موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب العاشر في شرح رتبة المشيخة

الباب العاشر في شرح رتبة المشيخة

ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم، إن أحب عباد الله تعالى إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله، إلى الله، ويمشون على الأرض بالنصيحة».

وهذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة إلى الله تعالى، لأن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة، ويجبب عباد الله إلى الله.

ورتبه المشيخة من أعلى الرتب في طريق الصوفية، ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله.

فأما وجه كون الشيخ يحبب الله إلى عباده، فلأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله تعالى قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله (٣١)} (١).

ووجه كونه يحبب عباد الله تعالى إليه أنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، وانعكست فيه أنوار العظمة الالهية، ولاح فيه جمال التوحيد، وانجذبت أحداق البصيرة إلى مطالعة أنوار جلال القدم، ورؤية الكمال الأزلي، فأحب العبد ربه لا محالة، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها (٩)} (٢).

وقلاحها بالظفر بمعرفة الله تعالى.

__________

١) سورة آل عمران آية:٣١.

٢) سورة الشمس آية:٩.

وأيضًا مرآة القلب إذا انجلت لاحت فيها الدنيا بقبحها وحقيقتها وماهيتها، ولاحت الآخرة ونفائسها بكنهها وغايتها، فتنكشف للبصيرة حقيقة الدارين، وحاصل المنزلين، فيحب العبد الباقي ويزهد في الفاني، فتظهر فائدة التزكية، وجودي المشيخة والتربية.

فالشيخ من جنود الله تعالى يرشد به المريدين، ويهدي به الطالبين.

أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أبوا الفضل عبد الواحد بن على بهمذان قال: أنا أبو بكر محمد بن على بن أحمد الطوسي قال:

حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثا أبو عتبة قال: وحدثنا بقيه قال: حدثنا صفوان بن عمرو قال: كان يقال: إذا اجتمع عشرون رجلا أو أكثر، فإن لم يكن فيهم من يهاب الله عز وجل فقد خطر الأمر.

فعلى المشايخ وقار الله، وبهم يتأدب المريدون ظاهرا وباطنا، قال الله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَي الله فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ (٩٠)} (١).

فالمشايخ لما اهتدوا أهلوا لاقتداء بهم، وجعلوا أئمة المتقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه «إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت همته ولذاته في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري عشقني وعشقته، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسه إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ذكرتهم فيه فصرفته بهم عنهم».

والسر في وصول السالك إلى رتبة المشيخة، أن السالك مأمور بسياسة النفس، مبتلي بصفاتها، لا يزال يسلك بصدق المعاملة حتى تطمئن نفسه، وبطمأنينتها ينتزع عنها البرودة واليبوسة التي استصحبتها من أصل خلقتها،

__________

١) سورة الأنعام آية:٩٠.

وبها تستعصي على الطاعة والانقياد للعبودية، فإذا زالت اليبوسة عنها، ولانت بحرارة الروح الواصلة إليها، وهذا اللين هو الذي ذكره الله تعلى في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلي ذِكْرِ الله (٢٣)} (١). تعالى، تجيب إلى العبادة، وتلين للطاعة عند ذلك. وقلب العبد متوسط بين الروح والنفس، ذو وجهين، احد وجهية إلى النفس، والوجه الآخر إلى الروح، يستمد من الروح بوجهه الذي يليه، ويمد النفس بوجهه الذي يليها حتى تطمئن النفس، فإذا اطمأنت نفس السالك، وفرغ من سياستها، انتهي سلوكه، وتمكن من سياسة النفس وانقادت نفسه وفاءت إلى أمر الله.

ثم القلب يشرئب إلى السياسة لما فيه من التوجه إلى النفس، فيقوم نفوس المريدين والطالبين والصادقين عند مقام نفسه، لوجود الجنسية في عين النفسية من وجه، ولوجود التألف بين الشيخ والمريد من وجه، ولوجود التألف بين الشيخ والمريد من وجه بالتألف. الالهي.

قال الله تعالى {لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (٦٣)} (٢).

فيسوس نفس المريدين كما كان يسوس نفسه من قبل، ويكون في الشيخ حينئذ معني التخلق بأخلاق الله تعالى من معني قوله لله تعالى.

ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوق

وبما هيأ الله تعالى من حسن التألف بين الصاحب والمصحوب، يصير المريد جزء الشيخ، كما أن الولد جزء الوالد في الولادة الطبيعة، وتصير هذه الولادة آنفا ولادة معنوية كما ورد عن عيسي عليه السلام: لن يلج ملكوت السماء من لم يولد مرتين.

__________

١) سورة الزمر آية:٢٣.

٢) سورة الأنفال آية:٦٣.

قبالولادة الأولى يصير له ارتباط بعالم الملك، وبهذه الولادة يصير له ارتباط بالملكوت. قال الله تعالى: {وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)} (١).

وصرف اليقين على الكمال يحصل في هذه الولادة، وبهذه يستحق ميراث الأنبياء، ومن لم يصله ميراث الأنبياء ما ولد، وإن كان على كمال من الفطنة والذكاء، لأن الفطنة والذكاء نتيجة العقل، والعقل إذا كان يابسا من نور الشرع لا يدخل الملكوت، ولا يزال مترددا في الملك، ولهذا وقف على برهان من العلوم الرياضية، لانه تصرف في الملك ولم يرتق إلى الملكوت.

والملك ظاهر الكون، والملكوت باطن الكون، والعقل لسان الروح.

والبصيرة التي منها تنبعث أشعة الهداية قلب الروح، واللسان ترجمان القلب، وكل ما ينطق به الترجمان معلوم عند من يترجم عنه، وليس كل ما عند من يترجم عنه يبرز إلى الترجمان، فلهذا المعني حرم الواقفون مع مجرد العقول العارية عن نور الهداية، الذي هو موهبة الله تعالى عند الأنبياء وأتباعهم الصواب، وأسبل دونهم الحجاب لوقوفهم مع الترجمان، وحرمانهم غاية التبيان.

وكما أن في الولادة الطبيعة ذرات الأولاد صلب الأب مودعة، تنقل إلى أصلاب الأولاد بعد كل ولد ذرة، وهي الذرات التي خاطبها الله تعالى يوم الميثاق بألست بربكم، قالوا بلى، حيث مسح ظهر آدم وهو ملقي ببطن نعمان. بين مكة والطائف، فسالت الذرات من مسام جسده كما يسيل العرق بعدد كل ولد من ولد آدم ذرة.

ثم لما خوطبت وأجابت ردت إلى ظهر آدم. فمن الآباء من تنذ الذرات في صلبه، ومنهم من لم يودع في صلبه شيء فينقطع نسله. وهكذا المشايخ، فمنهم من تكثر أولاده، ويأخذون منه العلوم والأحوال، ويودعونها غيرهم،

__________

١) سورة الأنعام آية:٧٥.

كما وصلت إليهم منهم من ينقطع نسله له. قال الله تعالى: {إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)} (١).

وإلا فنسل رسول الله صلى الله عليه وسلم باق إلى ان تقوم الساعة وبالنسبة المعنوي يصل ميراث العلم إلى أهل العلم.

أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء قال: أنا أبو عبد الرحمن الماليني قال: أنا أبو الحسن الداودي قال: أنا أبو محمد الحموي قال: أنا أبو عمران السمرقندي قال: أنا أبو محمد الدارمي قال: أنا نصر بن على قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن عاصم، عن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني أتيتك من المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا. قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من سلك طريقا يلتمس به علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن فضل طالب العلم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم، وإنّ العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما أورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظه أو بحظ وافر».

فأول ما أودعت الحكمة والعلم عند آدم أبي البشر عليه السلام، ثم انتقل منه كما انتقل منه النسيان والعصيان وما تدعوا إليه النفس والشيطان، كما ورد أن الله تعالى أمر جبرائيل حتى أخذ قبضة من أجزاء الأرض، والله تعالى نظر إلى الأجزاء الأرضية التي كونها من الجوهرة التي خلقها أولا، فصار من مواقع نظر الله إليها فيها خاصية السماع من الله تعالى والجواب،

__________

١) سورة الكوثر آية:٣.

حيث خاطب السموات والأرضين بقوله: {اِئْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)} (١).

فحملت أجزاء الأرض بهذا الخطاب خاصية، ثم انتزعت هذه الخاصية منه بأخذ أجزئها لتركيب صورة آدم، فركبت جسد آدم من أجزاء أرضية محتوية على هذه الخاصية، فمن حيث نسبة أجزاء الأرض تركب فيه اللهوي، حتى مديده إلى شجرة الفناء، وهي شجرة الحنطة في أكثر الأقاويل، فتطرق لقابله الفناء وبإكرام الله إياه بنفخ الروح الذي أخبر عنه بقوله: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (٢)

نال العلم والحكمة.

فبالتسوية صار ذا نفس منفوسة، وبنفخ الروح صار ذا روح روحاني، وشرح هذا يطول. فصار قلبه معدن الحكمة، وقلبه معدن الهوي، فانتقل منه العلم والهوي، وصار ميزانه في والده، فصار من طريق الوالد أبا بواسطة الطبائع التي هي محل الهوي، ومن طريق الولادة المعنوية محمية من الفناء، لأنها وجدت من شجرة الخلد، وهي شجرة العلم لا شجرة الحنطة التي سماها إبليس شجرة الخلد فإبليس يري الشيء بضده. فتبين أن الشيخ هو الأب.

وكثيرا كان شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله يقول: ولدي من سلك طريقي واهتدي بهديي.

فالشيخ الذي يكتسب بطريقة الأحوال قد يكون مأخوذا في ابدائه في طريق المحبين، وقد يكون مأخوذا في طريق المحبوبين، وذلك أن امر الصالحين والسالكين ينقسم أربعة أقسام: سالك مجرد، ومجذوب مجرد، وسالك متدارك بالجذبة، ومجذوب متدارك بالسلوك.

__________

١) سورة فصلت: آية:١١.

٢) سورة الحجر: آية:٢٩.

فالسالك المجرد لا يؤهل للمشيخة ولا يبلغها لبقاء صفاء نفسه عليه، فيقف عند حظه من رحمة الله تعالى في مقام المعاملة والرياضة، ولا يرتقي إلى حال يروح بها عن وهج المكابدة.

والمجذوب المجرد من غير سلوك يبادئه الحق بآيات اليقين، ويرفع عن قلبه شيئا من الحجاب، ولا يؤخذ في طريق المعاملة.

وللمعاملة أثر تام.

سوف نشرحه في موضعه إن شاء الله تعالى. وهذا أيضا لا يؤهل للمشيخة، ويقف عند حظه من الله، ومروحا بحاله، غير مأخوذ في طريق أعماله ما عدا الفريضة.

والسالك الذي تدورك بالجذبة، وهو الذي كانت بدايته بالمجاهدة والمكايدة والمعاملة بالإخلاص والوفاء بالشروط، ثم أخرج من وهج المكابدة إلى روح الحال، فوجد العسل بعد العلقم، وتروح بنسمات الفضل، وبرز من مضيق المكابدة إلى متسع المساهلة، وأونس بنفحات القرب، وفتح له باب من الشاهدة.

فوجد دواءه، وفاض وعاؤه، وصدرت منه كلمات الحكمة، ومالت لله القلوب، وتوالي عليه فتوح الغيب، وصار ظاهره مسددا وباطنه مشاهدا، وصلح للجلوة، وصار له في الجلوة خلوة، فيغلب ولا يغلب، ويفترس ولا يفترس، يؤهل مثل هذا للمشيخة، لأنه أخذ في طريق المحبين، ومنح حالا من أحوال المقربين، بعد ما دخل من طريق أعمال الأبرار الصالحين، ويكون له أتباع ينتقل منه إليهم علوم، ويظهر بطريقه بركة، ولكن قد يكون محبوسا في حاله، محكما حالة فيه، لا يطلق من وثاق الحال ولا يبلغ كمال النوال، يقف عند حظه وهو حظ وافر سني، والذين أوتوا العلم درجات.

ولكن المقال الأكمل في المشيخة القسم الرابع وهو المجذوب المتدارك بالسلوك، يبادئه الحق بالكشوف وأنوار اليقين، ويرفع عن قلبه الحجب، ويستنير بأنوار المشاهدة، وينشرح وينفسح قلبه، ويتجافي عن دار الغرور، وينيب إلى دار الخلود، ويرتوي من بحر الحال، ويتخلص من الأغلال والأعلال، ويقول معلنا لا أعبد ربا لم أره، ثم يفيض من باطنه على ظاهره، وتجري عليه صورة المجاهدة والمعاملة من غير مكابدة وعناء، بل بلذاذة وهناء، ويصير قالبه بصفة قلبه لا متلاء قلبه بحب ربه ويلين جلده كما لان قلبه.

وعلامة لين جلده إجابة قالبه للعمل، كإجابة قلبه، فيزيده الله تعالى إرادة خاصة ويرزقه محبة خاصة من محبة المحبوبين المرادين، ينقطع فيواصل، ويعرض عنه فيراسل، ويذهب عنه جمود النفس، ويصلي بحرارة الروح، وتنكمش عن قلبه عروق النفس. قال الله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلي ذِكْرِ الله (٢٣)} (١).

أخبر أن الجلود تلين، كما أن القلوب تلين، ولا يكون هذا إلا حال المحبوب المراد. وقد ورد في الخبر أن إبليس سأل السبيل إلى القلب، فقيل له يحرم علىك، ولكن السبيل لك في مجاري العروق المشتبكة بالنفس إلى حد القلب، فإذا دخلت العروق عرقت فيها من ضيق مجاريها، وأمتزج عرقك بماء الرحمة المترشح من جانب القلب في مجري واحد، ويصل بذلك سلطانك، إلى القلب، ومن جعلته نبيا أو وليا قلعت تلك العروق من باطن قلبه فيصير القلب سليما، فإذ دخلت العروق لم تصل إلى المشتبكة بالقلب، فلا يصل إلى القلب سلطانك.

__________

١) سورة الزمر آية:٢٣.

فالمحبوب المراد الذي أهل للمشيخة، وسلم قلبه، وانشرح صدره ولان جلده، فصار قلبه بطبع الروح، ونفسه بطبع القلب، ولانت النفس بعد ان كانت أمارة بالسوء مستعصية، ولان الجلد للين النفس، ورد إلى صورة الأعمال بعد وجان الحال.

ولا يزال روحه ينجذب إلى الحضرة الالهية، فيستتبع الروح القلب، فامتزجت الأعمال القلبية والقالبية، وانخرق الظاهر إلى الباطن، والباطن إلى الظاهر، والقدرة إلى الحكمة، والحكمة إلى القدرة، والدنيا إلى الآخرة. الآخرة إلى الدنيا، ويصح له أن يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. فعند ذلك يطلق من وثاق الحال، ويكون مسيطرا على الحال لا الحال مسيطرا عليه، ويصير حرا من كل وجه.

والشيخ الأول الذي أخذ في طريق المحبين حر من رق النفس، ولكن ربما كان باقيا في رق القلب. وهذا الشيخ في طريق المحبوبين حر من رق النفس، وذلك أن النفس حجاب ظلماني أرضي أعتق منه الأول، والقلب حجاب نوراني سماوي أعتق منه الآخر، فصار لربه لا لقلبه ولموقته لا لوقته، فعبد الله حقا، وآمن به صدقا ويسجد لله سواده وخياله، ويؤمن به فؤاده، وقر به لسانه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سجوده، ولا يتخلف عن العبودية منه شعرة، وتصير عبادته مشاكلة لعبادة الملائكة {ولله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والْآصالِ (١٩)} (١).

فالقوالب هو الظلال الساجدة، ظلال الأرواح المقربة في عالم الشهادة.

الأصل كثيف والظل لطيف، وفي عالم الغيب الأصل لطيف والظل كثيف، فيسجد لطيف العبد وكثيفه، وليس هذا لمن أخذ في طريق المحبين لأنه يستتبع صور الأعمال، ويمتلئ بما أنيل من وجدان الحال، وذلك قصور في العلم، وقلة في الحظ، ولو كثر العلم رأي ارتباط الأعمال بالأحوال

__________

١) سورة الرعد: آية:١٩.

كارتباط الروح بالجسد، ورأي أن لا غني عن الأعمال كما لا غني في عالم الشهادة عن القوالب، فما دامت القوالب باقية فالعمل باق، ومن صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق، والعارف المحقق، والمحبوب المعتق، نظره دواء، وكلامه شفاء، بالله ينطق، وبالله يسكت، كما ورد «لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحبته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا، بي ينطق وبي يبصر» الحديث.

فالشيخ يعطي بالله، ويمنع بالله، فلا رغبة له في عطاء ومنع لعينه، بل هو مع مراد الحق، والحق يعفه مراده، فيكون في الأشياء بمراد الله تعالى لا بمراد نفسه، فإن علم أن الله تعالى يريد منه الدخول في صورة محمود دخل فيها مراد الله تعالى لا لكون الصورة محمودة، بخلاف الخادم القائم بواجب خدمة الله تعالى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!