المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
مشرع الخصوص إلى معاني النصوص
للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي
وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
الفصل الأول : في الأدلة النقلية
اعلم أن التوحيد هو الحكم بثبوت الوحدة للّه تعالى ، وهو مما اتفق عليه جمهور العقلاء ؛ لكن خصّ المحققون بمعرفة مبدأه ومناط ثبوته لموضوعه ، وهو الوجود المحيط بالكل استنباطا من القرآن الكريم ، وأقوال نبيه العظيم صلى اللّه عليه وسلّم ، والسلف الذين هم سراج الصراط المستقيم ، مع ما منحوا من الإلهام والحدث ، والفكر المؤيد بنور القدس عند صفاء النفس .
أما من القرآن فقوله تعالى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [ البقرة : 115 ] ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [ فصلت : 53 ، 54 ] .
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الحديد : 3 ] ، وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [ البقرة : 186 ] ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ ق : 16 ] ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [ الواقعة : 85 ] ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد :
4 ] ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ الأنفال : 17 ] . . إلى غير ذلك مما لا ينحصر من الآيات الكريمات .
وأما أقواله صلى اللّه عليه وسلّم : “ أصدق كلمة قالتها العرب ؛ كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل “ .
وقوله صلى اللّه عليه وسلّم : “ إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه ، وإن ربه بينه وبين القبلة ؛ فلا يبصقن أحدكم قبل قبلته ؛ ولكن عن يساره أو تحت قدمه “ .
.................................................................
( 1 ) رواه ابن راهويه في مسنده ( 1 / 362 ) ، وذكره المناوي في فيض القدير ( 1 / 524 ) .
( 2 ) رواه البخاري ( 1 / 160 ) .
وقوله صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه تعالى : “ ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها “ .
وقوله صلى اللّه عليه وسلّم : “ إن اللّه تعالى يقول يوم القيامة : يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني . . إلى آخره “ .
وقوله صلى اللّه عليه وسلّم : “ اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمّا ولا غائبا عنكم ، تدعون بصيرا ، وهو معكم والذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته “ .
وروى الترمذي في حديث طويل : “ والذي نفس محمد بيده ؛ لو أنكم دلّيتم بحبل إلى الأرض لهبط على اللّه ، ثم قرأ : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم “ ، إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة ؛ وإنما أوّلها جمهور العلماء فرارا من الشبهات ، وسنرفعها ، فلا حاجة إلى تلك التأويلات .
وأما من أقوال الأئمة ؛ فمنها ما قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي - قدّس اللّه روحه - في الباب الثالث من كتاب التلاوة من “ الإحياء “ : فمن عرف الحق رآه في كل شيء ، إذ كل شيء هو منه وإليه وبه وله ، فهو الكل على التحقيق ، ومن لا يراه في كل ما يراه ؛ فكأنه ما عرفه ، ثم قال : بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كل شيء إلا اللّه .
وفي كتاب : ( الصبر والشكر منه ) ، في بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر ، ونقول هاهنا نظران : نظر بعين التوحيد المحض ، وهذا النظر يعرّفك قطعا أنه الشاكر وأنه المشكور ، وأنه المحب وأنه المحبوب ، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، وإن ذلك صدق في كل حال أزلا وأبدا .
النظر الثاني : وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد ، فالموجد حق والموجد باطل من حيث هو هو ، والموجود قائم وقيوم ، والموجد هالك وفان ، وإذا كان كل من
..........................................................................
( 1 ) رواه البخاري ( 5 / 2384 ) ، والطبراني في الأوسط ( 9 / 139 ) .
( 2 ) رواه مسلم ( 4 / 1990 ) ، وابن حبان في الصحيح ( 1 / 503 ) .
( 3 ) رواه البزار في مسنده ( 8 / 19 ) .
( 4 ) ذكره القرطبي في التفسير ( 1 / 260 ) .
عليها فان ، فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ثم قال : إن كحّل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه ، وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له من نقصانه ما أثبته سوى اللّه ، فإن بقي في سلوكه كذلك ؛ فلا يزال يفضي به النقصان إلى المحو ، فينمحي عن رؤية ما سوى اللّه ، فلا يرى إلا اللّه ، فيكون قد بلغ كمال التوحيد ، وحيث أدرك نقصانا في وجود ما سوى اللّه ؛ دخل في أوائل التوحيد .
ثم قال في ( كتاب الرجاء والخوف منه ) ، في بيان درجة الخوف واختلافه في القوة والضعف : فإن أثمر الورع فهو أعلى ، وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصديقين ، وهو أن يسلب الظاهر والباطن مما سوى اللّه تعالى ، حتى لا يبقى لغير اللّه تعالى فيه متسع .
ثم قال في كتاب ( التوحيد والتوكل ) ، في بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل : للتوحيد أربع مراتب ، وهو ينقسم إلى لب ، وإلى لبّ اللب ، وإلى قشر ، وإلى قشر القشر .
ثم قال : والرابعة ألا يرى في الوجود إلا واحدا ، وهو مشاهدة الصديقين .
ثم قال : فإن قلت : كيف يتصوّر ألا يشاهد إلا واحدا ، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة ، وهي كثيرة ، فكيف يكون الكثير واحدا ؟ ثم قال في الجواب :
إن الشيء قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة واعتبار ، ويكون واحدا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار ، وهذا كما أنّ الإنسان كثيرا ما التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه ، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد ، إذ نقول : إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد .
ثم قال : فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة ، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد ، وباعتبارات أخرى سواها كثير ، بعضها أشد كثرة من بعض ، ثم استشهد بتصديقه صلى اللّه عليه وسلم لبيدا .
ثم قول سهل : يا مسكين كان ولم تكن ، ويكون ولا تكون ، فلما كنت اليوم صرت تقول أنا ، وأنا ، كن الآن كما لم تكن ، فإنه اليوم كما كان .
ثم قال في كتاب ( المحبة والشوق منه ) ، في بيان سبب قصور أفهام الخلائق عن
معرفة اللّه تعالى : اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو اللّه تعالى . ثم قال : فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان : أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه ، وذلك لا يخفى مثاله ، والآخر : ما يتناهى وضوحه ، وهذا كما أن الخفّاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار ، لا لخفاء النهار واستتاره ؛ لكن لشدة ظهوره ، فكذلك عقولنا ضعيفة ، وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة في ملكوت السماوات والأرض ، فصار ظهوره سبب خفائه ؛ فسبحان من احتجب بإشراق نوره ، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره ، ولا تتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور ؛ فإن الأشياء تستبان بأضدادها ، وما عم وجوده حتى أنه لا ضدّ له عسر إدراكه .
ثم قال : فاللّه تعالى هو أظهر الأمور ، وبه ظهرت الأشياء كلها ، فلو كان له عدم أو غيبة أو تغير ؛ لا نهدمت السماوات والأرض ، وبطل الملك والملكوت ، ولأدرك به التفرقة بين الحالين ، ولو كانت بعض الأشياء موجودة به ، وبعضها موجودة بغيره ؛ لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ؛ ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد ، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه ، فلا جرم أورثت شدة ظهوره خفاء ، فهذا هو السبب في قصور الأفهام ، فأما من قويت بصيرته ولم تضعف همته ؛ فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا اللّه ، ولا يعرف غير اللّه ، ويعلم أنه ليس في الوجود إلا اللّه ، وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له ، فلا وجود بالحقيقة دونه ؛ وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها . ومن هذا حاله ، فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنه سماء وأرض وحيوان ونبات وشجر .
ثم قال : وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا اللّه ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ، بل من حيث أنه عبد اللّه ؛ فهو الذي يقال فيه : أنه فني في التوحيد ، وأنه فني عن نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ، ففنينا عنا ، فبقينا بلا نحن ، ثم قال : ولذلك قيل :لقد ظهرت فما تخفى على أحد * إلّا على أكمه لا يعرف القمرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجبا * فكيف يعرف من بالعين استتر
إلى غير ذلك من المواضع الصريحة وغيرها .
ومنها ما قال إمام العلماء فخر الدين الرازي ، في “ شرح أسماء اللّه تعالى “ ، في الفصل السادس من المقدمات في الكلام ، على قوله : أعوذ بك منك :
وفيه لطائف : الأولى : معناه أنه لو كان هاهنا غيرك لا ستعذت به خوفا منك ؛ لكنه ليس في الوجود إلا أنت ، فلا استعذت منك إلا بك .
ثم قال في تفسيره هو : فأما لفظ هو ، فهو نصيب المقربين السابقين ، الذين هم أرباب النفوس المطمئنة ؛ وذلك لأن لفظ هو إشارة ، والإشارة تفيد تعيين المشار إليه ، بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، فأما إن حضر هناك شيئان ، لم تكن الإشارة وحدها كافية في التعيين ، والمقربون لا يحضر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الأحد الحق لذاته ، واعلم أن الحق هو الموجود ، والباطل هو المعدوم .
ثم قال : فإذا كل ممكن فهو من حيث هو باطل وهالك ؛ ولهذا قال اللّه تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : 88 ] ، ولهذا المعنى يقول العارفون : لا موجود في الحقيقة إلا اللّه .
ثم قال في تفسير الحق ، في تأويل قول الحلاج : “ أنا الحق “ : إنّا بينا بالبرهان النيّر ،
.................................................................
( 1 ) قال الشيخ الشعراني نقلا عن الشيخ الجيلي : قوله عن الحلاج : وإن لم يكن من أهل الاحتجاج ، إنما لم يجعله الشيخ من أهل الاحتجاج ؛ لأنه لما تحدى ، وقال : أنا الحق ، قتله سيف الشريعة ، فلو امتنع بمقتضى صفات الحق لم يستطع أن يقتله أحد ، فكانت تثبت حجته وتصح دعواه ، كما قال أبو يزيد :
سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وحمى نفسه أن يسطو عليه أحد لقوة حاله ، فأقام حجته ، وكذلك وقع للشيخ عبد القادر وغيره نحو ذلك ، وحموا نفوسهم ، فكان الحلاج دون هذه المرتبة ، وإن كان على الحق ؛ ولهذا أخذته سيوف الشريعة ولا مؤاخذة على من قام عليه ؛ لأنهم قاموا بالحق ولو كان حقه أعلى من حقهم ، ونهاية الأمر أن الذين فعلوا هذا الفعل إذا ظهرت عليهم الحقائق نكسوا رؤوسهم وآمنوا بقوله ، ولولا الحقيقة ما أخذته الشريعة ؛ وذلك لأنه طلب ظهوره بالربوبية في عالم العبودية ، وذلك أعز من وجود النار في قعور البحار ، أطلقه لسان الوقت على قيد الهيكل الجثماني ؛ ليتحقق بما ادعاه في العالم اللائق بتلك الدعوى عليه ما جرى غيره من الحقائق على الحقائق ؛ لئلا يدعى هذا المقام من ليس له ذلك ، ولو كان الحلاج متحققا بذلك كمال التحقيق كما كان غيره عليه من الكمال ؛ لا متنع بحق صفات الربوبية عن تلك القتلة كما امتنع غيره ، فكان الحلاج على بينة من اللّه ، ولكن لم يكن له شاهد تلك البينة ، فعجل وتكلم قبل التمكن في المقام ،
أن الموجود هو الحق سبحانه ، وأن كل ما سواه فهو باطل ، فهذا رجل فني ما سوى الحق في نظره ، وفنيت أيضا نفسه عن نظره ، ولم يبق في نظره وجود غير اللّه ، فقال في ذلك الوقت أنا الحق ، كأن الحق سبحانه أجرى هذه الكلمة على لسانه حال فنائه بالكلية من نفسه ، واستغراقه في نور جلال اللّه تعالى ، ثم نقل عن الغزالي في سبب غلبة جريان اسم الحق على لسان الصوفية : إنهم في مقام المكاشفة ، ومن كان في مقام المكاشفة رأى اللّه حقّا وغيره باطلا ، وأما المتكلمون فهم من مقام الاستدلال بغير اللّه على وجود اللّه ، فلا جرم كان الغالب على ألسنتهم اسم الباري تعالى .
ثم قال في تفسير اسمه الولي : وعندي أنّ قرب اللّه من العبد أعظم مما دلت عليه ظواهر هذه الآيات ، وبيانه أن ماهيات الممكنات لا تصير موصوفة بالوجود إلا بتوسط إيجاد الصانع ، فعلى هذا : هذه الماهيات اتصلت بإيجاد الصانع أولا ، ثم بواسطة ذلك الإيجاد حصل لها الوجود ، فقربها من إيجاد الصانع أشد من قربها من وجودها ، بل هاهنا ما هو أدق منه ؛ وذلك لأنه ظهر عندنا أن الماهيات إنما تكون في كونها ماهيات وحقائق بتكوين الصانع وإيجاده ، فيكون إيجاد الصانع لتلك الماهيات مقدما على تحقق تلك الماهيات ، فيكون قرب الصانع منها أتم من قربها من نفسها ، وأقول : الدليلان إنما يدلان على قربها من الإيجاد ، الذي هو نسبة غير موجودة ، لا من ذات الموجد سبحانه ؛ لكن قربه سبحانه من الأشياء ليس كقرب الأشياء بعضها من بعض بالزمان أو المكان أو الرتبة ، بل هو قرب لا يدركه العقل بطريق الفكر ؛ ما لم يتنور بالنور المقدس .
ثم إن الدليل الثاني لو تم ، فإنما يتم في الماهيات الموجودة ، لا فيها من حيث هي قابلة للوجود والعدم ونفس الماهية هناك ، فكيف يكون قرب الصانع أتم من قربها من نفسها بل من وجودها في الموجودية ؟ وقد ذكر في الأول ، فافهم .
ثم قال في تفسير الواحد الأحد ، بعد إعادة نكتة ذكرها في : “ هو واعلم أن مقام التوحيد مقام يضيق النطق عنه ؛ لأنك إذا أخبرت عنه فهناك مخبر عنه ومخبر به ومجموعهما ، فهو ثلاثة لا واحدة ، فالعقل يعرف ولكن النطق لا يصل إليه .
.................................................................
وأطال في ذلك . [ مختصر الفتوحات المكية ] .
سئل الجنيد عن التوحيد ، فقال : معنى يضمحلّ فيه الرسوم ، وتشوش فيه العلوم ، ويكون اللّه كما لم يزل .
ثم قال : وقال ابن عطاء : من الناس من يكون في توحيده مكاشفا بالأفعال ، يرى الحادثات باللّه ، ومنهم من هو مكاشف بالحقيقة ، فيضمحل إحساسه بما سواه ، فهو يشاهد الجمع سرا بسر ، وظاهره موصوف بالتفرقة .
ثم قال في تفسير اسمه الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، نقلا عن الغزالي : إنما خفي لشدة ظهوره ونوره ، وهو حجاب نوره .
وهو المراد من قول بعض المحققين : سبحان من اختفى عن العقول بشدة ظهوره ، واحتجب عنها بكمال نوره .
ثم قال في تفسير اسمه النور : إن النور الظاهر : هو الذي يظهر به كل شيء خفيّ ، والخفاء ليس إلا العدم ، والظهور ليس إلا الوجود ، والحق سبحانه موجود لا يقبل العدم ، فهو نور لا يقبل الظلمة ، والحق سبحانه هو الذي وجد به كل ما سواه ، فهو سبحانه نور كل ظلمة وظهور كل خفاء ، فالنور المطلق هو اللّه ، بل هو نور الأنوار ، إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي في العوارف ، في الباب الثامن : “ والصوفي صفا عن هذه البقية في طرفي العمل والترك للخلق ، وعز لهم بالكلية وراءهم بعين الفناء والزوال ، ولاح له ناصية التوحيد ، وعاين سر قوله تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : 88 ] .
ما قال بعضهم في بعض غلباته : ليس في الدارين غير اللّه .
ثم قال في الباب العشرين : فأما الفناء الباطن - وهو محور آثار الوجود عند لمعان نور الشهود - يكون في تجلي الذات .
ثم قال في الباب الثلاثين : فالصوفي في الابتداء ينفي الخلق ، ويرى الأشياء من اللّه ؛ حيث طالع ناصية التوحيد ، فإذا ارتقى إلى ذروة التوحيد يشكر الخلق بعد شكر الحق ، ويثبت لهم وجودا في المنع والعطاء ، بعد أن يرى المسبب أولا ؛ وذلك لسعة علمه وقوة معرفته ، يثبت الوسائط ، فلا يحجبه الخلق عن الحق كعامة المسلمين ، ولا يحجبه الحق عن
الخلق كأرباب الإرادة والمبتدئين ، فيكون شكره للحق ؛ لأنه المنعم والمعطى والمسبب ، ويشكر الخلق ؛ لأنهم واسطة وسبب .
ثم قال في الباب السابع والثلاثين : ومن الساجدين من يكاشف أنه يطوي بسجوده بساط الكون والمكان ، ويسرح قلبه في فضاء الكشف والعيان ، فيهوى دون هوية إطباق السماوات ، تمّحي لقوة شهوده تماثيل الكائنات ، ويسجد على طرف رداء العظمة .
ثم قال في الباب الحادي والستين : فيغلب وجوده الحق الأعيان والأكوان ، فيرى الكون باللّه من غير استقلال الكون بنفسه .
ثم قال في الباب الحادي والستين : وكان الحب والشوق منهم إشارة من الحق إليهم عن حقيقة التوحيد ، وهو الوجود باللّه .
ثم قال : فالساجد إذا أذيق طعم السجود يقرب ؛ لأنه يسجد ويطوى بسجوده بساط الكون ، ما كان وما يكون ، ويسجد على طرف رداء العظمة ، فيقرب .
ثم قال : ومنهم من يرتقي إلى مقام الفناء ، مشتملا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة ، مغيّبا في شهوده عن وجوده ، وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين ، وهذا المقام رتبة في الوصول ، وفوق هذا حق اليقين ، ويكون من ذلك محورا في الدنيا للخواص ، وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد ، حتى تحظى به روحه ونفسه وقلبه حتى قالبه ، وهذا من أعلى رتب الوصول .
ثم قال : ومن الإشارة إلى الفناء ، وما روى عن عبد اللّه بن عمر : “ أنه سلّم عليه إنسان وهو في الطواف ، فلم يرد عليه ، فشكاه إلى بعض أصحابه ، فقال : كنا نتراءى اللّه في ذلك المكان “ .
ثم قال : ولكن الفناء المطلق هو ما يستولى من أمر الحق سبحانه وتعالى على العبد ، فيغلب كون الحق على كون العبد إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الأستاذ أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري ، في رسالة في فضل بيان اعتقاد هذه الطائفة ، عن النصرآبادي أنه يقول : “ أنت متردد بين صفات الفعل وصفات الذات ، وكلاهما صفة على الحقيقة ، فإذا هيّمك في مقام التفرقة قرّبك بصفات
............................................
( 1 ) رواه الحكيم الترمذي في النوادر ( 2 / 305 ) ، وابن سعد في الطبقات ( 4 / 167 ) .
فعله ، وإذا بلّغك إلى مقام الجمع قرّبك لصفات ذاته “ .
ثم قال : “ ورأيت بخط الأستاذ أبي على الدقاق أنه قيل لصوفي : أين اللّه ؟ فقال :
أسخطك اللّه ، أتطلب مع العين أين ؟ “ .
وفي باب تفسير الألفاظ ، في بيان لفظ التواجد "1"والوجد والوجود “ 3 "
عن الجنيد أنه قال : “ علم التوحيد مبائن لوجوده ، ووجوده مبائن لعلمه “ .
................................................
( 1 ) التواجد : استعمال الوجد ، بتعمد في تحصيله ، ففي الحقيقة لا يصادف الوجد الأعلى القلب الفارغ فجأة ، فما يحصل بالاستدعاء لا يكون وجدا .
وقيل : إظهار حالة الوجد من غير وجد ؛ موافقة لمن به الوجد ، وإن كان من إثارة الطبع فليس ذلك من شيم أهل الطريقة .
( 2 ) قيل : إنه بمعنى الوجدان للشيء ، والوجود له ، ويتفاوت معناهما . والمراد بذلك مصادفة الشيء وملاقاته معنى أو صورة . وقيل : الوجد يخص من بينهما بكونه عبارة عما يصادف القلب من الحزن على فوت مطلوب . وقيل : الوجد عن كل ما يرد على النفس وتجده في ذاتها . وخصه بعضهم بما كان من ذلك متعلقا بالفضائل فقط . والوجد هو المنزل السادس من المنزل العشرة التي يشتمل عليها قسم الأحوال كما عرفت ذلك فيما مر . والمراد بالوجد : لهيب يتأجج من شهود عارض مقلق ، وذلك عندما يجد السر أثر الألم والقهر العارض من العطش والقلق ، وقد عرفتهما بحيث يكاد أن يغيبه .
ولهذا قالوا بأن الوجد ما يصادف القلب من الأحوال المفنية له عن الشهود . وقالوا : الوجد ثمرة الواردات التي هي ثمرة الأوراد ، فمن ازدادت وظائفه ازدادت من اللّه لطائفه ، ومن لا ورد له بظاهره ، فلا وجد له في باطنه ، وليس له وجدان في سرائره .
( 3 ) الوجود : وجدان الحق في الوجد ، فإن المشهود في الوجد هو ما صادف بغتة ، وما صادف بغتة إن لم يكن وجود الحق لا يفنيك عن شهودك نفسك وشهود الكون ، إذ من شأن القديم أن يمحو الحادث عند اقترانه به ، لا شأن غيره ، ولكن وجود الحق في الوجد غير معلوم ؛ إذ ما يقع به المصادفة قد يكون على حكم ما عينه السماع المطلق أو المقيد فلا ينضبط ؛ فإنه : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن : 29 ] ، ولذلك قال قدّس سرّه : إذا رأيتم من يقدر الوجد على حكم ما عينه السماع المطلق أو المقيد فما عنده خبر بصورة الوجد ، فإنما هو صاحب قياس في الطريق ، وطريق اللّه تعالى لا يدرك بالقياس ؛ فإنه : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، وإن كل نفس في استعداد .
فوجود الحق في الوجود إنما يختلف عند الواجد بحكم الأسماء الإلهية ، وبحكم الاستعدادات الكونية في كل نفس إلى لا غاية .
( 4 ) انظر : الرسالة ( 1 / 203 ) ، والتعريفات للجرجاني وعقب بقوله : الوجود فقدان العبد بمحاق وعن أبي على الدقاق : “ إن الوجود يوجب استهلاك العبد ، فهو كمن غرق في البحر “ .
ثم قال : “ صاحب الود له صحو ومحو ، فحال صحوه بقاؤه بالحق ، وحال محوه فناؤه بالحق ، وهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه ، فإذا غلب عليه الصحو بالحق فيه يصل ، وبه يقول “ ، قال صلى اللّه عليه وسلم وأولاده فيما أخبر عن الحق : “ فبي يسمع ، وبي يبصر “ .
ثم قال في بيان الجمع والفرق : “ ويختلف الناس في هذه الجملة على تباين أحوالهم وتفاوت درجاتهم ، فمن أثبت نفسه وأثبت الخلق ولكن يشاهد الكل قائما بالحق ؛ فهذا هو جمع ، وإن كان مختلفا عن شهود الخلق ، مصطلحا منقلعا عن نفسه ، مأخوذا بالكلية عن الإحساس ، يعلن بما ظهر واستولى من سلطان الحقيقة ؛ فذلك جمع الجمع ، فالتفرقة شهود الأغيار للّه عز وجل ، والجمع شهود الأغيار باللّه ، وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس بما سوى اللّه عند غلبات الحقيقة ، وبعد هذا حالة عزيزة يسميها القوم الفرق الثاني ، وهو أن يرد إلى الصحو عن أوقات أداء الفرائض ، فيجري عليه القيام بالفرائض في أوقاتها ، فيكون رجوعا باللّه لا للعبد بالعبد “ .
ثم قال في بيان القرب :وما الزّهد أسلا عنهم غير أنّني * وجدتك مشهودا بكلّ مكانثم نقل عن الجنيد في باب التوحيد ما ذكره الإمام الرازي عنه ، ثم قال : “ وقيل لأبي بكر التلمساني : ما التوحيد ؟ فقال : توحيد وموحد وحد ، هذه ثلاثة .
وقال رويم : التوحيد محو الآثار البشرية وتجرد الألوهية ، وقال : علامة حقيقة التوحد القائم به واحدا .
ثم نقل عنه ما ذكره الإمام عنه ، ثم قال : وسئل الجنيد عن التوحيد ، فقال : سمعت
أوصاف البشرية ، ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية وثم ظهور سلطان الحقيقة ، وهذا معنى قول أبي الحسين النوري : أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد إذا وجدت ربي فقدت قلبي .
وهذا معنى قول الجنيد : علم التوحيد مباين لوجوده ، ووجود التوحيد مباين لعلمه . فالتوحيد بداية ، والوجود نهاية والوجود واسطة بينهما . التعريفات ( ص 324 ) .
............................................................
( 1 ) رواه الحكيم الترمذي في النوادر ( 1 / 265 ) .
مغنيا يقول :
وغنّى لي منّي قلبي وغنّيت كما غنّى * وكنّا حيث ما كانوا وكانوا حيث ما كنّ
ثم قال : وقيل لذي النون : بم عرفت ربك ؟ قال : عرفت ربي بربي ، ولولا ربي لما عرفت ربي .
وقال الشبلي : العارف لا يكون لغيره لا حظّا ، ولا لكلام غيره لا فظا .
وسئل أبو يزيد عن العارف ، فقال : لا يرى في نومه غير اللّه ، ولا في يقظته غير اللّه ، ولا يوافق غير اللّه ، ولا يطالع غير اللّه .
ثم قال في باب المحبة : وقيل : محو المحب بصفاته ، وإثبات المحبوب بذاته ، إلى غير ذلك من المواضع .
وقال في تفسيره للقرآن المسمّى باللطائف :
في قوله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى [ البقرة : 60 ] والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاحتطاف عن الكون والموسومات .
قوله : إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ [ البقرة : 71 ] وكما أن مقصودهم اللّه ، فكذلك مشهودهم اللّه وموجودهم اللّه ، بل هم وجودهم باللّه والخلق عنهم اللّه .
وفي قوله تعالى : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [ البقرة : 173 ] وحرم اللّه على السرائر صاحبته غير اللّه ، بل شهود غير اللّه .
وفي قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا [ البقرة : 177 ] فالتوحيد لا يبقي رسما ولا أثرا ، ولا يغادر غيرا ، ولا غير ، أي : تغيرا .
وفي قوله تعالى : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ البقرة : 255 ] ومن تحقق هذه المقالة لا يرى ذرة الإثبات لغيره ، أو من غيره .
ثم قال : فيصدق إليه انقطاعه ، ويدوم بوجود انفراده ، فلا يسمع إلا من اللّه ، ولا يشهد إلا باللّه .
وفي قوله تعالى : لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ البقرة : 273 ] كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم .
ثم قال : فلا يعلم لهم نفسا واحدا مع الخلق ، وأنّي بذلك ولا خلق ، وإذا لم يكن فإثبات ما لم يكن شرك في التوحيد ، ثم قال : وليس على سرهم ذرة من إثبات الأغيار .
وفي قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ [ آل عمران : 64 ] : وكما لا يكون غيره معبودك ، لا يكون غيره مقصودك ومشهودك ، وهذا هو اتقاء الشرك ، وأنت أول الأغيار الذين لا تشهدهم .
وفي قوله تعالى : وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [ آل عمران : 80 ] : أي يأمركم بإثبات الخلق بعد تخصيصهم شهود الحق .
ويقال : أيأمركم بمطالعة الأشكال ونسبة الحدثان إلى الأمثال ؛ بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد ، وطلعت في قلوبكم شموس التفريد ؟ .
وفي قوله : وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [ آل عمران : 101 ] ومن كشف عن سره غطاء التفرقة ؛ تحقق بأن لا غيرية ذرة ؛ إذ منه سببه .
وفي قوله تعالى : الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ آل عمران : 172 ] فاستجابته الحق بالتحقيق لوجوده .
وفي قوله تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [ النساء : 36 ] الشرك جليّه اعتقاد معبود سواه ، وخفيّه ملاحظة موجود سواه ، التوحيد أن تعرف أن الحادثات كلها حاصلة باللّه ، قائمة به .
وفي قوله تعالى : إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [ النساء : 117 ] ، وما إبليس إلا مقلب في القبضة على ما يريده المنشئ ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان شريكا في الإلهية .
وفي قوله : لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [ المائدة : 89 ] ومن أنت في الواقعة حتى تقدّم نفسك ؟ وأين في الدار ديار حتى يقول بتركه أو يتحقق بوصله أو هجره ؟ كلا بل هو اللّه الواحد القهار .
وفي قوله تعالى : قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ الأنعام : 12 ] سألهم هل في الدار ديار ؟
وفي قوله تعالى : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [ الأنعام : 76 ] ، ويقال : قوله عند شهود الكواكب والشمس والقمر هذا رَبِّي [ الأنعام : 78 ] ، إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار باللّه ، ثم كان يرى الأشياء للّه ومن اللّه ، ثم طالع الأغيار محو في اللّه .
وفي قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [ الأنعام : 28 ] في التحقيق وضع الشيء في موضعه ، وأصعبه حسبان الحدثان ما لم يكن فكان ؛ فإن المنشئ اللّه والمجرى اللّه ، ولا إله إلا اللّه ، وسقط ما سوى اللّه .
وفي قوله تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ [ الأنعام : 88 ] ، يعني : لولا حظوا غيرا ، أو شاهدوا من دوننا شيئا ، أو نسبوا شيئية من الحدثان إلى غير قدرتنا في الظهور ؛ لتأسى ما أسلفوه عن عرفانهم .
وفي قوله : وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [ الأنعام : 127 ] لا في بدايتهم يقصدون غيره ، ولا في نهايتهم يجدون غيره ، ولا في وسطهم يشهدون غيره ، إلى غير ذلك من المواضع التي لا تنحصر .
ومنها ما قال الشيخ المحقق أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي النيسابوري ، في تفسيره المسمى بالحقائق : قيل : إن الباء في “ بسم “ أنه باللّه ظهرت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجليه حسنت المحاسن ، وبالاستتار قبحت وسمحت .
وكتب أبو سعيد الخراز إلى بعض إخوانه : هل يقدّر أحد اللّه إلا باللّه ؟ وهل يرى اللّه إلا اللّه ؟ وهل عرف اللّه أو يعرفه إلا اللّه ؟ وهل كان قبل العبد وقبل الخلق إلا اللّه ؟ وهل
............................................................
( 1 ) قال روزبهان البقلي : “ الباء “ : كشف البقاء لأهل الفناء ، و “ السين “ : كشف سناء القدس لأهل الأنس ، و “ الميم “ : كشف الملكوت لأهل النعوت ، و “ الباء “ : برّه للعموم ، و “ السين “ : سرّه للخصوص ، و “ الميم “ : محبته لخصوص الخصوص ، و “ الباء “ : بدء العبودية ، و “ السين “ : سرّ الربوبية ، و “ الميم “ : منة في أزليته على أهل الصفوة . و “ الباء “ من بسم أي : ببهائي بقاء أرواح العارفين في بحار العظمة . و “ السين “ من بسم أي : بسنائي سمت أسرار السابقين في هواء الهوية . و “ الميم “ من بسم أي : بمجدي وردت المواجيد قلوب الواجدين من أنوار المشاهدة . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم : “ إن الباء بهاؤه ، والسين سناؤه ، والميم مجده “ . وقيل فيبِسْمِ اللَّهِ: باللّه ظهرت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجلّيه حسنت المحاسن ، وباستناره فتحت المفاتح .
الآن في السماوات والأرض وما بينهما إلا اللّه ؟ إذ لم يكونوا باللّه ، فكانوا باللّه وللّه .
وفي قوله تعالى : فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [ البقرة : 54 ] ، قال الفارسي : التوبة محو البشرية بإثبات الألوهية .
وقوله تعالى : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [ البقرة : 256 ] ، وقيل : الطاغوت كل ما سوى اللّه تعالى . وفي الجملة من لم يتبرأ من الكل لا يصح له الإيمان باللّه .
وفي قوله تعالى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [ البقرة : 257 ] ، قال ابن عطاء :
يفنيهم عن صفاتهم بصفته ، فتندرج صفاتهم تحت صفاته ، كما اندرجت أكوانهم تحت كونه ، وحقوقهم عند حقه .
وقوله : لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [ البقرة : 284 ] ، فمن اشتغل بهما اشتغل بلا شيء عن كل شيء .
وفي قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ [ آل عمران : 5 ] ، قال جعفر : فلا يطلعن عليك ، فيرى في قلبك سواه فيمقتك .
وفي قوله : أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [ آل عمران : 83 ] قال الواسطي : من تمسك بغير الوحدانية ، بل بغير الواحد ؛ فهو بعيد عن الحقيقة .
وفي قوله تعالى : مَقامُ إِبْراهِيمَ [ آل عمران : 97 ] ، قال الشبلي : من شاهد فيه مقام الخليل والمقام فهو شريف ، ومن شاهد فيه المقام الحق فهو أشرف .
وفي قوله تعالى : اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [ آل عمران : 102 ] ، قال جعفر :
التقوى : ألّا ترى في قلبك شيئا سواه .
وقوله : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا [ آل عمران : 102 ] ، قال الثوري : العامة في قميص العبودية ، والخاصة في قميص الربوبية ، فلا يلاحظون العبودية ، وأهل الصفوة جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم .
وقوله : وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [ آل عمران : 180 ] ، قال ابن عطاء : ومن نظر في طريق الحق إلى الغير ؛ حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب .
وقوله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ آل عمران : 190 ] ، قال
بعضهم : إن الخواص لم ينظروا إلى الكون والحوادث إلا بمشاهدة الآيات ، وما شاهدوا الآيات إلا بمشاهدة الحق ، ومن شاهد الحق لم يمازج طعم الحدث ، وإني بالحدث لمن الحدث عنده غير الحدث .
وفي قوله تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ [ النساء : 36 ] ، قال ابن عطاء :
الشرك أن ترى غيره ، أو ترى من سواه ضرّا ونفعا .
وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [ النساء : 48 ] ، قال الواسطي :
هو ألا يطالع سره شيئا سوى اللّه .
وقوله تعالى : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [ النساء : 80 ] ، قيل : طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم طاعة الحق ؛ لفنائه عن أوصافه وقيامه بأوصاف الحق ، وفنائه عن رسومه وبقائه بالحق ظاهرا وباطنا ، فبطاعته وذكره يصل العبد إلى الحق ، وبمخالفته ينقطع عنه .
وقوله : فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [ المائدة : 117 ] ، قال أبو بكر الفارسي : الموحد حيث ما نظر كان الحق منظوره ، إن أخلد في النار لم يلتمس فرجا ؛ لأن رؤية الحق وطئه ونجاته وهلكته من غير واحدة ، لم يبق حجاب إلا طمسه برؤية التفريد ، فكان المخاطب والمخاطب واحدا ؛ وإنما يخاطب الحق نفسه بنفسه .
وقوله عزّ وجل : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [ الأنعام : 76 ] ، قال الواسطي :
يطالع الحق بسره لا الكوكب .
وقوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ [ الأنعام : 98 ] ، قال الواسطي : مستقر فيه أنوار الذات على الأبد .
وقوله : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [ الأنعام : 116 ] ، قيل : من نظر إلى سوى الحق خاب وضل .
وفي قوله تعالى : وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [ الأعراف : 143 ] ، سأل النظر إليه إذ رجع إلى حقيقته ، فرأى اللّه في كل منظور له ومبصر .
وقوله : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ [ الأعراف : 143 ] ، قال الواسطي : وصل إلى الخلق من صفاته ونعوته على مقادير هم لا كلية الصفات ، كما أن التجلي لم يكن بكلية الذات .
وقوله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ . . . الآية [ الأنفال : 17 ] ، قال بعضهم : ما رميت ، ولكن رميت بسهم الجمع فغيبك عنك ، فرميت ولا سيّما الرّامين عنك ؛ لأن المباشرة منك ، والحقيقة لنا إذا لم نفرق .
وفي قوله : وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [ يونس : 61 ] وقال بعضهم : من شهد شهوده إياه ؛ قطعه ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع .
وفي قوله تعالى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [ هود : 3 ] قال يوسف : واستغفار الأكابر من رؤية كل شيء سوى الحق . وقوله : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] ، قال النهرجوري : ولا يطلع عليه إلا الأمناء .
ثم قال : هم الذين لم يبق عليهم منهم حظ ، ولا لهم منهم مطالبة ، فكانوا بلا كون ، وشهدوا بلا شهود .
ثم قال : فلا هم هم ، ولا هم لا هم ، فهم هم من حيث الوجود ، ولا هم من حيث الإيجاد . ثم قال : أخرجوا عن حدود التفرقة إلى عين الجمع ، فهم مجموعون في عين جمع الجمع .
وفي قوله تعالى : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [ يوسف : 24 ] ، قال ابن عطاء : احتالت زليخا أن تري نفسها ليوسف ، فحجب اللّه نفسها عن يوسف بالبرهان العالي والحق الظاهر ، حتى لم يشهد في وقته غير الحق .
وفي قوله : أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ [ الرعد : 33 ] ، قال الجنيد : باللّه قامت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجليه حسنت المحاسن ، وباستتاره قبحت وسمجت .
وفي قوله تعالى : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ الحجر : 99 ] ، قال الواسطي : فتتحقق أنك لا تحس بغير الحق ، ولا ترى إلا الحق ، ولا تحادث إلا الحق .
............................................................
( 1 ) وقال سهل : يعني همّ بنفسه الطبيعية إلى الميل إليها ، وهمّ بنفس التوفيق والعصمة الفرار منها ومخالفتها ، ومعناه أنه عصمه ربه ، ولولا عصمة ربه لهمّ بها ميلا إلى ما دعته نفسه إليه ، وعصمه ما عاين من برهان ربه عزّ وجلّ ، هو أنه جاءه جبريل صلوات اللّه عليه في سورة يعقوب عليه السلام عاضّا إصبعه ، فولى عند ذلك نحو الباب مستغفرا . تفسير التستري ( 1 / 233 ) .
وفي قوله تعالى : فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [ طه : 11 ، 12 ] ، قيل لموسى : كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق ؟ فقال : أفناني وشملني ، فكان كل شعرة مني ، كان مخاطبا بنداء من جميع الجهات ، وكأنها تعبر عن نفسها بجواب ، ولما شملتني أنوار الهيبة ، وأحاطت لي أنوار العزة والجبروت ؛ علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظين جميعا متتابعا إلا الحق .
قال : وكان هو محل الفناء ، فقلت أنت ، أنت لم تزل ، وليس لموسى معك مقام ، ولا له جرأة على الكلام ؛ إلا أن تبقيه ببقائك تنعته بنعوتك ، فتكون أنت المخاطب والمخاطب جميعا .
قال : لا يحمل خطابي غيري ولا يجيبني سواي ، أنا المتكلم والمكلم وأنت في الوسط شبح يقع بك محل الخطاب .
وفي قوله : وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [ النور : 39 ] ، قال ابن عطاء : ما وجد الخلق سوى الحق .
وفي قوله تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [ فصلت : 53 ] ، قال الخطمي : لا يزال العبد يرتقي من حال إلى حال ؛ حتى يبلغ الأحوال السنيّة العالية ، ويرى اللّه قائما بالأشياء فانية في رؤية الحق ، ويتيقن أن القديم إذا قورن بالحادث لا يثبت له أثر ، وإن جل قدره وعظم خطره .
وهو معنى قوله : آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ فصلت : 53 ] ، وهو النظر إلى الكون يشاهد الحق ، ثم النظر إلى الحق بالفناء عن الكون ، وهو أن تصير النعوت نعتا واحدا ولا يشهد إلا حقّا صرفا .
وسئل أبو عثمان عمن يقول بالشاهد ، وقال : لا أنكر القول لمن يشهد الأشياء كلها شيئا واحدا .
.........................................
( 1 ) قال ابن عجيبة : الإشارة : كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد اللّه عنده ، فوفاه حسابه ، أي : يناقشه فيما أراد بعلمه ، وأهل التوحيد الخاص : الوجود كله ، عندهم ، كالسراب ، يحسبه الناظر إليه شيئا ، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئا ، ووجد اللّه عنده وحده ، البحر المديد ( 4 / 249 ) .
قال الواسطي : ظهر في كل شيء بما أظهر منه ، وإظهاره الأشياء ظهوره بها ، فإذا فتشتها لا تجد غير اللّه ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلّم : “ أصدق كلمة قالها لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل “ .
وفي قوله تعالى أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ الشورى : 3 ] ، قال : لأن منه مبدأ كل شيء ، وإليه منتهى كل شيء ، فما كان منه وله فهو الساعة به .
وفي قوله تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ [ ق : 16 ] ، ومن تحقق ذلك لعامر بن قيس حين قال : ما نظرت شيئا إلا ورأيت اللّه أقرب إلىّ منه .
وفي قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [ الحديد : 3 ] ، قال جعفر الصادق رضي اللّه عنه : فسقطت هذه المعاني وبقي هو .
وعن الشبلي : الأشياء ساقطة بأنه أول ، آخر ، ظاهر ، باطن ، إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الشيخ الكامل المحقق أبو طالب المكي ، في كتابه “ قوت القلوب “ ، في ذكر وصف الزاهد وفضل الزهد : وروينا عن ابن عباس في قوله تعالى : جَمِيعاً مِنْهُ [ الجاثية : 13 ] ، قال : في كل حرف اسم من أسمائه تعالى ، فكان اسم كل شيء عين اسمه ، كما أن فعل كل عين فعله .
ثم ذكر في فصل آخر : قيل لبعض العارفين هل تأسف الولي على غير اللّه ؟ فقال :
وهل يرى غير اللّه فيأسف عليه .
ثم قال في شرح مقام التوحيد : كل وصف أحكام المتوكلين حين نظر الولي إلى مولاه الذي تولاه فرآه في كل شيء .
ثم قال : إذا كملت مشاهدته وقام بحق شهادته ؛ غيّبت تلك المشاهدة برؤية القيومية وجود الخلقية مع اللّه ، فلم يرها دونه ، قامت له القيومية بنصبه من الملك لما تفرغ قلب لمعاينة الملك ، وهذا من عين اليقين فوق علمه ؛ لأن الحق المبين هو الأول والآخر كم
......................................................
( 1 ) تقدم تخريجه .
( 2 ) انظر : مجموعة آثار السلمي ( ص 58 ) .
هو الظاهر والباطن .
ثم قال : وبعض أشياخنا إذا سئل عن التوكل ؛ أجاب عنه بعين الحقيقة ، فيقول : هو أن تكون مع الحق ، كما لم تكن ، فإن الحق الآن كما لم يزل . ثم قال : يا مسكين كان ولم تكن ، ويكون ولا تكون ، فلمّا كنت اليوم ، قلت أنا وأنا ، كن فيما أنت الآن كما لم تكن ، فاليوم كما كان . ثم قال في ذكر إثبات الأسباب والأوساط : فالمتوكل لا يرى إلا اللّه ، ووصفه وفعله وحكمه ، ففعله ظاهر ، ووصفه باطن ، واللّه الظاهر الباطن ، وحكمه هو الرسم ، واللّه الحاكم الراسم ،
ثم قال : فإن اللّه قد أظهر أسبابا وأثبت نفسه فيها ، فقال : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [ السجدة : 11 ] ،
ثم رفعه وأظهر نفسه فقال : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [ الزمر : 42 ] ،
وكذلك قال في التفصيل : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ [ الأعراف :
30 ] ، وقال في التوحيد : إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ [ الأعراف : 27 ] ، وكما قال في المتشابه : وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [ طه : 85 ] ، وقال في المحكم : إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [ الأعراف : 155 ] ،
ثم قال : وكذلك قيل عن اللّه تبارك وتعالى : أنا الدليل على نفسي ، لا دليل أدل علي مني .
ثم قال في ذكر حكم المتوكل في مزيد آخر من الهدى والبيان .
وقال بعض العارفين : إذا رأيت الأشياء كلها كشيء واحد ، من معدن واحد ، بعين واحدة ؛ أريت ما لم تر قبل ذلك ، وسمعت ما لم تسمع وفهمت ما لم يفهم الخلق .
ثم قال في ذكر أحكام المحبة ووصف أهلها : وتقلب محبة على هوى العبد حتى محبة اللّه هي محبة العبد من كل شيء ، فهو محب للّه حقا ، كما أنه مؤمن به حقا عن مشاهدة اليقين ؛ الذي يغلب رؤيته على رؤية الخلق فيشهده في كل شيء ، ويكون واحدا به دون كل شيء ؛ إذ قد تجلى ، فمن أيقن بكل شيء .
ثم قال : وما قال التوحيد إلا الواحد ، وما قال اللّه إلا اللّه ، ثم قال : لقد بطنت . . إلى آخره . ثم قال في ذكر مخاوف المحبين ومقاماتهم في الخوف :
لقد ظهرت لمن أفنيت بعد فنائه * فكان بلا كون لأنّك كنته
قيل قبله :
لقد بطنت ولا تخفى على أحد * إلّا على أكمه لا يعرف القمر
ثم قال :
لقد ظهرت فما تخفى على أحد * إلّا على أكمه لا يعرف القمر
لقد بطنت فما أظهرت محتجبا * وكيف يعرف من بالعرف استتر
فصرت أعجب ما عانيت مجتهدا * لأننّي حاجب استطلع الخبر
ثم قال : هو الناظر والمنظور ، والسامع والمسموع ، وهو الشاهد والمشهود ، وهو الواجد والموجود ، كما قال بعض المحبين :
ليس في القلب والعيان جميعا * موضع فارغ لغير الحبيب
هو سقمي وصحّتي وشفائي * وبه العيش ما حييت بطيب
ثم قال في شرح دعائم الإسلام ، وفرض التوحيد : هو اعتقاد القلب أن اللّه تعالى واحد لا من عدد ، إلى أن قال : آخر في أوليته ، أول في آخريته ، وأن أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة ولا منفصلة عنه ، وأنه أمام كل شيء ، ووراء كل شيء ، وفوق كل شيء ، ومع كل شيء ، وأقرب إلى كل شيء من نفس الشيء ، وأنه مع ذلك غير محل للأشياء ، وأن الأشياء ليست محلا له ، إلى غير ذلك من المواضع .
وأقول : يناسبه ما روى الواحدي والبغوي ، عن وهب بن منبه : “ نودي من الشجرة ؛ قيل يا موسى ، فأجاب سريعا ما يدرى من دعاه . فقال : إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقك ، ومعك ، وأمامك ، وخلفك ، وأقرب إليك من نفسك ، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا للّه عز وجل ، فأيقن به “ .
ومنها ما قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد اللّه الأنصاري ، في كتابه “ منازل السائرين “ : ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء من التوبة مما دون الحق ، ثم رؤية علة تلك التوبة ، ثم توبة من رؤية تلك العلة ، وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق ، ثم من شهود الفرار إلى الحق ، ثم الفرار من الفرار إلى الحق ، وفي باب السماع وسماع الخاصة ثلاثة
......................................................
( 1 ) رواه ابن أبي عاصم في الزهد ( 1 / 62 ) .
( 2 ) انظر : ( ص 30 ) .
أشياء : شهود المقصود في كل أمر ، والوقوف على الغاية في كل همس ، والخلاص من التلذذ بالتفرق ، وسماع خاصة الخاصة سماع يغسل العلل عن الكشف ، ويصل الأبد بالأزل ، ويرد النهايات إلى الأول .
وفي باب المراقبة : والدرجة الثالثة مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق ؛ استقبالا لعلم التوحيد ، ومراقبة ظهور إشارات الأزل على إيحائين الأبد ومراقبة الخلاص من ربطة المراقبة ، فإن مراقبته تقيده برسمه ، فإذا فني رسمه فني قيده ، والرابطة هي القيد .
وفي باب الشكر : والدرجة الثالثة ألا يشهد العبد إلا المنعم .
ثم قال : وإذا شهد المنعم معبوده استعظم منه النعمة ، وإذا شهده حبّا استحلى منه الشدة ، وإذا شهده تفريدا لم يشهد منه نعمة ولا شدة .
وفي باب المشاهدة : والدرجة الثالثة : مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع ، مالكة لصحة الورود ، راكبة بحر الوجود في باب البقاء ، وبقاء ما لم يزل حقّا بإسقاط ما لم يكن محوا ، أي بقاء الحق بإسقاط ما لم يكن موجودا ، حتى يمحو بالفناء فيه .
وفي باب الجمع : الجمع ما أسقط التفرقة ، وقطع الإشارة ، وشخص عن الماء والطين ؛ بعد صحة التمكين ، والبراءة من التلوين ، والخلاص من شهود الثنوية ، والتنافي من إحساس الاعتدال ، والتنافي من شهود شهودها ، وأما جمع الوجود فهو تلاشى نهاية الاتصال في عين الوجود محقّا ، وأما جمع العين ؛ فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقّا ، والجمع غاية مقامات السالكين ، وهو طرف بحر التوحيد .
وقال في باب التوحيد : والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث ، وإثبات القدم ، قطب مدار الإشارة إلى هذا الطريق ، وأنه علة لا بد من إسقاطه .
ثم قال : فإن التوحيد فوق ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه حين أو يقله سبب .
قال الشيخ الأنصاري : وقد أجبت في سالف الزمان سائلا - سألني عن توحيد الصوفية - بهذه القوافي الثلاث :
ما وحّد الواحد من واحد * إذ كلّ من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته * عارية أبطلها الواحد
توحيد إيّاه توحيده * ونعت من ينعته لاحد
إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الشيخ أبو بكر الكلاباذي البخاري ، في كتاب “ التعرف “ في بحث المعرفة : أجمعوا على أن الدليل على اللّه عزّ وجل هو اللّه وحده .
ثم نقل الثوري وابن عطاء والجنيد ، عن محمد بن واسع : ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه فيه . وعن غيره : ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه قبله .
وعن الجنيد : أنه العارف والمعروف ، ومعناه أنك جاهل به من حيث أنت ؛ وإنما عرفته من حيث هو هو .
ثم نقل في بحث الاتصال ، عن ابن عمر : كنا نتراءى اللّه في ذلك المكان ، يعني في الطواف على ما فسره ، هو بحث التجلي والاستتار .
ثم قال في بحث الفناء والبقاء : ومنهم من جعل هذه الأحوال كلها حالا واحدا - وإن اختلفت عباراتها ، فجعل الفناء بقاء والجمع تفرقة ، وكذلك الغيبة والشهود والشكر والصحو ، وذلك أن الفاني باق بما للحق ، فان عمّا له ، والثاني مجموع ؛ لأنه لا يشهد إلا الحق ، والمجموع مفارق ؛ لأنه لا يشهد إياه ولا الخلق ، وهو باق لدوامه مع الحق ، وهو جامع به ، وهو فان عما سواه ، مفارق لهم ، وهو غائب سكران لزوال التمييز عنه ، ومعنى زوال التمييز : هو ما قلناه بين الآلام والملاذ ، أو أن الأشياء تتوحد له ، فلا يشهد مخالفة ؛ إذ لا يصرفه الحق إلا في موافقاته ؛ وإنما يميز بين الشيئين وغيره ، فإذا صارت الأشياء شيئا واحدا سقط التمييز .
ثم قال في بحث التوحيد : ونصيبه من الحق وجود الحق ، وهو فيه ما سور فليس له متقدم ولا متأخر .
ثم قال في صفة العارف : سئل الحسن بن علي - رضي اللّه عنهما : متى يكون العارف شهد الحق ؟ قال : إذا بدأ الشاهد ، وفني الشواهد ، وذهب الحواس ، واضمحل الإخلاص . ومعنى فناء الشواهد : سقوط رؤية الخلق عنك بمعنى الضر والنفع والذم والمدح ، وذهاب الحواس هو معنى قوله : “ فبي ينطق وبي يبصر . . . إلى آخره “ ، إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الفاضل المحقق السيد شمس الدين السمرقندي ، في خاتمة شرح
صحائفه : أحوال الناس منحصرة في ثلاثة أقسام : الاشتغال بالحق عن الغير ، والاشتغال بالحق مع الغير ، والاشتغال بالغير عن الحق .
ثم قال : والثاني عند أهل الطريقة والحقيقة شرك ، والثالث كفر ، والأول فيه السعادة الكلية والبهجة الحقيقية في الأخرى والأولى ؛ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها [ البقرة : 256 ] .
ومنها ما قال الفاضل المحقق القاضي ناصر الدين البيضاوي ، في أنوار التنزيل ، في تفسير قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : 115 ] ، أي : فثم ذاته .
ثم قال : إن اللّه بإحاطته بالأشياء واسع عليم . وفي قوله تعالى : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [ الرحمن : 27 ] ، ولو استقريت جهات الموجودات ، وتصفحت وجودها ؛ وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه اللّه ، أي : الوجه الذي يلي جهته .
وقال في شرح المصابيح ، في باب الذكر ، في قوله صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه عزّ وجل : “ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل . . . إلى آخره “ .
وإن العبد لا يزال يتقرب إلى اللّه تعالى بأنواع الطاعات وأصناف الرياضات ، ويترقى من مقام إلى آخر أعلى منه ؛ حتى يحبه اللّه سبحانه وتعالى ، فيجعله مستغرقا بملاحظة جناب قدسه ، بحيث ما لاحظ شيئا إلا لاحظ ربه ، فما التفت لفت ، وحابس ومحبوس ، وصانع ومصنوع ، فاعل ومفعول ؛ إلا رأى اللّه ، وهو آخر درجات السالكين ، وأول درجات الواصلين ، فيكون بهذا الاعتبار سمعه وبصره .
ثم قال في باب أسماء اللّه تعالى ، في شرح اسم اللّه : وكل ممكن فإنه لا وجود له ، بل وجوده من الجهة التي يلي الواجب تعالى ، وإليه أشار حيث قال : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل .
وفي شرح اسمه الخالق البارئ المصور : فيرقى من المخلوق إلى الخالق ، وينتقل من ملاحظة المصنوع إلى ملاحظة الصانع ؛ حتى يصير بحيث كلما نظر إلى شيء وجد اللّه عنده .
............................................
( 1 ) تقدم تخريجه .
وفي شرح اسمه الحفيظ : حظ العارف خصوصا أن يعرف باطنه عن ملاحظة الأغيار ، وظاهره عن موافقة الفجار .
وفي شرح اسمه الحق : وحظ العبد فيه أن يرى اللّه حقّا ، وما سواه باطلا في ذاته ، حقّا بإيجاده واختراعه .
وفي شرح اسمه النور : الظاهر لنفسه ، المظهر لغيره ، ولا شك في أن الوجود إذا قوبل بالعدم كان الظهور للوجود والخفاء للعدم ، ولما كان الباريء تعالى موجودا بذاته مبرّأ عن ظلمة العدم وإمكان طروّه ، وكان وجود سائر الأشياء فائضا عن وجوده ؛ صح إطلاق اسم النور عليه ، إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الفاضل المحقق شرف الدين الطيبي ، بعد نقله ما نقلناه عن الواحدي والبغوي عن “ وهب “ : وهذا لا يدل على لزوم الجسمية ، وكذلك القرب ، وذكر سائر ما نقلناه عن القاضي في شرح المشكاة ، في تلك المواضع .
وقال في أسماء اللّه تعالى وإحصاء الأخص له : أن يستغرق قلبه باللّه تعالى ، ولا يلتفت إلى أحد سواه ، ولا يرجو ولا يخاف فيما يأتي يذر إلا إياه ؛ لأنه هو الحق الثابت وما عداه باطل ، قال اللّه تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : 88 ] .
وفي شرح اسمه البصير نقل عن سهل ، أنه قال منذ كذا سنة : إنما أخاطب الحق تعالى والناس يتوهمون إني أكلمهم ، وفي معناه أنشد :وظنّوني أخاطبهم قديما * وأنت بما أخاطبهم مراديهذه صفة الجمع التي أشار إليها القوم .
وفي شرح اسمه الواحد الأحد : وحظ العبد أن يغوص لجة التوحيد ، ويستغرق فيه ، حتى لا يرى من الأزل إلى الأبد غير الواحد الأحد ، إلى غير ذلك من المواضع .
ومنها ما قال الفاضل المحقق سراج الدين - صاحب كشف الكشاف - في ديباجته : الحمد للّه الذي أنار الأعيان بنور الوجود ، وجعلها مرائي صفاته ، واختار منها نوع الإنسان لجمعه سر الأكوان ، فكمل مجالي ذاته .
وفي قوله تعالى :فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : 115 ] ، أنه تمهيد في ذكر نفي الولد ؛ لأن من له الجهات كلها يتعالى عنها ، فيستحيل أن يماثله ذو جهة ، والولد من جنس الوالد
لا محالة .
وفي قوله تعالى : أَ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ فصلت : 53 ] فمن شهده ؛ شهد كل شيء .
ثم في قوله : وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [ الحديد : 3 ] ، وهو الظاهر بوجوده ؛ لأن كل الموجودات بظهوره ظاهرة ، الباطن بكنهه ، إلى غير ذلك من المواضع .
فهؤلاء الاثني عشر أئمة أطبقوا على قبولها ، ووقع في كلام بعضهم النقل عن هؤلاء الكبار ، كالحسن بن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجعفر ، وأبي فارس ، ويوسف بن الحسين ، وعامر بن قيس ، الواسطي ، وأبي بكر الفارسي ، والنهرجوري ، وأبي عثمان الحيري ، والقاسم ، ومحمد بن واسع ، وابن عطاء ، ورويم ، والخراز ، والنصر آبادي ، وأبي على الدقاق بالتصريح ، وعن غيرهم بالتلويح .
ونقل الشيخ أبو طالب المكي والغزالي ،
عن ابن عباس : “ لو فسرت هذه الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [ الطلاق : 12 ] ؛ لرجمتموني “ .
ونقل الغزالي منهاج العابدين عن الإمام زين العابدين :
إنّي لأكتم من علمي جواهره * كي لا يرى الحقّ ذو الجهل فيقتتن
وقد تقدّم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله للمناء
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به * لقيل أنت ممّن يعبد الوثن
ولاستحلّ رجال جاهلون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسن
وقد روي البخاري ، عن أبي هريرة : “ حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاءين من العلم ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر لو بثثته لقطع مني هذا البلعوم “ .
فتأمل هذه الجملة ترشد إن شاء اللّه تعالى .
..................................................
( 1 ) انظر : القوت ( 1 / 352 ) .
( 2 ) رواه البخاري ( 1 / 56 ) ، وابن سعد في الطبقات ( 2 / 362 ) .