موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة فصلت (41)

 

 


الآيات: 47-53 من سورة فصلت

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)

قُلْ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)

[ «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ . . .» : ]

هذه الآية جمعت الخلق والحق ، لأن كل حقيقة تعقل للحق لا تعقل مجردة عن الخلق ، فهي تطلب الخلق بذاتها ، فلا بد من معقولية حق وخلق ، لأن تلك الحقيقة الإلهية من المحال أن يكون لها تعلق أثري في ذات الحق ، ومن المحال أن تبقى معطلة الحكم ، لأن الحكم لها ذاتي ، فلا بد من معقولية الخلق سواء اتصف بالوجود أو العدم ، وعلى ذلك فللآية عدة


وجوه

-الوجه الأول -أحالنا الحق في العلم به على الآفاق وهو ما خرج عنا ، وعلى أنفسنا وهو ما نحن عليه وبه ، فإذا وقفنا على الأمرين معا ، حينئذ عرفناه وتبين لنا أنه الحق ، وذكر الحق الآفاق أولا حذرا عليك أن تتخيل أنه قد بقي في الآفاق ما يعطي من العلم ما لا تعطيه نفسك ، وحتى إذا عرفت عين الدلالة منه على اللّه ، نظرت في نفسك ، فوجدت ذلك بعينه الذي أعطاك النظر في الآفاق ، أعطاك النظر في نفسك من العلم باللّه ، فلم تبق لك شبهة تدخل عليك ، لأنه ما ثمّ إلا اللّه وأنت وما خرج عنك ،

وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :

[ من عرف نفسه عرف ربه ]

فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم علم أن النفس جامعة لحقائق العالم ، فجمعك عليك حرصا منه ، حتى تقرب الدلالة فتفوز معجلا بالعلم باللّه فتسعد ، فإنه لو خرج الإنسان عن غيره ما خرج عن نفسه ، فمن خرج عن نفسه وعن العالم فقد خرج عن الحق ، ومن خرج عن الحق فقد خرج عن الإمكان والتحق بالمحال ، ومن حقيقته الإمكان لا يلحق بالمحال وذلك قوله تعالى : «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»

- الوجه الثاني-ذكر اللّه تعالى النشأتين بقوله «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ» فذكر نشأة صورة العالم بالآفاق ، ونشأة روحه بقوله «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» ليعلموا أن الإنسان عالم وجيز من العالم ، يحوي على الآيات التي في العالم (راجع سورة الرعد الآية - 3 -)

وقدّم اللّه رؤية الآيات في العالم كالذي وقع في الوجود ، فإنه أقدم من الإنسان ، فالذي يريه اللّه الآيات يريه آيات العالم قبل آيات نفسه لأن العالم قبله ، ثم بعد هذا يريه الآيات التي أبصرها في العالم في نفسه ، فلو رآها أولا في نفسه ثم رآها في العالم ، ربما تخيل أن نفسه رأى في العالم ، فرفع اللّه عنه هذا الإشكال بأن قدم له رؤية الآيات في العالم «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» وتبين له ذلك ، والعالم على صورة الحق ، والإنسان على صورة الحق ، فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير ، والآيات هي الدلالات له على أنه الحق الظاهر في مظاهر أعيان العالم ، فظهور الحق فيه هو الذي تبين له بالآيات ، وهو عثورهم على وجه الدليل وحصول المدلول ، ولذلك ذكر تعالى أنه يريهم آيات ، ما جعل ذلك آية واحدة ، فهذه صفة أهل الاعتبار والنظر المأمور به شرعا ، فما يفرغون من نظر في دليل بعد إعطائه إياهم مدلوله ، إلا ويظهر اللّه لهم دليلا آخر ، فيشتغلون بالنظر فيه إلى أن يوفي لهم ما هو عليه من الدلالة ، فإذا حصلوا مدلوله أراهم الحق دليلا آخر ، هكذا دائما ، ولهذا تمم تعالى في


التعريف «وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من الأعيان «شَهِيدٌ» على التجلي فيه والظهور ، يعني أن يكون دليلا على نفسه ، وأوضح الدلالات دلالة الشيء على نفسه بظهوره ، ولذلك ذكر الرؤية ، والآيات للتجلي ، فيتبين لهم أنه الحق ، يعني ذلك التجلي الذي رأوه علامة ، أنه علامة على نفسه ، فيتبين لهم أنه الحق المطلوب

- الوجه الثالث -دليلك على الحق نفسك والعالم ، وهو قوله تعالى «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» أي الدلالة علينا «فِي الْآفاقِ» وهو ما خرج عنهم «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» وهو ما هم عليه ، وما كثّر اللّه لنا الآيات في العالم وفي أنفسنا - إذ نحن من العالم - إلا لنصرف نظرنا إليه ، ذكرا وفكرا وعقلا وإيمانا وعلما وسمعا وبصرا ونهى ولبا ،

وما خلقنا إلا لنعبده ونعرفه ، وما أحالنا في ذلك على شيء إلا على النظر في العالم ، لجعله عين الآيات والدلالات على العلم به مشاهدة وعقلا ، فإن نظرنا فإليه ، وإن سمعنا فمنه ، وإن عقلنا فعنه ، وإن فكرنا ففيه ، وإن علمنا فإياه ،

وإن آمنّا فبه ، فهو المتجلي في كل وجه ، والمطلوب من كل آية ، والمنظور إليه بكل عين ، والمعبود في كل معبود ، والمقصود في الغيب والشهود ، لا يفقده أحد من خلقه بفطرته وجبلته ، فجميع العالم له مصلّ ، وإليه ساجد ، وبحمده مسبّح ، فالألسنة به ناطقة ، والقلوب به هائمة عاشقة ، والألباب فيه حائرة ، يروم العارفون أن يفصلوه من العالم فلا يقدرون ، ويرومون أن يجعلوه عين العالم فلا يتحقق لهم ذلك ، فهم يعجزون ، فتكلّ أفهامهم ، وتتحير عقولهم ، وتتناقض عنه في التعبير ألسنتهم «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»

فالعالم كله مرآة الحق ، وعندما يتحقق المتحققون بمحبة اللّه عزّ وجل ، ما يرون في العالم إلا صورة الحق ، ظهر فيه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، فالآيات هنا دلالات أنها مظاهر الحق ، فما ألطف سريان الحق في الموجودات ، فجميع الأشياء مظهر الحق ومجلاه

-الوجه الرابع - «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» وهي الدلالات وهو ما هم عليه «فِي الْآفاقِ»

فما ترك شيئا من العالم ، فإن كل ما خرج من العالم عنك فهو عين الآفاق ، وهي نواحيك «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» فأبان تعالى لنا في هذه الإحالة على أحسن الطرق في العلم به ،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : [ من عرف نفسه عرف ربه ]

وقال : [ أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ] والنفس بحر لا ساحل له ، لا يتناهى النظر فيها دنيا وآخرة ، وهي الدليل الأقرب ، فكلما ازداد نظرا ازداد علما بها ، وكلما ازداد علما بها ازداد علما بربه «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» لا غيره ، فلو علمت نفسك علمت


ربك ، كما أن ربك علمك وعلم العالم بعلمه بنفسه ، وأنت صورته ، فلا بد أن تشاركه في هذا العلم ، فتعلمه من علمك بنفسك ، إذ كان الأمر في علم الحق بالعالم علمه بنفسه ، فمن رحمة اللّه تعالى بالإنسان أن أشهده أولا نفسه ، فرأى في نفسه قوى ينبغي أن لا تكون إلا لمن هو إله ، فلما حقق النظر بعقله ، ونظر إلى العوارض الطارئة عليه بغير إرادته ، ومخالفة أغراضه ، ووجد الافتقار في نفسه ، علم قطعا أن عين وجوده شبهة ، وأن هذه الصفات لا ينبغي أن تكون إلا لمن هو إله ، فنفى تلك الألوهة التي قامت له من نفسه ، ثم إنه لما أمعن النظر وجد نفسه قائما بغيره ، غير مستقل في وجوده ، فأوجب وأثبت بعد أن نفى ، فقال : لا إله إلا اللّه ؛

وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم :[ من عرف نفسه عرف ربه ] فانظر ما ألطف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأمته ، وما أحسن ما علمهم وما طرّق لهم ، فنعم المدرس والمطرق ، جعلنا اللّه ممن مشى على مدرجته حتى التحق بدرجته ، آمين بعزته

- الوجه الخامس-اعلم أن اللّه لما سوّى جسم العالم ، وهو الجسم الكل الصوري ، في جوهر الهباء المعقول ، قبل فيض الروح الإلهي الذي لم يزل منتشرا غير معين ، إذ لم يكن ثمّ من يعيّنه ، فحيي جسم العالم به ، والعالم إنسان كبير ، وهو ليس كذلك إلا بوجود الإنسان الكامل الذي هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومرتبته صلّى اللّه عليه وسلّم من العالم مرتبة النفس الناطقة من الإنسان الكامل ، الذي حاز درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية في البقاء والتنوع في الصور وفي بقاء العالم به ،

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : [ من عرف نفسه عرف ربه ] إذ كان الأمر في علم الحق بالعالم علمه بنفسه ، وهذا نظير قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ " فذكر النشأتين ، نشأة صورة العالم بالآفاق ونشأة روحه بقوله : «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» فهو إنسان واحد ذو نشأتين" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ " للرائين «أَنَّهُ الْحَقُّ» أي أن الرائي فيما رآه الحق لا غيره

- الوجه السادس -لما نصب الحق الأدلة عليه ، نصبها في الآفاق على وجوده خاصة ، فما نابت الآفاق في الدلالة عليه بما جعل فيها من الآيات منابه لو ظهر للعالم بذاته ، فخلق الإنسان الكامل على صورته ، ونصبه دليلا على نفسه لمن أراد أن يعرفه بطريق المشاهدة ، لا بطريق النظر الفكري الذي هو طريق الرؤية في الآفاق ، وهو قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ» ثم لم يكتف بالتعريف حتى أحال على الإنسان الكامل حتى قال : «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» وهنا قال : «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» أي أن ذلك المرئي هو الحق ، فالآيات دلالات عليه وعلينا ، وكذلك


نحن أدلة عليه وعلينا ، فإن أعظم الدلالات وأوضحها دلالة الشيء على نفسه ، فالتدبر من اللّه عين التفكر من المفكرين منا ، وبالتدبر تميز العالم بعضه من بعضه ومن اللّه ، وبالتفكر عرف العالم ذلك ،

ودليله الذي فكّر فيه هو عين ما شاهده من نفسه ومن غيره ، فإذا انكشفت الحقائق فلا ريب ولا مين ، وبان صبحها لذي عينين ، كان الاطلاع ، وارتفاع النزاع ، وحصل الاستماع ، ولكن بينك وبين هذه الحال مفاوز مهلكة ، وبيداء معطشة ، وطرق دارسة ، وآثار طامسة ، يحار فيها الخرّيت ، فلا يقطعها إلا من يحيي ويميت ، لا من يحيا ويموت ، فكيف حال من يقاسي هذه الشدائد ويسلك هذه المضايق ؟

ولكن على قدر آلام المشقات يكون النعيم بالراحات ، وما ثم بيداء ولا مفازة سواك ، فأنت حجابك عنك ، فزل أنت وقد سهل الأمر ، فمن علم الخلق علم الحق ، ومن جهل البعض من هذا الشأن جهل الكل ، فإن البعض من الكل فيه عين الكل من حيث لا يدري ، فلو علم البعض من جميع وجوهه علم الكل ، فإن من وجوه كونه بعضا علم الكل ، ولذا كثرت الآيات واتضحت الدلالات ، ولكن الأبصار في حكم أغطيتها ، والقلوب في أكنتها ، والعقول مشغولة بمحاربة الأهواء ، فلا تتفرغ للنظر المطلوب منها «وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ»

إشارة إلى ما خلق عليه الإنسان الكامل الذي نصبه دليلا أقرب على العلم من طريق الكشف والشهود، فقال أهل الشهود كفانا ، فما عرف الحق إلا الإنسان الكامل ، فإنه بنفسه عرفه ، وأما الإنسان الحيوان فعرفه بعقله بعد ما استعمل فكره في النظر في آيات الآفاق ، بمشاهدة التنزيه دون التشبيه الذي أعطته المماثلة بالصورة ، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد وصفوا الحق بما شهدوه ، وأنزل عليهم بصفات المخلوقين ، لوجود الكمال الذي هو عليه الحق ، وما وصل إلى هذه المعرفة باللّه لا ملك ولا عقل إنسان حيواني ، فإن اللّه حجب الجميع عنه ، وما ظهر إلا للإنسان الكامل ، الذي هو ظله الممدود ، وعرشه المحدود ، وبيته المقصود ، الموصوف بكمال الوجود ، فلا أكمل منه ، لأنه لا أكمل من الحق تعالى ، فعلمه الإنسان الكامل من حيث عقله وشهوده ، فجمع بين العلم البصري الكشفي وبين العلم العقلي الفكري ، فمن رأى أو علم الإنسان الكامل الذي هو نائب الحق فقد علم من استخلفه ، فإنه بصورته ظهر ، وما أنكر الحق من أنكره في الآخرة أو حيث وقع الإنكار ، إلا لما تقدمهم من النظر العقلي ، وقيدوا الحق ، فلما لم يروا ما قيدوه به من الصفات ، عند ذلك أنكروه ،


ألا تراهم إذا تجلى لهم بالعلامة التي قيدوه بها عند ذلك يقرون له بالربوبية ، فلو تجلى لهم ابتداء قبل هذا التقييد لما أنكره أحد من خلقه ، فإنه بتجليه ابتداء يكون دليلا على نفسه ، فلهذا قلنا في الإنسان الكامل : إنه نائب عن الحق في الظهور للخلق لحصول المعرفة به على الكمال الذي تطلبه الصورة الإلهية ، واللّه من حيث ذاته غني عن العالمين .

- الوجه السابع"سَنُرِيهِمْ آياتِنا» يعني الآيات المنزلة «فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»

[ ما المقصود بالتفسير الإشاري ؟ أقسام العالم ونظائره في الإنسان: ]

فكل آية منزلة لها وجهان : وجه يرى في النفس ووجه يرى فيما خرج عن النفس ، فالوجه الذي في النفس يسميه أهل المعرفة إشارة ، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير ، فيقولون : تفسير من باب الإشارة ، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة ، ويردون ذلك إلى نفوسهم ، مع تقريرهم التفسير في العموم وفيما نزل فيه من الوجه الثاني كما يعلمه أهل اللسان الذي نزل الكتاب بلسانهم ، فعم به سبحانه عند أهل المعرفة الوجهين فإن العوالم أربعة :العالم الأعلى وهو عالم البقاء ، ثم عالم الاستحالة وهو عالم الفناء ، ثم عالم التعمير وهو عالم البقاء والفناء ، ثم عالم النسب ، وهذه العوالم في موطنين ، في العالم الأكبر وهو ما خرج عن الإنسان ، وفي العالم الأصغر وهو الإنسان ، فأما العالم الأعلى ، فالحقيقة المحمدية وفلكها الحياة ، نظيرها في الإنسان اللطيفة والروح القدسي ، ومنهم العرش المحيط ونظيره من الإنسان الجسم ، ومن ذلك الكرسي ، ونظيره من الإنسان النفس ، ومن ذلك البيت المعمور ، ونظيره من الإنسان القلب ، ومن ذلك الملائكة ونظيرها من الإنسان الأرواح والقوى ، ومن ذلك زحل وفلكه ، ونظيره من الإنسان القوة العلمية والنفس ، ومن ذلك المشتري وفلكه ، نظيرهما القوة الذاكرة ومؤخر الدماغ ، ومن ذلك الأحمر وفلكه ، نظيرهما القوة العاقلة واليافوخ ، ومن ذلك الشمس وفلكها ، نظيرهما القوة المفكرة ووسط الدماغ ، ثم الزهرة وفلكها نظيرهما القوة الوهمية والروح الحيواني ، ثم الكاتب وفلكه نظيرهما القوة الخيالية ومقدم الدماغ ، ثم القمر وفلكه نظيرهما القوة الحسية والجوارح التي تحس ، فهذه طبقات العالم الأعلى ونظائره من الإنسان - وأما عالم الاستحالة - فمن ذلك كرة الأثير وروحها الحرارة واليبوسة ، وهي كرة النار ، ونظيرها الصفراء وروحها القوة الهاضمة ، ومن ذلك الهواء وروحه الحرارة والرطوبة ، ونظيره الدم وروحه القوة الجاذبة ، ومن ذلك الماء وروحه البرودة والرطوبة ، نظيره البلغم وروحه القوة الدافعة ، ومن ذلك التراب وروحه البرودة


واليبوسة ، نظيره السوداء وروحها القوة الماسكة ، وأما الأرض فسبع طباق ، أرض سوداء ، وأرض غبراء ، وأرض حمراء ، وأرض صفراء ، وأرض بيضاء ، وأرض زرقاء ، وأرض خضراء ، نظير هذه السبعة من الإنسان في جسمه ، الجلد والشحم واللحم والعروق والعصب والعضلات والعظام

- وأما عالم التعمير -فمنهم الروحانيون ، نظيرهم القوى التي في الإنسان ، ومنهم عالم الحيوان نظيره ما يحس من الإنسان ، ومنهم عالم النبات ، نظيره ما ينمو من الإنسان ، ومن ذلك عالم الجماد ، نظيره ما لا يحس من الإنسان - وأما عالم النسب - فمنهم العرض نظيره الأسود والأبيض والألوان والأكوان ،

ثم الكيف نظيره الأحوال مثل الصحيح والسقيم ، ثم الكم نظيره الساق أطول من الذراع ، ثم الأين نظيره العنق مكان للرأس ، والساق مكان للفخذ ، ثم الزمان نظيره حركت رأسي وقت تحريك يدي ،

ثم الإضافة نظيرها هذا أبي فأنا ابنه ، ثم الوضع نظيره لغتي ولحني ، ثم أن يفعل نظيره أكلت ،

ثم أن ينفعل نظيره شبعت ، ومنهم اختلاف الصور في الأمهات كالفيل والحمار والأسد والصرصر ، نظير هذا القوة الإنسانية التي تقبل الصور المعنوية من مذموم ومحمود ، هذا فطن فهو فيل ، هذا بليد فهو حمار ، هذا شجاع فهو أسد ، هذا جبان فهو صرصر أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وهو إحسان اللّه ، فهو رؤية عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ، فشهوده لكل شيء هو إحسانه ، فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك

-خلاصة وتحقيق -لما تحير العارفون فيه فيقولون في وقت : هو ، وفي وقت : ما هو .

وفي وقت : هو ما هو ، فلا تستقر لهم فيه قدم ، ولا يتضح لهم إليه طريق أمم ، لأنهم يشهدونه عين الآية والطريق ،

فتحول هذه المشاهدة بينهم وبين طلب غاية الطريق ، إذ لا تسلك الطريق إلا إلى غاياتها ، والمقصود معهم وهو الرفيق ، فلا سالك ولا سلوك ،

فتذهب الإشارات وليست سواه ، وتطيح العبارات وما هي إلا إياه ، فلا ينكر على العارف ما يهيم فيه من العالم ، وما يتوهمه من المعالم ، ولولا أن هذا الأمر كما ذكرناه ، ما أحب نبي ولا رسول أهلا ولا ولدا ، ولا آثر على أحد أحدا ، وذلك لتفاضل الآيات ،

وتقلب العالم هو عين الآيات ، وليست غير شؤون الحق التي هو فيها ، وقد رفع بعضها فوق بعض درجات ، لأنه بتلك الصورة ظهر في أسمائه ، فعلمنا تفاضل بعضها على بعض بالعموم والخصوص ، فهو الغني عن العالمين ، وهو القائل (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فأين الخالق من الغني ؟


وأين القابض منه والمانع ؟

وأين العالم في إحاطته من القادر والقاهر ؟

فهل هذا كله إلا عين ما وقع في العالم ، فما تصرف رسول ولا عارف إلا فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وذلك لأن من الناس من في أذنه وقر وعلى بصره غشاوة ، وعلى قلبه قفل وفي فكره حيرة ، وفي علمه شبهة وبسمعه صمم ، وو اللّه ما هو هذا كله عند العارف إلا للقرب المفرط (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) ولهذا هام في العالم العارفون ، وتحقق بمحبته المتحققون ، ولهذا قلنا فيه في بعض عباراتنا : إنه مرآة الحق ، فما رأى العارفون فيه إلا صورة الحق ، وهو سبحانه الجميل ، والجمال محبوب لذاته ، والهيبة له في قلوب الناظرين إليه ذاتية ، فأورث المحبة والهيبة .


المراجع:

(53) الفتوحات ج 3 / 286 - ج 2 / 298 - ج 3 / 264 - ج 2 / 150 - ج 3 / 1645">189 - ج 2 / 150 ، 556 ، 151 ، 305- ج 4 / 307 - ج 3 / 264 ، 449 - ج 4 / 416 - ج 2 / 16 - ج 3 / 275 - ج 4 / 68 - ج 3 / 275 ، 1645">189 - ج 2 / 224 - ج 3 / 1645">189 ، 281 ، 465 ، 246 ، 281 ، 282- ج 1 / 279 ، 120 - ج 2 / 344 - ج 3 / 449

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!