامه، وفي باطنه في الفهم أنه إذا أجابه فقد عاونه على إطعام نفسه، فكأنه أطعمها، فإذا لم يجب دعوته فقد ترك معاونته على إطعامه فدخل تحت التفريع بأنه لم يطعم نفسه وهو المسلم إذا لم يجب الدعوة فتفكّروا.

والنية الرابعة إدخال السرور على أخيك المؤمن، والخبر الآخر: من سرّ مؤمناً فقد سرّ الله عزّ وجلّ.

والنية الخامسة رفع الغمّ عن قلبه ووضع الهمّ عن نفسه في ترك إجابته من ترجيم الظنون به وتوقيع الرجم بالغيب فيه لما لم يجب ولعله يجيب، وإلا كان يجيب فيرفع عنه ذلك ويسقط عنه مؤونته سوء الظن به وتنزيل الشك فيه باليقين به.

والنية السادسة أن ينوي زيارته فيصير ذلك نافلة له تماماً على الذي أحسن، فقد جاء في فضل الزيارة في الله تعالى وأنّ بها يستحق ولاية الله تعالى، وأنها علامة ولاية المتحابين في الله فاشترط لذلك شيئان: التباذل لله والتزاور فيه، فقد حصل البذل من أحدهما بقيت الزيارة من الآخر على الخبر السائر أنّ الإجابة من التواضع، كما ذكرنا قبل: أنّ المتكبرين لا يجيبون الداعي فهذه سبعة أعمال نيّات لمن وفّق لعملها والعمل بها، ومن طرقته فاقة من الفقراء فقصد بعض إخوانه يتصدى للأكل عنده فجائز له ذلك بشرطين: لا يكون عنده موجود من طعام ونيته أن يؤجر أخاه ويكون هو الجالب لأجره لأنه عرضه للمثوبة؛ فهذا داخل في التعاون على البرّ والتقوى وداخل في التحاض على طعام المسكين ونفسه كغيره من الفقراء، ولأن أخاه لا يعلم بصورة حاله ولو علمه لسرّه ذلك ففيه إدخال السرور عليه من حيث يعلم، وقد فعل هذا جماعة من السلف، وقد روى بمعناه أثر من ثلاثة طرق للسلف الصالح منهم: عون بن عبد الله المسعودي، كان له ثلاثمائة وستون صديقاً، وكان يكون عند كل واحد يوماً وآخر كان له ثلاثون صديقاً كان يكون عند كل واحد يوماً وليلة وكانوا يقدمون هذه الأخلاق السنيّة مع إخوانهم فيؤثرونها على المكاسب والمعلوم، فكان إخوانهم معلومهم، ولم يكن هؤلاء يكتسبون ولا يدّخرون، وكان لإخوانهم فيهم نية صالحة يسألونهم ذلك ويقسمون عليهم فيه ويرونه من أفضل أعمالهم، وكان هؤلاء للإنصاف يكرمون إخوانهم بإجابتهم وكونهم عندهم، ولم يكن سعيد بن أبي عروبة يعرض على إخوانه الطعام، ولكنه كان يظهره ويعرض به فكان اللحم مسلوخاً مصلقاً والخبز موجوداً ظاهراً، وكذلك كان يفعل بالثياب والأثاث، كان جميع ما في منزله مظهراً مسبلاً، فكل من دخل عليه من إخوانه إن شاء قطع من المسلوخ فشوى وطبخ، وإن شاء أكل من الخبز بما وجد من الأدم، ومن شاء لبس من الثياب ما شاء فكان ذلك مشاعاً في منزله لمن أراد تناوله، ومنهم من كان منقطعاً في منزل أخيه قد أفرده بمكان يقوم بكفايته ولا يبرح من منزله على الدوام يحكم فيه ويتحكم كما يكون في منزل نفسه، وقال بعض العلماء: أكلتان لا يحاسب العبد عليهما: ما أكله في سحوره وما أكله عند إخوانه إكراماً لهم بذلك، ومن أكل عند قوم فليقل عند فراغه أفطر عندك الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة وقد روينا أيضاً: أن يقول عليكم صلاة قوم أبرار لسوا بآثمين ولا فجّار يصلّون الليل ويصومون النهار فقد كان الصحابة يقولون ذلك.

ذكر غسل اليد ليس كل أحد يحسن أدب الغسل كما ليس كل إنسان يعرف سنّة الأكل، فمن غسل يده بأشنان ابتدأ بغسل أصابعه الثلاث أوّلاً، ثم جعل الأشنان في راحته اليسرى يابساً، ثم أمره على شفتيه جسّاً وأنعم غسل فيه بأصبعيه وظاهر أسنانه وباطنه وحنكه ولسانه، ثم غسل أصابعه من ذلك بالماء، ثم دلك ببقية الأشنان اليابس أصابعه وظهراً وبطناً، ثم لم يدخل الأشنان ثانياً إلى فيه لئلا يعود بالغمر إليه من يديه؛ وهذا يكفيه من تثنية الغسل، ومن غسل يد إخوانه بعد أكلهم من طعامه فمن الأدب أن يصبّ على أيدهم بالماء العذب، فبمثل هذه اللطيفة ونحوها يعرف حسن تفقد الدعاة وليستبين تعاهد الرعاة كأنّ بعضهم يقول: يدعو الرجل إخوان ينفق في الطّيبات جملة ويحليهم بعدها بالحلاوة، ثم يمرر أفواهم بالماء الملح؛ فهذا يكون من نقص التعاهد وقلة التفقد.

ذكر أخبار جاءت في الآثار رويناها منثورة في الأطعمة والأكل من بين نقص وفضل

هي من طرائق السلف وصنائع العرب أدخلناها في تضاعيف كلامنا لأنها منقولة من كلام القدماء من حديث إسحاق بن نجيح عن عطاء بن ميسرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده، وفي خبر سعيد بن لقمان عن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الأكل في السوق دناءة هذا غريب مسند أو ليس بذاك الصحيح أنه من قول التابعين؛ إبراهيم النخعي ومن دونه، وعن جويبر عن الضحّاك عن النزّال بن سيرة عن عليّ عليه السلام قال: من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء، ومن أكل يوماً سبع تمرات عجوة قتلت كل دابة في بطنه، ومن أكل في كل يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم يرَ في جسده شيئاً يكرهه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، والسارحات تعظم البطن وترخي الأليتين، ولحم البقر داء ولبنها شفاء، وسمنها دواء، والشحم يخرج مثله من الدواء ولن تستشفي النفساء بشيء أفضل من الرطب والسمك يذيب الجسد، وقراءة القرآن، والسواك يذهب البلغم، ومن أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليقلّ غشيان النساء، وليخفف الرداء وهو الدين، في أخبار الأمراء أن الحجاج قال لبنادق المطيب: صف لي صفة آخذ بها ولا أعددها، قال له: لا تنكح من النساء إلاّ فتاة، ولا تأكل من اللحم إلاّ فتيتاً، ولا تأكل المطبوخ حتى ينعم نضجه، ولا تشربّ دواء إلاّ من علّة، ولاتأكل من الفاكهة إلاّ نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلاّ أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام ولا تشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل عليه شيئاً ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة، وفيما قاله الفلسوف حكمة، قد ورد ببعضها آثار، قد يروى في خبر مقطوع ذكره أبو الخطاب بن عبد الله بن بكر يرفعه: من استقل بدائه فلا يتداوى فربّ دواء يورث داء، وكانت الحكماء تقول: دافع بالدواء ما حملت قوتك الداء، وقال بعضهم: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه ولكن يخلقه.

وقال أبقراط الفيلسوف: الدواء من فوق والداء من تحت، فمن كان داؤه في بطنه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن، ومن لم يكن به داء من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء، فإن سقى عمل في الصحة داء إذا لم يجد داء يعمل فيه، وفي الخبر: قطع العروق مقة وترك العشاء مهرمة، والعرب تقول: ترك الغداء يذهب بشحم البكاذة يعني الألية، وقال بعضهم: نهاني الأطباء عن الشرب في تضاعيف الطعام، والعرب تقول: تعشّ وتمشَّ وتغدَّْ وتمدَّ؛ يريدون تمدد فأبدلوا الألف من الدال الثانية كراهية التكرار ولازدواج الكلام، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) القيامة: 33 أي يتمطط، فأبدل من الثانية ألفاً بمعنى يمدّ مطاه يرفع ظهره، وأما في حبس الغائط: فقد قال بعض الفلاسفة: الطعام إذا خرج نجوه قبل ست ساعات فهو مكروه من المعدة، وإذا بقي فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو ضرر على المعدة، ويقال: إنّ حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سدّ مجراه ففاض من جوانبه، ويقال: إنّ أرواح المفاصل ميراث حبس الريح، قال الشيخ أبو طالب: قرأت في الحكمة مدار صلاح الأمور في أربعة: الطعام لا يؤكل إلاّ على شهوة، والمرأة لا تنظر إلاّ إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلاّ الطاعة، والرعية لا يصلحها إلاّ العدل، وقيل لبعض حكماء الروم: أيّ وقت الطعام فيه أصلح فقال: إما لمن قدر فإذا جاع وإما لمن لم يقدر فإذا وجد، ويقال: إذا كثرت المقدرة نقصت الشهوة، وقال كسرى لجلسائه: أي خصلة في الإنسان أضرّ؟ فقالوا: الفقر، فقال: البخل أشدّ من الفقر، لأنّ الفقير لا يجد ولابخيل يجد ولا يأكل، وقيل لرجل رؤي سميناً ما أسمنك؟ فقال: أكل الحار وشرب القار والاتكاء على شمالي والأكل من غير مالي، وقيل لأخر رؤي حسن الجسم: ما أحسن جسمك؟ قال: قلة الفكر وطول الدعة والنوم على الكمطة، وقيل لآخر رآه حكيم سميناً: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك فما هي؟ قال: آكل اللباب وصغار المعز وأدهن بجام بنفسج وألبس الكتان، والعرب تقول: العاشية تهيج الآبية؛ يعني أنّ الذي لا يشتهي الطعام إذا نظر إلى من يأكل هاجه ذلك على الأكل الذي يأباه لما رأى الآخر تعشى، وذكر الأصمعي أنّ بعض الحكماء أوصى ابنه فقال: يا بني لا تخرج من منزلك حتى تأخذ حلمك؛ يعني تتغذى وكذلك يقال في تناول الشيء قبل الخروج إلى السوق وقبل لقاء الناس أنه أقلّ للشهوة في الأسواق وأقطع للطعام بلقاء الناس، وأنشد هلال بن مجشم شعراً:

وأنّ قراب البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

ورؤي بعض الصوفية يمشي في السوق وهو يأكل وكان ممن يشار إليه قال: فقلت له: تأكل في السوق؟ فقال: عافاك الله إذا جعت في السوق آكل في البيت، قلت فلو دخلت بعض المساجد؟ فقال: أستحي منه أن أدخل بيته للأكل، هذا لأنه رأى الأكل من أبواب الدنيا، فدخل في طريقها كما قيل: الأسواق موائد الآباق أبقوا من الخدمة فجلسوا في الأسواق، وفي خبر ابن عمر قال: كنا نأكل في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام، وقال بعض أهل الطب: لحمية أحد العلّتين، ويقال: الحمية للصحيح ضارة كما أنها للعليل نافعة، والدواء إذا لم يجد ما يعمل فيه وجد الصحة فعمل فيها وأنشد بعض العرب شعراً:

وربة حام كان للعبد علّة ... وعلّة جرّ الداء حفظ التقلل

وقال لقمان: من احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك مما يأكل من العوافي، وكان يقال: ليس الطبيب من أحمى الملوك ومنعهم من الشهوات، إنما الطبيب من خلاهم وما يريدون، ثم دبر سياستهم على ذلك حتى تستقيم أجسادهم، وقال مدني عندنا بالحجاز لبعض الأعراب: أخبرني بما تأكلون وما تدعون، فقال: نأكل ما أدب ودرج إلاّ أم حنين فقال المدني: ليهن أم حنين منكم العافية، وفي الخبر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد فقال له: تأكل التمر وأنت رمد؟ فقال: يا رسول اللّّه إنما آكل بهذا الشق الآخر يعني جانب العين السليمة، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ذكر أخبار جاءت في التقلل والحمية وذم البطنة

في حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: قال أبو الدرداء: بئس العون على الدين قلب نجيب وبطن رغيب ونعظ شديد نجيب، يعني خفيفاً ضعيفاً، ورغيب يعني واسعة طامعة، قيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟ فال: الجوع أعلم، أي به يطيب الطعام: كما قيل: نعم الإدام الجوع ما ألقيت إليه قبله، قال العتبي: قال عبيد الله لرجل من أهل الدمينة: يا أخي إني لأعجب أنّ فقهاءكم أظرف من فقهائنا، وعوامكم أظرف من عوامنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: فتدري لِمَ ذاك؟ قلت: لا، قال: الجوع ألا ترى أنّ العود إنما صفي صوته من خلوّ جوفه؟ يقال دعا عبد الله بن الزبير الحسن بن عليّ رضي الله عنهم فحضر هو وأصحابه فأكلوا ولم يأكل هو فقيل له في ذلك، قال: إني صائم، ولكن تحفة الصائم قال: وماهي؟ قال: الدهن والمجمرة، وكذلك يقال: الكحل والدهن أحد القرابين واللبن أحد اللحمين والفاكهة، والحديث للضيف أحد الضيافتين، فيستحب لمن كان صائماً فحضر ولم يأكل أن يطيب ويحيي فذاك زاده، روي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر كان على خوان معاوية فرأى معاوىة لقم عبد الرحمن، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة وحده فقال له: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتلّ، قال معاوية: مثله لا يعدم العلّة، وقيل لأبي بكرة: إنّ ابنك أكل حتى بشم، قال: لو مات ما صلّيت عليه، ويقال للبشم سكر كسكر الخمر، وسئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ما الدواد الذي لا داء فيه، فقال: هو اللازم؛ يعني الحمية، وقيل لجالينوس: إنك تقلّ من الطعام فقال: غرضي من الطعام أن آكل لأحيا وغرض غيري من الطعام أن يحيا ليأكل، ويقال: ما أدخل الإنسان جوفه أنفع من الرمان ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلّل من المالح خير من أن يستكثر من الرمان، هذا لذّم الاستكثار وإن كان مما ينفع، ومدح القلّة وإن كان ما يضرّ، حدثت عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه قال: قال لابنه: يا بني إن طول الجلوس على الخلاء يرفع الحرارة إلى الرأس ويورث الباسور ويبجبع له الكبد، اجلس هويناً وقم، قال: حكمه على باب الحش، ويقال: سأل الحجاج جلساءه: ما أذهب الأشياء للإعياء؟ قالوا: أكل التمر، وقال بعضهم: الحمام، وقال بعضهم: الجماع، وقال آخر: الصمائخ، فقال يتاذوق: أذهب الأشياء للإعياء قضاء الحاجة، حدثت عن بعض الأطباء أنّ رجلاً شرب خبث الحديد المعجون فبقي في جوفه واشتّد به وجعه، قال: فسحقت له قطنة مغناطيس وسقيته إياه فتعلق بالخبث وخرج مع الغائط.

وروى الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال: قال يتاذوق الفيلسوف: إنّ اللحم على اللحم يقتل السباع في البرية، قال: ثم قال أبو جعفر: قالت جارية لنا: كان لنا ظبي فمرّ بعجين قد هيّئ فأكل منه حتى حبط؛ والحبط انتفاخ الجنينين فسلخ فوجد قد شرق بالدم، فقال يونس الطبيب: هكذا يصيب الإنسان إذا بشم يشرق قلبه بدمه، وقال الأصمعي عن جعفر والي البصرة إنه قال لأنسان أكول يقيء إذا أكل: لا تفعل، فإن المعدة تضغن إلى القيء كما تضغن الدابة العلف ولا ينضج الطعام؛ معنى تضغن أي تألف وتعتاد، وقال بعضهم: سئل يتاذوق عن البخر فقال، دواؤه الزبيب يعجن بالشعير، ثم يؤكل أسبوعين أو ثلاثاً، وقال الأطباء: معرفة خفّة الماء أن يكون سريع الغليان سريع البرد، ويكون قبالة الشمس مجراه على الشمال ومروره على الطين الأحمر وعلى الرمل، ذكر أبو طالب أنّ هذا آخر الزيادة من الأقوال، وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أكرموا الخبز فإن الله قد أنزله من السماء، فمن بركات الخبز أنه لا ينتظر به أدام وىؤكل مع ما حضر معه من الملح والخلّ والبقل وغيره، وأنْ لا يجعل تحت شيء من آلة المائدة ولا تحت غضارة، مثل أن يسند به شيء ولا يتّخذ طبقاً لشيء، فإن وضع عليه ما يؤكل فلا بأس، ومن السنّة والأدب أن لا ينتظر بالطعام غائب إذا حضر جماعة، ولكن يأكل من حضر؛ فإن حرمة الحاضر مع حضور الطعام أوجب من انتظار الغائب إلا أن يكون الغائب فقيراً فلا بأس أن ينتظر ليرفع من شأنه ولئلا ينكسر قلبه، وإن كان الغائب غنياً لم ينتظر مع حضور الفقراء فإن انتظار الغني معصية لما روى أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، فسمي الطعام شريراً لأجل الأغنياء، والطعام لا تعبد عليه، وإنما الشر اسم لأهل الطعام الداعين الأغنياء عليه التاركين للفقراء، فأما طعام المآتم فهو على ضربين؛ نوع منه يصنعه أهل الميت للنوائح والبواكي ومن يينيهم على الجزع، فإن أكل هذا مكروه منهيّ عنه، ونوع يحمل إليهم لشغلهم عن أنفسهم وإصلاح طعامهم بميتهم؛ فهذا لا بأس به وبحمله إليهم، ويجوز الأكل منه إن أطعموه غيرهم لأنه من البرّ والمعروف إن لم يرد به النوائح ولا المجالسسة على القبور للجزع والأسى.

وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب: إنّ آل جعفر شغلوا بميتهم عن صنيع طعامهم فاحملوا إليهم ما يأكلون؛ فهذا سنّة في حمل الطعام إلى أهل الميت، ومن دعي إلى طعام وكان في بيت الداعي إحدى خمس خصال فلا يجبب دعوته ولا حرج في ترك إجابته إن كانت مائدته يشرب بعدها مسكر، وإن لم يعاينه في الحال، أو كان في الأثاث فراش حرير، أو ديباج، أو كان في الآنية ذهب، أو فضة، أو كان متخذ الحيطان مستراً بالثياب كما تستّر الكعبة، أو كان صورة ذات روح في ستر منصوب أو في حائط، ومن أجاب الدعوة فرأى إحدى هذه الخمس فعليه أن يخرج أو يخرج ذلك، فإن قعد فقد شركهم في فعلهم، دعي أحمد بن حنبل رحمه الله إلى طعام فأجاب في جماعة من أصحابه، فلما استقر في المنزل رأى إناء من فضة في البيت فخرج وخرج أصحابه معه ولم يطعموا، ويقال: إنه خرج من أشنانة رآها كان رأسها المغطاة به فضة لم يصبر فخرج لذلك، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى إلى الوليمة من أي شيء يخرج؟ قال: خرج أبو أيوب حين دعي فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فرأى شيئاً من زيّ العجم فخرج وقال: من تزيا بزيّ قوم فهو منهم، قلت لأبي عبد الله: فإن رأى شيئاً من فضة ترى أن يخرج؟ قال: نعم أرى أن يخرج، قال: وسمعته يقول: دعانا رجل من أصحابنا قبل المحسنة وكنا نختلف إلى عفان، فإذا إناء من فضة فخرجت فأتبعني جماعة، فنزل بصاحب البيت أمر عظيم فقلت لأبي عبد الله: الرجل يدعي فيرى المكحلة رأسها مفضضة قال: هذا يستعمل كل ما لا يستعمل، فأخرج منه، إنما رخّص في الضبة أو نحوها فهو أسهل، وسألته عن الكلة فكرهها، قلت: فألقيه أو أخليها؟ فلم يرّ بها بأساً، قلت لأبي عبد الله: إنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره هل يجوز كسره؟ قال: نعم، قال أبو بكر المروزي: سألته عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج ترى أن يقعد عليه أو يعقد في بيت آخر؟ قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة.

وقد روي عن ابن مسعود الخروج قلت: ترى أنْ يأمرهم؟ قال: نعم، يقول: هذا لا يجوز، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون في بيت ديباج يدعي إليه للشيء؟ قال: لا تدخل عليه ولا تجلس معه، قلت: الرجل يدعى فيرى الكلة فكرهها وقال: هو رياء لا تردّ من حرّ ولا تردّ من برد، قلت: الرجل يدعى فيرى ستراً فيه تصاوير، قال: لا تنظر إليه قلت: قد أنظر إليه، قال: إنْ أمكنك خلعه خلعته، قال: سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب فيه القرآن فكره ذلك قال: ولا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره، قلت: الرجل يكتري البيت فيه التصاوير تري أن يحكه؟ قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس؟ قال: نعم، وسألته عن الجوز ينثر إسناده جيد أبو حصين عن خالد بن مسعود قال أبوبكر المروزي: دخلت على أبي عبد الله وقد حذق ابنه قد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال: هذه نهبة، وقال هاشم بن القاسم: حدثنا محمد قال: كان طلحة والزبير يكرهان النثر في كل شيئ في العرس وفي الحذاق وغيرهما من الجوز والسكر، قال: وسألت أبا عبد الله عن قرض الرغيف والخمير فلم يرَ به بأساً آخر الزيادة في الجديد، ومن الأصل الأول خمسة لا تجاب دعوتهم وإن دعي رجل ولم يعلم ثم علم فلا حرج عليه، أن يخرج من بيته المبتدع، وأعوان الظلمة، وآكل الربا، والفاسق المعلن بفسقه، ومن كان الأغلب على ماله الحرام ولم يكن يردع عن الآثام في معاملته الأنام لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تأكل إلاّ طعام تقي وذاك لأن التقي قد كفاك الاجتهاد في المأكول للتقوى فأغناك عن السؤال عنه، لأن التقي إذا أطعمته استعان على الطعمة على البرّ والتقوى فتصير معاوناً له عليها، كما قال تعالى، فيشركه في برّه والفاجر والظالم إن أكلت طعامهما صرت من أعوان الظلمة بمشاركتك لهما في الطمعة، كما سأل خياط ابن المبارك فقال: إني أخيط لبعض وكلاء هؤلاء يعني الأمراء فهل يخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة، أعوان الظلمة من يبيع منك الخيوط والإبر، وقد عمل ذو النون المصري أغمض من هذا الورع، وما سمعت أدق منه، إن السلطان لما سجنه في كلام أنكره عليه العامّة من العلم الغامض كانت المائدة من قبل السلطان تختلف إليه فلم يكن يطعم منها شيئاً، ولم يأكل أياماً كثيرة مدة مقامه في السجن، فكانت له أخت قد آخته في الله تعالى تبعث إليه من مغزلها وتدفعه إلى السجّان فيحمله إليه ويعرفه أنه من قبل تلك العجوز الصالحة، فلم يأكل أيضاً منه، فلما خرج لقيته العجوز فعاتبته على ردّ الطعام وقالت: قد علمت أنه كان من مغزلي؟ فقال: نعم، إلا أنه جاءني على طبق ظالم فرددته لأجل الظرف يعني بهذا يد السجان، ولعمري أنّا روينا عن عليّ عليه السلام أنه أهدى له دهقان بالكوفة في يوم عيد لهم خبيصاً على جام من ذهب يكرمه بذلك، فردّه ولم يأكل منه، قال: رددته لأجل ظرفه الذي كان فيه، وقيل: من أكل لقمة من حرام قسا قلبه أربعين يوماً، ويقال: أظلم قلبه، ومن أكل الحلال أربعين يوماً زهد في الدنيا وأدخل الله تعالى في قلبه وأجرى الحكمة على لسانه، وقال بعض السلف: أوّل لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر الله تعالى له بها ما تقدم من ذنبه، وقال الآخر: من أقام نفسه مقام ذلّ في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء، وكان سهل يقول في السائحين في الأمصار والمنقطعين بالأسفار: إنّ الرجل ليدخل قرية فيجوع، ولا يقدر على الشبهات فلا يأكل، ويبيت تلك الليلة جائعاً، فيجعل في ميزانه جميع أعمال أهل تلك القرية، ومن أجبره سلطان على طعام أو قدم إليه شبهة أكرهه على أكلها، فليتعلل بعلالة منه، وليتغيّر تغيّراً، ولا يقصد طيباً ولا يكبر اللقمة، ولا يستكثر في الطعمة وليأكل ما يسدّ رمقه، وما يخاف التلف بنفسه، إن هو فارقه، حدثني بعض الشهود: إنّ مزكياً من بعض أهل العلم بخراسان ردّ شهادة شاهد أكل من طعام سلطان كان أجبره فقال: إنه كان أجبرني على الأكل، فقال: قد علمت ذلك ولم أردّ شهادتك لأنك أكلت، ولكنك رأيتك تقصد الطّيب وتكبر اللقمة فهل كان أجبرك على هذا؟ فلهذا جرحتك عند الحاكم، قال لنا الشيخ وأجبر السطان هذا المذكي على الأكل من ماله فقال: اختاروا إحدى

خصلتين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب والله أعلم. ين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب والله أعلم.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!