موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة الأعراف (7)

 

 


الآيات: 30-31 من سورة الأعراف

فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» هذا أمر من الحق بالتجمل للّه ، وهو عبادة مستقلة ، ولا سيما في عبادة الصلاة ، فالزينة مأمور بها ، والزينة هو اللباس الحسن ، ومنها لباس التقوى فإنه خير لباس ، فأمرنا اللّه بالزينة عند كل مسجد يريد مناجاته ، وهي قرة عين محمد صلّى اللّه عليه وسلم وكل مؤمن ، لما فيها من الشهود ، فإن اللّه في قبلة المصلي ،

وقد قال : [ اعبد اللّه كأنك تراه ] ولا شك أن الجمال محبوب لذاته ، وفي الحديث أن رجلا قال للنبي عليه السلام : أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ، فقال عليه السلام : اللّه أولى من تجمّل له . وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن اللّه جميل يحب الجمال ] قال الصاحب لما نزلت هذه الآية :[ إشارة إلى النعلين ]

أمرنا فيها بالصلاة في النعلين - إشارة لا تفسير - إن النعلين إشارة في الاستعانة بالسير إلى اللّه والسفر إليه بالكتاب والسنة ، وهي زينة كل مسجد ، فتزين وتجمل تارة بنعتك من

ذلة وافتقار وخشوع وخضوع وسجود وركوع ، وتارة بنعته عزّ وجل من كرم ولطف ورأفة وتجاوز وعفو وصفح ومغفرة وغير ذلك مما هو للّه ، ومن زينة اللّه التي ما حرمها اللّه على عباده ، فإذا كنت بهذه المثابة أحبك اللّه لما جملك به من هذه النعوت ، فزينة اللّه غير محرمة علينا ، والذي وقع عليه الذم زينة الحياة الدنيا ، أي الزينة القريبة الزوال ، أي لا تلبسوا من الملابس إلا ما يكون دائما ، كملابس العلوم والمعارف ، فإنها لا تخلق

ولهذا قال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) يعني العلم الذي ألبسك التقوى

من قوله : (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»

قال علماء الطبيعة : ما قال أحد في أصل هذا العلم أجمع ولا أبدع من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ قال :

[ المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وأصل كل داء البردة ]

وأمر في الأكل إن كثر ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس ،

وقال صلّى اللّه عليه وسلم : [ بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ] هذا في تدبير هذا البيت الذي هو هذه الأجسام الطبيعية التي خلقها وسواها وعدلها بالبناء لسكنى النفوس الإنسانية المدبرة لها . واعلم وفقك اللّه أن النفس العدوة الكافرة الأمارة بالسوء ، لها على الإنسان قوة كبيرة وسلطان عظيم بسيفين ماضيين ، تقطع بهما رقاب صناديد الرجال وعظمائهم ، وهما شهوة البطن والفرج ، اللتان قد تعبدتا جميع الخلائق وأسرتاهم ، فقد سلط اللّه تعالى على هذا العبد الضعيف المسكين المسمى بالإنسان ، شهوتين عظيمتين وآفتين كبيرتين ، هلك بهما أكثر الناس ، وهما شهوة البطن والفرج ، غير أن شهوة الفرج وإن كانت عظيمة قوية السلطان ، فهي دون شهوة البطن ، فإنها ليس لها تأييد إلا من شهوة البطن ، فإن غلب هذا العدو البطني يقل التعب مع الفرج ، بل ربما تذهب ذهابا كليا ، فهذه الشهوة البطنية تجعل صاحبها أولا يمتلئ من الطعام ، مع علمها أن أصل كل داء البردة ، دينيا كان أو طبيعيا ، فالداء الطبيعي الذي تنتجه هذه البردة ، هو فساد الأعضاء من أبخرة فاسدة ، تتولد عنه آلام وأمراض مؤدية إلى الهلاك ، وأما الداء الديني فإنه يؤدي إلى هلاك الأبد ، فكونه يؤديك إلى فضول النظر والكلام والمشي والجماع وغير ذلك من أنواع الحركات المردية ، وإن كان الأمر على هذا الحد ، فواجب على كل عاقل أن لا يملأ بطنه من طعام ولا شراب أصلا ، فإن كان صاحب شريعة طالبا سبيل النجاة ، فيتوجه عليه وجوبا تجنب الحرام ، والورع في الشبهات المظنونة ، وأما المحققة فواجب عليه تجنبها

كالحرام ، على كل حال من الأحوال ، فإنه ما أتي على أحد إلا من بطنه ، منه تقع الرغبة وقلة الورع في الكسب والتعدي لحدود اللّه تعالى ، فاللّه اللّه يا بني ، التقليل في الغذاء الطيب في اللباس والطعام ، فإن اللباس أيضا غذاء الجسم كالطعام ، به ينعم ، حيث يحفظه من الهواء البارد والحار ، الذي هو بمنزلة الجوع والامتلاء والظمأ والري المتفاوت ، فكل واشرب والبس لبقاء جسمك في عبادتك لا لنفسك ، فإن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعة بما كان ، ووقاية من الهواء الحار والبارد بما كان ، وأما النفس فلا تطلب منك إلا الطيب من الطعام الحسن الطعم والمنظر ،

وكذلك المشرب والمركب والمسكن والملبس ، إنما تريد من كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة وأغلاه ثمنا ، ولو استطاعت أن تنفرد بالأحسن من هذا كله دون النفوس كلها لم تقصر في ذلك ، والذي يؤديها إلى ذلك طلب التقدم والترأس ،

وأن ينظر إليها ويشار ، وأن لا يلتفت إلى غيرها ، ولا تبالي حراما كان ذلك أو حلالا ، والجسم ليس كذلك ، إنما مراده الوقاية مما ذكرناه ، فصار الجسم من هذه طالبا لما يصونه خاصة ،

من أكل وشرب وملبس ومسكن وأشباه ذلك مما يصلح به ، وصارت النفس أو العقل الشرعي الكاسبة والمطعمة له ، فإن كانت النفس المغذية له والناظرة في صونه خاض في الشبهات وتورط في المحرمات ،

لأنها أمارة بالسوء ومطمئنة بالهوى ، فهلكت وأهلكته في الدارين ، لأنها ربما لا تبلغ هنا مناها وطلبتها ، لأن الأمر الإلهي رزق مقسوم ، وأجل مسمى محدود ، وإن كان العقل الشرعي المغذي له ، تقيّد وأخذ الشيء من حله ووضعه في حقه ،

وترك الشهي من الطعام وإن كان حلالا ، فغذاؤه ما تيسر ، وهمته فيما عند مولاه من رؤيته إلى ما دون ذلك مما يبقى بخلاف النفس ، فإن همتها وإن تعلقت بما هو حسن في الحال ، فمآله عذر نتن ، نسأل اللّه العافية ، والحجة علينا في هذا بيّنة ، لأنه لو كان هذا خبرا لكان بعض عذر وإنما هذا كله معاينة منّا ،

وليت لو وقفت الحال هنا ، ولا تبقى عليه تبعات ذلك في الدار الآخرة ، حين يسأل مم كسبت ؟ وفيما أنفقت ؟

ويسأل عن الفتيل والقطمير ، بل في مثقال ذرة ، فالحجة قائمة للعاقل على نفسه إن طلبت منه هذا ، فما يجب عليك في الطعام من اجتناب المحظور فيه والمتشابه ، يتوجه عليك في اللباس ،

والتقليل من هذا كالتقليل من هذا ، وما ملئ وعاء شر من بطن ملئ بالحلال ، وينبغي أن لا تأكل إلا مما تعرف إذا كنت موكلا لنفسك ، فإن رأس الدين الورع ، والزهد قائد الفوائد ، وكل عمل لا يصحبه

ورع فصاحبه مخدوع ، فاسع جهدك في أن تأكل من عمل يدك إن كنت صانعا ، وإلا فاحفظ البساتين والفدادين ، والزم الاستقامة فيما تحاوله على الطريقة المشروعة ، والورع الشافي الذي لا يبقي في القلب أثر تهمة ، إن أردت أن تكون من المفلحين ، وهذا لا يحصل إلا بعد تحصيل العلم المشروع بالمكاسب والحلال والحرام ، لا بد لك منه هذا إذا كنت موكلا لنفسك ، واعلم آن الحلال عزيز المنال على جهة الورع ، قليل جدا ، لا يحتمل الإسراف والتبذير ، بل إذا تورعت على ما لزمه أهل الورع في الورع ، فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقتير ، كيف أن تصل به إلى نيل شهوة من شهوات النفس ؟

فاللّه اللّه يا بني ، حافظ على نفسك أن لا تصاحبها في شهوتها لهذه المطاعم الغالية الأثمان ، فإنك إن صاحبتها عليها وتقوى في خاطرك أن لو نلتها لعذوبتها وأن تأخذها على وجه الاعتبار ، أعمت بصيرتك ودلتك بغرور ، وأدخلت عليك ضربا من التأويلات في مكسبك ، ليكثر درهمك بما تلحق تلك الشهوة ، حتى تؤديك إلى التوريط في الشبهات ، وهي تريد الحرام ، فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فسد عليها هذا الباب ، ولا تطعمها إلا ما تقوى به على أداء ما كلّفته وتكلفته ، على الشرط الذي ذكرت لك من التقليل ، وهكذا في اللباس ، وإياك والإسراف في النفقة وإن كانت حلالا صافيا ، فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ،

قال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ)

وقال تعالى : «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فهذا قد عم اللباس والطعام والشراب ، فالبطن يا بني أكبر الأعداء بعد الهوى ، والفرج بعدهما ، عصمنا اللّه من الشهوات ، وحال بيننا وبين الآفات .

[سورة الأعراف (7) : آية 32]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

[ «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» ] «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» فإن اللّه أضاف الزينة إليه ، وما أضافها إلى الدنيا ولا إلى الشيطان ، وأكثر من هذا البيان في مثل هذا القرآن فلا يكون ، فعليك بتحرير النية في

استخدام زينة اللّه للتجمل للّه ، لأنه لا فرق بين زينة اللّه وزينة الحياة الدنيا إلا بالقصد والنية ، وإنما عين الزينة هي هي ، ما هي أمر آخر ، فالنية روح الأمور ، وإنما لامرئ ما نوى ، ورد في صحيح مسلم أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يا رسول اللّه ، إني أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه جميل يحب الجمال ،

وقال : إن اللّه أولى من تجمل له ، هذا المقصود بالتجمل للّه ، لا للزينة والفخر بعرض الدنيا ، والزهو والعجب والبطر على غيره ، واجهد نفسك يا ولي أن تتحلى بحلية قوم بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شوقا إليهم ، لا يؤثر فيك كلام المغرورين من الفقهاء علماء السوء ، الذين لبسوا رقاق الثياب ، وتناولوا لذيذ المطاعم ، فإن قلت لهم في ذلك تلوا عليك

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» فقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنهم سيقولون هذا إذا قلت لهم في ذلك ، فمن حديث سعيد بن زيد بن نفيل ،

قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأقبل على أسامة بن زيد ، فقال : يا أسامة عليك بطريق الجنة ، وإياك أن تختلج دونها ،

فقال : يا رسول اللّه ، وما شيء أسرع ما يقطع به ذلك الطريق ، قال : الظمأ في الهواجر وكسر النفس عن لذة الدنيا ، يا أسامة وعليك عند ذلك بالصوم ، فإنه يقرب إلى اللّه عزّ وجل ، إنه ليس من شيء أحب إلى اللّه عزّ وجل من ريح فم الصائم ، ترك الطعام والشراب للّه عزّ وجل ، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل ، فإنك تدرك شرف المنازل في الآخرة ، وتحمل مع النبيين صلوات اللّه عليهم أجمعين ، تفرح بقدوم روحك عليهم ، ويصلي عليك الجبار تبارك وتعالى ، وإياك يا أسامة وكل كبد جائع يخاصمك إلى اللّه عزّ وجل يوم القيامة ، وإياك يا أسامة ودعاء عباد قد أذابوا اللحوم ، وأحرقوا الجلود بالريح والسمائم ، وأظمئوا الأكباد ، حتى غشيت أبصارهم ، فإن اللّه عزّ وجل قد نظر إليهم وباهى بهم الملائكة عليهم السلام ، بهم تصرف الزلازل والفتن ، ثم بكى النبي صلّى اللّه عليه وسلم حتى اشتد نحيبه ، وهاب الناس أن يكلموه ، حتى ظنوا أن أمرا قد حدث بهم من السماء ، ثم تكلم فقال : ويح هذه الأمة ، ما يلقى منهم من أطاع اللّه ربه عزّ وجل فيهم ! !

كيف يقتلونه ويكذبونه من أجل أنه أطاع اللّه تعالى ؟ فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه :

يا رسول اللّه ، والناس يومئذ على الإسلام ؟ قال : نعم ، قال : ففيم إذن يقتلون من أطاع اللّه وأمرهم بطاعة اللّه ؟ فقال : يا عمر ترك الناس الطريق ، وركبوا الدواب ، ولبسوا ليّن

الثياب ، وخدمتهم أبناء فارس ، يتزين الرجل منهم تزين المرأة لزوجها ، ويتبرج النساء ، زيهم زي الملوك الجبابرة ، ودينهم دين كسرى وهرمز ، يتسمون بالجشاء ، فإذا تكلم أولياء اللّه عزّ وجل ، عليهم العباءة ، منحنية أصلابهم ، قد ذبحوا أنفسهم من العطش ، فإذا تكلم منهم متكلم ، كذّب وقيل له : أنت قرين الشيطان ورأس الضلالة ، تحرم زينة اللّه والطيبات من الرزق ، ويتلون كتاب اللّه عزّ وجل على غير علم ، استذلوا أولياء اللّه عزّ وجل ، اعلم يا أسامة ، أن أقرب الناس إلى اللّه عزّ وجل يوم القيامة من أطال حزنه وعطشه وجوعه في الدنيا ، الأخفياء الأبرياء الذين إذا شهدوا لم يقربوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، تعرفهم بقاع الأرض يعرفون في أهل السماء ويخفون على أهل الأرض ، وتحف بهم الملائكة ، تنعم الناس بالشهوات ، وتنعموا هم بالجوع والعطش ، لبس الناس ليّن الثياب ، ولبسوا هم خشن الثياب ، وافترش الناس الفراش ، وافترشوا الجباه والركب ، ضحك الناس وبكوا ، يا أسامة لا يجمع اللّه عزّ وجل عليهم الشدة في الدنيا والآخرة ،

لهم الجنة ، فيا ليتني قد رأيتهم ، يا أسامة ، لهم الشرف في الآخرة ، ويا ليتني قد رأيتهم ، الأرض بهم رحبة ، والجبار عنهم راض ، ضيّع الناس فعل النبيين وأخلاقهم ، وحفظوا ، الراغب من رغب إلى اللّه مثل رغبتهم ، والخاسر من خالفهم ، تبكي الأرض إذا فقدتهم ، ويسخط اللّه على كل بلدة ليس فيها مثلهم ، يا أسامة إذا رأيتهم في قرية فاعلم أنهم أمان لأهل تلك القرية ، لا يعذب اللّه عزّ وجل قوما هم فيهم ، اتخذهم لنفسك عسى أن تنجو بهم ، وإياك أن تدع ما هم عليه ، فتزل قدمك ، فتهوي في النار ، طلبوا الفضل في الآخرة ، تركوا الطعام والشراب على قدرة ، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيفة ، شغل الناس بالدنيا وشغلوا أنفسهم بطاعة اللّه عزّ وجل ،

لبسوا الخلق ، وأكلوا الفلق ، تراهم شعثا غبرا ، يظن الناس أن بهم داء وما ذاك بهم ، ويظن الناس أنهم خولطوا وما خولطوا ، ولكن خالط القوم حزن ، وتظن أنهم ذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر ذهب بعقولهم عن الدنيا ، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول ، يا أسامة عقلوا حين ذهبت عقول الناس ، لهم الشرف في الآخرة - انته الحديث - فانظر يا ولي وصف حبيب اللّه ورسوله لأولياء اللّه ، وكيف نعتهم ، فإن قلت إن زينة اللّه هي الحلال التي ما فيها حرام ، فما حكم المتنعم في الدنيا المباح له التنعم في الحلال ؟

قلن : لا نمنع ذلك في حق غير العارف ، ولكن العارف تحت سلطان

التكليف ، فما من نعمة ينعم اللّه بها عليه باطنة كانت أو ظاهرة ، إلا والتكليف من اللّه بالشكر عليها يصحبها ، فذلك التكليف ينغص على العارف التنعم بتلك النعمة ، لاشتغاله بموازنة الشكر عليها ، وإذا وفي الشكر عليها ، فالوفاء به نعمة من اللّه عليه يجب عليه الشكر عليها ، فلا يزال متعوب الخاطر في إقامة الوزن بالقسط ، أن لا يخسر الميزان ، ومن هذه حالته كيف ينعم ؟

فظاهرها نعمة وباطنها غصص ، وهو لا يبرح يتقلب في نعم اللّه ظاهرا وباطنا ، ولا تؤثر عنده إلا ألما وتنغيصا ، والعامة تفرح بتلك النعم وتتصرف فيها أشرا وبطرا ، والعارف مسدود عليه في الدنيا باب الراحة في قلبه ، وإن استراح في ظاهره ، فهو يموت في كل نفس ألف موتة ولا يشعر به ،

يقول عمر بن الخطاب : ما ابتلاني اللّه بمصيبة إلا رأيت للّه عليّ فيها ثلاث نعم ، إحداها أن لم تكن في ديني ، الثانية حيث لم تكن أكبر منها ،

الثالثة ما وعد اللّه عليها من الثواب ، ومن كان في مصيبة واحدة يرى ثلاث نعم ، فقد انتقل إلى مصيبة أعظم من تلك المصيبة ، فإنه يتعين عليه إقامة ميزان الشكر على ثلاث نعم ، فابتلاه اللّه بمصيبة واحدة ليصبر عليها ، وابتلته معرفته في تلك المصيبة بثلاث مصائب كلفه اللّه الشكر عليها ، حيث أعلمه بتلك النعم في تلك المصيبة الواحدة ، فانظر إلى معرفة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، كيف أوجب على نفسه مثل هذا ، وانظر إلى ما فيها من الأدب ، حيث عدل عن النظر من كونها مصيبة إلى رؤية النعم ، فتلقاها بالقبول ، لأن النعمة محبوبة لذاتها ، فرضي فكان له مقام الرضا والاستسلام والتفويض والصبر والاعتماد على اللّه ، وأين الناس من هذا الذوق الشريف «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ»

[ تحقيق : زينة اللّه ]

الطيب من الرزق ليس في أكله تنغيص بل لذة ونعيم في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال تعالى : «خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» فلو كان مناقشة حساب لم تكن خالصة ، ولا وقعت للمؤمن بها لذة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً)

فاعلم أن ذلك في مجرد الأكل الحلال ، والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه والوصول إليه ، لا في أكله إذا كان حلالا ، فإنه يغمض هذا المعنى على أكثر الناس - تحقيق - زينة اللّه أسماؤه ، فمن تخلق بأسماء اللّه وصفاته على الحد المشروع ، فقد تحلى بزينة اللّه التي أخرج لعباده في كتابه وعلى ألسنة رسله ، جاء في الحديث

[ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ] فمن كان الحق سمعه وبصره وجمع قواه

سمعها وبصرها ، وهذه القوى قد أخبر الحق أنه لما أحبك كان سمعك وبصرك ، فهو قواك ، فبه سلكت في طاعته التي أمرك أن تعمل نفسك فيها ، وتحلي ذاتك بها ، وهي زينة اللّه ، وهو سبحانه الجميل والزينة جمال ، فهو جمال هذا السالك ، فزينته ربه ، فبه يسمع ، وبه يبصر ، وبه يسلك ، ولا مانع من ذلك ، ولهذا قال : «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» لما أحبهم حين تقربوا إليه بنوافل الخيرات ، زينهم به ، فكان قواهم التي سلكوا بها ما كلفهم من الأعمال .


المراجع:

(31) الفتوحات ج 4 / 453 - ج 1 / 560">560 ، 468 ، 192 - ج 4 / 270 - كتاب الأعلاق - الفتوحات ج 3 / 560">560 - كتاب مواقع النجوم

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!