موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الشيخ صدر الدين القونوي

النفحات الإلهية

للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي

منازلة الهية

 

 


تدان و ترق و رؤية و تلقّ و تقرب و تحبب و كشف تبديل بتسوية و تعديل و إلقاء سبوحى سابق على النفث الروحي و البارق اللوحى اعلم انه قد كان سبق لي بعد معرفة شاملة احاطية و اذواق كاملة شهودية كلية من مشرب الكمال بعد تعدّى احكام مرتبتى الجلال و الجمال، مشهد شريف الهى عالى المنار شاسع المنزل و المزار، واسع الارجاء و الأقطار، متعالى الاحكام و الآثار، منزه عن حصر قيود المقامات و الأحوال و الأسماء و الصفات و المراتب و الأطوار .

اطلعنى الحق فيه على حقيقة العلم و مراتبه التفصيلية و آثاره و أحكامه الخفية و الجلية و الدنية النسبية و اللدنية العليّة، و كشف لي عن درجات أربابه و اشرف

منازل حملته و أصحابه، و انحصار مراتبه الاصلية في الحضرات الخمس الإلهية الكلية، و هي الغيب المشتمل على الأسماء و الصفات و الأعيان الممكنة و المعاني المجردة و التجليات، و في مقابلتها حضرة الشهادة و الحس و الظهور و الاعلان .

و بينهما حضرة الوسط الجامعة بين الطرفين و يختص بالإنسان و بين الغيب، و هذا الوسط حضرة الأرواح العلى و الروح الأعظم و ما سطره بالأمر العلى من كونه مسمى بالقلم الأعلى . و بين الشهادة و الوسط ايضا مرتبة عالم المثال المقيد و مستوى الصحف الإلهية و الكتب المتفرعة عن الكتاب الرباني المختص بسماء الدنيا، كما قد أوضحت ذلك في كتاب اعجاز البيان المشتمل على شرح كليات اسرار ام القرآن

فلما كان سحر الليلة التي صبيحتها يوم الثلاثاء سابع عشر شوال من سنة خمس و ستين و ست مائة وقعت منازلة رحيمية لا رحمانية و جذبة لطيفة ربانية، أقامني سبحانه فيها بين يديه و فرغني دفعة دون تدريج للإقبال بوجه القلب عليه، و أطعني على حضرة علمه الذاتي الكلى الذي منه انبسط كل علم، و تعين بموجبه في جميع مراتب الوجود كل وصف و حال و حكم، و ارانى سبب انضيافه و نسبته اليه سبحانه من حيث التخصيص الوصفي و التقديس الشرفى، و نسبته الى سواه و سبب تقييده و جزئيته و موجب انبساط حكمه عند آخرين و احاطته و كليته، و عرّفنى بسر استرساله على المعلومات بتجديد التعلقات الناشئة بينه و بين المعلومات، و نسبة كل ذلك من وجه كلى الى بعض من يوصف بالعلم، و سبب تجدده من الوجوه الجزئية عند آخرين بطريق الاستفادة السببية الزمانية و الشرطية الذاتية و العرضية، و موجب كثرة الأسباب فيه و قلتها و الوسائط و كذلك الشروط و الروابط و كيفية ارتفاع المجموع في حق بعض الموصوفين به اعنى بالعلم و سبب الرفع و مقتضاه و صحة انضيافه الى الحق من هذه الحيثيات كلها مع بقاء التنزيه الحقيقي بحاله، و من اى وجه لا تصح هذه الإضافة الشاملة الى الحق و لا تصدق عليه و تصدق و تصح في حق الغير و تتحقّق، كما سابيّن لك سرّ ذلك و معرفة سببه و محتده كما اطلعت عليه.

و رأيت في هذا المشهد الأتم سرّ الحدوث و القدم الموصوف بهما الوجود و العلم جمعا و فرادى من حيث الفعل و الانفعال افادة و استفادة و وجدت الاستقلال متعذر الحصول لشي ء ما في كل ما ذكرته الان و غيره. و رأيت الموقت من ذلك و غير الموقت. ثم اريت كيفية تعيّن العلم في الناس بحسب تعيّنه في الحضرات الخمس المذكورة و بحسب حصصهم منها. و ارانى سبحانه ايضا صور الحضرات المذكورة في ذاتى و كشف لي دفعة عن امهات حقائقى و صفاتى، فرأيت تعين الثبوت السابق على الوجود حصتي من عين علمه الذاتي و استعدادى الكلى الذي به قبلت الوجود المضاف عند الجمهور إليّ

و رأيت تعلق تلك الحصة العلمية الذاتية بى و بما عرفته حالتئذ على نحو تعلق علمه سبحانه بالمعاني المجردة و الأسماء و الصفات و باقى المعلومات المعدومة من الممكنات و النسب و الإضافات، و وجدتني رائيا كلما رأيته بما عندي منه و ما يناسبه منى و رأيت حصّتى من علمه الذاتي بحصتى من الحقيقة التي ينسب إليها ذلك العلم دون اختلاف و تغاير و تجزئة و تبعيض و فصل و تباين، و رأيت مضاهاتى لحضرته تعالى شأنه من حيث الذات و من حيث العلم و من حيث تعلق العلم بالمعلوم كان ما كان .

و رأيت حقيقة: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ ( 31محمد) و سرّ: وَ سَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ( 94التوبة) بطرز غريب جدا اذكره دون التصريح به، فإنه من أجل العلوم و اغمضها و أشرفها، و هو انه اريت ان لكل موجود بموجب احكام الحضرات الخمس الإلهية المحيطة بتلك مرتبة بل بكل شي ء و قد تقدم ذكرها خمس مراتب :

المرتبة الاولى اعتباره من حيث عينه الثابتة التي هي عبارة عن صورة معلوميته في علم الحق الذاتي ازلا و ابدا على وتيرة واحدة، و لهذا الاعتبار احكام لازمة للشي ء من حيث هو معلوم في نفس الحق و معدوم بالنسبة اليه .

ثم اعتبار الشي ء ثانيا من حيث روحانيته، و ما من شي ء الا و له روحانية، اما ظاهرة السلطنة و الحكم، كالملك و الجن و الإنسان و الحيوان، و اما خفية كالنبات و المعدن و غيرهما من الصور العنصرية و غيرها، ثم اعتباره من حيث طبيعته و صورته .

ثم ان الصور اللازمة لكل روحانية على ضروب: فان كان الروح مما من شأنه ان يتلبس بصور متعددة في وقت واحد، كالملائكة و الجن و الأكابر من الناس، فله حكم، و ان كان شأن ذلك الروح تقيده بصورة معينة لا يتعداها، كجمهور الناس بالاتفاق و الحيوانات عند من يقول ان لها أرواحا مفارقة. و على كلا التقديرين فللروحانية احكام كامنة تلازمها بحسب مظاهرها، إذ بتلك المظاهر و بحسبها يتعين الأرواح .

و ثم اعتبار آخر و هو اعتبار الشي ء من حيث التجلي الوجودي الساري في المراتب الثلاثة المذكورة، ثم الوصف و الحكم الجامع بين هذه الأربعة، المتوقف معرفته على تعقل الهيئة المعنوية المتحصلة من اجتماع الأربعة، و هو الحكم الأخير الكمالي و النفسي الرحمانى . و لما كان اعتبار الشي ء من حيث كل مرتبة من هذه المراتب مخالفا لاعتباره من حيث المرتبة الاخرى، و كذا اعتبار تجلى الحق في كل مرتبة من هذه المراتب المذكورة يقتضي حكما مخالفا لحكم التجلي فيما سواه من الحضرات الخمس المذكورة، علم ان معرفة كل واحد من تلك الاعتبارات على الانفراد معرفة العين الثابتة من حيث كل اعتبار منها في احدى المراتب الخمس المشار إليها، لا يفيد معرفة ما يقتضيه مجموعها من حيث النسبة الجامعة بين جميعها ، و لا معرفة الشي ء من حيث حقيقته، و لا ايضا معرفة ما يقتضيه الشي ء من حيث كونه جامعا لها كلها ظاهرا فيها و بها و لا ما يستلزم تلك الجمعية من الاحكام و اللوازم الزائدة على أنفسها من حيث تعقل انفراد كل منها عن الآخر .

فان الجمعية حال حصولها بعد ان لم تكن توجب حدوث ما لم يكن له وجود من

قبل، و يستجلب ذلك تعين تجلى من مطلق غيب الذات بحسب تلك الجمعية التي لها درجة المظهرية، لم يسبق له تعين في مرتبة من المراتب الاسمائية و الصفاتية، فلم يتعلق بتلك الجمعية و ما استتبعته علم و لا ادراك اصلا .

هذا لو أمكن احاطة العلم بما يقتضيه كل فرد من افراد ما ذكرنا من الاحكام و الآثار و الصفات و اللوازم الذي سيتلبس بها لا الى نهاية، فيعرفها متلبسة بها و غير متلبسة معا باعتبار عدم تقيد تلك الأشياء المعلومة بوقت ما، حال كونها مرتسمة في عرصة علم الحق معدومة لا نفسها لاستهلاكها في الحق و مقيدة بالأوقات التي ستستقبلها حال تلبسها بما يتعين لها من الصور في كل موطن و عالم و مقام، و لو فرض هذا لزم منه امر مستحيل، و هو معرفة الشي ء على خلاف ما هو عليه في نفسه، و انه متعذر و محال، فان من جملة الأمور المحكوم عليها بالجمعية هو الوجود الحق المطلق الذي لا يتعين له على الانفراد، تعينا يمكن معرفته او شهوده او ادراك الاحكام و الصفات التي يشتمل عليها غيب عينه على الانفراد، و حال اقترانه ايضا بشي ء او أشياء دفعة او بالتدريج و على سبيل التعاقب .

و هكذا كل واحد من افراد كل جمعية كما سبقت الإشارة اليه انما يمكن معرفة ما يقتضيه حقيقته من حيث تعقله مفردا او فرض تعقله مجتمعا بشي ء او أشياء، مع فرض اتصال و انفصال حاصل و زائل و استصحاب حكم امر مشترك او احكام تحدث و تتعين بين هذه الأشياء المتغايرة في الحقيقة، و تعذر هذا في نفس الامر واضح عند اولى الألباب لما اومأنا اليه، فان معرفة ما يقتضيه الشي ء بشرط اقترانه مع غير او اغيار قبل تحقق الاجتماع لا يكون معرفة صحيحة لما مر آنفا .

و من عرف ذلك عرف صورة تعلق العلم بالمعلومات المعدومة و الموجودة على نحو كلى و كيفية تعلقه بها على النحو التفصيلي على التعيين ، و الفرق في كل ذلك بين علم الحق و ما سواه، فافهم .

و مما رأيته في المشهد المذكور و الليلة المشار إليها تجليات ذاتية اختصاصية تتعين من مطلق الذات بعين العلم المنبه عليه ب «حَتََّى نَعْلَمَ « (31محمد) ». و رأيت الحكم من كل حاكم على كل محكوم عليه من حيث أصله واحدا، و فروعه تظهر متنوعة بحسب حال المحكوم عليه حين تعين الحكم عليه من حيثية خاصة، سلبا و اثباتا، حسنا و قبحا، و ان شئت قلت: إطلاقا و تقييدا.

و رأيتنى قابلا للاحكام المختلفة من الحاكم الواحد و من الحكام المختلفين بحسب احوالى و اطوارى و أحوالهم ايضا حال الحكم، فوجدتني قديما حادثا ناسيا ذاكرا جاهلا عالما محيطا محاطا مفيدا للكل مستفيدا من الكل، كل ذلك في مشهد واحد، و رأيت ذلك من اعلى صفات المضاهاة. و رأيت كل ما كنت من قبل رأيته و ما لم أكن رأيته، و علمت ما كنت علمته على غير الوجه الذي كنت علمته، فتجدد لي من وجه العلم بى و بالأشياء، كما انتفى عنى من وجه آخر تجدد العلم، و ذلك بعد انعدام كل ما قد كنت علمته على نحو ما كنت علمته و رأيته و شهدته قبل المشهد المذكور .

و رأيت العلم بالنسبة الى بعض العلماء ظنا، و عين ما هو ظن عند البعض هو بعينه علم يقيني عند آخرين، و كل جازم. و رأيته اعنى العلم بالنسبة الى البعض شهودا و بالنسبة الى البعض حالا عارضا و بالنسبة الى البعض صفة متجددة يمكن زوالها، و رأيته بالنسبة الى البعض وصفا ثابتا لكن مقيدا و مشروطا و موقوفا على وسائط كالزمان و المكان و الاستفادة بأدوات التوصيل من لفظ و كتابة و إشارة و مدارك ايضا بها يتأتى حصول ذلك العلم و استثباته .

و رأيته اعنى العلم بالنسبة الى البعض صفة له من حيث حسبه، و بالنسبة الى البعض صفة الخيالية، و لا يتعدى نقوشه عرصة الخيال. و رأيته بالنسبة الى البعض صفة لفكره و بالنسبة الى البعض صفة لعقله المقيد، و بالنسبة الى البعض حالة لعقله بموجب قيود أفكاره و ذهنه او حفظه و تكرر تصوره للمعلوم من حيث إدراكه له

و وجدتني آخرا و لا علم لي ينضاف إليّ، غير انى مرآة حقيقة العلم و المراتب جميعها من حيث ان أحكامها تدور حول نقطتي .

و من جملة المراتب و الحقائق العلم الحقيقي المطلق، فمتى حاذتنى مرتبته ظهر بى و فىّ من العلم بالحق او لكون ما وسعه الوقت و الحال و اقتضياه فإنهما و أمثالهما و ان توقف ظهورهم علىّ فان ادراكى يتبع تقيداتهم، فان صادفنى العلم حال المحاذاة المشار إليها منصبغا بحكم ثبوتى في علم ربى السابق على وجودى، رأيت علم غيب الحق بعينه و نطقت به و عنه و عن كل ما حاذاني حالتئذ هناك، و هكذا وجدت حالى من حيث ادراكى الروحي في عالم الأرواح مع ما يحاذى روحيتى بموجب حكم الزمان و المكان و غيرهما من المقيدات للإدراك حالتئذ، و كذا هو الامر في بقية الحضرات الخمس .

ثم انى رأيت كل من لم يحصل له وقفة بل جلسة في حاق الوسط اعنى وسط الدائرة الوجودية و المرتبية مقام المحاذاة التامة لحضرة الحق ليس له علم صحيح، بل نسبة علم الخارج عن نقطة هذه المقابلة الى علم الثابت على النقطة في الصحة و عدم الصحة هو بمقدار قلة انحرافه عن حاق الوسط و كثرته، فقريب و اقرب و بعيد و أبعد، و صاحب الثبات على النقطة و مالك أمرها هو ميزان اللّه الأتم الأعم الاشمل الأكمل ليس في العلم فحسب، بل و في الحسن و القبح و القرب من الحق و البعد منه و الموافقة و المخالفة و السخط و الرضاء و الضرر و المنفعة و الشقاوة و السعادة و باقى الأحوال و الصفات الكلية و الجزئية الكونية و الإلهية . و رأيت حالتئذ ايضا ان كل من استفاد من احد علما و لم يتصل العلم المستفاد بالعلم الوسطى المشار اليه و لم ينسحب على ذلك العلم حكم العلم الوسطى المشترك بين كل

ما يسمى علما، لا يصدق عليه اسم انه علم و لا يتجاوز مراتب الظنون و الخيالات. و رأيت حكم العلم الوسطى المشترك إذا انسحب بقصد من صاحبه على الظن و على كل ما ليس بعلم من التصورات الذهنية الخيالية صيّره علما لكن لصاحب الوسط لا لغيره و إذا انسحب حكمه بموجب حكم المقام و وصف: كُلًّا نُمِدُّ هََؤُلََاءِ وَ هَؤُلََاءِ مِنْ عَطََاءِ رَبِّكَ ( 20الإسراء) الآية، جعل الظنون من حيث ظاهر علما لا من حيث الحقيقة .

فحكم العلم الوسطى في المثل هذا، حكم التصفيرة و التبييضة عند اهل الكيمياء يحصل الصبغ للجسد المعدنى ظاهرا، لكنه لا يثبت عند السبك و الخلاص، بل يحول بخلاف القسم الأول فإنه الإكسير الذي يقلب الأعيان، فكما يجعل الإكسير الرصاص ذهبا حقيقيا، كذلك يجعل هذا العلم الوسطى الكمالي، الظنون و الاعتقادات الوهمية و الخيالية علما عند الكمل لا عند المتوهمين، و ان كانوا مصيبين في بعض تلك التصورات على سبيل المصادفة، الا إذا قرره الكامل كما ورد في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه و سلم حيث ذكر امرا مجملا امتحن به الصحابة، فوقع في نفس بعضهم بالحدس انه ( ص) يريد الفاتحة، فلما ذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال له: ليهنئك العلم، فبالتقرير و التهنئة صار ذلك الحدس و الظن علما ليس قبل ذلك، فافهم . و رأيت في هذا المقام انى صيرت من حيث جملتي و تفصيلى و باطنى و ظاهرى علما فحسب، لم أجدني شيئا زائدا على العلم، فتعجبت فقيل لي: أ ليس أخص اوصاف العلم كشف ما ليس بمعلوم؟ فكل ذرة في ظاهرك تعرب عما انطوت عليه من المعنى الخصيص بها، و كل قوة و صفة يختص بباطن نشأتك توضح و تعرب عن اصل معنويتها، و الجملة الظاهرة من حيث وحدتها تكشف حقيقة الظهور و الواحد الظاهر، و كذلك الجملة الباطنة تكشف عن حقيقة الأصل الذي هو منبع كل ما تعدد مما بطن، و المجموع بظاهره و باطنه تعرب عن حضرة الحضرات الإلهية الذاتية و تدل عليها و تبرز مكنونات خزائنها فتحققت بما أريته و شكرت ربى بلسان ذلك الحال و المقام و رأيت كل امر كاشف لأمر ما سماه سبحانه لي علما، ثم انبسط لي حكم هذا الشهود دون فترة و زمان في كل ما خرج عنى من وجه و باعتبار فلم ار الا علما لم ار غيره قلت: فمن العالم و المستفيد ؟

فقيل لي: ظهور تعينات احكام العلم بعضها للبعض باوّلية و آخرية عبارة عن الافادة و الاستفادة، و الأمور الموجبة لتلك التعينات و التعددات هي المحجوبة و المكشوف لها .

و رأيت الرائين للعلم في زعمهم و للأشياء، فلم ار أحدا يرى العلم و لا من يعرف ما هو، و رأيتنى اراه حسا بعينى المحسوسة، ثم وجدتني اراه خيالا ايضا بعين خيالى و روحانيا لا روحا بعين روحانيتى لا بعين روحيتى، ثم رأيته وجودا بسيطا و عدما متوهما و مفروضا. و رأيت الفرض تقديرا و رأيت التقدير في المفروضات تسلقات على الشي ء من حيث ما أدرك، و عليه ايضا من حيث انه غير مدرك للفارض، فكان الفرض من جملة تفاصيل احكام الامكانات الخصيصة بالأمر المفروض .

و رأيت المحال عبارة عن تعذر تصور بعض المفروضات الذهنية صورة وجودية خارج ذهن الفارض المتصور. و رأيت الحكم بالإمكان من لوازم الجهل بحقيقة الشي ء المحكوم عليه بالإمكان. و رأيت العلم و الإمكان مما يتعذر اجتماعهما الا باعتبار علم العالم الحقيقي مضمون تصور الظان المحجوب عن معرفة حقيقة الشي ء و ما يستلزمه من الأحوال التي تتلبس بها على سبيل التعاقب شيئا بعد شي ء، و الا فلا امكان عند صاحب العلم الوسطى بدون هذا الاعتبار المشار اليه. و رأيت العلم و الجهل و المعدوم و الموجود، بل و الوجود و العدم في عرصة واحدة، وجدت فيها الكل في الكل جمعا و فرادى، مركبا ايضا و بسيطا . و رأيت ظنى علما و علمى وجودا و وجودى عدما و عدمى حاكما على كل وجود، و مرتبتى حاكمة على كل معدوم و موجود. و رأيت العلم رؤية مجردة، و وجدت الرؤية كيفية و رأيت الكيفية هيئة قاضية على المطلق بالتعين، و رأيت الهيئة نسبة مؤثرة و منتجة أمثالها، و رأيت الوجود عاريا عن الأثر و الحكم، الا بشرط الاقتران مع النسب . و رأيتنى من حيث وجودى و اطلاقى عاجزا لا املك لي و لا للمسمى غيرا نفعا و لا ضرا، و رأيتنى من حيث عدميتى و مراتبى مالكا حائزا حاكما، لا بمعنى انى فان في غيرى على نحو ما فهم الناس من الفناء و الاستهلاك، بل ذلك من مقتضى حقيقتى و مرتبتى، و اقل شي ء رأيت فيما رأيت العلم لكن بالنسبة الى غيرى و اما بالنسبة الى، فلم ار شيئا غير العلم، و لم أجد ذلك و لا شيئا منه عند احد الا من وراء حجاب، فالاقل حجابا هو الأعلم، و اما دون حجاب فلم أجده، و ما رأيت من الحيثية المذكورة شيئا اقل من العلم الا العالم، و رأيت اطمينان كل احد انما هو بحكم من احكام العلم ليس بالعلم و رأيت العلم المطلق الكلى عين ذاتى، فليس احد يعلم شيئا الا بمقدار ما عنده منى، فتسرى وحدتى المشتركة بين الأشياء فيها، و العلم وصفها الذاتي، فيدرك بى كل مدرك ما يدركه و لا يعلم، و ما عند كل احد منى ما يقتضي اتصاله و اتحاده بى، اتصالا لا يوجب حجبه عنى و عن الوجه الاعتدالى المعنوي، لكن يظهر في محله حكم من احكام سلطنة العلم الحقيقي الخصيص بى، و هو العلم الإلهي المستعلى على اللدني بل و على العلم الوصفي الذاتي فيصير بهذا الطريق ظن الظان و تصوره الذهني الخيالى علما، بشرط الاذن الإلهي اولا و التصرف من صاحب هذا العلم الحقيقي ثانيا، و الا فلا .

هذا مع انه قد ينتفع اصحاب تلك الظنون و العقائد الوهمية الخيالية بتلك الظنون عاجلا و آجلا و يثابون عليها، و لكن الحق سبحانه من حيث اعلى درجات علمه و اشرف مراتبها و أفضلها لا يعد تلك الظنون علما و لا يثبتها في كتاب العلم الحقيقي و اهله، و انما يثبت في كتاب العلم ما ارتسم في ذات العالم بنفس تعينه الثابت للمعلوم في علم الحق ازلا بتعين ثان مطابق و محاك للتعين الأول الثابت للشي ء المعلوم كان ما كان، او تكون نسبة ذلك العلم الذي أشرنا اليه الى مطلق علم الحق كنسبة الجزء او الحصة من الكل المحكوم عليه بالتحصص و ان تنزه عن التجزئة و التبعيض، و لهذا قلت: كنسبة الجزء ، تقريبا للتفهيم .

و رأيت علم القلوب اعنى قلوب اهل اللّه اصحاب الولاية الذين هم متوسطو الخاصة من اهل اللّه كالبرزخ بين العلم الحقيقي و بين علم علماء الرسوم. و رأيت اكثر العلوم المصاحبة للناس بعد الموت انما هو العلم من حيث كينونته حالا لازما لذات ذلك الشخص مدة او وصفا ثابتا مع امكان زوال كل ذلك. و رأيت في الحق سبحانه و بعض عباده شئونا يقلب العلم جهلا، و ان كان علما موهوبا او شهوديا عكس ما ذكرت آنفا من انقلاب الظنون و الاعتقادات الذهنية و الوهمية الخيالية بموجب انسحاب حكم العلم الحقيقي علما بعد ان لم يكن علما و رأيت ان الثابت العلم من الناس هو الذي صار علمه ذاته، فاستحال حاله العارض حالا ذاتيا ثابت المعنى دائم التنوع من حيث التعلق بحسب تنوع احوال المعلوم على المعلوم و من غريب ما رأيت كونى رأيت ذاتى قابلة لان تصير صفة جزئية لزيد و عمرو، و حالا عارضا لآخر و ذاتا لآخرين، كما المعت بهذا فيما مر مجملا. ثم رأيت تحصص الوجود في كل ما يوصف بالإمكان تابعا للعلم من وجه، و تحصص العلم من وجه آخر تابعا لتحصص الوجود، و وجدت العلم من وجه ينتشئ من المعلوم في مراتب ظهوراته من الحضرات الخمس، فما تحتها من المراتب و الدرجات كتنوع تعلقه بكل معلوم بحسب احوال المعلوم كما مر .

و رأيت للعلم درجات في الحس تنتهي الى آخر عالم الصور، و كذلك رأيت له درجات في عالم المثال المطلق و المقيد، و كذلك رأيت له اى للعلم درجات في عالم الأرواح بحسب تفاوت مراتب الأرواح و حقائقها و مقامات مظاهرها. و رأيت درجات العلم تقل عند الأرواح الغير المتقيدة بالمظاهر من كل وجه. و رأيت يذوب في مشاهد بعض الذوات و يضمحل حتى ينعدم عند البعض، و هو إذ ذاك عند الأكملين موجود في حق المعدوم عنده و لا يدرى به. و رأيت جميع العلوم الموصوفة بالتعلق بالأشياء انما هي علوم الهية متعلقها الحق و تختلف في الشرف و السعة و الحيطة بحسب المراتب و المظاهر. و رأيت ان العلم الإلهي لا يكون في اعلى مراتبه الا علما واحدا و صاحبه هو الموصوف بالعلم الوسطى المنبه عليه من قبل . و رأيت العلم يحجب قوما عن نفسه ببعض أحكامه و يكشف عن نفسه ايضا لآخرين ببعض أحكامه، و وقتا بحجب العالم الذي هو عينه او صفته، و وقتا ايضا يكشفه بأحكامه كما مر، و حال المعلوم مع العلم ايضا كحاله مع العالم في الكشف وقتا و الحجاب آخر، مع ان المعلوم من وجه منبع علم العالم و محتده كما مر. و رأيت حكم علم الناس على الأشياء بالنفي و الإثبات و الظهور و البطون و الحقيقة و المجاز و الحدوث و القدم و الثبات و التنوع و غير ذلك حكما نسبيا مجازيا من اكثر الوجوه . و رأيت كل موجود ظاهرا بصورة جزئية من صورة العلم الكلى و معربا عن حقيقته اعنى حقيقة ذلك الموجود و عن حقيقته من الحق. و رأيت تفاوت الصور العلمية بقدر تفاوت الحصص الإلهية. و رأيت ان امتيازى عن الأشياء في هذه المرتبة العلمية انما هو باستيعابى جميع الحصص الظاهرة و الباطنة من حيث ما يحص الحق و الأشياء اجمعها. و رأيت ان كمال الدلالة على الحق و التعريف له، و كذلك الدلالة على العالم و التعريف له موقوف على هذه الحيطة و الاستيعاب المذكورين و رأيت ان كل ما لم يظهر بالأشياء فظهوره موقوف علىّ او هو من خصائص الاسم الباطن من حيث هو فىّ . و رأيت العلم الذي تحققت به لا يحكم على شي ء الا بذلك الشي ء، فله كما قلت :

الكشف و الإيضاح و التقرير بالتبعية و الإفصاح. و رأيته يتلاشى فىّ أحيانا، بمعنى انه يندرج بعض أحكامه في البعض، فإذا لم يبق الا حكم واحد، تلاشى ذلك ايضا فصار ذاتا، لا صفة و لا حكما. و رأيتنى منفردا بهذا الشأن، و إذا كمل تلاشيه فىّ بالكلية ظهرت و سكت فنطقت. و رأيت العجز الأخير الحاصل للعلماء باللّه الأكابر نازل الدرجة لما رأيته و تحققت به، بل بالنسبة الى ما لوحت به و ان كان ما لوحت به دون ما تحققت به بكثير و رأيت الجمع مع عدم الحصر في الجميعة اعلى الرتب، وَ اللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ ثم رأيت اعلى مقامات العلم الحقيقي بطرز غريب يتعذر التعبير عنه. و اريت انه على اقسام: أولها علم الإنسان ما شاء اللّه ان يعلمه بالقوى و المشاعر التي تتضمنها الالة المزاجية من حيث النمط العام الذي يشترك فيه جميع الناس على ما بينهم في ذلك من التفاوت، و أريد من هذا القسم ما يكون إدراكا صحيحا في نفس الامر، ليس مطلق التصورات و الاعتقادات الانسانية، فان أكثرها ظنون و تخيلات و اوهام و شبه، و ان جزم أصحابها بصحتها، و انما اعنى كما أشرت اليه الإدراك المطابق لما هو المعلوم عليه في نفسه و على نحو ما يعلمه الحق من ذلك المعلوم كان ما كان .

و فوق هذا القسم العلم الحاصل لنفس الإنسان بالإدراك النفساني دون وساطة آلة جسمانية او قوة مزاجية و فكرية .

و فوق هذا ادراك النفس ما يدرك بذاتها المجردة، لكن مع انضمام مدد من الأرواح العالية و السماوية، و هذا القسم ينقسم ثلاثة اقسام: قسم يحصل تارة بتنزل من بعض تلك الأرواح على نفس العالم لصفاء و طهارة و استعداد جاذب بقوة المناسبة اتصال ذلك الروح بنفسه و تنزله عليه، و تارة يكون هذا النوع من الملاقاة بين نفس هذا الإنسان و بين ما شاء اللّه من الأرواح بسبب صفاء و طهارة و توجه بشوق يقضى بارتقاء الروح من الحال او المقام الذي كان مقيدا به الى مرتبة بعض الأرواح التي تناسبه مناسبة حالية او صفاتية او فعلية او ذاتية او امرا متحصلا من مجموع هذه الأمور هو حكم المرتبة و صورتها، فإنها حاصرة لوجوه المناسبات الثابتة بين كل متناسبين جمعا و فرادى كما ذكرت، فافهم .

و تارة يظهر امر ربانى غيبى لا يعلمه الا الندر من المحققين يوجب توجه بعض الأرواح الى نفس الإنسان و يوجب توجه ذلك الإنسان ايضا الى عالم الأرواح بشوق حاصل من الطرفين لبعض المناسبات المذكورة، فيقع الاجتماع في بعض المراتب السماوية و يحصل بينهما افادة و استفادة بحسب المقام و الحال و الاستعداد الجزئى الوجودي فافهم .



 

 

البحث في نص الكتاب

كتب صدر الدين القونوي:

كتب صدر الدين القونوي:

كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن

مفتاح غيب الجمع ونفصيله

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص

الأسماء الحسنى

رسالة النصوص

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

النفحات الإلهية

مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين

المكتوبات

الوصية

إجازة الشيخ محي الدين له

التوجه الأتم إلى الحق تعالى

المراسلات بين صدرالدين القونوي وناصرالدين الطوسي

الرسالة المهدوية

الرسالة الهادية

الرسالة المفصحة

نفثة المصدور

رشح بال

الرسالة المرشدية

شرح الشجرة النعمانية {وهي تنسب خطأً إليه}



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!