المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
مشرع الخصوص إلى معاني النصوص
للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي
وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
النص الثالث عشر
[ نص شريف يوضح بقية أسرار هذا النص ] ، ذكر فيه غاية ما يمكن من معرفة الأشياء غير الحق ، وما يمكن من الاتحاد فيها ، وغاية الاتحاد في المرآة التي هي العلم الأزلي ؛ وذلك لأن الأشياء متباينة الذوات ، وإن الحق لا يمكن معرفته كما هو ؛ لأنه لا يمكن للعدم الاتحاد بالوجود ، فإنه لا يمكن معرفته من جهة إطلاقه بوجه من الوجوه ؛ لأن المقيد من حيث هو مقيد لا يتحد بالمطلق من حيث هو مطلق ، وأنه لا يتناهى تعيناته كأحوال الإنسان ، فيعرفه الإنسان من حيث اتحاد تلك الأحوال بتلك التعينات ، وهي أسماء الحق فتتقيد معرفة أسمائه ، وشؤونه الذاتية ، فيعلم من هناك قضاءه وقدره .
قال رضي اللّه عنه : [ اعلم أن أعلى درجات العلم بالشيء ، أي شيء كان ما عدا الحق ، هو أن تعلمه بعلم يكون نتيجة رؤيتك إياه في علم الحق تماما ، ولهذا العلم آيتان : أحدهما استغناؤك بما حصل لك من العلم به من معاودة النظر فيه ، وتكراره طلبا لمزيد معرفته به ، فإن تجدد العلم بالشيء بطريق الازدياد ، بعد دعوى معرفة سابقة به ، إنما موجبه نقصان العلم به أولا ، فلو كمل العلم به أولا لاستغنى عن الازدياد كما هو شأن الحق ، وذلك موقوف على كمال الإحاطة العلمية بالمعلوم ] .
أي : اعلم أن أعلى درجات علم العلماء من الإنس والملائكة بالشيء ، أي شيء كان من البديهيات أو النظريات ما عدا الحق ، فإن حصول أعلى درجات العلم به على نحو ما يعلمه ، من المحالات على ما مر ويأتي أيضا ، هو أن تعلم أنت ذلك الشيء بعلم منحك رؤيتك عين ذاك الشيء ، وحقيقته في علم الحق عند اتصالك به بكشف الحجب بينه وبين
قلبك تماما بجميع استعداداته من غير ذهول بالفناء ؛ بخلاف تصوره بالتعريفات النظرية ، إذ لا يخلو غالبا عن الأوهام والخيالات الفاسدة قبل التصفية الكاملة ؛ ولهذا ترى أكثر النظار يختلفون في التعريفات بعد بذلهم جهدهم فيها .
ولحصول هذا العلم لك آيتان : أحدهما استغناؤك بما حصل لك من العلم اليقيني الذوقي به ، مع صفاء القلب وذكاء النفس عن معاودة النظر فيه ، سواء بطريق العقل أو الكشف ، وتكرار النظر لو اكتسبه أولا بالنظر بعد الصفاء ، والذكاء المذكورين طلبا لمزيد المعرفة به ؛ إذ لا يمكن معاودته ؛ ليتمكن في القلب ، فقد تمكن ويتفرع عليه معرفة لوازمه .
وأما طلب مزيد المعرفة بعد دعوى المعرفة السابقة ، فإنما يمكن لنقصان في السابقة ، إذ لو كانت كاملة من كل الوجوه ، فطلب الزيادة عليه ، طلب لوجه حاصل من تلك الوجوه ، وهو تحصيل الحاصل الذي هو محال ؛ فلذلك لما كان علم الحق كاملا من كل الوجوه ، كان طلب الزيادة عليه محالا .
نعم يمكن له طلب يفصل ما علمه كاملا في ذاته ؛ ليتعلق به فعليّا ، وحصول مثل هذا العلم الموجب للاستغناء المذكور موقوف على كمال الإحاطة العلمية بالمعلوم ؛ فلذلك لما استحال إحاطة المقيد بالمطلق ، امتنع ذلك في علم اللّه لغيره .
قال رضي اللّه عنه : [ والآية الأخرى التي يستدل بها على حصول هذا العلم وصحته ، هي أن ينسحب حكم علمه على الشيء حتى يتجاوز تقيده ، فينتهي إلى أن يرى آخره متصلا بإطلاق الحق ] .
أي : والآية الأخرى الدالة على حصول هذا العلم بالشيء برؤيته إياه في علم الحق تماما ، وعلى صحة ذلك العلم أي يصلح لإنيّته ولميته بخلاف ما سبق ، فإنه يدل على الآنيّة لا غير .
وإنما قال : يستدل بها ؛ ليشعر أنها دليل تشبه الأدلة النظرية ، لما نذكر من وجه الاستدلال بها ، هي أن ينسحب حكم علمه ، أي يحيط أثره على الشيء بجملة أجزائه وعوارضه ، وسائر جهاته حتى يتجاوزه إلى ما فوقه من الذاتيات والعوارض ، وهكذا ذاتيات وعوارض فوق هذه الذاتيات والعوارض التي لما فوقه ، وهلم . . . حتى ينتهي إلى حيث يرى آخر ذلك الشيء ، أي آخر متصورات التصور عند الإحاطة بتصورات الشيء
وتصور ما فوقه ، وهكذا متصلا بإطلاق الحق الذي ليس وراءه شيء ، فيكون عالما به علما تاما ، وذلك لا يكون إلا برؤيته في علم الحق ، إذ هو من جملة الوسائط شامل على الغاية والبداية وما بينها بما لا يتناهى .
ولما فهم من الدليل الأول أن اللّه تعالى لا يمكن معرفته ، لعدم تناهيه مع استحالة إحاطة المتناهي بما يتناهى من غير كافة ، لم يذكر هناك وذكر هاهنا .
فلذلك قال رضي اللّه عنه : [ والعلم بالحق ليس كذلك ، فإنه إنما يتعلق به من حيث تعينه سبحانه في مرتبة أو مظهر أو حال أو حيثية أو اعتبار ، وكلما انضبط للعالم به بتعينه من إحدى الوجوه المذكورة ، يظهر علمه ، ويتعين له من مطلق الذات بحسب حال المتجلي له ، إذ ذاك ما لم يسبق تعينه قبل ذلك ] .
أي : ومن علم بالحق لا يمكن أن ينسحب حكم علمه عليه ، حتى يتجاوزه ؛ لأن علم الحق به إنما يتعلق به من حيث تعينه في مرتبة من الأحدية ، أو الواحدية ، أو مظهر من الأرواح ، أو الأجسام ، أو حال من الظهور والبطون ، أو حيثية من الإطلاق والتقييد ، أو اعتبار من لا يتقيد بشيء من ذلك ، ولا منافاة له .
وكل هذه الأشياء تعينات ، إذ الإطلاق الحقيقي أمر سلبي ، ومع ذلك ما انضبط للعالم به عند تعلقه باعتبار تعين من التعينات المذكورة ، فإنما يظهر له ويتعين في تعلقه ما لم يسبق تعينه الذي قبل ذلك التعين ، ومع ذلك هو من مطلق الذات ، إنما يكون بحسب حال المتجلي له ، فأين الإطلاق الحقيقي ؟ وهو عن تصور ما وراءه ، ويتقيد الإطلاق بتصورات ما وراءه .
ثم استدل على أن تعيناته لا تتناهى ، وإن كان يتصور في بعضها ؛ لأنها مرتبة الإطلاق .
قال قدس الله سره : [ فكلما لا تنتهي أحوال الإنسان إلى غاية تقف عندها ، فكذلك لا تتناهى تعينات الحق ، وتنوعات ظهوراته للإنسان بحسب أحواله التي هي تعينات مطلق ذات الحق ، وتنوعات ظهوراته] .
وقد سبق التنبيه في غير هذا الموضع على أن الأسماء أسماء الأحوال ، وعلى أن الأعيان تتقلب عليها الأحوال .
بخلاف الحق ، فإنه يتقلب في الأحوال ، كما أخبر سبحانه عن ذلك بقوله : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن : 29 ] ، فافهم ، ولا تتأول بل اجتهد أن تعاين أولا فآمن وأسلم تسلم ، واللّه الموفق والملهم .
أي : وكما لا تنتهي أحوال الإنسان إلى غاية لا يكون وراءها له حالة ؛ لأنه بدأ يتغير عليها الأحوال كل حين ، كما هو شأن المشاهد ، وهو تعينات الذات المطلق ، ومتنوعات ظهوراته لا تنتهي تعينات الحق وتنوعات ظهوراته للإنسان بحسب تلك الأحوال . والفرق بين التعينات وتنوعات الظهور ،
أن التعين سبب للظهور ؛ لاكتنافه بالصفات الموجبة له ؛ وتنوعات الظهور إنما هو لاختلاف التعينات باختلاف الصفات والأحوال الإنسانية لما كانت مظهر الذات باعتبار الصفات ، فهي متنوعة لظهوره ، استلزم تنوع الظهورات اختلاف التعينات ، ولزم بكل ظهور تعين مناسبة ، فأحوال الإنسان هي المعينات والمنوعات ؛ ولذلك كانت الأسماء الإلهية التي هي بحسب التعينات أسماء له بالنسبة إلى أحوال الإنسان ، إذ هي التي استلزمت تلك التعينات ، بواسطة استلزامها ، تنوعات الظهور المستلزمة اختلاف التعينات .
وقد سبق التنبيه على ذلك في غير هذا الموضع من كتب القوم ، وعلى عدم تناهيها بقوله تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن : 29 ] ، والأيام لا تتناهى فهكذا شؤونها .
ولما كانت الشؤون بحسب الأعيان الثابتة ، وكلها في الإنسان بجمعيته ، فأحوال الإنسان لا تناهى ، فهكذا ما يلزمها من تنوع الظهورات ، وما يلزمها من تكثرات التعينات إلى غير النهاية ، ولما كانت غير متناهية ، امتنع الإحاطة بها ، فكيف يتجاوز إلى ما ورائها حتى يقيد بذلك ، فافهم . ولا تتأول شيئا مما ذكرنا ، فإنه على ظاهره ، بل اجتهد أن تعاين هذا الأمر ، فآمن به أولا ، وأسلم تسلم من الخطأ في ادعاء معرفة ما لا يمكن معرفته ، أعني الحق من جهة جميع تعيّناته ، واللّه الموفق لهذه المعرفة التي هي معرفة العجز عن حقيقة المعرفة ، والملهم بإلقاء ما تحقق امتناع الوصول إليه ، واللّه أعلم .