موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الشيخ صدر الدين القونوي

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص

للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي

النص الأول

 

 


قال رضي اللّه عنه : [ نص شريف ، هو أول النصوص الواجب تقديمه ] .

النص : لغة الخالص ، والمراد هنا ما يختص بذوق المقام الأكمل الأجمع ، المطابق لما يعلمه اللّه تعالى في أعلى درجات علمه ، وأتمها وأكملها على ما بينه الشيخ رضي اللّه عنه في المتن في التفريع الثالث من تفاريع النصوص الثلاثة الأول ، سمي به ؛ لأنه لا يقبل التفسير والتأويل بوجه من الوجوه شرفه باعتبار شرف معلومه ، وهو المطلق الشامل للكل مع غنائه عن الكل ، وإنما كان أول النصوص ؛ لأنه يبحث فيه عن أول الاعتبارات ، وهو الإطلاق والذاتي ، وإنما وجب تقديمه ؛ لأنه يبحث فيه عن موضوع العلم الذي هو الوجود المطلق ، وهو من مقدمات الشروع في العلم على وجه يتميز به تميزا ذاتيّا كاملا ومسائلة مبنية عليه ، وهي حمل أعراضه الذاتية عليه ، أو على أنواعه أو أعراضه الذاتية أو أنواعها ، ولم يتعرض لتعريف العلم ، وهو أنه العلم الباحث عن أحوال الوجود من حيث هو ، ومن حيث ظهوره في المظاهر وغيرها ، مع أن التعريف يفيد بالتمييز الذهني اكتفاء بالتمييز في الواقع الحاصل من تمايز الموضوعات ، وكذا لم يتعرض لغايته لظهورها من ذكر الموضوع ؛ لأنه لما كان أعم الأشياء وأعلاها ، وكان البحث عنها بحثا عن الموجودات كلها على وجه الكشف واليقين ، فمعلوم ما يفيده من السعادة العظمى والدرجة الكبرى التي لا نهاية لها .

قال رضي اللّه عنه : [ اعلم أن الحق من حيث إطلاقه الذاتي لا يصح أن يحكم عليه بحكم ، أو يعرف بوصف ، أو يضاف إليه نسبة ما ، من وحدة ، أو وجوب وجود ، أو مبدئية ، أو اقتضاء إيجاد ، أو صدور أثر ، أو تعلق علم منه بنفسه أو غيره ؛ لأن كل ذلك يقضي بالتعين

........................................................

( 1 ) رواه البخاري ( 4 / 1825 ) ، ومسلم ( 4 / 1762 ) ، والنسائي في الكبرى ( 4 / 457 ) .

والتقيد ، ولا ريب في أن تعقل كل تعين يقضي بسبق اللا تعيّن عليه ، فكل ما ذكرناه ينافي الإطلاق ] .

الحق : لغة الثابت سمي به الوجود المطلق ؛ لأن ثبوته لذاته وثبوت غيره به ، فالوجود هو الثابت من كل وجه ، وغيره ليس بثابت من حيث ذاته ؛ وإنما ثبوته بالغير ومنع الحكم عليه من حيث الإطلاق الذاتي ، مع أنه هو محكوم عليه بجميع الأحكام ؛ لأن ذلك من حيث تعيناته المتعددة المختلفة وغيرها ، والاعتبار للتعين في الإطلاق ، وقيد بالذاتي احترازا عن إطلاق التعين الأول عن الأسماء ؛ لأنه من حيث التعين الأول محكوم عليه بالوحدة ، والتعين ، والعلم بالذات ، ووجوب الوجود .

فإن قيل : قد حكم عليه بأنه لا يحكم عليه ، وهل هو إلا تناقض ، ويحكم عليه بأنه لا يتقيد ويوصف بالإطلاق .

قلنا : المراد هذا المتعين قبل تعينه لا يحكم عليه بذلك ، فإذا تعين وتعلق العلم به ، حكم عليه بأنه لم يكن محكوما عليه حينئذ ، ولا مقيد أولا موصوفا ، على أن المراد بمنع الحكم عليه ألا يتقيد به ، حتى إن الحكم وضده فيه سواء ، والحكم نسبة أمر إلى آخر ، والتعريف بالوصف هو التعريف الرسمي الذي يعرف به الحق الآن ؛ لأن الحقيقي ممتنع في حقه أزلا وأبدا ، والمراد بالوصف أعم من الثبوتي والسلبي ، وإنما امتنع هذا التعريف ؛ لأنه نوع من الحكم ، وامتنع أن يضاف إليه نسبة ؛ لأن النسبة نوع من الوصف المعرف ، والوحدة ثمة ليست في مقابلة الكثرة ، بل للتنبيه على نفي الكثرة المتوهمة فيه ، وإنما امتنع إضافتها ؛ لأنها نوع نسبة ووجوب الوجود كونه من ذاته بل عين ذاته ، وإنما امتنع إضافته ؛ لأنه نوع نسبة متفرعة على الوحدة والمبدئية كونه أصل الأشياء ، وهو نسبة متفرعة على وجوب الوجود واقتضاء الإيجاد ، إظهاره الأشياء على نهج الاختيار ، فصدور الأثر عنه أعم منه لصدقه مع الإيجاب ، وهما نسبتان متفرعتان على المبدئية .

ثم ذكر ما يستلزم امتناعه امتناع الكل ، وهو أنه يمتنع تعلق علمه بنفسه أو غيره من حيث الإطلاق ، وهذه الأمور كلها متفرعة عليه ، وليس المراد سبق الجهل - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، بل المراد أن الإطلاق لا يمكن اعتبار العلم معه ، كما لا يمكن اعتبار هذه الأمور مع كونها ؛ لأنها لازمة للحق أزلا وأبدا ، ثم علل جميع ذلك بما هو علة الأصل أول

والفروع أيضا ، بأن كل ذلك يقضي بالتعيين والتقييد ، ضرورة أن ما لا يتعين كيف يحكم عليه بحكم معين ، وكيف يوصف بوصف معين ، وكيف يضاف إليه نسبة معينة ؟ ، ثم ذكر ما هو سبب اعتبار الإطلاق بأنه لا ريب في أن تعقل كل تعين يقضي بسبق اللا تعيّن ، فكل ما ذكرناه من الحكم والتعريف بالوصف ، وإضافة النسب إليه ينافي الإطلاق الذي اعتبر فيه التعقل قبل التعين ، وإنما اقتضي تعقل كل تعين سبق اللا تعين عليه ؛ لأنه قيد لا حق فلا بد له من سابق ، والسابق على كل تعين ليس إلا اللا تعين ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ بل تصور إطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل ، بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أنه إطلاق ضده التقييد ، بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين ، وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد ، وفي الجمع بين كل ذلك والتنزه عنه ، فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع ، فنسبة كل ذلك إليه وغيره وسلبه عنه على السواء ، ليس أحد الأمرين بأولى من الآخر ] .

لما كان الإطلاق الذي ضده التقييد من جملة الأحكام المقيدة المتوقفة على التعين .

قال : يشترط في تصور هذا الإطلاق أن يتعقل ، بمعنى أنه وصف سلبي ، وهو أنه لا يتقيد بشيء ، لا بمعنى أنه إطلاق متعارف ضده التقييد ، وإنما أطلق عليه لفظ الإطلاق ؛ لأنه إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين ، فهو من حيث الإطلاق لا يتقيد بالوحدة ولا بالكثرة ، بل المقيد بذلك مراتبه وتعيناته ؛ وهكذا هو مطلق عن الحصر في الإطلاق والتعين بحيث لا يتقيد بأحدهما ، وإن كانا فيه بحسب مراتبه وتعيناته ، ولا في الجمع بين كل ذلك أي الوحدة والكثرة والإطلاق والتقييد ، وكذلك وكل ذلك فيه بحسب مراتبه ، فنسبة كل ذلك إليه ونسبة غيره من التنزيه والتشبيه والغيب والشهادة ، وسلب جميع النسب إليه سواء بلا ترجيح لأحد الأمرين على الآخر ؛ إذ لو رجح لظهور التقيد به ؛ إذ المرجوح لا يقابل ، وإنما حصلت أولوية بعضها على بعض بحسب المراتب المتوقفة على التعينات ولا اعتبار لها حيث يعتبر الإطلاق ، فافهم ، فإنه مزلة الأقدم " 2 " .

............................................................

( 1 ) أي : الوحدة الاعتبارية العددية المقابلة للكثرة ، والكثرة العددية المتعارف عليها ؛ لأن وحدة الحق هي الوحدة الذاتية المنفردة بها ذاته .

( 2 ) انظر : كتابنا “ إرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول “ .

قال رضي اللّه عنه : [ وإذا وضح هذا علم أن نسبة الوحدة إلى الحق والمبدئية والتأثير والفعل الإيجادي ونحو ذلك إنما يصح ويضاف إلى الحق باعتبار التعين ].

أي : وإذا ظهر أن لا ترجيح لنسبة على نسبة في الإطلاق ، فترجيحات هذه النسب إنما هو باعتبار تعينه ، والوحدة والمبدئية باعتبار المتعين الأول والتأثير ، وهو التوجه إلى الفعل أو الإعدام والفعل الإيجادي بالنسبة إلى التعين الثاني وما بعده ، وذلك إن كلا منها نسب فلا بد لها من منتسبين ، والإطلاق أمر سلبي ، والمراد : أنه يتوقف تعقلها على اعتباره ، وإلا فهي مع التعين ثابتة للحق أزلا وأبدا ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ وأول التعينات المتعلقة النسبة العلمية الذاتية ؛ لكن باعتبار تميزها عن الذات بالامتياز النسبي لا الحقيقي ] .

لما توقفت النسب على التعينات ، والنسب مرتبة فلا بدّ من ترتب التعينات ، فأول التعينات المتعقلة النسبة العلمية ، أي التي ظهرت من نسبة العلم ، فجعل العلم نسبة ، إذ لا تحقق للصفات متميزة في تلك الحضرة ، وإنما قال : “ المتعلقة “ لأن أول التعينات الواقعة نسبة الحياة ، لأنها شرط العلم ؛ لكنها لا تعقل إلا بعد تعقل العلم ، وإنما قال “ الذاتية “ ؛ لأن النسبة العلمية الأسمائية متأخرة عن هذه النسبة ، وكذا نسبة علمه إلى سائر الأشياء والأعيان ،

وإنما قال : باعتبار تميزها ؛ لأنه في الإطلاق العلم حاصل ؛ لكنه لما لم يتميز بالكلية لم يحصل منه تعين ، وإنما اعتبر الامتياز النسبي ؛ لأن الامتياز الحقيقي إنما هو في تعين الواحدية ، لا في الأحدية التي هي التعين الأول ، فهذه النسبة في التعين الأول عين من حيث الحقيقة ، غير باعتبار ما .

قال رضي اللّه عنه : [ وبواسطة النسبة العلمية الذاتية ؛ يتعقل وحدة الحق ووجوب وجوده ومبدئيته ، وسيما من حيث إن علمه بنفسه في نفسه ، وأن عين علمه بنفسه سبب لعلمه بكل شيء ، وأن الأشياء عبارة عن تعينات تعقلاته الكلية والتفصيلية ، وأن الماهيات عبارة عن التعقلات ، وأنها تعقلات منتشئة التعقل بعضها من بعض ] .

لما توقف إضافة النسب إلى الحق على تعينه ، فالنسب الذاتية توقف تعقلها على التعين الأول ، فبواسطة النسبة العلمية الذاتية .

أي : علمه ذاته بذاته في ذاته مع التميز الاعتباري .

قال رضي اللّه عنه : ( يتعقل وحدة الحق ) ، التي هي نسبة ذاتية باعتبار نفي الكثرة عنها بالذات ، والاعتبار لها في الذات المطلقة لصدقها مع الوحدة والكثرة ، وكذا وجوب وجوده ؛ لأنه نسبة إذ هو اقتضاء ذات الوجود باعتبار مغايرة اعتبارية على ما مرّ ، والاعتبار لها في المطلقة لصدقها على الممكنات ، وكذا مبدئيته ؛ لأنه نسبة بينه وبين ما أبداه ولا اعتبار لها في المطلقة في صدقها على ما أبداه أيضا ، لكن في التعين الأول ظهرت هذه النسب ، وقبل العلم لا يمكن تعقل شيء من ذلك ؛ إذ لو لم يعلم ذاته كيف يحكم بوحدته ، ولو لم يعلم وحدته كيف يحكم بوجوب وجوده لامتناع تعدد الواجب ؟ ولو لم يعلم وجوبه كيف يعلم كونه مبدأ الكثرة ، وكذا لو لم يعلم وجوبه كيف يعلم كونه منتهى الحوادث ومبدأها ، وعلى الخصوص يتوقف تعقل كل منها على النسبة العلمية الذاتية ، من حيث أن علمه نفسه في نفسه من غير زيادة عليه ، فيعلم وحدته ؛ إذ لولاه لم يتعقل الوحدة من كل وجه ، لأنه حينئذ يكون متعددا من ذات وصفه ، وكذا وجوب الوجود المتوقف

.....................................................................

( 1 ) قال الشيخ صدر الدين القونوي - رحمة اللّه عليه في “ مفتاح الغيب “ : الحق سبحانه وتعالى من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد ، لاستحالة إظهار الواحد ، وإيجاده من حيث كونه واحدا أو أكثر من واحد ، لكن ذلك الواحد ، عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان الممكنات كما تقدم ، فكيف يقال : إن الشيخ وأتباعه ، يقولون : إن الواجب هو الوجود العام ! فيلزم ألّا يكون الواجب من الموجودات الخارجية سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً[ النور :

16 - 17 ] . فإن قلت : كيف ذهب إلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وهو من طامّات الفلاسفة ولا يقول به أهل السنة ؟ قلت : أهل السنة ما قالوا إن الواحد في جميع الوجود يصدر عنه أكثر من واحد ، وإنما ذهبوا إلى أن العالم صدر عن ذات متصفة بالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، فما صدر عن واحد من جميع الوجوه ، وأما كون الواحد أعم من الواجب وغيره ، هل يصدر عنه أكثر من واحد أم لا ؟ فلا يصادم كلام أهل السنة على ما قدمنا لك من كلام الشيخ في “ الفتوحات “ ما إذا تأملته كفاك فتذكر . وأين كلام الشيخ صدر الدين من كلام الفلاسفة ؟ فإن الصادر الأول عندهم هو العقل الأول ، وعنده الوجود العام ، ومن كلامه في “ مفتاح الغيب “ أيضا : اعلم أن الحق هو الوجود المحض الذي لا اختلاف فيه ، وأنه واحد وهذه حقيقة لا يتعقل في مقابلة كثرة ، ولا يتوقف تحققها في نفسها ، ولا تصورها في العلم الصحيح المحقق على تصور ضد لها ، بل هي لنفسها ثابتة لا مثبتة ، وقولنا وحده للتنزيه والتهم لا للدلالة على مفهوم الوحدة على نحو ما هو متصور في الأذهان المحجوبة ، وقال فيه أيضا : الوجود في حق الحق عين ذاته ، وفيما عداه أمر زائد على حقيقته ، انتهى . نقلا عن أبي الفتح المكي “ عين الحياة “ ( ص 70 ) .

على الوحدة ، على أن الواجب يجب أن يكون كاملا ، ولا كمال مع زيادة العلم لجواز تعقل انفكاكه حينئذ ، والمبدئية عليهما ، على أنه لو زاد علمه بذاته ، فجاز ألا يعلم ذاته ؛ لجاز ألا يعلم مبدئيته .

وأيضا من حيث أن عين علمه بنفسه سبب لعلمه بكل شيء ، والوحدة والوجوب ، والمبدئية من جملة الأشياء على أنها من اللوازم القريبة ، فإذا علم البعيدة بعين علمه بنفسه فالقريب أولى ، أو إنما كان علمه بنفسه سببا لعلمه بكل شيء ؛ لأنه شامل على شؤونه التي هي عبارة عن حقائق الأعيان الثابتة التي هي حقائق الأشياء أيضا ، من حيث إن الأشياء تعينات تعقلاته الكلية والتفصيلية ، والوحدة تعين لتعقله كلية الذات من حيث إن شموله على شؤونه ليس على نهج التمييز ، وهذا إنما هو في التعين الأول ، ووجوب الوجود تعين لتعقله كلية الذات من حيث لا تميز فيه لشؤون الممكنات التي يشملها ، والمبدئية تعين لتعقله كلية الذات ، من حيث أنه أولا من غير تميز للآخر فيه ، وأما التفصيلية فليس تتعقل في هذه المرتبة ، وإنما كانت الأشياء عبارة عن تعينات تعقلاته ؛ إذ ليس لها وجود مستقل بل مفاض من نوره على أعيانها التي هي تعقلاته اتصف بها من حيث ظهوره فيها وبها حتى تعين بها ، والأعيان أمور متعقلة لها لا غير ، وأيضا من حيث إن الماهيات عبارة عن التعقلات ، ولا شك أن الوحدة والوجوب والمبدئية إن كانت أمورا موجودة فلا بدّ لها من ماهية ، فلا يسبق التعقل الأول الذاتي ؛ وإلا فهي محض التعقلات ، وإنما كانت الماهيات عبارة عن التعقلات ؛ إذ ليس في الخارج شيء يغاير الوجود في الموجودات مع أنّا نعلم قطعا أن الأشياء تتمايز وتتغاير والوجود مشترك فهو بالماهية ، وأيضا من حيث إنها تعقلات منتشية التعقل بعضها من بعض ، فإن الوحدة منتشية من تعقلات الذات والوجوب عنهما والمبدئية عن الثلاثة ، فهي نفس التعقلات ، وإنما كان بعضها منتشيا عن البعض ؛ لأن المتأخر من هذه الأمور من لوازم المتقدم ، فتعقل الملزوم مستلزم لتعقله ، فكذلك تعقل اللازم منتشئ عن تعقل الملزوم .

ولذلك قال رضي اللّه عنه : [ لا بمعنى أنها تحدث في تعقل الحق تعالى ، تعالى اللّه عما لا يليق به ، بل تعقل البعض متأخر الرتبة عن البعض ، وكلها تعقلات أزلية أبدية على وتيرة واحدة تتعقل في العلم ، ويتعلق بها بحسب ما يقتضيه حقائقها ] .

لما توهم مما سبق ، إن تعقل المنتشئ حادث لتأخره في الوجود عن المنتشئ منه ، دفع ذلك بأن الانتشاء ليس بمعنى الحدوث ؛ لامتناعه في ذات الحق وصفاته اللازمة ، والعلم منها ؛ لأن التجرد نسبة على ما بين في الحكمة ، وما يرى من الحدوث في صفاته اللاحقة باسمه الظاهر ، فحدوثه إنما الظهور بعد البطون في حق الوجود ، وبمعنى سبق العدم عليه في حق الأعيان الثابتة ، فليس تأخر تعقل البعد إلا بحسب الرتبة ، بمعنى التقدم الطبيعي ، وهو أن يكون المتأخر مفتقر إلى المتقدم ، ولا يكون المتقدم علة للمتأخر ، والصفات الإلهية غير معلولة بشيء ؛ لأن تأثير العلل إنما هو في الحوادث فكلها تعقلات أزلية أبدية على وتيرة واحدة لم يسبق الجهل بشيء منها ، بل حقائقها يترتب بعضها على بعض ترتبا طبيعيّا ، والعلم بالشيء إنما يتعلق به بحسب ما يقتضيه حقيقته ؛ ومن هنا نقول أن علم اللّه بالحوادث قديم ؛ لكنه يتعلق بها على حسب ما هي عليه ، فيعلم الماضي ماضيا ، والحال حالا ، والمستقبل مستقبلا من غير تغيير في علمه ، بل تعلقه الذي هو نسبة بين العلم والشيء لا وجود لها ، فلا محذور في اعتبارها ما في علمه تعالى ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ ومقتضى حقائقها على نحوين : أحدهما تعقلها من حيث استهلاك كثرتها في وحدة الحق ، وهو تعقل المفصل في المجمل ، كمشاهدة العالم العاقل بعين العلم ، في النواة الواحدة ما فيها بالقوة من الأغصان والأوراق والثمر ، والذي في كل فرد من أفراد ذلك الثمرة مثل ما في النواة الأولى ، وهكذا إلى غير النهاية ] .

لما كان تعلق العلم بالحقائق على حسب مقتضياتها ، فتارة يقتضي كونها على وتيرة واحدة وتارة كونها مترتبة ؛ لأن مقتضى حقائقها على نحوين بناء على أن كلا من الذات الأحدية والحقائق مرآة للآخر ؛ فالنحو الأول المبني على كون الذات مرآة للحقائق وهي فيه على وتيرة واحدة ، تعقل الحقائق من حيث استهلاك كثرتها في وحدة الحق ، أي عدم ظهورها وتميزها فيها التمييز الحقيقي ، مع كونها بالقوة ، وتفصيلها اعتباري بحسب ما يعود إليه آخر ، فهو شهود المفصل ، أي الذي يحصل له التفصيل في المجمل ، فالكل داخل في ذلك الكمال ؛ لكن الكمال الحاوي لتلك الحقائق لا يحصل إلا بظهور الوجود فيها ولها ، وسمة هي معدومة لا تظهر من حيث هي أبدا وأزلا ؛ لكنها مشهودة للحق شهودا علميّا لا عينيّا ، والأسماء تطلب الكمالين جميعا ، فالكثرة اعتبارية والوحدة حقيقية ، كما في النواة الشاملة على الشجر والأثمار ونواها وحدتها كالحقيقة ، وكثرتها فيها اعتبارية ، وإنما يرى

الكثرة فيها العالم بها حقيقة لا يتغير علمه عند حصول تلك الكثرة بالفعل في الخارج ، فلا يزاد كمالا لم يكن قبل أصلا ، بل هو ذلك الكمال بعينه ، حصل له صفة الظهور في الخارج ليحصل الكمال الخارجي ، ولا نصيب فيه للعالم إلا فيما علم أولا ، لكن لما كان علمه حاصلا في الخارج فلا بدّ من تعلق علمه به كذلك ليطابق ذلك العلم الأزلي ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ والنحو الآخر تعقل أحكام الوحدة جملة بعد جملة ، فيتعقل كل جملة بما يشتمل عليه من الماهيات التي صورة تلك التعقلات المتكثرة المعددة للوجود الواحد ، وهذا عكس الاستهلاك الأول المشار إليه ؛ فإن ذلك عبارة عن استهلاك الكثرة في الوحدة ، وهذا هو استهلاك الوحدة في الكثرة ، فليعلم ذلك ] .

أي : والنحو أيضا من مقتضى الحقائق أن تصير الحقائق مرآة للحق ، وبه يحصل ترتب التعقلات ؛ لأنه يتعقل به أحكام أي أوصاف الوجود الواحد اللاحقة به بحسب ظهوره في تلك الحقائق ، وإن كانت معه أيضا عند البطون ، فتعقل تلك الأحكام جملة بعد جملة بحسب ترتيبها الطبيعي ، وإن كان تعقل مجموعها مرة واحدة بحسب تعقل تلك الأحكام نفسها ، وإنما ترتبت بحيث ترتب ماهياتها الخارجية ، فيتعقل كل جملة من الأحكام بما يشتمل تلك الجملة عليه من الماهيات ، التي هي صور تلك التعقلات ، أي مظاهر تلك الأحكام المتعقلة مرة واحدة أولا ، ومرات متعددة بحسب تلك المظاهر ، وإنما قيدنا الماهيات بالخارجية ؛ لأن الذهنية غير مترتبة التعقل إلا بحيث أن خارجيتها مرتبة ، فيعقل ترتيبها في الذهن بحسب ذلك .

وهذه الصور التي هي ماهيات الخارجية متكثرة بالحقيقة في الخارج معددة للوجود الظاهر فيها لا بحسب نفسه ، بل بحسب الصور الظاهرة فيها ؛ لأنها مرايا متعددة له ، فيتعدد صوره بحسب تعدداتها ، وهذا الاستهلاك - أعني استهلاك الوحدة ، أي اختفاؤها في الحقائق - عكس الاستهلاك الأول الذي هو استهلاك كثرة الحقائق في الوجود ، فهو شهود المجمل في المفصل ، وفي هذه الشهود ترتب على حسب أوقات ظهوره فيها ، فالكثرة والترتب ليس إلا للماهيات الخارجية بالذات ، والذهنية باعتبار قابليتها للخروج ، والوحدة ليس إلا للحق من حيث هي فيه ، فافهم .

* * *



 

 

البحث في نص الكتاب

كتب صدر الدين القونوي:

كتب صدر الدين القونوي:

كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن

مفتاح غيب الجمع ونفصيله

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص

الأسماء الحسنى

رسالة النصوص

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

النفحات الإلهية

مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين

المكتوبات

الوصية

إجازة الشيخ محي الدين له

التوجه الأتم إلى الحق تعالى

المراسلات بين صدرالدين القونوي وناصرالدين الطوسي

الرسالة المهدوية

الرسالة الهادية

الرسالة المفصحة

نفثة المصدور

رشح بال

الرسالة المرشدية

شرح الشجرة النعمانية {وهي تنسب خطأً إليه}



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!