موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب سعادة الدارين في الصلاة على سيد الكونين

للشيخ يوسف النبهاني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الكلام على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بعد التشهد الأخير

وينبغي أن يقيد ذلك بأحمق أو جاهل لا يعرف قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أما العارف والكامل فلا مانع من ذكرها له عند غضبه فإنها تحمله على الرجوع عن الغضب والله تعالى أعلم. انتهت عبارة فتاوى العلامة الخليلي.

وقوله لأنها كالقرآن أي في كون كل منهما عبادة.

تكميل

ولنختم هذا الباب بالكلام على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بعد التشهد الأخير وقد حملني عليه مع ما فيه من التطويل دفع ما عسى يتوهمه القاصرون من عبارة القاضي عياض في الشفاء عفا الله عنه المشتملة على هجنة التعبير في حق إمامنا الشافعي رضي الله عنه لقوله بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير وكتاب الشفاء كله حسنات وإنما كانت هذه من الهفوات التي لا يخلو عنها البشر وهي لأجل تلك الحسنات تغتفر وإن جانب فيها ما هو معروف من كثرة فضله وآدابه وخالف بارتكابه إياها عادة كتابه

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ***** جاءت محاسنه بألف شفيع

وقد رد عليه رحمه الله جماعة من أئمة العلماء وجهابذة المحدثين والفقهاء كالحافظ السخاوي في (القول البديع) والإمام القسطلاني في (مسالك الحنفاء) والعلامه الخيضري في (اللواء المعلم) وغيره وهؤلاء الثلاثة شافعيون

ورد عليه من أئمة الحنابلة الإمام ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام) وأطال في ذلك جزاه الله خيرا بما سأنقله هنا ليتحقق منه الصواب ويزول به ما لعله يثبت في بعض النفوس القاصرة من الارتياب لا سيما وكتاب الشفاء كثير التداول بين الناس وهذه الكتب المشتملة على الرد عليه قليلة التداول فمن اطلع على عبارته ربما يثبت في نفسه صحة ما تضمنته لجلالة قدر الكتاب وقدر مؤلفه فوجب إشاعة الرد عليه وتوجيه التزييف إليه فهو وإن كان كبيرا فالحق أكبر منه والحق يعلو ولا يعلى عليه

وإنما اخترت نقل كلام ابن القيم واقتصرت من كلام أولئك الأئمة الثلاثة على ما تدعو الحاجة إليه لأنه أجنبي عن مذهب المردود عليه والمنتصر إليه فيكون قوله أكثر إقناعا من قول المنتصرين لإمامهم على أن الإقناع إنما حصل بالحجج القوية التي لو استحضرها القاضي عياض رحمه الله ومن كان على شاكلته لما وسعهم إلا الإنقياد والتسليم

قال العلامه الخيضري في الكتاب المذكور الموطن السابع بعد التشهد الأخير

اعلم أنه قد اختلف العلماء في ذلك على قولين

أحدهما وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير قبل السلام وإلى هذا القول ذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه وهو أحد قولي الإمام أحمد وآخرهما وأحد الروايتين عن اسحق بن راهويه وقول أبي عبد الله محمد ابن المواز من المالكية كما نقله عنه ابن القصار والقاضي عبد الوهاب حكاه عنهما القاضي عياض

والقول الثاني أنها مستحبة وليست بواجبة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد الروايتين عن أحمد واسحق

وبالغ قوم في إنكار مقالة الإمام الشافعي رضي الله عنه بوجوب ذلك ومنهم القاضي عياض أن الناس شنعوا ذلك عليه.

قال العلامه الخيضري وقد صنفت في ذلك جزء سميته (زهر الرياض في رد شنعة القاضي عياض بسبب إيجاب الصلاة على البشير النذير في التشهد الأخير)

فمن أدلة إمامنا الشافعي رضي الله عنه

قول الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

وجهة الدلالة في هذه الآية الشريفة: أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر المطلق للوجوب ما لم يقم دليل على خلافه وقد ثبت أن أصحابه صلى الله عليه وسلم سألوه عن كيفية هذه الصلاة المأمور بها فقال {قولوا اللهم صل على محمد .... } الحديث

وقد ثبت أن السلام الذي علموه هو السلام عليه في الصلاة وهو سلام التشهد فمخرج الأمرين والتعليمين والمحلين واحد وإيضاح هذا من وجه آخر: هو أنه صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد وفيه ذكر التسليم عليه صلى الله عليه وسلم فسألوه بعد ذلك عن كيفية الصلاة المأمور بها مع التسليم فعلمهم إياها وعرفهم أن التسليم المأمور به أيضا هو الذي علمتموه قبل ذلك.

ويوضح هذا أيضا: أنه لو كان المراد بالصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة لا فيها لكان كل مسلم منهم إذا سلم عليه يقول له السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ومن المعلوم أنه لم يكونوا يتقيدون في السلام عليه بهذه الكيفية بل كان الداخل منهم يقول السلام عليك يا رسول الله ونحو ذلك وهم لم يزالوا يسلمون عليه من أول الإسلام بتحية الإسلام وإنما الذي علموه قدر زائد على ذلك وهو السلام عليه في الصلاة

ويوضح هذا أيضا: حديث أبي مسعود البدري قال {أقبل رجل حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقال يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلى الله عليك قال فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله فقال إذا أنتم صليتم فقولوا اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ... }

وهذا الحديث أصله في صحيح مسلم بدون قوله {إذا نحن صلينا في صلاتنا}

وأما هذه الزيادة فهي في مسند الإمام أحمد

ورواه كذلك ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال على شرط مسلم

وصحح هذه الزيادة ابن حبان والدارقطني والبيهقي وقال الدارقطني في هذا الحديث لمَّا أخرجه في سننه من هذا الوجه رجال إسناده كلهم ثقات

فإذا تقرر أن الصلاة المسئول عن كيفيتها هي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في نفس الصلاة وقد خرج ذلك مخرج البيان للمأمور به منها في القرآن ثبت أنها على الوجوب

ويضاف إلى ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها

ثم قال بعد استدلاله بما سيأتي في كلام ابن القيم

ومن الأدلة على عدم شذوذ الشافعي بها: ما نقل عن ابن مسعود وابن عمر وأبي مسعود الأنصاري وغيرهم من الصحابة أنهم قالوا بوجوبها ونقل ذلك أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي والشعبي ومقاتل وابن حيان ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه قال لا يجب وقول الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة على أحد الأقوال

وأيضا لم يزل الناس من عهد نبيهم وإلى الآن على قولها في تشهدهم ولو كانت غير واجبة لم يكن اتفاق الأمة في سائر الأمصار والأعصار على الإتيان بها في التشهد وترك الإخلال بها

وقد ظهر بهذه النبذة اليسيرة التي ذكرناها هنا دليل إمامنا الشافعي على القول بوجوبها وأنه لم يشذ بها ومن أراد زيادة النظر في ذلك فعليه بـ (زهر الرياض) يتضح له الصواب منه والله الموفق. أ. هـ

وقال الإمام القسطلاني في (مسالك الحنفا)

قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مؤمن بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

واختلف في الوجوب هل هو في التشهد الأخير من الصلاة أو خارجها؟

وعلى الثاني (خارجها) فهل هو مع التكرار كلما ذكر في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره؟ أو الوجوب مرة واحدة في العمر؟ أو الوجوب في الجملة من غير حصر؟ أو في الصلاة من غير تعيين المحل؟

فقال الإمام الشافعي رحمه الله: أنها واجبة في التشهد الأخير شرط في صحة الصلاة وعبارته في (الأم):

فرض الله الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة

فوجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك:

١ - أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثنا صفوان بن سليم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك يعني في الصلاة قال (تقولون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ..... ) الحديث

٢ - أخبرنا إبراهيم بن محمد أخبرني سعد بن أبي اسحق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب ابن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الصلاة {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ..... } الحديث

قال الشافعي: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلَّمهم التشهد في الصلاة وروي أنه علَّمهم كيف يصلون عليه في الصلاة لم يجز أن نقول التشهد في الصلاة واجب والصلاة فيه غير واجبة. أ. هـ

وحديث كعب صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في التشهد وقد أمرنا أن نصلي كصلاته وهذا يدل على وجوب فعل ما فعل في الصلاة إلا ما خصه الدليل.

ثم قال الإمام القسطلاني بعد سياقه أدلة كثيرة في الرد على القاضي عياض

وأما قوله: وقد شنع الناس عليه

فأي شناعة عليه في هذه المسألة وهل هي إلا من محاسن مذهبه وأي كتاب خالفه أم أي إجماع فلا إجماع خرقه ولا نص خالفه فمن أي وجه يشنع عليه وهل الشناعة إلا فيمن شنع عليه اليق وبه ألحق

وأما قوله: وشذ الشافعي

فقد مر وفاق الإمام أحمد وجماعة له فعلم أن قوله وشذ غير صحيح ولا ريب أن إنفراد أحد المجتهدين بالحكم الإجتهادي ليس بمنكر.

وقوله: ولا سلف له في ذلك

غير صواب لما تقرر أنها مسألة اجتهادية وقاعدته أن قول الصحابي ليس بحجة في محل الإجتهاد فكيف بغيره فلا احتياج له في الاجتهاد إلى سلف.

وقوله: وقد بالغ الناس في إنكار هذه المسألة عليه

يقال هذا الإنكار منكر وكيف ينكر القول بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وهي أعظم العبادات الوارد بها القرآن وأحد ركني الإيمان إذ هي مستلزمة للإيمان به والشهادة له بالرسالة.

وقوله: ولا أعلم له فيها قدوة يقتدي به

المقام مقام اجتهاد فلا افتقار له فيه إلى غيره وإن أريد الموافقة في الإجتهاد فقد سبق ذكر من وافقه فيه. انتهى كلام القسطلاني.

وذكر نحو ذلك الحافظ السخاوي وقال: قال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفضل العراقي:

قد سمعت غير واحد من مشايخنا ينكرون على القاضي عياض إنكاره على الشافعي ونسبته إلى الشذوذ بذلك في كتاب موضوعه شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم مع كونه يحكي في (الشفاء) الخلاف في طهارة بوله ودمه واستحسن ذلك منه لزيادة شرفه صلى الله عليه وسلم بذلك فكيف ينكر القول بوجوب الصلاة عليه وهو زيادة شرف له صلى الله عليه وسلم. انتهى

على أنه قد انتصر جماعة للشافعي فذكروا أدلة نقلية ونظرية ودفعوا دعوى الشذوذ فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار في ذلك كما سيأتي.

وقال العلامة شمس الدين بن القيم في الباب الرابع من كتابه (جلاء الأفهام) الموضع الأول وهو أهمها وآكدها في الصلاة في آخر التشهد

وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها واختلفوا في وجوبها فيها

الرأي الأول

فقالت طائفة: ليست بواجبة فيها ونسبوا من أوجبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع

منهم: الطحاوي والقاضي عياض والخطابي فإنه قال: ليست بواجبة في الصلاة

وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ولا أعلم له قدوة وكذلك ابن المنذر وذكر أن الشافعي تفرد بذلك واختار عدم الوجوب

واحتج أرباب هذا القول بأن قالوا واللفظ لعياض:

والدليل على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة:

عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه وقد شنع الناس عليه المسألة جدا

وهذا تشهد ابن مسعود رضي الله عنه الذي اختاره الشافعي رحمه الله وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وكذلك كل من روى التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة وابن عباس وجابر وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم لم يذكروا فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وقد قال ابن عباس وجابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ونحوه عن أبي سعيد وقال ابن عمر كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما يعلمون الصبيان في الكُتاب وكان عمر بن الخطاب يعلمه أيضا على المنبر يعني وليس في شيء من ذلك أمرهم فيه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عبد البر في (التشهد):

ومن حجة من قال بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست فرضا في الصلاة

١ - حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة أخذ علقمة بيدي فقال إن عبد الله أخذ بيدي كما أخذت بيدك فعلمني التشهد فذكر الحديث إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

قال فإذا أنت قلت ذلك فقد قضيت الصلاة فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد

قالوا ففي هذا الحديث ما يشهد لمن لا يرى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد واجبة ولا سنة مسنونة وأن من تشهد فقد تمت صلاته إن شاء قام وإن شاء قعد قالوا لأن ذلك لو كان واجبا أو سنة في التشهد لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وذكره.

٢ - وقالوا أيضا فقد روى أبو داود والترمذي والطحاوي من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا رفع رأسه من آخر السجود فقد مضت صلاته إذا هو أحدث}

واللفظ لحديث الطحاوي وعندكم لا تمضي صلاته حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

٣ - قالوا وقد روى عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه {إذا جلس مقدار التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته}

٤ - وقالوا روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قصة التشهد وقال ثم ليتخير من الكلام ما أحب ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

٥ - ومن حجتهم أيضا حديث فضالة بن عبيد {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عجَّل هذا فقال له ولغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه والثناء عليه والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء}

قالوا ففي حديث فضالة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر هذا المصلي الذي ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بالإعادة فلو كانت فرضا لأمره بإعادة الصلاة كما أمر الذي لم يتم ركوعه ولا سجوده.

٦ - واحتج هؤلاء أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها المسيء في صلاته ولو كانت من فروض الصلاة التي لا تصح إلا بها لعلَّمه إياها كما علَّمه القراءة والركوع والسجود والطمأنينة في الصلاة.

٧ - واحتجوا أيضا بأن الفرائض إنما تثبت بدليل صحيح لا معارض له من مثله أو إجماع من تقوم الحجة بإجماعهم.

فهذا جل ما احتج به النفاة وعمدتهم.

الرأي الثاني

ونازعهم آخرون في ذلك نقلا واستدلالا وقالوا:

أما نسبتهم الشافعي ومن قال بقوله إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع فليس بصحيح

فقد قال بقوله جماعة من الصحابة ومن بعدهم

فمنهم عبد الله بن مسعود فإنه كان يراها واجبة في الصلاة ويقول:

(لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم) ذكره ابن عبد البر عنه في (التهميد) وحكاه غيره أيضا.

ومنهم أبو مسعود البدري روى عثمان بن أبي شيبة وغيره عن شريك عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبي مسعود قال (ما أرى أن صلاة لي تمت حتى أصلي فيها على محمد وعلى آل محمد)

ومنهم عبد الله بن عمر ذكره الحسن بن شبيب العمري حدثنا على بن ميمون حدثنا خالد بن حسان عن جعفر بن برقان عن عقبة بن نافع عن ابن عمر أنه قال (لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن نسيت شيئا من ذلك فأسجد سجدتين بعد السلام)

ومن التابعين أبو جعفر محمد بن علي والشعبي ومقاتل بن حيان

ومن أرباب المذاهب المتبوعين

اسحق بن راهويه قال: إن من تركها عمدا لم تصح صلاته وإن تركها سهوا رجوت أن يجزيه.

قلت عن اسحق في ذلك روايتان ذكرهما عنه حرب في مسائله قال: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد

قال سألت اسحق قلت الرجل إذا تشهد فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم

قال أما أنا فأقول إن صلاته جائزة وقال الشافعي لا تجوز صلاته

ثم قال أنا أذهب إلى حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة فذكر حديث ابن مسعود

قال حرب: سمعت أبا يعقوب يعني اسحق يقول إذا فرغ من التشهد إماما كان أو مأموما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجزيه غير ذلك لقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفنا السلام عليك يعني التشهد والسلام فيه فكيف الصلاة فأنزل الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وفسر النبي صلى الله عليه وسلم كيف هي فأدنى ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه يكفيك فلتقله بعد التشهد والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الجلسة الأخيرة عملان هما عدلان لا يجوز لأحد أن يترك واحدا منهما عمدا وإن كان ناسيا رجونا أن تجزيه مع أن بعض علماء الحجاز قال لا يجزيه ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن تركها أعاد الصلاة. تم كلامه

وأما الإمام أحمد رضي الله عنه فاختلفت الرواية عنه

ففي رواية المروزي قيل لأبي عبد الله إن ابن راهويه يقول لو أن رجلا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بطلت صلاته قال: ما أجتريء أن أقول هذا وقال مرة هذا شذوذ

وفي مسائل أبي زرعة الدمشقي قال أحمد: كنت أتهيب ذلك ثم تثبَّتٌ فإذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة وظاهر هذا أنه رجع عن قوله بعدم الوجوب.

وأما قولكم الدليل على عدم وجوبها عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه فجوابه

إن استدلالالكم إما أن يكون بعمل الناس في صلاتهم وإما بقول الإجماع أنها ليست واجبة

فإن كان الاستدلال بالعمل فهو من أقوى حججنا عليكم فإنه لم يزل عمل الناس مستمرا قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد إمامهم ومأمومهم ومنفردهم معترضهم ومتفقهم حتى لو سئل كل مصل هل صليت على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لقال نعم وحتى لو سلم الإمام من غير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المأمومون منه ذلك لأنكروا عليه وهذا أمر لا يمكن إنكاره. فالعمل أقوى حجة عليكم فكيف يسوغ لكم أن تقولوا عمل السلف الصالح قبل الشافعي ينفي الوجوب أفترى السلف الصالح ما كان أحد منهم قط يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وهذا من أبطل الباطل.

وأما إن كان احتجاجكم بقول الإجماع أنها ليست بفرض فهذا مع أنه لا يسمى عملا لم يقله أهل الإجماع وإنما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وغايته أنه قول كثير من أهل العلم وقد نازعهم في ذلك آخرون من الصحابة والتابعين وأرباب المذاهب كما تقدم

فهذا ابن مسعود وابن عمر وأبو مسعود والشعبي ومقاتل بن حيان وجعفر بن محمد واسحق بن راهويه والإمام أحمد في آخر قوليه يوجبون الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد

فأين إجماع المسلمين مع خلاف هؤلاء وأين عمل السلف الصالح وهؤلاء من أفاضلهم رضي الله عنهم

ولكن هذا شأن من لم يتتبع مذاهب العلماء ويعلم مواقع الإجماع والنزاع.

وأما قوله وقد شنع الناس على الشافعي المسألة جدا

فيا سبحان الله أي شناعة عليه في هذه المسألة وهل هي إلا من محاسن مذهبه فأي كتاب خالف الشافعي في هذه المسألة أم أي سنة أم أي إجماع ولأجل أن قال قولا اقتضته الأدلة وقامت على صحته وهو من تمام الصلاة بلا خلاف إما تمام واجباتها أو تمام مستحباتها فهو رضي الله عنه رأى أنه من تمام واجباتها بالأدلة التي سنذكرها بعد ذلك فلا إجماعا خرقه ولا نصا خالفه فمن أي وجه يشنع عليه وهل الشناعة إلا بمن شنع عليه اليق وبه ألحق.

وأما قوله وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره

فهكذا رأيته في النسخة (الذي اختاره الشافعي) والشافعي إنما اختار تشهد ابن عباس وأما تشهد ابن مسعود فأبو حنيفة وأحمد اختاراه ومالك اختار تشهد عمر

وبالجملة فجواب ذلك من وجوه

١ - أحدها: أنا نقول بموجب هذا الدليل فإن مقتضاه وجوب التشهد ولا ينفي وجوب غيره وإنه لم يقل أحد أن هذا التشهد هو جميع الواجب من الذكر في هذه القعدة فإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدليل آخر لا يكون معارضا بترك تعليمه في أحاديث التشهد.

٢ - الثاني: إنكم توجبون السلام من الصلاة ولم يعلمهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث التشهد

فإن قلتم إنما أوجبنا السلام لقوله صلى الله عليه وسلم {تحريمها التكبير وتحليلها التسليم}

قيل لكم ونحن أوجبنا السلام لقوله صلى الله عليه وسلم بالأدلة المقتضية لها فإن كان تعليم التشهد وحده مانعا من إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان مانعا من إيجاب السلام وإن لم يمنعه لم يمنع وجوب الصلاة.

٣ - الثالث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما علمهم التشهد علمهم الصلاة عليه فكيف يكون تعليمه التشهد دالا على وجوبه وتعليمه الصلاة لا يدل على وجوبها

فإن قلتم التشهد الذي علمهم إياه هو تشهد الصلاة ولهذا قال فيه {فإذا جلس أحدكم فليقل التحيات لله .. } وأما تعليم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فمطلق

قلنا والصلاة التي علمهم إياها عليه صلى الله عليه وسلم هي في الصلاة أيضا لوجهين:

أ- أحدهما: حديث محمد بن إبراهيم التيمي وقولهم {كيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا في صلاتنا} وقد تقدم.

ب- الثاني: أن الصلاة التي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم إياها نظير السلام الذي علموه لأنهم قالوا {هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك} ومن المعلوم أن السلام الذي علموه هو قولهم في الصلاة {السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته} فوجب أن تكون الصلاة المقرونة به هي في الصلاة وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام تقرير ذلك.

٤ - الرابع: أنه لو قدر أن أحاديث التشهد تنفي وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لكانت أدلة وجوبها مقدمة على تلك لأن نفيها ينبني على استصحاب البراءة الأصلية ووجوبها ثابت منها والثابت مقدم على المنفي فكيف ولا تعارض فإن غاية ما ذكرتم من تعليم التشهد أدلة ساكتة عن وجوب غيره وما سكت عن وجوب شيء لا يكون معارضا لما نطق بوجوبه فضلا عن أن يقدم عليه.

توضيح: أي أن أدلة وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجدت قبل أدلة نفيها في أحاديث التشهد إذا قدر ذلك

على اعتبار أن وجوب الصلاة على النبي هي من باب استصحاب البراءة الأصلية فهي ثابتة من الأصل فإذا قلتم أن أحاديث التشهد تنفي الصلاة على النبي فمعلوم أن الثابت من الأصل مقدم على المنفي مع العلم بأن أحاديث التشهد المذكورة لم تنفي الصلاة على النبي وإنما سكتت عن وجوب غيرها وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت أحاديث التشهد سكتت عنها لا تكون معارضة لما استصحبته البراءة الأصلية من ثوبتها وفضلا عن ذلك لا تقدم عليها.

٥ - الخامس: إن تعليمهم التشهد كان متقدما بل لعله من حين فرضت الصلاة وأما تعليمهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فإنه كان بعد نزول قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ومعلوم أن هذه الآية نزلت في الأحزاب بعد نكاحه زينب بنت جحش وبعد تخييره أزواجه فهي بعد فرض التشهد فلو قدر أن فرض التشهد كان نافيا لوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لكان منسوخا بأدلة الوجوب فإنها متأخرة

والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن هذا يقتضي تقديم أدلة الوجوب لتأخرها والذي قبله يقتضي تقديمها لرفعها البراءة الأصلية من غير نظر إلى تقدم ولا تأخر

والذي يدل على تأخر الأمر بالصلاة عن التشهد قولهم {هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك} ومعلوم أن السلام عليه مقرون بذكر التشهد ولم يشرع في الصلاة وحده بدون ذكر التشهد والله أعلم.

وأما قوله [ومن حجة من لم يرها فرضا في الصلاة حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة فذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه {فإذا قلت ذلك فقد قضيت الصلاة فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد} ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]

فجوابه من وجوه

١ - أحدها: أن هذه الزيادة مدرجة في الحديث وليست من كلام رسول الله صلى اله عليه وسلم بيَّن ذلك الأئمة الحفاظ

قال الدارقطني في كتابه (العلل): رواه الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن عبد الله حدث به عنه محمد بن عجلان وحسين الجعفي وزهير بن معاوية وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان

فأما ابن عجلان وحسين الجعفي فاتفقا على لفظه

وأما زهير فزاد عليهما في آخره كلاما أدرجه بعض الرواة عن زهير في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله (إذا قضيت هذا أو فعلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم)

ورواه شبابة بن سوار عن زهير ففصل بين لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه عن زهير قال ابن مسعود هذا الكلام.

وكذلك رواه ابن ثوبان عن الحسن بن الحر وفصل كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام ابن مسعود وهو الصواب.

وقال في كتاب (السنن) وقد ذكر حديث زهير عن الحسن بن الحر هذا وذكر الزيادة ثم قال: أدرجها بعضهم عن زهير في الحديث ووصلها بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وفصله شبابة عن زهير من كلام عبد الله بن مسعود وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن الحر كذلك وجعل آخره من قول ابن مسعود ولإتفاق حسين الجعفي وابن عجلان ومحمد بن أبان في روايتهم عن الحسن بن الحر على ترك ذكره في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره عن عبد الله بن مسعود على ذلك

ثم ذكر رواية شبابة وفصله كلام عبد الله من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: شبابة ثقة وقد فصل آخر الحديث وجعله من قول ابن مسعود وهو أصح من رواية من أدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد تابعه غسان بن الربيع وغيره فرووه عن ابن ثوبان عن الحسن بن الحر كذلك وجعله آخر الحديث من كلام ابن مسعود لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر أبو بكر الخطيب هذا الحديث في كتاب (الفصل للوصل) له وقال: يقول من فصل كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام ابن مسعود وبيَّن أن الصواب أن هذه الزيادة مدرجة.

٢ - فإن قيل قد رويتم عن ابن مسعود أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في الصلاة وهذا الذي ساعدناكم على أنه من قول ابن مسعود يبطل ما رويتم عنه فإن كان الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو نص في عدم وجوبها وإن كان من كلام ابن مسعود فهو مبطل لما رويتموه عنه؟

فهذا سؤال قوي وقد أجيب عنه بأجوبة

أ- أحدها: قال القاضي أبو الطيب: قوله (فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك) معناه أنها قاربت على التمام والدليل على ذلك أنا أجمعنا على أن الصلاة لم تتم.

وهذا جواب ضعيف لأنه قال (إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد) وعند من يوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يخير بين القيام والقعود حتى يأتي بها.

ب- والجواب الثاني: أن هذا الحديث خرج على معنى في التشهد وذلك لأنهم كانوا يقولون في الصلاة السلام على الله فقال لهم إن الله هو السلام لكن قولوا كذا فعلمهم التشهد ومعنى قوله فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك بمعنى إذا ضٌم إليها ما يجب فيها من ركوع وسجود وقراءة وتسليم وسائر أحكامها ألا ترى أنه لم يذكر التسليم من الصلاة وهو من فرائضها لأنه قد وقَّفهم على ذلك فاستغنى عن إعادة ذلك عليهم.

قالوا ومثل حديث ابن مسعود هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الصدقة (أنها تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ومن ضٌم إليهم وسٌمِّىَ معهم في القرآن وهم الثمانية الأصناف.

قالوا ومثل ذلك قوله في حديث المسئ في صلاته (ارجع فصل فإنك لم تصل) ثم أمره بفعل ما رآه لم يأت به أو لم يتمه من صلاته فقال (إذا قمت إلى الصلاة .... ) فذكر الحديث وسكت له عن التشهد والتسليم وقد قام الدليل من غير هذا الحديث على وجوب التشهد ووجوب التسليم عليه صلى الله عليه وسلم بما علمهم من ذلك كما يعلمهم السورة من القرآن وعلمهم أن ذلك في صلاتهم وقام الدليل أيضا في التسليم بأنه إنما يتحلل من الصلاة به لا بغيره من غير هذا الحديث فكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مأخوذة من غير ذلك الحديث.

قالوا وكما جاز لمن جعل التشهد فرضا لحديث ابن مسعود هذا وردَّ على من خالفه وقال (إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد) وعلى من قال (إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة فقد تمت صلاته)

لأن ابن مسعود إنما علق التمام في حديثه بالتشهد جاز لمن أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتج بالأحاديث الموجبة لها وتكون حجته منها على من نفى وجوبها فالحجة من حديث ابن مسعود على من نفى وجوب التشهد ووجوب القعدة معه.

قالوا واستدلالانا أقوى من استدلالكم فإنه استدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل الأمة قرنا بعد قرن فإن لم يكن ذلك أقوى من الإستدلال على وجوب التشهد لم يكن دونه وإن كان من الفقهاء من ينازعنا في هذه المسألة فهو كمن ينازعكم من الفقهاء في وجوب التشهد والحجة في الدليل أين كان ومع من كان.

جـ- الجواب الثالث: أنه لا يمكن أحدا من منازعينا أن يحتج علينا بهذا الأثر لا مرفوعا ولا موقوفا

فإنه يقال لمن احتج به لا يخلو إما أن يكون قوله (إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك) مقتصرا عليه (التشهد) أو مضافا إلى سائر واجباته (التشهد)

والأول (مقتصرا عليه) محال وباطل.

والثاني (مضافا إلى سائر واجباته) حق ولكنه لا ينفي وجوب شيء مما تنازع فيه الفقهاء من واجبات الصلاة فضلا عن نفيه وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان التسليم من تمام الصلاة وواجباتها عن مالك وكذا الجلوس للتشهد ولم يذكره وكذا إن كان عليه سهو واجب فإنه لا تتم الصلاة إلا به ولم يذكره.

د- الجواب الرابع: عند أبي حنيفة رضي الله عنه أن التشهد ليس بفرض بل إذا جلس مقدار التشهد فقد تمت صلاته تشهد أو لم يتشهد والحديث دليل على أن الصلاة لا تتم إلا بالتشهد فإن كان استدلالكم على أن التمام بالتشهد فلا تجب الصلاة بعده صحيحا, فهو حجة عليكم في قولكم بعدم وجوب التشهد لأنه علق به التمام وبطل قولكم بنفي فرضية التشهد وإن لم يكن الاستدلال به صحيحا بطل معارضته أدلة الوجوب به وبطل قولكم بنفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فبطل قولكم على التقديرين.

فإن قلت نحن نجيب عن هذا بأن قوله (فإذا قلت هذا فقد تمت صلاتك) المراد به تمام الاستحباب وتمام الواجب انقضى بالجلوس.

قيل لكم هذا فاسد على قول من نفى وجوب الصلاة وعلى قول من أوجبها لأن نفي وجوبها لا ينازع في تمام الاستحباب موقوف عليها وأن الصلاة لا تتم التمام المستحب إلا بها ومن أوجبها يقول لا تتم التمام الواجب إلا بها فعلى التقديرين لا يمكنكم الاستدلال بالحديث أصلا.

وقوله روى أبو داود والترمذي حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا رفع رأسه من آخر السجود فقد مضت صلاته إذا هو أحدث}

جوابه من وجوه

١ - أحدها: أن الحديث معلول وبيان إعلاله من وجوه:

أ- أحدها: أن الترمذي قال إن اسناده ليس بالقوي وقد اضطربوا في اسناده.

ب-الثاني: أنه من رواية عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم الإفريقي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.

جـ- الثالث: أنه من رواية بكر بن سوادة عن عبد الله بن عمر ولم يقله فهو منقطع.

د- الرابع: أنه مضطرب الإسناد كما ذكره الترمذي.

هـ- الخامس: أنه مضطرب المتن فمرة يقول (إذا رفع رأسه من السجدة فقد مضت صلاته)

ولفظ أبي داود والترمذي غير هذا وهو (إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته) وهذا غير لفظ الطحاوي ورواه الطحاوي أيضا بلفظ آخر فقال (إذا قضى الإمام الصلاة فقعد فأحدث هو أو أحد ممن أتم الصلاة معه قبل أن يسلم الإمام فقد تمت صلاته فلا يعود فيها)

فهذا معناه غير معنى الأول قال الطحاوي: وقد روي بلفظ آخر (إذا رفع المصلي رأسه في آخر صلاته وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته) وكلها مدارها على الإفريقي ويوشك أن يكون هذا من سوء حفظه والله أعلم.

وقوله وقال علي رضي الله عنه {إذا جلس مقدار التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته} جوابه

أن علي بن سعيد قال سألت أحمد بن حنبل عمن ترك التشهد فقال (يعيد) قلت فحديث علي (من قعد مقدار التشهد .. ) فقال لا يصح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف حديث علي وعبد الله بن عمر.

وقوله وقد روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قصة التشهد وقال ثم ليتخير من الكلام ما أحب ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فجوابه

أن غاية هذا إتباع أن يكون ساكتا عن وجوب الصلاة فلا يكون معارضا لأحاديث الوجوب كما تقدم تقريره.

وقوله وحديث فضالة بن عبيد يدل على نفي الوجوب جوابه:

أن حديث فضالة حجة لنا في المسألة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالصلاة عليه في التشهد وأمره للوجوب فهو نظير أمره بالتشهد وإذا كان الأمر متناولا لهما فالتفريق بين المأمورين تحكم.

فإن قلتم فالتشهد عندنا ليس بواجب.

قلنا الحديث حجة لنا عليكم في المسألتين والواجب اتباع الدليل.

وقوله النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر هذا المصلي بإعادة الصلاة ولو كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فرضا لأمره بإعادتها كما أمر المسيء في صلاته

جوابه من وجوه

١ - أحدها: أن هذا كان غير عالم بوجوبها فتركها معتقدا أنها غير واجبة فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة وأمره في المستقبل أن يقولها فأمره بقولها في المستقبل دليل على وجوبها وترك أمره بالإعادة دليل على أنه يعذر الجاهل بعدم الوجوب وهذا كما لم يأمر المسيء في صلاته بإعادة ما مضى من الصلوات وقد أخبره أنه لا يحسن غير تلك الصلاة عذرا له بالجهل.

فإن قيل قلتم أمره أن يعيد تلك الصلاة ولم يعذره فيها بالجهل

قلنا لأن الوقت باق وقد علم أركان الصلاة فوجب عليه أن يأتي بها.

فإن قيل فهلا أمر تارك الصلاة عليه بإعادة تلك الصلاة كما أمر المسيء

قلنا أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فيها محكم ظاهر في الوجوب

ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بادر إلى الإعادة من غير أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها

ويحتمل أن تكون الصلاة كانت نفلا لا يجب عليه إعادتها

ويحتمل غير ذلك فلا نترك الظاهر من الأمر وهو دليل محكم لهذا المشتبه المحتمل والله أعلم

فحديث فضالة إما مشترك الدلالة على السواء فلا حجة لكم فيه وإما راجح الدلالة من جانبنا كما ذكرناه فلا حجة لكم فيه أيضا فعلى التقديرين يسقط احتجاجكم به.

قوله لم يعلِّمها النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته ولو كانت فرضا لعلمه إياها

فجوابه من وجوه

أحدها: أن حديث المسيء هذاقد جعله المتاخرون مستندا لهم في نفي كل ما ينفون وجوبه وحمَّلوه فوق طاقته وبالغوا في نفي ما اختلف في وجوبه به

فمن نفى وجوب الفاتحة احتج به ومن نفى وجوب التشهد احتج به ومن نفى وجوب التسليم احتج به ومن نفى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم احتج به ومن نفى وجوب أذكار الركوع والسجود وركني الإعتدال احتج به ومن نفى وجوب تكبيرات الإنتقال احتج به وكل هذا تساهل واسترسال في الإستدلال وإلا فعند التحقيق لا ينفي وجوب شيء من ذلك بل غايته أن يكون قد سكت عن وجوبه ونفيه فإيجابه للأدلة الموجبة له لا يكون معارضا به.

فإن قيل سكوته عن الأمر بغير ما أمره به يدل على أنه ليس بواجب لأنه مقام البيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز اتفاقا.

قيل هذا لا يمكن أحدا أن يستدل به على هذا الوجه فإنه يلزمه أن يقول لا يجب التشهد ولا الجلوس له ولا السلام ولا النية ولا قراءة الفاتحة ولا كل شيء لم يذكره في الحديث وطرد هذا أنه لا يجب عليه استقبال القبلة ولا الصلاة في الوقت لأنه لم يأمره بهما وهذا لا يقوله أحد.

فإن قلتم فإنما علَّمه ما أساء فيه وهو لم يسيء في ذلك.

قيل لكم فاقنعوا بهذا الجواب من منازعيكم في كل ما نفيتم وجوبه بحديث المسيء هذا.

الثاني: أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من إجزاء الصلاة دليل ظاهر في الوجوب وترك أمره للمسيء به يحتمل أمورا منها:

أ- أنه لم يسيء فيه.

ب- ومنها أنه وجب بعد ذلك.

جـ- ومنها أنه علمه معظم الأركان وأهمها وأحال قصة تعليمه على مشاهدته صلى الله عليه وسلم في صلاته أو على تعليم بعض الصحابة له فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بتعليم بعضهم بعضا فكان من المستقر عندهم إذنه لهم في تعليم الجاهل وإرشاد الضال وأي محذور في أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه البعض وعلمه أصحابه البعض الآخر وإذا احتمل هذا لم يكن هذا المشتبه المجمل معارضا لأدلة وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيرها من واجبات الصلاة فضلا عن أن يقدم عليها والواجب تقديم الصريح المحكم على المشتبه المجمل والله أعلم.

قوله الفرائض إنما تثبت بدليل صحيح لا معارض له من مثله وبإجماع

قلنا اسمعوا أدلتنا الآن على الوجوب فلنا عليه أدلة

الدليل الأول: قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره المطلق يدل على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه وقد ثبت أن أصحابه رضي الله عنهم سألوه عن كيفية هذه الصلاة المأمور بها فقال قولوا [اللهم صل على محمد .... ] الحديث وقد ثبت أن السلام الذي علِموه هو السلام عليه في الصلاة وهو سلام التشهد فمخرج الأمرين والتعليمين والمحلين واحد.

يوضحه أنه علَّمهم التشهد آمراً لهم به وفيه ذكر التسليم عليه صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الصلاة ثم شبهها بما علموه من التسليم عليه وهذا يدل على أن الصلاة والتسليم المذكورين في الحديث هما الصلاة والتسليم عليه في الصلاة.

يوضحه أنه لو كان المراد بالصلاة والتسليم عليه خارج الصلاة لا فيها لكان كل مسلم منهم إذا سلم يقول له السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يتقيدون في السلام عليه بهذه الكيفية بل كان الداخل منهم يقول السلام عليكم وربما قال السلام على رسول الله وربما قال السلام عليك يا رسول الله ونحو ذلك وهم لا يزالون يسلمون عليه من أول الإسلام لتحية الإسلام وإنما الذي علموه قدر زائد عليها وهو السلام عليه في الصلاة.

ويوضحه حديث ابن اسحاق [كيف نصلي إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا] وقد صحح هذه اللفظة جماعة من الحفاظ منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وقد تقدم ما أٌعلت به هذه الرواية والجواب عن ذلك.

وإذا تقرر أن الصلاة المسئول عن كيفيتها هي الصلاة عليه في نفس الصلاة وقد خرج ذلك مخرج البيان المأمور به منها في القرآن ثبت أنها على الوجوب.

ويضاف إلى ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها ولعل هذا وجه ما أشار إليه الإمام أحمد بقوله: كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا هي واجبة وقد تقدم حكاية كلامه.

وعلى هذا الإستدلال أسئلة:

أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم [كما علمتم] يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به السلام عليه في الصلاة. والثاني أن يراد به السلام من الصلاة نفسها قاله ابن عبد البر.

الثاني: أن علة ما ذكرتم إنما يدل دلالة إقتران للصلاة بالسلام والسلام واجب في التشهد فكذا الصلاة ودلالة الإقتران ضعيفة.

الثالث: أنا لا نسلم وجوب السلام ولا الصلاة وهذا الاستدلال منكم إنما يتم بعد تسليم وجوب السلام عليه صلى الله عليه وسلم.

والجواب عن هذه الأسئلة:

أما الأول: ففاسد جداً فإن في نفس الحديث ما يبطله وهو أنهم قالوا [هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف الصلاة عليك] لفظ البخاري في حديث أبي سعيد وأيضا فإنهم إنما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة والسلام المأمور بهما في الآية لا عن كيفية السلام من الصلاة.

وأما السؤال الثاني: فسؤال من لم يفهم وجه تقرير الدلالة فإنا لم نحتج بدلالة الإقتران وإنما استدللنا بالأمر بهما في القرآن وبيَّنا أن الصلاة التي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم إياها إنما هي الصلاة التي في الصلاة.

وأما السؤال الثالث: ففي غاية الفساد فإنه لا يعترض على الأدلة من الكتاب والسنة بخلاف المخالف فكيف يكون خلافكم في مسألة قد قام الدليل على قول منازعكم فيها مبطلا لدليل صحيح لا معارض له في مسألة أخرى وهل هذا إلا عكس طريقة أهل العلم فإن الدلالة هي التي يبطل ما خالفها من الأقوال ويعترض بها على من خالف موجبها فتقدم على كل قول اقتضى خلافها لا أن أقوال المجتهدين تعارض الأدلة ويبطل مقتضاها وتقدم عليها ثم إن الحديث حجة عليكم في المسألتين فإنه دليل على وجوب التسليم والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيجب المصير إليه.

الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في التشهد وأمرنا أن نصلي كصلاته وهذا يدل على وجوب فعل ما فعل في الصلاة إلا ما خصه الدليل فهاتان مقدمتان

أما المقدمة الأولى: فبيانها ما روى الشافعي رضي الله عنه في مسنده عن إبراهيم بن محمد حدثني سعد بن اسحق عن عبد الرحمن بن ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الصلاة [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد] وهذا وإن كان فيه إبراهيم بن أبي يحيى فقد وثقه جماعة منهم الشافعي وابن الأصبهاني وابن عدي وابن عقدة وضعفه آخرون.

وأما المقدمة الثانية: فبيانها ما رواه البخاري في صحيحه عن مالك ابن الحويرث قال [أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صبية متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رفيقا رحيما فقال {ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم}] وعلى هذا الاستدلال من الأسئلة والاعتراضات ما هو مذكور في غير هذا الموضع.

الدليل الثالث: حديث فضالة بن عبيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أو لغيره [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء] وقد تقدم رواه الإمام أحمد وأهل السير وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم

واعترض عليهم بوجوه:

أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر هذا المصلي بالإعادة وقد تقدم جوابه.

الإعتراض الثاني: أن هذا الدعاء كان بعد انقضاء الصلاة لا فيها بدليل ما روى الترمذي في جامعه من حديث رشدين وفي هذا الحديث [بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى وقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل عليَّ ثم ادعه]

وجواب هذا من وجوه:

أ- أحدها: أن رشدين ضعفه أبو زرعة وغيره فلا يكون حجة مع استقلاله فكيف إذا خالف الثقة الأثبات لأن كل من روى هذا الحديث قال فيه [سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته]

ب- الثاني: أن رشدين لم يقل في حديثه أن هذا الداعي دعا بعد انقضاء الصلاة ولا يدل لفظه على ذلك بل قال [فصلى فقال اللهم اغفر لي .. ] وهذا لا يدل على أنه قال بعد فراغه من الصلاة ونفس الحديث دليل على ذلك فإنه قال [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله ... ] ومعلوم أنه لم يرد بذلك الفراغ من الصلاة بل الدخول فيها ولا سيما وأن عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الصلاة لا بعدها كحديث أبي هريرة وعلي وأبي موسى وعائشة وابن عباس وحذيفة وعمار وغيرهم ولم يقل أحد منهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد صلاته في حديث صحيح ولما سأله الصديق رضي الله عنه دعاء يدعو به في صلاته لم يقل ادعو به خارج الصلاة ولم يقل لهذا الداعي ادعٌ بعد سلامك من الصلاة لا سيما والمصلي مناج ربه مقبل عليه فدعاؤه ربه تعالى في هذه الحال أنسب من دعائه له بعد انصرافه عنه وفراغه من مناجاته.

جـ - الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم [فاحمد الله بما هو أهله .. ] إنما أراد به التشهد في القعود ولهذا قال [إذا صليت فقعدت .. ] يعني في تشهدك وأمره بحمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.

الإعتراض الثالث: أن الذي أمره أن يصلي فيه ويدعو بعد تحميد الله غير معين فلمَ قلتم أنه بعد التشهد.

وجواب هذا: أنه ليس في الصلاة موضع يٌشرع فيه الثناء على الله تعالى ثم الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة فإن ذلك لا يٌشرع في القيام ولا الركوع والسجود اتفاقا فعٌلم أنه إنما أراد به آخر الصلاة حال جلوسه في التشهد.

الإعتراض الرابع: أنه أمره فيه بالدعاء عقب الصلاة عليه والدعاء ليس بواجب فكذا الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

وجواب هذا من وجوه:

أ- أحدها: أنه لا يستحيل أن يأمر بشيئين فيقوم الدليل على عدم وجوب أحدهما فيبقى الآخر على أصل الوجوب.

ب- الثاني: أن هذا المذكور من الحمد والثناء هو واجب قبل الدعاء فإنه هو التشهد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به وأخبر الصحابة رضي الله عنهم أنه فرض عليهم ولم يكن اقتران الأمر بالدعاء به مسقطا لوجوبه فكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

جـ - الثالث: إن قولكم الدعاء لا يجب باطل فإن من الدعاء ما هو واجب وهو الدعاء بالتوبة والاستغفار من الذنوب والهداية والعفو وغيرها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [من لم يسأل الله يغضب عليه] والغضب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم.

الإعتراض الخامس: أنه لو كان الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً في الصلاة لم يؤخر بيانها إلى هذا الوقت حتى يرى رجلا لا يفعلها ليأمره بها ولكان العلم بوجوبها مستفاداً قبل هذا الحديث.

وجواب هذا: أنا لم نقل أنها ما وجبت على الأمة إلا بهذا الحديث بل هذا المصلي كان قد تركها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مستقر معلوم من شرعه وهذا كحديث المسيئ في صلاته فإن وجوب الركوع والسجود والطمأنينة على الأمة لم يكن مستفاداً من حديثه ولم يتأخر بيان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك إلى حين صلاة هذا الأعرابي وإنما أمره أن يصلي الصلاة التي شرَّعها لأمته قبل هذا.

الإعتراض السادس: أن أبا داود والترمذي قالا في هذا الحديث حديث فضالة [فقال له أو لغيره] بحرف [أو] لو كان هذا واجبا على كل مكلف لم يكن ذلك [أو لغيره].

وهذا اعتراض فاسد من وجوه:

أ- أحدها: أن الرواية الصحيحة التي رواها ابن خزيمة وابن حبان [فقال له ولغيره] بالواو وكذا رواه الإمام أحمد والدارقطني والبيهقي وغيرهم.

ب- الثاني: أن [أو] هنا ليست للتخيير بل للتقسيم والمعنى أن أي مصلٍ صلى فليقل ذلك هذا أو غيره كما قال تعالى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ليس المراد التخيير بل المعنى أيهما كان فلا تطعه إما هذا وإما هذا.

جـ - الثالث: أن الحديث صريح في العموم بقوله [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله .... ] فذكره.

د- الرابع: أن في رواية النسائي وابن خزيمة [علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ] فذكره وهذا عام.

الدليل الرابع: ثلاثة أحاديث كل منها لا تقوم الحجة به عند انفراده وقد يقوي بعضها بعضا عند الإجتماع.

أحدها: ما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي عن ابن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [يا بريدة إذا صليت فلا تتركنَّ في صلاتك التشهد والصلاة عليَّ فإنها زكاة الصلاة وسلم على جميع أنبياء الله ورسله وسلم على عباد الله الصالحين]

الثاني: ما رواه الدارقطني أيضاً من طريق عمرو بن سمرة عن جابر قال قال الشعبي سمعت مسروق بن الأجدع يقول قالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة عليَّ] لكن عمرو بن سمرة وجابر لا يحتج بحديثهما وجابر أصلح من عمرو.

الثالث: ما رواه الدارقطني من حديث عبد المهيمن ابن عياش بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [لا صلاة لمن لم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم] ورواه الطبراني من حديث أٌبي بن عياش عن أبيه عن جده وعبد المهيمن ليس بحجة وأٌبي أخوه وإن كان ثقة احتج به البخاري فالحديث المعروف فيه إنما هو من رواية عبد المهيمن ورواه الطبراني بالوجهين ولا يثبت.

الدليل الخامس: أنه قد ثبت وجوبها عن ابن مسعود وابن عمر وأبي مسعود الأنصاري وقد تقدم ذلك ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه قال لا تجب وقول الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة ولا سيما على أصول أهل المدينة والعراق.

الدليل السادس: أن هذا عمل الناس من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الآن لو كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم غير واجبة لم يكن اتفاق الأمة في سائر الأمصار والأعصار على قولها في التشهد وترك الإخلال بها.

وقد قال مقاتل بن حيان في تفسيره قوله تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} قال إقامتها المحافظة عليها وعلى أوقاتها والقيام فيها بالركوع والسجود والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير وقد قال الإمام أحمد الناس عيال في التفسير على مقاتل قالوا فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من إقامتها المأمور بها فتكون واجبة

وقد تمسك أصحاب هذا القول بأقيسة لا حاجة إلى ذكرها.

قالوا ثم نقول لمنازعنا ما منكم إلا من أوجب في الصلاة أشياء بدون هذه الأدلة

هذا أبو حنيفة رحمه الله يقول بوجوب الوتر وأين أدلة وجوبه من أدلة وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويوجب الوضوء على من قهقه في صلاته بحديث مرسل لا يقاوم أدلتنا في هذه المسألة ويوجب الوضوء من القيئ والرعاف والحجامة ونحوها بأدلة لا تقاوم أدلة هذه المسألة.

ومالك رحمه الله يقول إن في الصلاة أشياء بين الفرض والمستحب ليست بفرض وهي فوق الفضيلة والمستحبة يسمونها أصحابه سننا كقراءة سورة مع الفاتحة وتكبيرات الإنتقال والجلسة الأولى والجهر والمخافتة ويوجبون السجود في تركها على تفصيل لهم فيه.

وأحمد يسمي هذه واجبات ويوجب السجود لتركها سهواً فإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن أقوى من إيجاب كثير من هذه فليس دونها.

فهذا ما احتج به الفريقان في هذه المسألة والمقصود أن تشنيع المشنع فيها على الشافعي باطل فإن مسألة فيها من الأدلة والآثار مثل هذا كيف يشنع على الذاهب إليها والله أعلم.

انتهى كلامابن القيم رحمه اللع تعالى.

٥٩ - من أهم مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه عند ذكره



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!