موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


38- القصيدة الثامنة والثلاثين وهي أربعة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

أَحَبُّ بِلَادِ الله لِي، بَعْدَ طَيْبَة

***

وَمَكَّة وَالْأَقْصَـى، مَدِينَة بَغْدَانِ

2

وَمَا لِيَ لَا أَهْوَى السَّلَامَ، وَلِي بِهَ

***

إِمَامُ هُدَى دِينِي وَعَقْدِي وَإِيمَانِي

3

وَقَدْ سَكَنَتْهَا مِنْ بُنَيَّاتِ فَارِسٍ

***

لَطِيفَة إِيمَاءٍ مَرِيضَة أَجْفَانِ

4

تُحَيِّي فَتُحْيِي مَنْ أَمَاتَتْ بِلَحْظِهَ

***

فَجَاءَتْ بِحُسْنَى بَعْدَ حُسْنٍ وَإِحْسَانِ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

أَحَبُّ بِلَادِ الله لِي، بَعْدَ طَيْبَة

***

وَمَكَّة وَالْأَقْصَـى، مَدِينَة بَغْدَانِ

2

وَمَا لِيَ لَا أَهْوَى السَّلَامَ، وَلِي بِهَ

***

إِمَامُ هُدَى دِينِي وَعَقْدِي وَإِيمَانِي

يقول: "أَحبّ" المواطن إليّ، بعد الموطن الذي لا مُقام فيه، وهو اليثربي الذي يكون منه الرجوع بالعجز عن الوصول أصلا لتحقق المعرفة بالجناب الأعز، وهو قول الصدِّيق الأكبر: «العجز عن درك الإدراك إدراك» فما رأى شيئا عند ذلك إلا ورأى الله قبله، والموطن الآخر: موطن البيت الإلهي، المتوجَّه إليه من كلِّ وجه، وهو القلب الكامل الذي وسع الحق، والموطن الثالث الأبعد الذي هو مقام التقديس والتنزيه، يقول: أحبُّ موطنٍ إليّ بعد هذه المواطن كلِّها موطن الإمام، الخليفة على كافة الأنام، الذي هو مرتبة القطب، وذلك لكمال ظهور صورة الحضرة الإلهية فيه من تقييد الأوامر الإلهية، بالبسط والقبض، والحياة والموت، والأمر والنهي.

وأما قوله: "وما لي لا أهوى السّلام"، أراد "مدينة السلام"، فإنّ الله يدعو إلى دار السلام، والله الهادي إليها، والسّلام اسمه تعالى، والعقل والدين والإيمان متعلِّق به، فما لي لا أهواه! ولي به هذه الأمور كلها، ولكن لابدَّ من تقدم هذه المراتب الثلاث، إذ لا يصح وصولٌ من غير سلوك، فإنه لا وصول.

شرح البيتين الثالث والرابع:

ثم قال:

3

وَقَدْ سَكَنَتْهَا مِنْ بُنَيَّاتِ فَارِسٍ

***

لَطِيفَة إِيمَاءٍ مَرِيضَة أَجْفَانِ

4

تُحَيِّي فَتُحْيِي مَنْ أَمَاتَتْ بِلَحْظِهَ

***

فَجَاءَتْ بِحُسْنَى بَعْدَ حُسْنٍ وَإِحْسَانِ

يقول: وهذه الحضرة القطبية الإمامية، حضرة التصريف والتدبير، وبها يظهر عالم التدوين والتسطير والتمليك والتسخير، قد سَكَنَتْها، أي فيها حِكمة عجيبة: يريد موسوية وعيسوية وإبراهيمية، وكلّ ما تعلق بذلك الفن من نبي عجمي.

وقوله: "لطيفة إيماء"، يريد ضعيفة الإشارة. وقوله: "مريضة أجفان"، يقول: معشوقةَ المنظر، فيها حنان ورقَّة وتعطُّف، فيرجو الكَلَف بها أن ينال مقصوده منها، لِما هي عليه من الحنان، ولهذا قال: "تحيّي"، أي تسلِّم، "فتحيي"، بسلامها، من أماته النظر إليها - عندما لحظته - هيبةً وجلالاً.

وقوله: "فجاءت بحسنى بعد حسن وإحسان"، كما قال (رسول الله صلى الله عليه وسلم) لجبريل عليه السلام إنّ الإحسان «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، وهذا مقام، وإحسان آخر دونه: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [البخاري: 50]، فإلى هذا هي الإشارة بقوله: "بحسنى بعد حسنٍ"، وأما قوله "وإحسان": هو ما يهبك هذا التجلي الامتناني، من لطائف المعارف، وشواهد هذه الفرائد، ولآلئ الأسرار، وجواهر العلوم.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!