
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
وكانت الشياه والذئاب في زمانه ترعى سواء من عدله، وأتته الدنيا وهي راغمة فتركها وزهد فيها وكانت حجزة إزاره غائبة في عكنته، فلما ولي الخلافة، فلو شئت أن تعد أضلاعه عداً من غير مس لعددتها، وكانت غلته خمسين ألف دينار، فلما ولي الخلافة صار ينفقها كل حين، حتى ما يبقى له غير قميص واحد لا يخلعه، حتى يتسخ فإذا اتسخ غسله ومكث في البيت حتى يجف، وكانت زوجته فاطمة بنت عبد الملك كذلك؛ وضعت جميع مالها في بيت المال فصارت كآحاد الناس، قالت فاطمة رضي الله عنها، ومنذ ولي الخلافة ما اغتسل قط من جنابة إلى أن مات. فإنه لما ولي الخلافة خير جواريه، وقال: قد نزل بي أمر شغلني عنكن إلى يوم القيامة، وحتى يفرغ الناس من الحساب فمن أحبت منكن، إن أعتقها أعتقتها ومن أحبت أن أمسكها، على أن لا يكون مني إليها شيء أمسكتها، فبكين وارتفع بكاؤهن يأساً منه. وخير فاطمة رضي الله عنها بنت عبد الملك بين أن تقيم عنده، وبين أن تلحق بدار أبيها، فبكت وعلا نحيبها، حتى سمع ذلك الجيران.
قالت فاطمة: ولم أر أحداً من الرجال، أشد خوفاً من الله تعالى من عمر. كان إذا دخل عندي البيت ألقى نفسه في مسجده. فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم يسقط فيفعل مثل ذلك ليله أجمع، وكان يخطب الناس بقميص مرقوع الجيب، من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست، فنكس رأسه ساعة، ثم قال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل الحفو عند المقدرة.
وكانت بناته لم تزلن عراة، فدعا واحدة منهن فلم تجبه، فأرسل الخادم فأتى بها إليه فقال: ما منعك أن تجيبني. فقالت: إني عريانة فأمر لها بخيشة فألبسها إياها. وكان رضي الله عنه يبكي الدم، وكان يجتمع بالخضر عليه السلام وكان رضي الله عنه كل قليل، يرسل البريد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ليس له حاجة إلا السلام. وكان رضي الله عنه له سرب ينزل فيه كل ليلة، فيضع الغل في عنقه فلا يزال يبكي ويتضرع إلى الصباح، وكان رضي الله عنه يقول: لا تدخل على أمير ولو نهيته عن المنكر وأمرته بالمعروف، وقد كان رضي الله عنه يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، وكان رضي الله عنه يقول: المتقي ملجم، وكان رضي الله عنه يقول: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، ما نظرتم في وجهي، وكان رضي الله عنه يقول: إنما الزهد في الحلال وأما الحرام فنار تسعر؛ يرتع فيها الأموات، ولو كانوا أحياء لوجدوا ألم النار. وأخباره رضي الله عنه مشهورة في الحلية لأبي نعيم وغيرها. مات رضي الله عنه، في رجب سنة إحدى ومائة، وله من العمر. تسع وثلاثون سنة، ودفن بدير سمعان من أرض حمص. وكانت خلافته سنتين وأربعة عشر يوماً، ومات مسموماً، قالت فاطمة بنت عبد الملك رضي الله عنها: وكان جل مرضه، من كثرة الخوف من الله تعالى، فكان أقوى سبباً من السم، رضي الله تعالى عنه.
![]() |
![]() |