
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أبو السعود الجارحي رضي الله تعالى عنه
هو من أجل من أخذ عن الشيخ شهاب الدين المرحومي رضي الله عنه، وكانت له في مصر الكرامات الخارقة، والتلامذة الكثيرة، والقبول التام عند الخاص، والعام، والملوك، والوزراء، وكانوا يحضرون بين يديه خاضعين، وعملوا بأيديهم في عمارة زاويته في حمل الطوب، والطين، وكان كثير المجاهدات لم يبلغنا عن غيره ما بلغنا عنه في عصره من مجاهداته، وكان ينزل في سرب تحت الأرض من أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام، وذلك بوضوء واحد من غير أكل، وأما الماء، فكان يشرب منه كل ليلة قدر أوقية، وكان رضي الله عنه يقول: إني لا أبلغ إلي الآن مقام مريد ولكن الله تعالى يستر من يشاء، وكان رضي الله عنه إذا سمع كلاماً يسمعه بالسمع الباطن، وسمع قائلا يقول: يا سيدي فسدت المعاملة، ونودي على الفلوس بأنها بطالة فصاح، وسقط على وجهه، ونتف لحيته، ومكث يصيح يوماً كاملا، وجاءه مريد من بلبيس يريد أن يجتمع به فلم يأذن له فقال: جئتك من مكان بعيد فقال له: تمن علي بمجيئك من موضع بعيد اذهب لا تأتني لثلاث سنين، فلم يجتمع به إلا بعد ثلاث سنين ثم قال: الشيخ كان المريد يسافر ثلاث شهور في طلب مسألة في الطريق، ويرى تلك السفرة قليلة، وكان رضي الله عنه يعامل أصحابه بالامتحان، فلا يكاد يقرب منهم أحداً إلا بعد امتحانه سنة كاملة، وكان يلقي حاله على الفقير فيتمزق، وأخبرني الشيخ شمس الدين الأبوصيري رضي عنه أجل أصحابه قال: لم يزل الشيخ يمتحنني إلى أن مات، وأراني ضرب المقارع على أجنابه من الدعاوي التي كان يدعيها علي عند الحكام قال: وكنت أعترف عند الحكام إيثاراً لجناب الشيخ أن يرد قوله: فإذا قال: هذا زنى بجاريتي أقول نعم أو يقول: هذا أراد الليلة أن يقتلني أقول نعم أو يقول: هذا سرق مالي أقول: نعم.
وكان رضي الله عنه يتنكر علينا أوقاتاً فلا نكاد نعرفه، وهرب منا إلى مكة، ونحن في الحبس، فلم نشعر به إلى أن وصل إلى مكة، فخرجت أنا وأبو الفضل المالكي في غير أوان الحج فوصلنا مكة في خمسة عشر يوماً، فلما وصلنا إلى مكة استخفى منا وأشاع أنه سافر إلى اليمن، فسافر إليه خمسة شهور من مكة، فخرج إلينا شخص خارج زبيد، وقال: إن شيخكم في مكة في هذا اليوم فرجعنا فلما بقي بيننا، وبين مكة يوم، وليلة خرج إلينا، وقال: إن شيخكم باليمن فرجعنا إليه، وقال لنا: إن الذي قال: لكم إن شيخكم بمكة شيطان، فرجعنا إلى اليمن، فخرج إلينا، وقال: إن شيخكم بمكة، فلم نزل كذلك ثلاث سنين حتى ظهرلنا أنه بمكة، فأقمنا معه، فادعى علينا دعاوي، وضربونا، وحبسونا، ولم نر منه يوماً واحداً كلمة طيبة، وكان رضي الله عنه يقول: ليس لي أصحاب. قلت: وقال لي: يوماً من حين عملت شيخاً في مصر لي سبع، وثلاثون سنة ما جاء لي قط أحد يطلب الطريق إلى الله، ولا يسأل عن حسرة، ولا عن فترة، ولا عن شيء. يقربه إلى الله، وإنما يقول؛ أستاذي ظلمني، وامرأتي تناكدني جاريتي هربت جاري يؤذيني شريكي خانني، وكلت نفسي من ذلك، وحننت إلى الوحدة، وما كان لي خيرة إلا فيها، فيا ليتني لم أعرف أحداً، ولم يعرفني أحد.
وكان رضي الله عنه إذا غلب عليه الحال نزع ثيابه، وصار عرياناً ليس في وسطه شيء، وجاءه مرة أمير بقفص موز، ورمان فرده عليه، فقال: هذا لله تعالى فقال: الشيخ إن كان لله فأطعمه للفقراء، فأخذه الأمير، ورجع به إلى بيته، فأرسل الشيخ فقيرين بصيراً، وضريراً، وقال: الحقاه، وقولا له يا أمير أعطنا شيئاً لله من هذا الموز، والرمان فتوجها مثل ما قال: لهما الشيخ، ولحقاه وقالا له يا أمير أعطنا شيئاً لله، فنهرهما، ولم يعطهما شيئاً فرجعا، وأخبرا الشيخ بما وقع لهما، فأرسل له الشيخ يقول: له تقول: هذا الله، وتكذب على الفقراء، وتنهر من يقول لك: أعطنا يا أمير شيئاً، فلا عدت تأتينا بعد ذلك اليوم أبداً، فحصل له العزل، ولحقته العاهات في بدنه، ومات على أسوأ حال، ولما حضرت الشيخ الوفاة أرسل خلف شيخ الإسلام الحنفي، وجماعة وقال: أشهدكم علي بأني ما أذنت لأحد من أصحابي في السلوك فما منهم أحد شم رائحة الطريق ثم قال: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد، وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة، وكان كثير العطب، فكان عطبه للناس بحمية.
مات رحمه الله سنة نيف، وثلاثين وتسعمائة، ودفن بزاويتة بالكوم الخارج بالقرب من جامع عمرو في السرداب الذي كان يعتكف فيه، وما رأيت أسرع كشفاً منه، وحصل لي منا دعوات وجدت بركتها، وكان رضي الله عنه يقول: لا تجعل لك قط مريداً، ولا مؤلفاً، ولا زاوية وفر من الناس فإن هذا زمان الفرار، وسمعته مرة يقول: لفقيه من الجامع الأزهر متى تصير هاء الفقيه راء، والحمد لله رب العالمين.
![]() |
![]() |