موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


39- القصيدة التاسعة والثلاثين وهي ثمانية أبيات من البحر البسيط

وقال رضي الله عنه:

1

نَفْسِـي الْفِدَاءُ لِبِيضٍ خُرَّدٍ عُرُبٍ

***

لَعِبْنَ بِي عِنْدَ لَثْمِ الرُّكْنِ وَالْحَجَرِ

2

مَا تَسْتَدِلُّ، إِذَا مَا تُهْتَ خَلْفَهُمُ

***

إِلَّا بِرِيحِهِمُ مِنْ طَيِّبِ الْأَثَرِ

3

وَلَا دَجَا بِيَ لَيْلٌ مَا بِهِ قَمَرٌ

***

إِلَّا ذَكَرْتُهُمُ فَسِـرْتُ فِي الْقَمَرِ

4

وَإِنَّمَا حِينَ أُمْسِـي فِي رِكَابِهِمُ

***

فَالْلَّيْلُ عِنْدِيَ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي الْبُكَرِ

5

غَازَلْتُ مِنْ غَزَلِي مِنْهُنَّ وَاحِدَة

***

حَسْنَاءَ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ مِنَ الْبَشَـرِ

6

إِنْ أَسْفَرَتْ عَنْ مُحَيَّاهَا أَرَتْكَ سَناً

***

مِثْلَ الْغَزَالَة إِشْرَاقاً بِلَا غَبَرِ

7

لِلشَّمْسِ غُرَّتُهَا، لِلَّيْلِ طُرَّتُهَ

***

شَمْسٌ وَلَيْلٌ مَعاً مِنْ أَعْجَبِ الصُّوَرِ

8

فَنَحْنُ بِالْلَّيْلِ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ بِهَا؛

***

وَنَحْنُ فِي الظُّهْرِ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّعَرِ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

نَفْسِـي الْفِدَاءُ لِبِيضٍ خُرَّدٍ عُرُبٍ

***

لَعِبْنَ بِي عِنْدَ لَثْمِ الرُّكْنِ وَالْحَجَرِ

2

مَا تَسْتَدِلُّ، إِذَا مَا تُهْتَ خَلْفَهُمُ

***

إِلَّا بِرِيحِهِمُ مِنْ طَيِّبِ الْأَثَرِ

يقول: عند المبايعة الإلهية، ظهر لي علوم في صورة متجسِّدة في عالَم التمثُّل، حسانٌ تبيِّنعن أنفسها بمعلوماتها، ولكن من مقام الإيمان لا من حيث العقل، ولذلك جعله "خرَّدا"، أي حييّات، وقوله: "ما تستدل"، أي ما تجد دليلا، إذا جئت في طلبهم، إل بما تركوه من آثارهم الطيِّبَة في قلوب العارفين الحاملين لهذه العلوم، فإنّ المعاني إذا قامت بشيء أوجبت له حُكمها. ووصف الطالبين لها بـ"التيه" الذي هو مقام الحيرة، لعلوِّها، وعزة ادراكها.

شرح البيت الثالث:

ثم قال:

3

وَلَا دَجَا بِيَ لَيْلٌ مَا بِهِ قَمَرٌ

***

إِلَّا ذَكَرْتُهُمُ فَسِـرْتُ فِي الْقَمَرِ

يقول: "ولا دجى بي ليل" جهالةٍ وذكرتُهم إلا أقمر ليلُ جهالتي، هذا حال سلوك، وقد يقول: "ولا دجى بي ليلٌ" حيرةً وتيهاً إلا فكان ذكري إياهم سببٌ لإزالة ذلك التيه والحيرة، لوقوفي بهم على حقائق الأمر على ما هو عليه ذلك الأمر.

شرح البيت الرابع:

4

وَإِنَّمَا حِينَ أُمْسِـي فِي رِكَابِهِمُ

***

فَالْلَّيْلُ عِنْدِيَ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي الْبُكَرِ

يقول: "وإنما حين أمسي" صحبةَ هذه العلوم، فلا جهلَ يعتريني، ولا حيرة، وتكون حيرتي مثل الشمس، أي تُظهر علوماً ومعارف.

وقوله "في البكَر": أي معها راحة، فإنّ الشمس في الظهيرة لا يُستطاع المشي إليها، لشدة حرها، فتكون المشتاق عند ذلك، فلهذا قيد بالبكر.

شرح البيت الخامس:

5

غَازَلْتُ مِنْ غَزَلِي مِنْهُنَّ وَاحِدَة

***

حَسْنَاءَ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ مِنَ الْبَشَـرِ

يقول: تعشَّقتُ من هذه المعارف بمعرفة واحدة علوية ذاتية، من مقام المشاهدة، ما لها مَثَل ولا شَبَه، كما قال (تعالى): ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]. وقوله: "من غزلي"، أي الحب صفة لازمة لي. وقوله: "واحدة "، إشارة إلى عين التوحيد.

شرح الأبيات السادس والسابع والثامن:

6

إِنْ أَسْفَرَتْ عَنْ مُحَيَّاهَا أَرَتْكَ سَناً

***

مِثْلَ الْغَزَالَة إِشْرَاقاً بِلَا غَبَرِ

7

لِلشَّمْسِ غُرَّتُهَا، لِلَّيْلِ طُرَّتُهَ

***

شَمْسٌ وَلَيْلٌ مَعاً مِنْ أَعْجَبِ الصُّوَرِ

8

فَنَحْنُ بِالْلَّيْلِ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ بِهَا؛

***

وَنَحْنُ فِي الظُّهْرِ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّعَرِ

يقول: إذا أزالت الحجب التي بينك وبينها ظهرت لك سبحات كالشمس صحواً، ل يعتريها سحاب، كما قال عليه السلام: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» [مسلم: 183].

وقوله: "للشمس غرتها ولليل طرتها" هو ما تحمله من علوم الشعور، أي علوم الرمز والإخفاء، مثل أحاديث التشبيه وغير ذلك. وقوله: "شمس وليل معا من أعجب الصور"، يقال: الجمع بين الضدين لا يًتصَوَّر عقلا، وها قد تُصوِّر، وهو عجب، كم قال أبو سعيد الخرّاز (توفي سنة 277 ه) وقيل له: "بم عرفت ربك؟" فقال: "بجمعه بين الضدين"، بقوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ﴾ [الحديد: 3]، من وجهٍ واحدٍ لا من جهتين مختلفتين، كما يقول صاحب علم النظر الواقف مع عقله المتحكِّم على الحقِّ بدليله (أنَّ الأوليَّة من وجه والآخرية من وجه آخر، والظاهر من وجه والباطن من وجه آخر، فهذا هو حكم العقل على الأكوان)، هيهات وأين الألوهية من الكون، وأين المحدَث من حضرة العين، كيف يدرِك مَن له شَبَهٌ مَن ل شَبَهَ له، للعقل عقلٌ مثله، وليس للحقِّ حقٌّ مثله؛ محالٌ وجود ذاتين وإلهين، (بل الحقُّ) لا يشبه شيئا ولا يتقيد بشيء، ولا يُحكم عليه بشيء، بل ما يُضاف إليه إل بقدر ما تمس حاجة الممكن المقيَّد إليه غير ذلك، من التمسهبعقله فما عرفه، كيف يُلتمسُ بأمرٍ هو خلقهعاجزاً فقيراً مستمداً، تعالى الله عن إدراك المدرِكين علوًّا كبيرا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180]، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

وقوله: "فنحن في الليل في ضوء النهار به"، البيت بكماله، يقول: غيبهشهادة وشهادته غيبٌفي نفس الأمر، نظراً إليه، لا إلى عقلك، ولا إلى إضافتك، ولا نسبك، وقد أشار (ابن قَسِيّ) صاحب الخلعإلى شيء من هذا في قوله: "أي اسم أخذته من الأسماء كان مسمى بجميع الأسماء"،وسببُ ذلك توحيد العين،وعدم التشبيه بالكون، وهذا مشهد عزيز لا يناله إلا الأعِزَّاء من عباده المتوحدين به، الذين لا نظر لأنفسهم إلا بعينه، والمغيَّب كونهم في كونه، الموجودله لا لهم، حينئذ إن كنتبهذه المثابة عرفتَ ما أقول، فلا تطلب بالعقول، ما لا يصح إليه الوصول.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!