موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة النحل (16)

 

 


الآيات: 34-40 من سورة النحل

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)

وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

«إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ» الإرادة هنا التوجه الإلهي بالإيجاد ، فنفى الأثر فيه عن السبب إن كان أوجده عند سبب مخلوق ، ولما توقف حكم الإرادة على حكم العلم قال : «إِذا أَرَدْناهُ» فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعليق الإرادة ، والإرادة واحدة العين ، فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في شيئية وجوده ،

[مسألة الوجود العيني والأعيان الثابتة ]

والشيء هو الممكنات ، وأجناسها محصورة في جوهر متحيز وجوهر غير متحيز ، وأكوان وألوان ، وما لا ينحصر هو وجود الأنواع والأشخاص «أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فجعل سبحانه نسبة التكوين إلى نفس المأمور به ، والقدرة لا تتعلق بإيجاد الممكن إلا بعد تخصيص الإرادة ، كما لا تتمكن القدرة من الممكن حتى يأتيه أمر الآمر من ربه ، فإذا أمره بالتكوين وقال له «كُنْ» مكّن القدرة من نفسه ، وتعلقت القدرة بإيجاده ، فكونته من حينه ، فالاسم المريد هو المرجح والمخصص جانب الوجود على جانب العدم - مسئلة الوجود العيني والأعيان الثابتة - ما ورد في الشرع قط أن اللّه يشهد الغيوب ، وإنما ورد يعلم الغيوب ،

ولهذا وصف نفسه بالرؤية فقال : (لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى)

ووصف نفسه بالبصر وبالعلم ، ففرّق بين النسب وميز بعضها عن بعض ليعلم ما بينها ، ولما لم يتصور أن يكون في حق اللّه غيب ، علمنا أن الغيب أمر إضافي لما غاب عنا ، وما يلزم من شهود الشيء العلم بحده وحقيقته ، ويلزم من العلم بالشيء العلم بحده وحقيقته ، عدما كان أو وجودا ، وإلا فما علمته ، وقد وصف الحق نفسه بأنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) *

والأشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها ، ولو لم تكن كذلك لما خصص بعضها بالإيجاد عن بعض ، إذ العدم المحض الذي ليس فيه أعيان ثابتة لا يقع فيه تمييز شهود ، بخلاف عدم الممكنات ، فكون العلم ميز الأشياء بعضها عن بعض وفصل بعضها عن بعض ، هو المعبر عنه بشهوده إياها وتعيينه لها ، أي هي بعينه يراها ، وإن كانت موصوفة بالعدم فما هي معدومة للّه الحق من حيث علمه بها ، كما أن تصور الإنسان المخترع للأشياء صورة ما يريد اختراعها في نفسه ثم يبرزها ، فيظهر عينها لها ، فاتصفت بالوجود العيني ، وكانت في حال عدمها موصوفة بالوجود الذهني في حقنا ، والوجود العلمي في حق اللّه ، فظهور الأشياء من وجود إلى وجود ، من وجود علمي إلى وجود عيني . واعلم أن الطبيعة للأمر الإلهي محل ظهور أعيان الأجسام ، فيها تكونت وعنها ظهرت ، فأمر بلا طبيعة لا يكون ، وطبيعة بلا أمر لا تكون ، فالكون متوقف على الأمرين ، ولا تقل إن اللّه قادر على إيجاد شيء من غير أن ينفعل أمر آخر ،

فإن اللّه يرد عليك في ذلك بقوله : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فتلك الشيئية العامة لكل شيء خاص - وهو الذي وقع فيها الاشتراك - هي التي أثبتناها ، وإن الأمر الإلهي عليها يتوجه لظهور شيء خاص في تلك الشيئية المطلقة ، فإذا ظهرت الأجسام أو الأجساد

ظهرت الصور والأشكال والأعراض وجميع القوى الروحانية والحسية ، وربما قيل : هو المعبر عنها بلسان الشرع العماء الذي هو للحق قبل خلق الخلق ، ما تحته هواء وما فوقه هواء ، فذكره وسماه باسم موجود يقبل الصور والأشكال ، وعلى ذلك فثبوت عين الممكن في العدم به يكون التهيؤ لقبول الآثار ، وثبوته في العدم كالبذر لشجرة الوجود ، فهو في العدم بذرة وفي الوجود شجرة .

ثبوت العين في الإمكان بذر *** ولولا البذر لم يك ثم نبت

ظهوري عن ثبوتي دون أمر *** إلهي محال حين كنت

فلو لا ثبوت العين ما كان مشهودا *** ولا قال كن كونا ولا كان مقصودا

فما زال حكم العين للّه عابدا *** وما زال كون الحق للعين معبودا

فلما كساه الحق حلة كونه *** وقد كان قبل الكون في الكون مفقودا

تكونت الأحكام فيه بكونه *** فما زال سجّادا فقيدا وموجودا

وحكم الثبوت بين اللّه والخلق خلاف حكم الوجود ، فبحكم الوجود يكون الخلق هو الذي ثنى وجود الحق ، وليس لحكم الثبوت هذا المقام ، فإن الخلق والحق معا في الثبوت ، وليس معا في الوجود

ولنشرح لك ذلك المعنى :اعلم أنالمعلوماتثلاثة لا رابع لها،

وهي الوجود المطلق الذي لا يتقيد، وهو وجود اللّه تعالى الواجب الوجود لنفسه ،والمعلوم الآخر العدم المطلق الذي هو عدم لنفسه، وهو الذي لا يتقيد أصلا وهو المحال ، وهو في مقابلة الوجود المطلق ،

فكانا على السواء حتى لو اتصفا لحكم الوزن عليهما ، وما من نقيضين إلوبينهما فاصل ، به يتميز كل واحد من الآخر، وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر ،

وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم المطلق، لو حكم الميزان عليه لكان على السواء في المقدار من غير زيادة ولا نقصان ،

وهذا هو البرزخ الأعلى ، وهو برزخ البرازخ،له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم ، فهو يقابل كل واحد من المعلومين بذاته ،

وهو المعلوم الثالث ، وفيه جميع الممكنات ، وهي لا تتناهى ،

كما أنه كل واحد من المعلومين لا يتناهى ، وللممكنات في هذا البرزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق ،

ومن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء الذي إذا أراد الحق إيجاده قال له : كن فيكون ،

وليس له أعيان موجودة من الوجه الذي ينظر إليه منه العدم المطلق ، ولهذا يقال له : كن ، وكن حرف وجودي ، فإنه لو أنه كائن ما قيل له : «كُنْ» وهذه الممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون إذا كانت مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان ، وهذا هو العالم الذي لا يتناهى ، وما له طرف ينته إليه ، ومن هذا البرزخ وجود الممكنات ، وبها يتعلق رؤية الحق للأشياء قبل كونها ، وكل إنسان ذي خيال وتخيل إذا تخيل أمرا ما ، فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ ، وهو لا يدري أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة ، وهذه الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى ،

هي للأعيان التي يتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظلالات للأجسام ، ولما كان الظل في حكم الزوال لا في حكم الثبات ،

وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم سميت ظلالات ، ليفصل بينها وبين من له الثبات المطلق في الوجود- وهو واجب الوجود –

وبين ما له الثبات المطلق في العدم- وهو المحال -لتتميز المراتب ،

فالأعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي ، فإنه ما ثمّ حضرة تخرج إليها ففيها تكتسب حالة الوجود ، والوجود فيها متناه ما حصل منه ، والإيجاد فيها لا يتناهى ، فما من صورة موجودة إلا والعين الثابتة عينها والوجود كالثوب عليها ،

والعجب من الأشاعرة كيف تنكر على من يقول:

إن المعدوم شيء في حال عدمه وله عين ثابتة يطرأ على تلك العين الوجود ، وهي تثبت الأحوال ، اللهم منكر الأحوال لا يتمكن له هذا ،

ثم إن هذا البرزخ الذي هو الممكن بين الوجود والعدم ، سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين بذاته ،

فالممكن ما هو - من حيث ثبوته - عين الحق ولا غيره ، ولا هو من حيث عدمه عين المحال ولا غيره ، فكأنه أمر إضافي ،

ولهذا نزعت طائفة إلى نفي الممكن وقالت : ما ثمّ إلا واجب أو محال ولم يتعقل لها الإمكان ، فالممكنات على ما قررناه أعيان ثابتة من تجلي الحق ، معدومة من تجلي العدم ، ومن هذه الحضرة علم الحق نفسه فعلم العالم ، وعلمه له بنفسه أزلا ،

فإن التجلي أزلا ، وتعلق علمه بالعالم أزلا على ما يكون العالم عليه أبدا مما ليس حاله الوجود ، لا يزيد الحق به علما ولا يستفيد رؤية ، تعالى اللّه عن الزيادة في نفسه والاستفادة ،

وقوله تعالى «إِذا أَرَدْناهُ» هنا الإرادة تعلق المشيئة بالمراد ،

قال عليه السلام : [ ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن ]

فالممكن ما خرج عن حضرة الإمكان لا في حال وجوده ولا في حال عدمه ، والتجلي له

مستصحب والأحوال عليه تتحول وتطرأ ، فهو بين حال عدمي وحال وجودي ، والعين هي تلك العين فما في الوجود إلا اللّه تعالى وأسماؤه وأفعاله ، فهو الأول من الاسم الظاهر ، وهو الآخر من الاسم الباطن ،

فالوجود كله حق فما فيه شيء من الباطل ، إذ كان المفهوم من إطلاق لفظ الباطل عدما فيما ادعى صاحبه أنه موجود ، ولو لم يكن الأمر كذلك لانفرد الخلق بالفعل ولم يكن الاقتدار الإلهي يعمّ جميع الكائنات ، بل كانت الإمكانات تزول عنه ،

فسبحان الظاهر الذي لا يخفى ، وسبحان الخفي الذي لا يظهر ، حجب الخلق به عن معرفته وأعماهم بشدة ظهوره ، فهم منكرون مقرون ، مترددون حائرون ، مصيبون مخطئون ،

ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأت إليه في هذه المسألة فلينظر خيال الستارة وصوره ، ومن الناطق من تلك الصور عند الصبيان الصغار ، الذين بعدوا عن حجاب الستارة المضروبة بينهم وبين اللاعب بتلك الأشخاص والناطق فيها ،

فالأمر كذلك في صور العالم ، والناس أكثرهم أولئك الصغار الذين فرضناهم ، فالصغار في المجلس يفرحون ويطربون ، والغافلون يتخذونه لهوا ولعبا ، والعلماء يعتبرون ويعلمون أن اللّه ما نصب هذا إلا مثلا لعباده ليعتبروا ، وليعلموا أن أمر العالم مع اللّه مثل هذه الصور مع محركها ،

وأن هذه الستارة حجاب سر القدر المحكّم في الخلائق ، ولما كان تقدم العدم للممكنات نعتا نفسيا ، لأن الممكن يستحيل عليه الوجود أزلا ، فلم يبق إلا أن يكون أزلي العدم ، فتقدم العدم له نعت نفسي ، والممكنات متميزة الحقائق والصور في ذاتها ، لأن الحقائق تعطي ذلك ، فلما أراد اللّه أن يلبسها حالة الوجود خاطبها من حيث حقائقها ، فقال : «إِنَّما قَوْلُنا» من كونه تعالى متكلم «لِشَيْءٍ»

وهو المخاطب من الممكنات في شيئية ثبوتها ، فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئية المنفية بقوله ولم يكن شيئا ، فهي الشيئية المتوجه عليها أمره بالتكوين إلى شيئية أخرى ،

فإن الممكنات في حال عدمها بين يدي الحق ينظر إليها ويميز بعضها عن بعض بما هي عليه من الحقائق في شيئية ثبوتها ، ينظر إليها بعين أسمائه الحسنى ، وترتيب إيجاد الممكنات يقتضي بتقدم بعضها على بعض ،

وهذا ما لا يقدر على إنكاره ، فإنه الواقع ، فالدخول في شيئية الوجود إنما وقع مرتبا بخلاف ما هي عليه في شيئية الثبوت ، فإنها كلها غير مرتبة ، لأن ثبوتها منعوت بالأزل لها ، والأزل لا ترتيب فيه ولا تقدم ولا تأخر ،

فتوقف حكم الإرادة على حكم العلم ، ولهذا قال تعالى : «إِذا أَرَدْناهُ» فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعليق

الإرادة ، فأدخل اللّه تعلق إرادته تحت حكم الزمان ، فجاء بإذا وهي من صيغ الزمان ، والزمان قد يكون مرادا ولا يصح فيه إذا ، لأنه لم يكن بعد فيكون له حكم ، والإرادة واحدة العين ، فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في شيئية وجوده ،

فقوله تعالى : «إِذا أَرَدْناهُ»

هو التوجه الإلهي على الشيء في حال عدمه" أَنْ نَقُولَ لَهُ "

وهو قوله لكل شيء يريده وذلك من كون الحق متكلما ، وما يؤمر إلا من يسمع بسمع ثبوتي أو وجودي ، يسمع الأمر الإلهي «كُنْ»

بالمعنى الذي يليق بجلاله ، وكن حرف وجودي ، أو إن شئت أمر وجودي ، فما ظهر عنها إلا ما يناسبها ، فلا يكون عن هذا الحرف إلا الوجود ، ما يكون عنه عدم ، لأن العدم لا يكون ، لأن الكون وجود ، وكن كلمة وجودية من التكوين ، فكن عين ما تكلم به ، وهو الأمر الذي لا يمكن للمأمور به مخالفته ، لا الأمر بالأفعال والتروك ، فظهر عن هذا الأمر الذي قيل له «كُنْ» فيكون ذلك الشيء في عينه ، فيتصف ذلك المكوّن بالوجود بعد ما كان يوصف بأنه غير موجود ،

فإذا ظهر عن قوله «كُنْ» لبس شيئية الوجود ، وهي على الحقيقة شيئية الظهور ، ظهور لعينه ،

وإن كان في شيئية ثبوته ظاهرا متميزا عن غيره بحقيقته ، ولكن لربه لا لنفسه ، فما ظهر لنفسه إلا بعد تعلق الأمر الإلهي من قوله «كُنْ» بظهوره ، فاكتسب ظهوره لنفسه ، فعرف نفسه وشاهد عينه ، فاستحال من شيئية ثبوته إلى شيئية وجوده ، وإن شئت قلت استحال في نفسه من كونه لم يكن ظاهرا لنفسه إلى حالة ظهر بها لنفسه ، فما ثمّ إلا اللّه والتوجه وقبول الممكنات لما أراد اللّه بذلك . وأضاف اللّه التكوين إلى الذي يكون لا إلى الحق ولا إلى القدرة ، بل أمر فامتثل السامع في حال عدم شيئيته وثبوته أمر الحق بسمع ثبوتي ، فأمره قدرته ، وقبول المأمور بالتكوين استعداده ، فإن الممكنات لها الإدراكات في حال عدمها ، ولذا جاء في الشرع أن اللّه يأمر الممكن بالتكوين فيتكون ، فلو لا أن له حقيقة السمع ، وأنه مدرك أمر الحق إذا توجه عليه لم يتكون ، ولا وصفه اللّه بالتكوين ، ولا وصف نفسه بالقول لذلك الشيء المنعوت بالعدم ، فتعلق الخطاب بالأمر لهذه العين المخصصة بأن تكون ، فامتثلت فكانت ، فلو لا ما كان للممكن عين ولا وصف لها بالوجود ، يتوجه على تلك العين الأمر بالوجود لما وقع الوجود ، فالمأمور به إنما هو الوجود ، ولذلك أعلمنا اللّه أنه خاطب الأشياء في حال عدمها ، وأنها امتثلت أمره عند

بالنعوت التي لها في حال وجودها ما وصفها الحق بما وصفها به من ذلك ، وهو الصادق المخبر بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، فما ظهرت أعيان الموجودات إلا بالحال التي كانت عليه في حال العدم ، فما استفادت إلا الوجود من حيث أعيانها ومن حيث ما به بقاؤها ، فكل ما هي عليه الأعيان القائمة بأنفسها ذاتي لها ، وإن تغيرت عليها الأعراض والأمثال والأضداد ، إلا أن حكمها في حال عدمها ليس حكمها في حال وجودها من حيث أمر ما ، وذلك لأن حكمها في حال عدمها ذاتي لها ليس للحق فيها حكم ، ولو كان لم يكن لها العدم صفة ذاتية ، فلا تزال الممكنات في حال عدمها ناظرة إلى الحق بما هي عليه من الأحوال لا يتبدل عليها حال حتى تتصف بالوجود ، فتتغير عليها الأحوال للعدم الذي يسرع إلى ما به بقاء العين ، وليست كذلك في حال العدم ، فإنه لا يتغير عليها شيء في حال العدم ، بل الأمر الذي هي عليه في نفسها ثابت ، إذ لو زال لم تزل إلا إلى الوجود ، ولا يزول إلى الوجود إلا إذا اتصفت العين القائم به هذا الممكن الخاص بالوجود ، فالأمر بين وجود وعدم في أعيان ثابتة على أحوال خاصة «فَيَكُونُ» يعني حكم ما توجه عليه أمر «كُنْ» كان ما كان ، فيعدم به ويوجد ، فليس متعلقه إلا الأثر ، فترى الكائنات ما ظهرت ولا تكونت من شيئيتها الثابتة إلا بالفهم لا بعدم الفهم ، لأنها فهمت معنى «كُنْ» فتكونت ، ولهذا قال «فَيَكُونُ» يعني ذلك الشيء ، لأنه فهم عند السماع ما أراد بقوله «كُنْ» فبادر لفهمه دون غير التكوين من الحالات ، وكذلك يكون الانتقال من حال إلى حال ، أي من حال يكون عليه السامع إلى حال يعطيه سماعه عند كلام المتكلم ، وسمي ذلك بالحركة من العدم إلى الوجود ، فكان للأعيان في ظهورها شيئية وجودية ، فسميت هذه الحركة بالوجد لحصول الوجود عندها ، أعني وجود الحكم ، سواء كان بعين ، أي في تقلبه أثناء وجوده من حال إلى حال ، أو بلا عين قبل إبرازه من العدم إلى الوجود ، فإنه عين في نفسه هذا الكائن ، أي له عين ثابتة في العلم يتوجه عليها الخطاب ، فتسمع فتمتثل ، فعندنا قوله تعالى : «فَيَكُونُ» ما هو قبول التكوين وإنما قبوله للتكوين ، أن يكون مظهرا للحق ، فهذا معنى قوله «فَيَكُونُ» لا أنه استفاد وجودا ، وإنما استفاد حكم المظهرية حيث أنه قبل السماع من حيث عينه الثابتة الموجودة فالحق عين كل شيء في الظهور وما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى ، بل هو هو والأشياء

[مسائل مستفادة من قوله تعالى : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ» ]

أشياء ، فلولا الحق ما تميزت الموجودات بعضها عن بعض ولكان الأمر عينا واحدا ، فعين تمييز الحق لها وجودها ، وعين تمييز بعضها عن بعض فلأنفسها ، ولذلك لم تزد كلمة الحضرة في كل كائن عنها على كلمة «كُنْ» شيئا آخر ، بل انسحب على كل كائن عين «كُنْ» لا غير ، فلو وقفنا مع كن لم نر إلا عينا واحدة ، وإنما وقفنا مع أثر هذه الكلمة وهي المكونات ،

فكثرت وتعددت وتميزت بأشخاصها ، فلما اجتمعت في عين حدها علمنا أن هذه الحقيقة وجدت كلمة الحق فيها وهي كلمة كن ، وكن أمر وجودي لا يعلم منه إلا الإيجاد والوجود ،

ولهذا لا يقال للموجود كن عدما ، ولا يقال له كن معدوما لاستحالة ذلك ، فالعدم نفسي لبعض الموجودات ، ولبعضها تابع لعدم شرطه المصحح لوجوده ، وبهذه الحقيقة كان اللّه خلاقا دائما وحافظا دائما ، والخلاصة هي أن اللّه سبحانه يرانا في حال عدمنا في شيئية ثبوتنا كما يرانا في حال وجودنا ،

لأنه تعالى ما في حقه غيب ، فكل حال له شهادة ، فيتجلى تعالى للأشياء التي يريد إيجادها في حال عدمها من اسمه النور تعالى ، فينفهق على تلك الأعيان أنوار هذا التجلي فتستعد لقبول الإيجاد ، فيقول له عند هذا الاستعداد «كن» فيكون من حينه من غير تثبط - مسائل مستفادة من هذه الآية

- المسألة الأولى-اعلم أن القول والكلام نعتان للّه ، فبالقول يسمع المعدوم ، وهو قوله تعالى : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وبالكلام يسمع الموجود ،

وهو قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقد يطلق الكلام على الترجمة في لسان المترجم وينسب الكلام إلى المترجم عنه في ذلك ، فالقول له أثر في المعدوم وهو الوجود ، والكلام له أثر في الموجود وهو العلم

- المسألة الثانية -لم يرد نص عن اللّه ولا عن رسوله في مخلوق أنه أعطي «كُنْ» سوى الإنسان خاصة ، فظهر ذلك في وقت في النبي صلّى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقال : كن أبا ذر ، فكان أبو ذر ، ورد في الخبر في أهل الجنة أن الملك يأتي إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن في الدخول عليهم ، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند اللّه بعد أن يسلم عليهم من اللّه ، فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطب به ، من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت ، أما بعد فإني أقول للشيء كن فيكون ، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : فلا يقول أحد من أهل الجنة للشيء كن إلا ويكون

- المسألة الثالثة -اعلم أن للأسباب أحكاما في المسببات فهي كالآلة للصانع ، فتضاف

الصنعة والمصنوع للصانع لا للآلة ، وسببه أن لا علم للآلة بما في نفس الصانع أن يصنع بها على التعيين ، بل لها العلم بأنها آلة للصنع الذي تعطيه حقيقتها ، ولا عمل للصانع إلا بها ، فصنع الآلة ذاتي ، وما لجانب الصانع بها إرادي ، وهو قوله تعالى : «إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ» وكن آلة الإيجاد ، فما أوجد إلا بها ، وكون تلك الكلمة ذاته أو أمرا زائدا علم آخر ، إنما المراد هو فهم هذا المعنى وأنه ما حصل الإيجاد بمجرد الإرادة دون القول ودون المريد والقائل ، فظهر حكم الأسباب في المسببات ، فلا يزيل حكمها إلا جاهل بوضعها وما تعطيه أعيانها - المسألة الرابعة - المعلول لولا علته ما ظهرت له عين ، والعالم لولا اللّه ما وجد في عينه ، والعين عند العرب تذكر وتؤنث وذلك لأجل التناسل الواقع بين الذكر والأنثى ، ولهذه الحقيقة جاء الإيجاد الإلهي بالقول وهو مذكر ، والإرادة وهي مؤنثة ، فأوجد العالم عن قول وإرادة ، فظهر عن اسم مذكر ومؤنث ،

فقال : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ» وشيء أنكر النكرات والقول مذكر «إِذا أَرَدْناهُ» والإرادة مؤنثة «أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فظهر التكوين في الإرادة عن القول ، والعين واحدة بلا شك ، والأمر في نفسه صعب تصوره ، من الوجه الذي يطلبه الفكر ، سهل في غاية السهولة من الوجه الذي قرره الشرع ، فالفكر يقول : ما ثمّ شيء ثم ظهر شيء من لا شيء ، والشرع يقول وهو القول الحق :بل ثمّ شيء فصار كونا * وكان غيبا فصار عينا


المراجع:

(40) الفتوحات ج 1 / 260">260 - ج 2 / 495 - ج 3 / 280 - ج 1 / 260">260 ، 265 ، 323 ، 538 - ج 3 / 46">90 ، 286 ، 46 ، 68 ، 255 - ج 2 / 401 - ج 3 / 254 - ج 2 / 62 - ج 3 / 280 - ج 2 / 302 ، 280 ، 62، 401 ، 201 ، 280 - ج 3 / 525 - ج 2 / 280 ، 62 ، 401 - ج 3 / 217 ، 525 - ج 2 / 401 - ج 3 / 255 - ج 1 / 46 - ج 3 / 263 - ج 4 / 70 - ج 2 / 484 - ج 3 / 282 - ج 1 / 732 - ج 2 / 400 - ج 3 / 295 ، 134 ، 289 - ج 2 / 402

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!