جامع الشيخ محي الدين ابن العربي في دمشق
يقع جامع الشيخ محي الدين في مدينة دمشق، في منطقة الصالحية - في حي الشيخ محي الدين، وكان على ضفاف نهر يسمى بنهر يزيد، وهو في منطقة تعرف باسم أبوجرش. كان الجامع في الأصل بناء صغيرا فيه منبر ومحراب وضريح للشيخ محي الدين ولدى وصول السلطان العثماني سليم الأول إلى مدينة دمشق أمر بترميمه وإعادة بناء الجامع وكان ذلك في عام 1518 م، ويُحكى بأن السلطان بادر إلى بناء الجامع بعد أن رأى الشيخ محي الدين في منامه حيث طلب منه الشيخ بأن يبني له مقاما فوق ضريحه. فتم إسناد مهمة تصميم الجامع الجديد للمهندس شهاب الدين بن العطار.
دخل السلطان سليم الأول دمشق سنة 923ه، حيث نزل في القصر الأبلق بالميدان الأخضر وهو موضع التكية السليمانية الآن، ثم أشار بعمارة على قبر الشيخ محي الدين بن عربي، وبعث الولوي ابن الفرفور ومعه المعلم السلطان شهاب الدين ابن العطار، حيث وضعوا مخططاً لبناء الجامع وكان ذلك يوم السبت في الرابع عشر من رمضان من عام 923ه، وفي اليوم التالي طلع ابن الفرفور وقاضي العسكر ركن الدين زيرك وجماعتهم إلى الصالحية واشتروا بيت خير بك دوادار منشئ الحاجبية بالصالحية من مالكه يومئذٍ وهو رزق الله الحنبلي الصالحي ليوسعوا به الجامع، وفي يوم الاثنين في السادس عشر من رمضان هدموا مسجداً كان جدده شهاب الدين الصميدي لصيق تربة الشيخ محي الدين ابن عربي، كما هدموا حمام كان بعرف بحمام الجورة، ثم شرعوا في العمارة يوم الأحد في الثاني من شوّال سنة 923ه، ثم أمر السلطان ببناء قبة على تربة الشيخ محي الدين فأسست جدرانها ليلاً، وكان الشروع فيها ليلة الثلاثاء في الثالث من ذي القعدة. وفي يوم الاثنين والعشرين من محرم سنة 924ه وضع منبر داخل الجامع الذي صار يعرف بجامع السليمية، وفيه أمر السلطان سليم ببناء تكية شمالي الجامع. وفي يوم الجمعة في الرابع عشر من محرم ركب السلطان إلى الجامع وصلّى به الجمعة، وخطب به يومئذٍ قاضي القضاة ولي الدين بن الفرفور، وكان مهيباً عظيماً أقفلت له غالب أسواق دمشق وفرّق السلطان يومئذٍ جرابين من الفضة، وعينت خطابة الجامع لمنلا عثمان بن منلا شمس الحنفي وعينت إمامته للشيخ شمس الدين بن طولون الحنفي. وكان خروج السلطان سليم من دمشق يوم الاثنين السابع عشر من محرّم سنة 924ه عائداً إلى سلطنته.
يقول العدوي في ذيله على كتاب النعيمي: “ومما جدد بصالحية دمشق عمارة السلطان وبها منبر لطيف ومحراب منيف وبها ضريح ابن عربي ولأجله بنى السلطان هذا البناء العجيب بعد أن كان مزبلة وحماماً وصرف من الأموال عليه ما شاء الله أن يصرف، ولهذا الجامع أربع مؤذنين ووقف السلطان عليه قرية التل ومنين وحرستا وعدرا وقيسارية الحرير بدمشق وعدة دكاكين. وتكية قبالة الجامع يطبخ فيها كل يوم بكرة وعشيا وفي كل يوم خميس يطبخ الرز المفلفل والأرز بالعسل، فاحترقت سنة 962ه ثم عمرت احسن مما كانت”.
كان للجامع باب حجري كتب عليه: (الحمد لله أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف الإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم بن السلطان بايزيد بإشارة محمد بدرخان خلد الله ملكه وسلطانه، كان ابتداء عمارته في التاسع من شوال سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة والفراغ منه في الرابع والعشرين من محرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة) وهذا التاريخ الذي أعاد فيه بناءه السلطان سليم.
يتألف المسجد الجامع من صحن كبير منسق على الطراز العثماني ومرصوف بالرخام الملون والحجر الأبيض والأصفر وفيه بركة صغيرة على الطراز الدمشقي، فيه رواق كبير مرفوع على أربع قناطر في الجهة الجنوبية من الصحن، أما في الجهة الجنوبية فيقع الحرم المسجدي الذي يقوم على خمس قناطر وأربع أعمدة جيء بهم من عمارة نائب الشام جان بلاط وفوق القناطر الأربع تتوضع قناطر خمسة أصغر حجمًا، والجامع محرابه خشبي وقبته مكسوة بالقيشاني وله مئذنة، وتزين جدران الجامع الكثير من اللوحات البلاطية منها ما هو ذو طراز دمشقي عثماني ومنها ما هو ذو طراز دمشقي مملوكي.
كان لجامع الشيخ محي الدين باب من الحجارة الضخمة كتب عليه: الحمد لله أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف الإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم بن السلطان بيازيد بإشارة محمد بدرخان خلد الله ملكه وسلطانه وكان ابتداء عمارته في تاسع شوال سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة والفراغ منه في الرابع والعشرين من المحرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة. والجامع مؤلف من صحن عظيم جميل مبلط بالرخام الملون والحجر الأبيض والأصفر فيه بركة لطيفة وفي غربيه رواق عظيم يقوم على أربع قناطر عالية وإلى الجنوب المصلّى الذي يقوم على خمس قناطر وأربعة أعمدة وله محراب خشبي عادي وسقف خشبي وحيطان مزخرفة بالقاشاني والرخام الملوّن المنقوش. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية سلّم حجري ينزل منه إلى قبة الضريح الذي يتوسط الغرفة المزخرفة بالقاشاني البديع والنقوش المدهشة وحول القبر شبكة من الفضة المزخرفة وإلى جانبه قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين وقبر الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري وقبر محمود سري باشا صهر الخديوي اسماعيل أمير مصر وقبر الشيخ أمين الخربوطلي ناظر الجامع سابقاً وقبر راشد باشا والي سورية وإلى جانب باب الجامع مقبرة تضم بعض عظماء العثمانيين.
ومن الملاحظ بأن الجامع قد شُيّد وفق التخطيط التقليدي للمساجد الدمشقية السابقة، صحن محاط بأروقة، وحرم مؤلف من أروقة موازية للقبلة، أما المئذنة فقد أقيمت فوق باب المسجد وهذا النموذج مختلف عن جامع التكية السليمانية الواقع على نهر بردى. ويتألف المسجد الجامع من صحن كبير مرصوف بالرخام الملون والحجر الأبيض والأصفر وفيه بِركة ماء صغيرة ذات اثنا عشر ضلعاً، في وسطها نافورة ذات كأس حجرية، وفيه رواق كبير مرفوع على أربع قناطر في الجهة الجنوبية من الصحن؛ في الجدار الشمالي المؤدي إلى الحرم ثلاثة أبواب أوسطها هو الأكبر ومبنية من حجر أبيض وأصفر وبصحنه ثلاثة أواوين، وفي طرفها الشرقي سلم لباب ينفذ لضريح الشيخ محي الدين بن عربي تحت القبو. وفي هذا القبو شبّاكان أحدهما قبلي مطل على الجنينة والآخر شرقي مطل على قبر الشيخ محمد الحنفي، وعند طرفها الشرقي الشمالي باب ينفذ لخلوة الوافدين، وفي وسط شمالها باب مدخل الجامع وإلى الغرب منه بيت البواب، وفي شرقيه باب المئذنة وهي مركبة على باب الجامع ومبنية من حجر أبيض وأسود وواجهة الباب من حجر أسود وأبيض وعتبة من رخام.
يقوم الحرم على خمسة قناطر وأربعة أعمدة، وهو مكون من ثلاثة مجازات موازية للقبلة بائكات يقطعها مجاز قاطع منحرف قليلاً إلى الغرب . الأمر الذي يقسم هذه البائكات إلى جزأين متساويين في كل جزء ثلاث بوائك، وكل بائكة تتكون من ستة عقود؛ وتقف هذه العقود على أعمدة رخامية متوجة. في الجهة الغربية منه رواق كبير يقوم على أربع قناطر عالية.
أما الجدار الجنوبي للحرم فيحوي محراباً في الوسط يعلوه شريط كتابي له إطار زخرفي من الأعلى والكتابة هي بداية سورة الرحمن بعد البسملة، وهي بخط الثلث الجميل بلون أبيض محدد بالأسود والخلفية بالأزرق تزينها زخارف نباتية بلون فيروزي. والجدار الشرقي للحرم مكسو بالقاشاني ما عدا نافذة في الوسط، وفيه لوح مؤلف من عدة بلاطات تحوي عدة رسومات منها رسمة شجرة السرو، ولوحة أخرى مؤلفة من عدة بلاطات فيها ثلاثة أقواس؛ وأما البلاطات الثلاثة الدنيا فتحوي الوسطى منها مزهرية وإلى اليمين سروتان عاليتان وتحتهما اسم عثمان وإلى اليسار مثلهما وتحتهما اسم علي. وأما الجدار الغربي فكسوته مقسومة لقسمين تفصلهما مكتبة جدارية، ويعلو الكسوة فوق المكتبة شريط مؤلف من لوحة لليمين عليها رسم نجمة مصلبة ولوحة لليسار عليها رسمة نجمة تحيط ببلاطات من القاشاني ذات زخرفة قرنفلية. وفي الوسط لوحة كبيرة مكتوب عليها في سطرين آية الكرسي بعد البسملة، والقسمان السفليان مكسوان ببلاطات السرو. وتمتاز هذه الكسوة باللوحات التصويرية المتكررة والكتابية وهي تعود لعهد بناء الجامع.
وفي حرم الجامع وفوق الجدار الشمالي ثلاث سجاجيد دون إطار مؤلفة من عدة بلاطات اثنتان منها مؤلفة من عروق وأزهار القرنفل وعدد بلاطاتها 35، واحدة منها عليها كتابة بيضاء والثانية مؤلفة من 35 بلاطة ذات زخرفة هندسية مؤلفة من نجمة ثمانية زرقاء محاطة بأشكال هندسية بيضاء وسوداء وأرضية اللوحات بيضاء.
وفي الزاوية الجنوبية الشرقية للجامع هناك سلم حجري ينزل منه إلى قبة التربة – ضريح الشيخ محي الدين ابن عربي- الذي يتوسط الغرفة المزخرفة، وحول القبر شبكة من الفضة المزخرفة. وإلى جانبه قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين وإلى اليمين قليلاً كان يتوضع قبر الأمير عبد القادر الجزائري، ولهذه القبة شباكان قبلي مطل على الجنينة المذكورة وشمالي مطل على تربة آل الزكي وفيها تابوت مركب على قبو قبالة قبر الشيخ محي الدين، وفي غربي المصلى خلوتان؛ يوجد في غرفة الضريح عدد كبير من بلاطات القاشانية التي تكسو جدران إيوان يمتد من قبة الضريح وتغطيه قبوة نصف اسطوانية. في سقف غرفة الضريح قبة ملساء مدببة تستند إلى رقبة مضلعة بطبقة واحدة مؤلفة من اثني عشر مضلعاً تفتح فيها اثنتا عشرة نافذة مقوسة.ترتفع المئذنة فوق الباب الرئيسي للجامع مباشرة وتعتبر هذه المئذنة ذات الرأس المخروطي أم المآذن العثمانية بدمشق، فجذعها مملوكي الطراز مثمن الأضلاع تقطعه الأشرطة التزيينية، وفي منتصفها نوافذ صماء تزيينية ذات أقواس ثلاثية الفصوص في كل ضلع، وتأخذ شرفتها شكل الجذع المثمن محمولة على مساند من المقرنصات، كما يحيط بها درابزين حجري منحوت بشكل جميل وترتفع فوقها مظلة خشبية أخذت شكل الشرفة، ويعلو المئذنة جوسق عثماني الطراز مثمن أضيق قطراً من جذع المئذنة السفلي أبلق ومدكك التركيب بحجارته السود و البيض، في أعلى الجوسق شرفة ثانية دائرية يحيط بها درابزين حجري منحوت وتتدلى منها المقرنصات بدون مظلة، لينتهي الجوسق الأبلق برأس مضلع مخروطي عثماني الطراز مصفح بألواح التوتياء.
والجدير بالذكر أنه يوجد في خاصرة مئذنة جامع الشيخ محي الدين مصغر للمئذنة ذو ذروة بصلية، متصلة بجدع المئذنة الأصلية بواسطة رواق مسقوف وتُعرف باسم (التقيسة). وقد خصصت هذه الحجرة للمُلبي الذي يلبي إمام الجامع بالتكبيرات، وقد استلهم مُشّيد المئذنة بفكرة وجود حجرة للمُلبي من فكرة بناء مئذنة العروس بالجامع الأموي. وقد ذكر العلامة محمد أحمد دهمان أن زلزال دمشق الشهير سنة 1173ه الموافق 1759م قد أطاح برأس مئذنة فأعيد بنائها، ورممت أقسامها المتضررة.
وتم تزويد الجامع قديمآ بناعورة سواقي مائية ذات بكرات، ما زالت قائمة حتى اليوم سميت بناعورة الشيخ محي الدين كانت مهمتها رفع مياه نهر يزيد وهي من الابتكارات والآثار الإسلامية الهامة، وكانت مهمتها رفع المياه من نهر يزيد إلى المسجد والتكية من دون توقـف. اضطلعت الناعورة بهذه المهمة على مدى أربعة قرون، إلى أن توقفت عن العمل نهائيا عام 1908 حين بدأت مصلحة المياه بضخ مياه عين الفيجة إلى المنطقة. وهي الناعورة الوحيدة مازالت باقية قائمة حتى اليوم في حي النواعير في الصالحية على نهر يزيد وكانت تغذي الجامع. والناعورة من تصميم العالِم الفلكي المشهور تقي الدين محمد بن معروف والمأخوذة من نموذج لناعورة من تصميم الجزري، وهي عبارة عن دولاب ضخم يدور بقوة رفع مياه نهر يزيد، فيدير بدوراته مسنناً ضخماً من الخشب صنع بطريقة فنية وبقياسات علمية دقيقة، ويدير هذا الدولاب دولاباً آخر مثبت في قمة البرج، ربطت به سلسلة حديدية علقت بها دلاء تملأ بالماء من النهر وتفرغ في حوض في قمة البرج، حيث تسير في قناة محمولة على جسر مقوّس إلى خزان للمياه، ومنه توزع المياه إلى الجامع والميضأة، وإلى التكية السليمية، كما تصل مياه الناعورة أيضاً إلى البيمارستان القيمري.
كما ويوجد بجانب الجامع «تكية سليمانية» كانت تزود الفقراء بالطعام والشراب، وقد اشتملت على بيت للفقراء من الرجال وآخر للنساء، وثلاث حواصل للمؤن، ومطبخ كبير وفرن يخبز قنطارين في اليوم ومئة وخمسين كيلو من اللحم، وفي يوم الخميس يطبخون الرز المفلفل مع اللحم، ومعه رز بعسل، بحسب المؤرخ الدمشقي ابن طولون الصالحي. لاتزال التكية السليمية مقابل المسجد قائمة إلى اليوم، ولاتزال التكية تعمل منذ خمسة قرون من دون توقـف يذكر، وهي تقدم وجبة أسبوعية من حساء اللحم والقمح صباح كل خميس لنحو 4000 شخص في القدور ذاتها، التي ورثت من العهود السابقة.
أما ضريح الشيخ محي الدين فيقع في داخل غرفة مقببة (أي لها قبة) موجودة في الزاوية الجنوبية الشرقية للجامع ينزل إليها بسلم حجري حيث يتوضع الضريح المحاط بشبكة فضية في وسط الغرفة المزخرفة المقببة، وإلى جانبه قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين وإلى اليمين قليلًا قبر محمود سري باشا صهر الخديوي إسماعيل حاكم مصر وقبر الأمير عبد القادر الجزائري المتوفى عام 1882 م والذي نقلت رفاته فيما بعد إلى الجزائر وأيضا قبر الشيخ محمد أمين خربطلي ناظر الجامع الأسبق.