The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة الإسراء (17)

 

 


الآيات: 38-44 من سورة الإسراء

كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

[ «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ . . .» الآية]

التسبيح تنزيه ، وراعى الحق في هذا الموطن تسبيح السماوات والأرض ، فإن لكل عالم ثناء خاصا لا يكون لغيره «وَمَنْ فِيهِنَّ» يعني الملائكة وإن كان البعض من العالم ، وجمع

[ حياة كل الصور ]

السماوات والأرض جمع من يعقل ، وهذا التسبيح بوحي ذاتي تقتضيه ذواتهم ، وهو أنهم يسبحون بحمد اللّه لا يحتاجون في ذلك إلى تكليف ، بل هو لهم مثل النفس للمتنفس ، وذلك لكل عين على الانفراد ، فذكر سبحانه في كل حال ومن كل عين ، فالوجود كله حي ناطق بتعظيم الحق سبحانه ، لكنه يختلف نطقهم باختلاف حقائقهم ، وقوله تعالى «وَمَنْ فِيهِنَّ» ردّ على من يقول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه يقول أهل السماوات السبع وأهل الأرض ، فنفى هذا الاحتمال بقوله «وَمَنْ فِيهِنَّ» إذ قد ورد مثل ذلك في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ) وليس هذا كذلك ،

وقوله عليه السلام في أحد [ هذا جبل يحبنا ونحبه ] وقوله [ يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس ]

وقوله [ وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة ] وهذه أمور كلها تقتضي العلم وهو مشروط بالحياة ، ولكن الحياة منها ما ظهر للحس ومنها ما لم يظهر ، فما لم يظهر بالعادة ظهر بخرق العادة ، فالكل حي ناطق بتسبيح اللّه وحمده ، ومعلوم أن ما هنا صوت معهود ولا حرف من الحروف المعلومة عندنا ، ولكنّ كلام كل جنس مما يشاكله ، وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية الإلهية السارية في كل موجود ، فالكل حي في نفس الأمر ذو نفس ناطقة ، ولا يمكن أن يكون في العالم صورة لا نفس لها ولا حياة ولا عبادة ذاتية وأمرية ، سواء كانت تلك الصورة مما يحدثها الإنسان من الأشكال أو يحدثها الحيوان ، ومن أحدثها من الخلق عن قصد وعن غير قصد ، فما هو إلا أن تتصور الصورة كيف تصورت وعلى يد من ظهرت ، إلا ويلبسها اللّه تعالى روحا من أمره ، ويتعرف إليها من حينه فتعرفه منها وتشهده فيها ، هكذا هو الأمر دنيا وآخرة ، فأكد ذلك بقوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» وزاد في التوكيد بقوله «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» وأتى بلفظة من في قوله «وَمَنْ فِيهِنَّ» ولم يأت بما ، وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن ، فإن سيبويه يقول : إن اسم ما يقع على كل شيء إلا أنه لم يعم الموجودات ، فوجلت قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح ، فجبر اللّه كسرها وأزال وجلها بقوله عقيب هذا القول «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس تسبيحهم بقوله «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» فأخبر تعالى أن كل شيء يسبح بحمده كما هو الأمر عليه في نفسه ، وسد خلل الانكسار بقوله «لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» بحرف الاستدراك وهو قوله «وَلكِنْ» طمعا في أن ينفردوا

544

دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص ، وهذه الآية دليل على أنه تعالى ما خلق العالم لنفس العالم ، وإنما خلقه لنفسه ، فقال فيه «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» فإن اللّه لما أوجد العالم ما خلقهم إلا ليعبدوه ويسبحوه ، فما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحه ، ففطر العالم كله على تسبيح اللّه وحمده وعبادته بالقصد الأول ، وكان انتفاعنا بالأشياء بحكم التبعية ، فما من شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمد خالقه ، فلنفسه أوجده لأنه ما شغله إلا به ، وقال فيمن جعل فيه استعدادا يمكن أن يسعى به لنفسه ولغير اللّه ، فنبه أنه ما خلقهم إلا لعبادته فقال (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فكونهم ما فعل بعضهم ما خلق له ، لا يلزم منه بالقصد المذكور أنه خلق لما تصرف فيه ، ولذلك يسأل ويحاسب ، ومن ذلك نعلم أن كل مخلوق ما سوى الإنس والجان مفطورون على تعظيم الحق والتسبيح بحمده ، وكذلك أعضاء جسد الإنس والجان كلها ولكن لا على جهة التقريب وابتغاء المنزلة العظمى ، بل التسبيح لهم كالأنفاس من المتنفسين لما تستحقه الذات ، وهكذا يكون تسبيح الإنس والجان في الجنة والنار لا على طريق القربة ولا ينتج لهم قربة ، بل كل واحد منهم على مقام معلوم ، فتصير العبادة طبيعية تقتضيها حقائقهم ، ويرتفع التكليف ولا يتصور منهم مخالفة لأمر اللّه إذا ورد عليهم ، ولا يبقى هنالك نهي أصلا بعد قوله لأهل النار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وكلامنا إذا نزل الناس منازلهم في كل دار وغلقت الأبواب واستقرّت الداران بأهلها الذين هم أهلها ، وعلى ذلك فكل جزء من العالم مسبح للّه تعالى ، وكل شيء ينزه ربه من كافر وغير كافر ، فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة للّه ، ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله ، غير أن العالم لا يفقهون هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات ، فلم يبق كافر ولا مؤمن إلا وقد شملت تفاصيله هذه الآية ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، لأنهم لا يسمعون ولا يشهدون ، وعلماء الرسوم يخرجون هذا على أنه لسان حال ، وكذلك قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) فجعلوا هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا قول خطاب ، وهذا كله ليس بصحيح ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، ولو كان تسبيح حال كما يزعم بعض علماء النظر لم تكن فائدة في قوله «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» يريد بذلك التسبيح الثناء على اللّه لا للجزاء ، لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة ، وقد يعذر علماء

الرسوم فإن التسبيح هنا نسب إلى من لا ينسب إليه قول ولا نطق ، وهو التسبيح الذي لا يفقه ، وما قال لا يسمع ، إذ الكلام أو القول هو الذي من شأنه أن يتعلق به السمع ، والتسبيح لو كان قولا أو كلاما لنفى عنه سمعنا ، وإنما نفى عنه فقهنا وهو العلم ، والعلم قد يكون عن كلام وقول وقد لا يكون ، والتحقيق أن كل ما سوى اللّه حي ، فإنه ما من شيء إلا يسبح بحمده ، ولا يكون التسبيح إلا من حي عاقل عالم بمسبحه ، فإذا ما ثمّ إلا من يسبح اللّه بحمده ، ولا يسبحه إلا حي سواء كان ميتا أو غير ميت فإنه حي ، لأن الحياة للأشياء فيض من حياة الحق عليها ، فهي حية في حال ثبوتها ، ولولا حياتها ما سمعت قوله (كُنْ) بالكلام الذي يليق بجلاله فكانت ، وقوله تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» *والشيء أنكر النكرات ، وإن كان اللّه قد أخذ بأسماعنا عن تسبيح الجمادات والنبات والحيوان الذي لا يعقل كما أخذ بأبصارنا عن إدراك حياة الجماد والنبات ، إلا لمن خرق اللّه له العادة كرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومن حضره من أصحابه حين أسمعهم اللّه تسبيح الحصى ، فما كان خرق العادة في تسبيح الحصى وإنما انخرقت العادة في تعلق أسماعهم به ، روي في الصحيح أن الحصى سبح في كف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فجعل الناس خرق العادة في تسبيح الحصى ، وأخطئوا ، وإنما خرق العادة في سمع السامعين ذلك ، فإنه لم يزل مسبحا كما أخبر اللّه ، فالذي سمع السامع كونه سمع نطق ما لم تجر العادة أن يسمعه ، فقوله تعالى «يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» تسبيح نطق يليق بذلك الشيء لا تسبيح حال ، ولهذا قال «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» لاختلاف ما يسبحون به إلا لمن سمعه ، فهذا التسبيح لا يفقه بالنظر العقلي من جهة الفكر والنظر إلا أن يمنّ اللّه على بعض عباده بعلم ذلك ، فالكل ناطق وتقع العين على ناطق وصامت ، فالمؤمن يدرك ذلك إيمانا وصاحب الكشف يدرك الكيفية ، والكشف منحة من اللّه يمنحها اللّه من شاء من عباده ، فكل نطق في الوجود تسبيح وإن انطلق عليه اسم الذم ، وجاء بضمير الجمع في «تَفْقَهُونَ» وما يشير إليه هذا الضمير إنما هم الناس خاصة ، فجميع المخلوقات عبدوا اللّه إلا بعض الناس ، فالخلق عبد بالذات أثرت فيه العوارض ولا سيما الشخص الإنساني ، بل ما أثرت العوارض إلا في الشخص الإنساني وحده دون سائر الخلق ، وما سواه فعلى أصله من تنزيه خالقه عن الشريك «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً» فلم يعجل عليكم بالعقوبة ، وبإمهالكم حيث لم يؤاخذكم سريعا بما رددتم من ذلك وقلتم إنه تسبيح حال ، فإن اللّه ما خلق شيئا

من الكون إلا حيا ناطقا جمادا كان أو نباتا أو حيوانا في العالم الأعلى والأسفل ، فكل شيء من عالم الطبيعة جسم متغذ ، فهو حيوان ناطق بين جلي وخفي ، والكل حيوان ناطق مسبح بحمد اللّه تعالى ، ولما كان الأمر هكذا ، جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من الموجودات ، ووصفها بالطاعة لما أمرها به والإباية لقبول عرضه ، وأسجد له كل شيء ، لأنه تجلى لكل شيء وأوحى إلى كل شيء بما خاطب ذلك الشيء به ، تقول الجلود يوم القيامة (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)

فعمّت فكانت الجلود أعلم بالأمر ممن جعل النطق فصلا مقوما للإنسان خاصة ، وعرى غير الإنسان عن مجموع حده من الحيوانية والنطق ، فإن اللّه تعالى ما قال «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» إلا في معرض الرد على من يقول إنه تسبيح حال ، فإن العالم كله قد تساوى في الدلالة ، فمن يقول بتسبيح الحال فقد أكذب اللّه في قوله تعالى «لا تَفْقَهُونَ» ولذلك قال تعالى «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً» وأما قوله تعالى «غَفُوراً» حيث ستر عنكم تسبيح هؤلاء فلم تفقهوه ، فكان غفورا أي ساترا نطقهم عن أن تتعلق به الأسماع إلا لمن خرق اللّه له العادة ، ومن هذه الآية نعلم أن سر الحياة الإلهية سرى في جميع الموجودات فحييت بحياة الحق ، فمنها ما ظهرت حياتها لأبصارنا ومنها ما أخذ اللّه بأبصارنا عنها في الدنيا ، إلا الأنبياء وبعض أولياء اللّه فإنه كشف لهم عن حياة كل شيء ، ولسريان هذه الحياة في أعيان الموجودات نطقت كلها مسبحة بالثناء على موجدها ، وهذه الحياة وباقي الصفات نسب وإضافات وشهود حقائق ، فإن اللّه هو العلي الكبير عن الحلول والمحل ، وعن ذلك نزهته الأشياء في تسبيحها فإن التسبيح تنزيه ، فإن المولدات في عالم العناصر ثلاثة عوالم طبيعية ، ويسري في كل عالم مولد من هذه الثلاثة أرواح ، هي نفوس هذه المولدات ، بها تعلم خالقها ومنشئها ، وبها سرت الحياة فيها كلها ، وبها خاطبها الحق وكلفها ، وهو رسول الحق إليها وداع كل شخص منه إلى ربه ، فما بطنت حياته سمّي جمادا ونباتا ، وانفصل هذان المولدان ، وتميزوا بالنمو والغذاء ، فقيل في النامي منه نبات وفي غير النامي جماد ، وما ظهرت حياته وحسه سمي حيوانا ، والكل قد عمته الحياة ، فنطق بالثناء على خالقه من حيث لا نسمع ، وعلّمهم اللّه الأمور بالفطرة من حيث لا نعلم ، فلم يبق رطب ولا يابس ولا حار ولا بارد ولا جماد ولا نبات ولا حيوان إلا وهو مسبح للّه تعالى بلسان خاص بذلك الجنس ، فكل جسم في

[ الفرق بين روح التدبير وروح التسبيح ]

العالم مقيد بصورة روح إلهي يلازم تلك الصورة ، به تكون مسبحة للّه ، فمن الأرواح ما تكون مدبرة لتلك الصورة لكون الصورة تقبل تدبير الأرواح ، وهي كل صورة تتصف بالحياة الظاهرة والموت ، فإن لم تتصف بالحياة الظاهرة والموت فروحها روح تسبيح لا روح تدبير ، فما من صورة في العالم - وما العالم إلا صور - إلا وهي مسبحة خالقها بحمد مخصوص ألهمها إياه ، وما من صورة في العالم تفسد إلا وعين فسادها ظهور صورة أخرى في تلك الجواهر ، عينها مسبحة للّه تعالى حتى لا يخلو الكون كله عن تسبيح خالقه ، فتسبحه أعيان أجزاء تلك الصورة بما يليق بتلك الصورة ، والأرواح الجزئية متفاضلة بالعلم بالأشياء ، فمنهم من له علم بأشياء كثيرة ، ومنهم من لا يعلم إلا القليل ، ولا أعلم باللّه من أرواح الصور التي لاحظ لها في التدبير ، لكون الصورة لا تقبل ذلك وهي أرواح الجماد ، ودونهم في رتبة العلم باللّه أرواح النبات ودونهم في العلم باللّه أرواح الحيوان ، وكل واحد من هؤلاء مفطور على العلم باللّه والمعرفة به ، ولهذا ما لهم همّ إلا التسبيح بحمده تعالى ، ودون هؤلاء في العلم باللّه أرواح الإنس ، وأما الملائكة فهم والجمادات مفطورون على العلم باللّه لا عقول لهم ولا شهوة ، والحيوان مفطور على العلم باللّه وعلى الشهوة ، والإنس والجن مفطورون على الشهوة والمعارف من حيث صورهم لا من حيث أرواحهم ، وجعل اللّه لهم العقل ليردوا به الشهوة إلى الميزان الشرعي ويدفع عنهم به منازعة الشهوة في غير المحل المشروع لها ، لم يوجد اللّه لهم العقل لاقتناء العلوم ، والذي أعطاهم اللّه لاقتناء العلوم إنما هي القوة المفكرة ، فلذلك لم تفطر أرواحهم على المعارف كما فطرت أرواح الملائكة وما عدا الثقلين ، فإذا علمت هذا علمت أن العالم كله ما عدا الإنس والجان مستوفي الكشف لما غاب عن الإحساس البشري ، فلا يشاهد أحد من الإنس والجن ذلك الغيب إلا في وقت خرق العوائد لكرامة يكرمه اللّه بها ، كما أن كل جماد ونبات وحيوان في العالم كله ، وفي عالم الإنسان والجن وأجسام الملائكة والأفلاك ، وكل صورة يدبرها روح محسوسا كان ذلك التدبير فيمن ظهرت حياته أو غير محسوس فيمن بطنت حياته - كأعضاء الإنسان وجلوده وما أشبه ذلك - كل هؤلاء في محل كشف الغيوب الإلهية ، المستورة عن الأرواح المدبرة لهذه الأجسام من ملك وإنس وجن لا غير ، فإنها محجوبة عن إدراك هذا الغيب الإلهي ، وهو من الغيوب الإلهية فيجهل كل روح مثل هذا إلا أن يعرفه اللّه به إلا من ذكرناهم ، فإنهم يعرفونه بالفطرة التي فطرهم

اللّه عليها . واعلم أن الكشف لا سبيل إلى حصوله إلا بعناية أزلية تعطيك استعدادا تاما لقبوله ، برياضات نفسية ومجاهدات بدنية وتخلق بأسماء إلهية ، وتحقق بأرواح طاهرة ملكية وتطهير بطهارة شرعية مشروعة لا معقولة ، وعدم تعلق بأكوان وتفريغ محل عن جميع الأغيار ، لأن الحق ما اصطفى لنفسه منك إلا قلبك حين نوّره بالإيمان فوسع جلال الحق ، فعاين من هذه صفته الممكنات بعين الحق ، فكانت له مشهودة وإن لم تكن موجودة ، فما هي له مفقودة ، وقد كشف لبصيرته بل لبصره وبصيرته نور الإيمان حين انبسط على أعين الممكنات أنها في حال عدمها مرئية رائية مسموعة سامعة برؤية ثبوتية وسمع ثبوتي لا وجود له ، فعيّن الحق ما شاء من تلك الأعيان ، فوجه عليه دون غيره من أمثاله قوله المعبر عنه باللسان العربي المترجم بكن ، فأسمعه أمره ، فبادر المأمور فتكون عن كلمته ، لا بل كان عين كلمته ، ولم تزل الممكنات في حال عدمها الأزلي لها تعرف الواجب الوجود لذاته وتسبحه وتمجده بتسبيح أزلي وتمجيد قديم ذاتي ولا عين لها موجودة ولا حكم لها مفقود ، فإذا كان حال الممكنات كلها على ما ذكرناه من هذه الصفات التي لا هل معها ، فكيف تكون في حال وجودها وظهورها لنفسها ، جمادا لا ينطق ؟ أو نباتا بتعظيم خالقه لا يتحقق ؟

أو حيوانا بحاله لا يصدق ؟ أو إنسانا بربه لا يتعلق ؟ هذا محال ، فلا بد أن يكون كل ما في الوجود من ممكن موجود يسبح اللّه بحمده بلسان لا يفقه ، ولحن ما إليه كل أحد يتنبه ، فيسمعه أهل الكشف شهادة ، ويقبله المؤمن إيمانا وعبادة ، فقال تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» فجاء باسم الحجاب والستر ، وهو قوله غفورا ، وجاء بالاسم الذي يقتضي تأخير المؤاخذة إلى الآجل وعدم حكمها في العاجل ، وهو الحليم ، لما علم أن في عباده من حرم الكشف والإيمان ، وهم العقلاء عبيد الأفكار ، والواقفون مع الاعتبار ، فجازوا من الظاهر إلى الباطن مفارقين الظاهر ، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان ، لما حجب اللّه أعينهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها ، ولا رزقوا إيمانا في قلوبهم يكون له نور يسعى بين أيديهم .

وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من الأولياء ، فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلى الباطن ، وبالحرف عينه إلى المعنى ، ما عبروا عنه ، فرأوا الأمور بالعينين ، وشهدوا بنور إيمانهم النجدين ، فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوا ، ولا جحدوا ما تيقنوه ، فأسمعهم اللّه نطق

الموجودات ، لا بل نطق الممكنات قبل وجودها ، فإنها حية ناطقة درّاكة بحياة ثبوتية ونطق ثبوتي ، إذ كانت في أنفسها أشياء ثبوتية ، فلما قبلت الوجود قبلته بجميع نعوتها وصفاتها - وليس نعتها سوى عينها - فهي في حال شيئية وجودية حية بحياة وجودية ناطقة بنطق وجوديّ درّاكة بإدراك وجودي ، فلو لا أن اللّه أسرى بسر الحياة في الموجودات ما كانت ناطقة ، ولولا سريان العلم فيها ما كانت ناطقة بالثناء على اللّه موجدها ، ولهذا قال «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» فأتى بلفظ النكرة وما خص شيئا ثابتا من شيء موجود ، لأنها قبلت شيئية الوجود على الحال التي كانت عليها في شيئية الثبوت ، إلا أن اللّه أخذ بأبصار بعض عباده عن إدراك هذه الحياة السارية والنطق والإدراك الساري في جميع الموجودات ، كما أخذ اللّه ببصائر أهل العقول والأفكار عن إدراك ما ذكرناه في جميع الموجودات وفي جميع الممكنات ، وأهل الكشف والإيمان على علم مما هو الأمر عليه في هذه الأعيان في حال عدمها ووجودها ، فمن ظهرت حياته سمي حيا ومن بطنت حياته فلم تظهر لكل عين سمي نباتا وجمادا ، فانقسم عند المحجوبين الأمر وعند أهل الكشف والإيمان لم ينقسم ، فأما أصحاب الكشف والشهود أهل الاختصاص فقد أعطاهم الشهود ، وما أعطى المحجوبين شهودهم ، فيقول أهل الشهود : سمعنا ورأينا . ويقول المحجوبون : ما سمعنا ولا رأينا .

ويقول أهل الإيمان : آمنا وصدقنا ، قال تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» وشيء نكرة وقال) لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)

فذكر الجماد والنبات والحيوان الذين وقع فيهم الخلاف بين المحجوبين من أهل العقول والأفكار وبين أهل الشهود والإيمان ، وغير ذلك من الآيات القرآنية ،

وقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : [ يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس ] وقال في أحد : [ هذا جبل يحبنا ونحبه ]

وقال : [ إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ]

ثم أنه قد صح أن الحصى سبح في كفه ، وصح حنين الجذع إليه ، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة ، فكل شيء حي مسبح بحمد اللّه ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فاللّه تعالى يرزقنا الإيمان إذا لم نكن من أهل العيان والكشف والشهود لهذه الأمور ، التي أعمى اللّه عنها أهل العقول الذين تعبدتهم أفكارهم وغير المؤمنين الذين طمس اللّه على قلوبهم ، فمن علم أن كل شيء ناطق ناظر إلى ربه لزمه الحياء من كل شيء ، حتى من نفسه

[ دور العقل في الإنس والجن ]

وجوارحه ، فكل شيء في العالم يقال فيه عند أهل النظر وفي العامة إنه ليس بحي ولا حيوان ، فإن اللّه عندنا قد فطره لمّا خلقه على المعرفة به والعلم ، وهو حي ناطق بتسبيح ربه ، يدركه المؤمن بإيمانه ويدركه أهل الكشف عينا ، وأما الحيوان ففطره اللّه على العلم به تعالى ونطّقه بتسبيحه ، وجعل له شهوة لم تكن لغيره من المخلوقات ، وفطر الملائكة على المعرفة والإرادة لا الشهوة ، وفطر الجن والإنس على المعرفة والشهوة - وهو تعلق خاص في الإرادة - لأن الشهوة إرادة طبيعية ، فليس للإنس والجن إرادة إلهية كما للملائكة بل إرادة طبيعية تسمى شهوة ، وفطرهما على العقل لا لاكتساب العلم ، ولكن جعله اللّه آلة للإنس والجن ليردعوا به الشهوة في هذه الدار خاصة لا في الدار الآخرة ، فإذا استفاد الإنسان أو الجان علما من غير كشف فإن ذلك مما جعل اللّه فيه من قوة الفكر ، فكل ما أعطاه الفكر للنفس الناطقة وكان علما في نفس الأمر فهو من الفكر بالموافقة ، فالعلوم التي في الإنسان إنما هي بالفطرة والضرورة والإلهام ، والكشف الذي يكون له إنما يكشف له عن العلم الذي فطره اللّه عليه ، فيرى معلومه وأما بالفكر فمحال الوصول به إلى العلم ، وأما الإلهام والإعلام الإلهي فتتلقاه النفس الناطقة من ربها كشفا وذوقا من الوجه الخاص الذي لها ولكل موجود سوى اللّه ، فالفكر الصحيح لا يزيد على الإمكان وما يعطي إلا هو ، ومن علم البهائم باللّه ولما خلقت له ،

ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن بقرة في زمن بني إسرائيل حمل عليها صاحبها ، فقالت : ما خلقت لهذا ، وإنما خلقت للحرث ، فقال الصحابة : أبقرة تكلم ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر ]

ومر بعض أهل اللّه على رجل راكب على حمار وهو يضرب رأس الحمار حتى يسرع في المشي ، فقال له الرجل : لم تضرب على رأس الحمار ؟

فقال له الحمار : دعه فإنه على رأسه يضرب . فهذا حمار قد علم ما تؤول إليه الأمور بالفطرة ، وكان ابن عطاء راكبا على جمل فغاصت رجل الجمل ، فقال ابن عطاء اللّه : جل اللّه ، فقال الجمل : جل اللّه يزيد على إجلالك . فكان الجمل أعلم باللّه من ابن عطاء ، فاستحى ابن عطاء ، فهذه البهائم تعرفك وتعرف ما يؤول إليه أمرك ، وتعرف ما خلقت له ، وأنت جهلت هذا كله مع قول اللّه تعالى لك (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فانظر يا محجوب أين مرتبتك من البهائم ؟ فكم بيّن اللّه لنا ما هي المخلوقات عليه من العلم باللّه والطاعة له والقيام بحقه ولا نؤمن ولا نسمع ، ورجحنا حسّنا على الإيمان بما عرّفنا به

ربنا ، لما لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ، فكل ما سوى اللّه مسبح بحمد اللّه ، وقد وردت الأخبار بحياة كل رطب ويابس وجماد ونبات وأرض وسماء ، وهنا وقع الخلاف بين أهل الكشف والإيمان وبين من لا يقول بالشرائع أو من يتأول الشرائع على غير ما جاءت له ، فيقولون إنه تسبيح حال ، وأما ما أدرك الحس حياته فلا خلاف في حياته ، وإنما الخلاف في سبب حياته ما هو ؟

وفي تسبيحه بحمد ربه لما ذا يرجع ؟

إذ لا يكون التسبيح إلا من حي عاقل يعقل ذلك ، وما عدا الإنسان والجن من الحيوان ليس بعاقل عند المخالف ، بخلاف ما يعتقده أهل الكشف والإيمان الصحيح ، فيدرك المكاشف الحياة الذاتية التي في الأجسام ، وهي صفة نفسية لها بها تسبح ربها دائما ، سواء كانت أرواحها المدبرة فيها أو لم تكن ، فالحياة الذاتية لكل جوهر فيه غير زائلة ، وبتلك الحياة الذاتية التي أخذ اللّه بأبصار بعض الخلق عنها ، بها تشهد الجلود يوم القيامة على الناس والألسنة والأيدي والأرجل ، وبها تنطق فخذ الرجل في آخر الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ، وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ، وإنما كانت هذه الحياة في الأشياء ذاتية لأنها عن التجلي الإلهي للموجودات كلها ، لأنه خلقها لعبادته ومعرفته ، ودوام التجلي أعطاها الحياة الذاتية الدائمة ، وبهذه الحياة يسبح كل شيء ، فالعالم كله - الذي هو عبارة عن كل ما سوى اللّه - حيوان ناطق ، لكن تختلف أجسامه وأغذيته وحسه ، فهو الظاهر بالصورة الحيوانية وهو الباطن بالحياة الذاتية ، فأنطق الحق العالم كله بالتسبيح بحمده بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ، وكل موجود من الأجسام له لطيفة روحانية إلهية تنظر إليه من حيث صورته لا بد من ذلك ، والتسبيح تنزيه ما هو ثناء بأمر ثبوتي ، لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو أهل له ، وما هو له لا يقع فيه المشاركة ، وما أثني عليه إلا بأسمائه ، وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إلا وللعبد التخلق به والاتصاف به على قدر ما ينبغي له ، فلما لم يتمكن في العالم أن يثني عليه بما هو أهله ، جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ، ولهذا أضاف الحمد إليه فقال «يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ، وليس إلا التسبيح ، فإنه سبحانه يقول (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي لا يكون إلا له (عَمَّا يَصِفُونَ) وكل مثن واصف ، فذكر سبحانه تسبيحه في كل حال ومن كل عين ، فقال (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ

وَمَنْ فِيهِنَّ) وما ثم إلا هؤلاء ، ولما كان الأمر بالثناء على اللّه على ما قررناه لم يتمكن لنا أن نستنبط له ثناء ، فإن كان التسبيح ثناء ، فقد قيد ثناء كل موجود في العالم بقوله تعالى «بحمده» فقيد تسبيح كل شيء بحمده المضاف إليه ، أي الثناء الذي أثنى به على نفسه ، وهو الذي أنزله من عنده ، في كتبه وعلى ألسنة رسله ، على حد ما يعلمه هو لا على حد ما نفهمه ، فإنه تعالى نبّه بقوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» إلا هذا الإنسان فإن بعضه يسبحه بغير حمده ، فنحن نكون في الثناء عليه بما أثنى به على نفسه حاكين تالين ، لأن الثناء على المثنى عليه مجهول الذات ، لا يقبل الحدود والرسوم ، ولا يدخل تحت الكيفية ، ولا يعرف كما هو عليه في نفسه ، وهو الغني عن العالمين ، فلا تدل على المعرفة به الدلالات ، وإنما تدل على استنادنا إليه من حيث لا يشبهنا أو لا يقبل وصفنا ، وما من اسم إلهي إلا ونتصف به ، فما تلك هي المعرفة المقصودة التي يعلم بها نفسه ، فشرع التسبيح وفطر عليه كل شيء ، وهو نفي عن كل وصف لا إثبات ، فالتسبيح تنزيه ونفي لا إثبات ، والثناء على اللّه بالتسبيح لا تكل به الألسنة ، وهو تسبيح كل ما سوانا ، أي الأنفس الناطقة ، فإنا لا نفقه تسبيحهم إلا إذا أعلمنا به ، فالمحامد لا تقف عند حد ، والمسبّح لا يسبحه إلا بحمده ، بخلاف الثناء بالأسماء ، فإن الألسنة (أي ألسنة الأنفس الناطقة) تكل وتعيا وتقف فيها ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم خاتما عند الإعياء والحصر [ لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] ، وتتبعنا الكتاب والسنّة في التسبيح إذا سبح به المسبح - أعني بلفظه الخاص به الدال عليه - فوجدناه أنه لا بد أن يقيد باسم من الأسماء الإلهية الظاهرة أو المضمرة والمضافة والمطلقة ، فطلبنا هذه الأسماء فوجدناها تدور على اللّه ، والرب المضاف ، والاسم الناقص ، والاسم المضمر كالهاء ، والملك والعلي ، فاللّه يقول (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) والرب قوله (سُبْحانَ رَبِّكَ) والاسم الناقص (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)

والمضمر قوله (سبحانه وتعالى) والملك مثل الذي ورد في السنة (سبحان الملك القدوس) والعلي كما ورد في السنة (سبحان العلي الأعلى)

وقد ورد من غير تقييد في السنة مثل قول (سبوح) وهذا ذكر المذكور ، ونتيجته أعظم النتائج ، لأنه كناية عن عين المسبّح بالتسبيح ، فاسمه هنا عينه ، وهذا أكمل تسبيح العارفين ، لأنه غاب عن الاسم فيه بالمسمّى ، ولما كان التسبيح بحمده قربة به،

فقال في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ سبحان اللّه والحمد للّه أنهما يملآن أو يملآ ما بين

السماء والأرض ] وأراد قوله : سبحان اللّه وبحمده ، فإن الحمد للّه تملأ الميزان ، فإنها آخر ما يجعل في الميزان فبها يمتلئ ، فالعارف من سبح اللّه بما أثنى به على نفسه وما استنبط شيئا ، ولهذا قال تعالى : «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» فدل على أن كل شيء يسبح إلهه بما تقرر عنده منه مما ليس عند الآخر ، فلو كان تسبيحهم راجعا إلى أمر واحد لم يجهل أحد تسبيح غيره ، وفي ذلك إشارة إلى الذين استنبطوا الثناء عليه تعالى بعقولهم فنسوا قوله تعالى «بحمده» فحجبهم عن ذلك أدلة عقولهم ، إذ ستر اللّه عنها ذلك بستر أفكارهم فلم يؤاخذهم على ذلك لقوله : «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً» فلم يؤاخذ مع القدرة على ما تركتم من الثناء عليه بما أثنى به على نفسه ، ولم يعجل عليكم بالعقوبة فيمن يزعم أنه على وصف كذا خاصة وما هو على وصف كذا ، فكان حليما مع ما في ذلك من سوء الأدب منكم «غَفُوراً» بما ستره عنكم من علم ذلك ممن هو بهذه المثابة ، فوصف نفسه تعالى في آخر هذه الآية بأنه غفور لما ستر به قلوبهم عن العلم به إلا من شاء من عباده ، فإنه أعطاه العلم به على الإجمال ، فإذا أراد العبد نجاة نفسه وتحصيل أسباب سعادته ، فلا يحمد اللّه إلا بحمده ، كان ما كان ، على علم اللّه في ذلك من غير تعيين ، فإذا قام فضول بالإنسان واستنبط له ثناء لم يجئ بذلك اللفظ خطاب إلهي فما سبحه بحمده بل بما استنبطه من عنده ، فينقص عن درجة ما ينبغي ، فقل ما قاله عن نفسه ولا تزد في الرقم وإن كان حسنا تكن من أهل الحق ، فإن اللّه خلق العالم للتسبيح بحمده لا لأمر آخر ، فالعالم لا يفتر عن التسبيح طرفة عين لأن تسبيحه ذاتي كالنفس للمتنفس ، وهذه الآية إخبار من الحق عن الأشياء أنها تنزه بحمده أي بالثناء عليه ، والتنزيه البعد ، وما ذكر اللّه أنه أمرهم بتسبيحه ، بل أخبر أنهم يسبحون بحمده ، فاجعل بالك لقول اللّه في تلاوتك لما يقول ربك عن نفسه وما يقوله العالم عنه ، وفرّق ، ولا تحتج فيه إلا بما قاله عن نفسه لا بما يحكيه من قول العالم فيه ، تكن من أهل القرآن الذين هم أهل اللّه وخاصته - نصيحة - لما كان المؤمن لا يشك في أن كل شيء مسبح ، وكل مسبح حي عقلا ، فإن أهل الورع يتورعون عن صيد الحيوان كما يفعل الملوك ومن لا حاجة له بذلك ، للفرجة واللهو واللعب ، فقد ورد أن العصفور يأتي يوم القيامة فيقول : يا رب سل هذا لم قتلني عبثا ؟ وكذلك من يقطع شجرة لغير منفعة أو ينقل حجرا لغير فائدة تعود على أحد من خلق اللّه .


المراجع:

(44) الفتوحات ج 3 / 555 - ج 4 / 213 - ج 3 / 209 - ج 2 / 117 - ج 3 / 148 - كتاب المسائل - كتاب الشأن - الفتوحات ج 3 / 93">437 - ج 4 / 213 - ج 2 / 218 - ج 4 / 94 - ج 2 / 218 - ج 3 / 120 - ج 2 / 247">2475">451">688 ، 247">247 - ج 1 / 429 - ج 3 / 333 - ج 1 / 59 - ج 2 / 93">330 ، 400 - ج 1 / 381">381 ، 147 - ج 4 / 298 - ج 1 / 381">381 - ج 4 / 247">2475">451 - ج 1 / 398">398 - كتاب عقلة المستوفز - الفتوحات ج 4 / 404 - ج 3 / 355 ، 393 - ج 1 / 247">247 ، 398">398 - ج 3 / 393 - ج 1 / 398">398 ، 247">247 ، 398">398 - كتاب المسائل - الفتوحات ج 3 / 557 ، 99 - ج 2 / 682 - ج 3 / 99 - ج 2 / 682 - ج 3 / 257 ، 263 ، 257 ، 489 ، 65 ، 148 - ج 2 / 504 - ج 3 / 148 - ج 2 / 404 - ج 4 / 91 - ج 3 / 375 ، 148 ، 375 ، 148 - ج 4 / 93 - ج 3 / 148 - ج 4 / 94 - ج 2 / 404 ، 510 ، 404 - ج 3 / 375 - ج 2 / 510 ، 404 - ج 3 / 375 - ج 2 / 510 - ج 3 / 375 ، 385 ، 147 - ج 2 / 510 - ج 1 / 247">247

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Please note that some contents are translated Semi-Automatically!