المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
مشرع الخصوص إلى معاني النصوص
للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي
وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
النص الأول
قال رضي اللّه عنه : [ نص شريف ، هو أول النصوص الواجب تقديمه ] .
النص : لغة الخالص ، والمراد هنا ما يختص بذوق المقام الأكمل الأجمع ، المطابق لما يعلمه اللّه تعالى في أعلى درجات علمه ، وأتمها وأكملها على ما بينه الشيخ رضي اللّه عنه في المتن في التفريع الثالث من تفاريع النصوص الثلاثة الأول ، سمي به ؛ لأنه لا يقبل التفسير والتأويل بوجه من الوجوه شرفه باعتبار شرف معلومه ، وهو المطلق الشامل للكل مع غنائه عن الكل ، وإنما كان أول النصوص ؛ لأنه يبحث فيه عن أول الاعتبارات ، وهو الإطلاق والذاتي ، وإنما وجب تقديمه ؛ لأنه يبحث فيه عن موضوع العلم الذي هو الوجود المطلق ، وهو من مقدمات الشروع في العلم على وجه يتميز به تميزا ذاتيّا كاملا ومسائلة مبنية عليه ، وهي حمل أعراضه الذاتية عليه ، أو على أنواعه أو أعراضه الذاتية أو أنواعها ، ولم يتعرض لتعريف العلم ، وهو أنه العلم الباحث عن أحوال الوجود من حيث هو ، ومن حيث ظهوره في المظاهر وغيرها ، مع أن التعريف يفيد بالتمييز الذهني اكتفاء بالتمييز في الواقع الحاصل من تمايز الموضوعات ، وكذا لم يتعرض لغايته لظهورها من ذكر الموضوع ؛ لأنه لما كان أعم الأشياء وأعلاها ، وكان البحث عنها بحثا عن الموجودات كلها على وجه الكشف واليقين ، فمعلوم ما يفيده من السعادة العظمى والدرجة الكبرى التي لا نهاية لها .
قال رضي اللّه عنه : [ اعلم أن الحق من حيث إطلاقه الذاتي لا يصح أن يحكم عليه بحكم ، أو يعرف بوصف ، أو يضاف إليه نسبة ما ، من وحدة ، أو وجوب وجود ، أو مبدئية ، أو اقتضاء إيجاد ، أو صدور أثر ، أو تعلق علم منه بنفسه أو غيره ؛ لأن كل ذلك يقضي بالتعين
........................................................
( 1 ) رواه البخاري ( 4 / 1825 ) ، ومسلم ( 4 / 1762 ) ، والنسائي في الكبرى ( 4 / 457 ) .
والتقيد ، ولا ريب في أن تعقل كل تعين يقضي بسبق اللا تعيّن عليه ، فكل ما ذكرناه ينافي الإطلاق ] .
الحق : لغة الثابت سمي به الوجود المطلق ؛ لأن ثبوته لذاته وثبوت غيره به ، فالوجود هو الثابت من كل وجه ، وغيره ليس بثابت من حيث ذاته ؛ وإنما ثبوته بالغير ومنع الحكم عليه من حيث الإطلاق الذاتي ، مع أنه هو محكوم عليه بجميع الأحكام ؛ لأن ذلك من حيث تعيناته المتعددة المختلفة وغيرها ، والاعتبار للتعين في الإطلاق ، وقيد بالذاتي احترازا عن إطلاق التعين الأول عن الأسماء ؛ لأنه من حيث التعين الأول محكوم عليه بالوحدة ، والتعين ، والعلم بالذات ، ووجوب الوجود .
فإن قيل : قد حكم عليه بأنه لا يحكم عليه ، وهل هو إلا تناقض ، ويحكم عليه بأنه لا يتقيد ويوصف بالإطلاق .
قلنا : المراد هذا المتعين قبل تعينه لا يحكم عليه بذلك ، فإذا تعين وتعلق العلم به ، حكم عليه بأنه لم يكن محكوما عليه حينئذ ، ولا مقيد أولا موصوفا ، على أن المراد بمنع الحكم عليه ألا يتقيد به ، حتى إن الحكم وضده فيه سواء ، والحكم نسبة أمر إلى آخر ، والتعريف بالوصف هو التعريف الرسمي الذي يعرف به الحق الآن ؛ لأن الحقيقي ممتنع في حقه أزلا وأبدا ، والمراد بالوصف أعم من الثبوتي والسلبي ، وإنما امتنع هذا التعريف ؛ لأنه نوع من الحكم ، وامتنع أن يضاف إليه نسبة ؛ لأن النسبة نوع من الوصف المعرف ، والوحدة ثمة ليست في مقابلة الكثرة ، بل للتنبيه على نفي الكثرة المتوهمة فيه ، وإنما امتنع إضافتها ؛ لأنها نوع نسبة ووجوب الوجود كونه من ذاته بل عين ذاته ، وإنما امتنع إضافته ؛ لأنه نوع نسبة متفرعة على الوحدة والمبدئية كونه أصل الأشياء ، وهو نسبة متفرعة على وجوب الوجود واقتضاء الإيجاد ، إظهاره الأشياء على نهج الاختيار ، فصدور الأثر عنه أعم منه لصدقه مع الإيجاب ، وهما نسبتان متفرعتان على المبدئية .
ثم ذكر ما يستلزم امتناعه امتناع الكل ، وهو أنه يمتنع تعلق علمه بنفسه أو غيره من حيث الإطلاق ، وهذه الأمور كلها متفرعة عليه ، وليس المراد سبق الجهل - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، بل المراد أن الإطلاق لا يمكن اعتبار العلم معه ، كما لا يمكن اعتبار هذه الأمور مع كونها ؛ لأنها لازمة للحق أزلا وأبدا ، ثم علل جميع ذلك بما هو علة الأصل أول
والفروع أيضا ، بأن كل ذلك يقضي بالتعيين والتقييد ، ضرورة أن ما لا يتعين كيف يحكم عليه بحكم معين ، وكيف يوصف بوصف معين ، وكيف يضاف إليه نسبة معينة ؟ ، ثم ذكر ما هو سبب اعتبار الإطلاق بأنه لا ريب في أن تعقل كل تعين يقضي بسبق اللا تعيّن ، فكل ما ذكرناه من الحكم والتعريف بالوصف ، وإضافة النسب إليه ينافي الإطلاق الذي اعتبر فيه التعقل قبل التعين ، وإنما اقتضي تعقل كل تعين سبق اللا تعين عليه ؛ لأنه قيد لا حق فلا بد له من سابق ، والسابق على كل تعين ليس إلا اللا تعين ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ بل تصور إطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل ، بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أنه إطلاق ضده التقييد ، بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين ، وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد ، وفي الجمع بين كل ذلك والتنزه عنه ، فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع ، فنسبة كل ذلك إليه وغيره وسلبه عنه على السواء ، ليس أحد الأمرين بأولى من الآخر ] .
لما كان الإطلاق الذي ضده التقييد من جملة الأحكام المقيدة المتوقفة على التعين .
قال : يشترط في تصور هذا الإطلاق أن يتعقل ، بمعنى أنه وصف سلبي ، وهو أنه لا يتقيد بشيء ، لا بمعنى أنه إطلاق متعارف ضده التقييد ، وإنما أطلق عليه لفظ الإطلاق ؛ لأنه إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين ، فهو من حيث الإطلاق لا يتقيد بالوحدة ولا بالكثرة ، بل المقيد بذلك مراتبه وتعيناته ؛ وهكذا هو مطلق عن الحصر في الإطلاق والتعين بحيث لا يتقيد بأحدهما ، وإن كانا فيه بحسب مراتبه وتعيناته ، ولا في الجمع بين كل ذلك أي الوحدة والكثرة والإطلاق والتقييد ، وكذلك وكل ذلك فيه بحسب مراتبه ، فنسبة كل ذلك إليه ونسبة غيره من التنزيه والتشبيه والغيب والشهادة ، وسلب جميع النسب إليه سواء بلا ترجيح لأحد الأمرين على الآخر ؛ إذ لو رجح لظهور التقيد به ؛ إذ المرجوح لا يقابل ، وإنما حصلت أولوية بعضها على بعض بحسب المراتب المتوقفة على التعينات ولا اعتبار لها حيث يعتبر الإطلاق ، فافهم ، فإنه مزلة الأقدم " 2 " .
............................................................
( 1 ) أي : الوحدة الاعتبارية العددية المقابلة للكثرة ، والكثرة العددية المتعارف عليها ؛ لأن وحدة الحق هي الوحدة الذاتية المنفردة بها ذاته .
( 2 ) انظر : كتابنا “ إرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول “ .
قال رضي اللّه عنه : [ وإذا وضح هذا علم أن نسبة الوحدة إلى الحق والمبدئية والتأثير والفعل الإيجادي ونحو ذلك إنما يصح ويضاف إلى الحق باعتبار التعين ].
أي : وإذا ظهر أن لا ترجيح لنسبة على نسبة في الإطلاق ، فترجيحات هذه النسب إنما هو باعتبار تعينه ، والوحدة والمبدئية باعتبار المتعين الأول والتأثير ، وهو التوجه إلى الفعل أو الإعدام والفعل الإيجادي بالنسبة إلى التعين الثاني وما بعده ، وذلك إن كلا منها نسب فلا بد لها من منتسبين ، والإطلاق أمر سلبي ، والمراد : أنه يتوقف تعقلها على اعتباره ، وإلا فهي مع التعين ثابتة للحق أزلا وأبدا ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ وأول التعينات المتعلقة النسبة العلمية الذاتية ؛ لكن باعتبار تميزها عن الذات بالامتياز النسبي لا الحقيقي ] .
لما توقفت النسب على التعينات ، والنسب مرتبة فلا بدّ من ترتب التعينات ، فأول التعينات المتعقلة النسبة العلمية ، أي التي ظهرت من نسبة العلم ، فجعل العلم نسبة ، إذ لا تحقق للصفات متميزة في تلك الحضرة ، وإنما قال : “ المتعلقة “ لأن أول التعينات الواقعة نسبة الحياة ، لأنها شرط العلم ؛ لكنها لا تعقل إلا بعد تعقل العلم ، وإنما قال “ الذاتية “ ؛ لأن النسبة العلمية الأسمائية متأخرة عن هذه النسبة ، وكذا نسبة علمه إلى سائر الأشياء والأعيان ،
وإنما قال : باعتبار تميزها ؛ لأنه في الإطلاق العلم حاصل ؛ لكنه لما لم يتميز بالكلية لم يحصل منه تعين ، وإنما اعتبر الامتياز النسبي ؛ لأن الامتياز الحقيقي إنما هو في تعين الواحدية ، لا في الأحدية التي هي التعين الأول ، فهذه النسبة في التعين الأول عين من حيث الحقيقة ، غير باعتبار ما .
قال رضي اللّه عنه : [ وبواسطة النسبة العلمية الذاتية ؛ يتعقل وحدة الحق ووجوب وجوده ومبدئيته ، وسيما من حيث إن علمه بنفسه في نفسه ، وأن عين علمه بنفسه سبب لعلمه بكل شيء ، وأن الأشياء عبارة عن تعينات تعقلاته الكلية والتفصيلية ، وأن الماهيات عبارة عن التعقلات ، وأنها تعقلات منتشئة التعقل بعضها من بعض ] .
لما توقف إضافة النسب إلى الحق على تعينه ، فالنسب الذاتية توقف تعقلها على التعين الأول ، فبواسطة النسبة العلمية الذاتية .
أي : علمه ذاته بذاته في ذاته مع التميز الاعتباري .
قال رضي اللّه عنه : ( يتعقل وحدة الحق ) ، التي هي نسبة ذاتية باعتبار نفي الكثرة عنها بالذات ، والاعتبار لها في الذات المطلقة لصدقها مع الوحدة والكثرة ، وكذا وجوب وجوده ؛ لأنه نسبة إذ هو اقتضاء ذات الوجود باعتبار مغايرة اعتبارية على ما مرّ ، والاعتبار لها في المطلقة لصدقها على الممكنات ، وكذا مبدئيته ؛ لأنه نسبة بينه وبين ما أبداه ولا اعتبار لها في المطلقة في صدقها على ما أبداه أيضا ، لكن في التعين الأول ظهرت هذه النسب ، وقبل العلم لا يمكن تعقل شيء من ذلك ؛ إذ لو لم يعلم ذاته كيف يحكم بوحدته ، ولو لم يعلم وحدته كيف يحكم بوجوب وجوده لامتناع تعدد الواجب ؟ ولو لم يعلم وجوبه كيف يعلم كونه مبدأ الكثرة ، وكذا لو لم يعلم وجوبه كيف يعلم كونه منتهى الحوادث ومبدأها ، وعلى الخصوص يتوقف تعقل كل منها على النسبة العلمية الذاتية ، من حيث أن علمه نفسه في نفسه من غير زيادة عليه ، فيعلم وحدته ؛ إذ لولاه لم يتعقل الوحدة من كل وجه ، لأنه حينئذ يكون متعددا من ذات وصفه ، وكذا وجوب الوجود المتوقف
.....................................................................
( 1 ) قال الشيخ صدر الدين القونوي - رحمة اللّه عليه في “ مفتاح الغيب “ : الحق سبحانه وتعالى من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد ، لاستحالة إظهار الواحد ، وإيجاده من حيث كونه واحدا أو أكثر من واحد ، لكن ذلك الواحد ، عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان الممكنات كما تقدم ، فكيف يقال : إن الشيخ وأتباعه ، يقولون : إن الواجب هو الوجود العام ! فيلزم ألّا يكون الواجب من الموجودات الخارجية سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً[ النور :
16 - 17 ] . فإن قلت : كيف ذهب إلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وهو من طامّات الفلاسفة ولا يقول به أهل السنة ؟ قلت : أهل السنة ما قالوا إن الواحد في جميع الوجود يصدر عنه أكثر من واحد ، وإنما ذهبوا إلى أن العالم صدر عن ذات متصفة بالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، فما صدر عن واحد من جميع الوجوه ، وأما كون الواحد أعم من الواجب وغيره ، هل يصدر عنه أكثر من واحد أم لا ؟ فلا يصادم كلام أهل السنة على ما قدمنا لك من كلام الشيخ في “ الفتوحات “ ما إذا تأملته كفاك فتذكر . وأين كلام الشيخ صدر الدين من كلام الفلاسفة ؟ فإن الصادر الأول عندهم هو العقل الأول ، وعنده الوجود العام ، ومن كلامه في “ مفتاح الغيب “ أيضا : اعلم أن الحق هو الوجود المحض الذي لا اختلاف فيه ، وأنه واحد وهذه حقيقة لا يتعقل في مقابلة كثرة ، ولا يتوقف تحققها في نفسها ، ولا تصورها في العلم الصحيح المحقق على تصور ضد لها ، بل هي لنفسها ثابتة لا مثبتة ، وقولنا وحده للتنزيه والتهم لا للدلالة على مفهوم الوحدة على نحو ما هو متصور في الأذهان المحجوبة ، وقال فيه أيضا : الوجود في حق الحق عين ذاته ، وفيما عداه أمر زائد على حقيقته ، انتهى . نقلا عن أبي الفتح المكي “ عين الحياة “ ( ص 70 ) .
على الوحدة ، على أن الواجب يجب أن يكون كاملا ، ولا كمال مع زيادة العلم لجواز تعقل انفكاكه حينئذ ، والمبدئية عليهما ، على أنه لو زاد علمه بذاته ، فجاز ألا يعلم ذاته ؛ لجاز ألا يعلم مبدئيته .
وأيضا من حيث أن عين علمه بنفسه سبب لعلمه بكل شيء ، والوحدة والوجوب ، والمبدئية من جملة الأشياء على أنها من اللوازم القريبة ، فإذا علم البعيدة بعين علمه بنفسه فالقريب أولى ، أو إنما كان علمه بنفسه سببا لعلمه بكل شيء ؛ لأنه شامل على شؤونه التي هي عبارة عن حقائق الأعيان الثابتة التي هي حقائق الأشياء أيضا ، من حيث إن الأشياء تعينات تعقلاته الكلية والتفصيلية ، والوحدة تعين لتعقله كلية الذات من حيث إن شموله على شؤونه ليس على نهج التمييز ، وهذا إنما هو في التعين الأول ، ووجوب الوجود تعين لتعقله كلية الذات من حيث لا تميز فيه لشؤون الممكنات التي يشملها ، والمبدئية تعين لتعقله كلية الذات ، من حيث أنه أولا من غير تميز للآخر فيه ، وأما التفصيلية فليس تتعقل في هذه المرتبة ، وإنما كانت الأشياء عبارة عن تعينات تعقلاته ؛ إذ ليس لها وجود مستقل بل مفاض من نوره على أعيانها التي هي تعقلاته اتصف بها من حيث ظهوره فيها وبها حتى تعين بها ، والأعيان أمور متعقلة لها لا غير ، وأيضا من حيث إن الماهيات عبارة عن التعقلات ، ولا شك أن الوحدة والوجوب والمبدئية إن كانت أمورا موجودة فلا بدّ لها من ماهية ، فلا يسبق التعقل الأول الذاتي ؛ وإلا فهي محض التعقلات ، وإنما كانت الماهيات عبارة عن التعقلات ؛ إذ ليس في الخارج شيء يغاير الوجود في الموجودات مع أنّا نعلم قطعا أن الأشياء تتمايز وتتغاير والوجود مشترك فهو بالماهية ، وأيضا من حيث إنها تعقلات منتشية التعقل بعضها من بعض ، فإن الوحدة منتشية من تعقلات الذات والوجوب عنهما والمبدئية عن الثلاثة ، فهي نفس التعقلات ، وإنما كان بعضها منتشيا عن البعض ؛ لأن المتأخر من هذه الأمور من لوازم المتقدم ، فتعقل الملزوم مستلزم لتعقله ، فكذلك تعقل اللازم منتشئ عن تعقل الملزوم .
ولذلك قال رضي اللّه عنه : [ لا بمعنى أنها تحدث في تعقل الحق تعالى ، تعالى اللّه عما لا يليق به ، بل تعقل البعض متأخر الرتبة عن البعض ، وكلها تعقلات أزلية أبدية على وتيرة واحدة تتعقل في العلم ، ويتعلق بها بحسب ما يقتضيه حقائقها ] .
لما توهم مما سبق ، إن تعقل المنتشئ حادث لتأخره في الوجود عن المنتشئ منه ، دفع ذلك بأن الانتشاء ليس بمعنى الحدوث ؛ لامتناعه في ذات الحق وصفاته اللازمة ، والعلم منها ؛ لأن التجرد نسبة على ما بين في الحكمة ، وما يرى من الحدوث في صفاته اللاحقة باسمه الظاهر ، فحدوثه إنما الظهور بعد البطون في حق الوجود ، وبمعنى سبق العدم عليه في حق الأعيان الثابتة ، فليس تأخر تعقل البعد إلا بحسب الرتبة ، بمعنى التقدم الطبيعي ، وهو أن يكون المتأخر مفتقر إلى المتقدم ، ولا يكون المتقدم علة للمتأخر ، والصفات الإلهية غير معلولة بشيء ؛ لأن تأثير العلل إنما هو في الحوادث فكلها تعقلات أزلية أبدية على وتيرة واحدة لم يسبق الجهل بشيء منها ، بل حقائقها يترتب بعضها على بعض ترتبا طبيعيّا ، والعلم بالشيء إنما يتعلق به بحسب ما يقتضيه حقيقته ؛ ومن هنا نقول أن علم اللّه بالحوادث قديم ؛ لكنه يتعلق بها على حسب ما هي عليه ، فيعلم الماضي ماضيا ، والحال حالا ، والمستقبل مستقبلا من غير تغيير في علمه ، بل تعلقه الذي هو نسبة بين العلم والشيء لا وجود لها ، فلا محذور في اعتبارها ما في علمه تعالى ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ ومقتضى حقائقها على نحوين : أحدهما تعقلها من حيث استهلاك كثرتها في وحدة الحق ، وهو تعقل المفصل في المجمل ، كمشاهدة العالم العاقل بعين العلم ، في النواة الواحدة ما فيها بالقوة من الأغصان والأوراق والثمر ، والذي في كل فرد من أفراد ذلك الثمرة مثل ما في النواة الأولى ، وهكذا إلى غير النهاية ] .
لما كان تعلق العلم بالحقائق على حسب مقتضياتها ، فتارة يقتضي كونها على وتيرة واحدة وتارة كونها مترتبة ؛ لأن مقتضى حقائقها على نحوين بناء على أن كلا من الذات الأحدية والحقائق مرآة للآخر ؛ فالنحو الأول المبني على كون الذات مرآة للحقائق وهي فيه على وتيرة واحدة ، تعقل الحقائق من حيث استهلاك كثرتها في وحدة الحق ، أي عدم ظهورها وتميزها فيها التمييز الحقيقي ، مع كونها بالقوة ، وتفصيلها اعتباري بحسب ما يعود إليه آخر ، فهو شهود المفصل ، أي الذي يحصل له التفصيل في المجمل ، فالكل داخل في ذلك الكمال ؛ لكن الكمال الحاوي لتلك الحقائق لا يحصل إلا بظهور الوجود فيها ولها ، وسمة هي معدومة لا تظهر من حيث هي أبدا وأزلا ؛ لكنها مشهودة للحق شهودا علميّا لا عينيّا ، والأسماء تطلب الكمالين جميعا ، فالكثرة اعتبارية والوحدة حقيقية ، كما في النواة الشاملة على الشجر والأثمار ونواها وحدتها كالحقيقة ، وكثرتها فيها اعتبارية ، وإنما يرى
الكثرة فيها العالم بها حقيقة لا يتغير علمه عند حصول تلك الكثرة بالفعل في الخارج ، فلا يزاد كمالا لم يكن قبل أصلا ، بل هو ذلك الكمال بعينه ، حصل له صفة الظهور في الخارج ليحصل الكمال الخارجي ، ولا نصيب فيه للعالم إلا فيما علم أولا ، لكن لما كان علمه حاصلا في الخارج فلا بدّ من تعلق علمه به كذلك ليطابق ذلك العلم الأزلي ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ والنحو الآخر تعقل أحكام الوحدة جملة بعد جملة ، فيتعقل كل جملة بما يشتمل عليه من الماهيات التي صورة تلك التعقلات المتكثرة المعددة للوجود الواحد ، وهذا عكس الاستهلاك الأول المشار إليه ؛ فإن ذلك عبارة عن استهلاك الكثرة في الوحدة ، وهذا هو استهلاك الوحدة في الكثرة ، فليعلم ذلك ] .
أي : والنحو أيضا من مقتضى الحقائق أن تصير الحقائق مرآة للحق ، وبه يحصل ترتب التعقلات ؛ لأنه يتعقل به أحكام أي أوصاف الوجود الواحد اللاحقة به بحسب ظهوره في تلك الحقائق ، وإن كانت معه أيضا عند البطون ، فتعقل تلك الأحكام جملة بعد جملة بحسب ترتيبها الطبيعي ، وإن كان تعقل مجموعها مرة واحدة بحسب تعقل تلك الأحكام نفسها ، وإنما ترتبت بحيث ترتب ماهياتها الخارجية ، فيتعقل كل جملة من الأحكام بما يشتمل تلك الجملة عليه من الماهيات ، التي هي صور تلك التعقلات ، أي مظاهر تلك الأحكام المتعقلة مرة واحدة أولا ، ومرات متعددة بحسب تلك المظاهر ، وإنما قيدنا الماهيات بالخارجية ؛ لأن الذهنية غير مترتبة التعقل إلا بحيث أن خارجيتها مرتبة ، فيعقل ترتيبها في الذهن بحسب ذلك .
وهذه الصور التي هي ماهيات الخارجية متكثرة بالحقيقة في الخارج معددة للوجود الظاهر فيها لا بحسب نفسه ، بل بحسب الصور الظاهرة فيها ؛ لأنها مرايا متعددة له ، فيتعدد صوره بحسب تعدداتها ، وهذا الاستهلاك - أعني استهلاك الوحدة ، أي اختفاؤها في الحقائق - عكس الاستهلاك الأول الذي هو استهلاك كثرة الحقائق في الوجود ، فهو شهود المجمل في المفصل ، وفي هذه الشهود ترتب على حسب أوقات ظهوره فيها ، فالكثرة والترتب ليس إلا للماهيات الخارجية بالذات ، والذهنية باعتبار قابليتها للخروج ، والوحدة ليس إلا للحق من حيث هي فيه ، فافهم .
* * *