موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب السادس عشر في ذكر اختلاف أحوال مشايخهم في السفر والمقام

الباب السادس عشر في ذكر اختلاف أحوال مشايخهم في السفر والمقام

اختلف أحوال مشايخ الصوفية، فمنهم من سافر في بدايته وأقام في نهايته، ومنهم من قام في بدايته وسافر في نهايته، ومنهم من أقام ولم يسافر، ومنهم من استدام السفر ولم يؤثر الإقامة.

ونشرح حال كل واحد منهم ومقصده فيما رام.

فأما الذي سافر في بدايته وأقام في نهايته فقصده بالسفر لمعان: منها تعلم شيء من العلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا العلم ولو بالصين».

وقال بعضهم: لو سافر رجل من الشام إلى أقصي اليمن في كلمة تدله على هدي ما كان سفره ضائعا.

و نقل أن جابر بن عبد الله رحل من المدينة إلى مصر في شهر لحديث بلغه أن أنسا يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال عليه السلام: «من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع».

وقيل في تفسير قوله تعالى: {السّائِحُونَ} إنهم طلاب العلم.

حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء قال: أنا أبو الفتح عبد الملك الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسي الترمذي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا أبو داود عن سفيان عن أبي هارون قال: كنا نأتي أبا سعيد فيقول

مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن النبي عليه السلام قال: «إن الناس لكم تبع، وإن الرجال يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا».

وقال عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».

وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى أوحي إليّ أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريقا إلى الجنة».

ومن جملة مقاصدهم في البداية لقاء المشايخ والإخوان الصادقين. فللمريد بلقاء كل صادق مزيد، وقد ينفعه لحظ الرجال كما ينفعه لفظ الرجال.

وقد قيل: من لا ينفعك لحظة (١) لا ينفعك لفظة.

وهذا القول فيه وجهان: أحدهما: أن الرجل الصديق يكلم الصادقين بلسان فعله أكثر ما يكلم بلسان قوله، فإذا نظر الصادق إلى تصاريفه في مورده ومصدره، وخلوته وجلوته، وكلامه وسكوته، ينتفع بالنظر إليه، فهو نفع اللحظ، ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضا لا ينفع لأنه يتكلم بهواه. ونورانية القول على قدر نورانية القلب، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها.

والوجه الثاني: أن نظر العلماء الراسخين في العلم والرجال البالغين ترياق نافع، ينظر أحدهم إلى الرجل الصادق فيستكشف بنفوذ بصيرته حسن استعداد الصادق واستئهاله لمواهب الله تعالى الخاصة، فيقع في قلبه محبة الصادق من المريدين، وينظر إليه نظر محبة عن بصيرة، وهم من جنود الله تعالى، فيكسبون بنظرهم أحوالا سنية ويهبون آثارا مرضية.

__________

١) أي أن يكون قدوة حسنة، فمن خالف قوله فعله لا ينفع غيره ولا يؤخذ عنه.

وما ذا ينكر المنكر من قدرة الله أن الله سبحانه وتعالى كما جعل في بعض الأفاعي من الخاصية أنه إذا نظر إلى إنسان يهلكه بنظره، أن يجعل في نظر بعض خواص عباده أنه إذا نظر إلى طالب صادق يكسبه حالا وحياة.

وقد كان شيخنا رحمه الله يطوف في مسجد الخيف بمني ويتصفح وجوه الناس، فقيل له في ذلك، فقال: لله عباد إذا نظروا إلى الشخص أكسبوه سعادة، فأنا أتطلب ذلك.

ومن جملة المقاصد في السفر ابتداء قطع المألوفات، والانسلاخ من ركون النفس إلى معهود ومعلوم، والتحامل على النفس بتجرع مرارة فرقة الإلاف والخلان، والأهل والأوطان، فمن صبر على تلك المألوفات محتسبا عند الله أجرا فقد حاز فضلا عظيما.

أخبرنا أبو زرعة بن أبي الفضل الحافظ المقدسي عن أبيه قال: أنا القاضي أبو منصور محمد بن أحمد الفقيه الأصفهاني قال: أنا أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زيادة النيسابوري قال: حدثنا يونس بن عبد الله الأعلى قال: حدثنا أبو وهب قال: حدثني يحيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مات رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليته مات بغير مولده» قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: «إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره من الجنة».

ومن جملة المقاصد في السفر استكشاف دقائق النفوس، واستخراج رعوناتها ودعاويها، لأنها لا تكاد تتبين حقائق ذلك بغير السفر. وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق، وإذا وقف على دائه يتشمر لدوائه.

وقد يكون أثر السفر في نفس المبتدي كأثر النوافل من الصلاة والصوم والتهجد وغير ذلك، وذلك أن المنتفل سائح سائر إلى الله تعالى من أوطان

الغفلات إلى محل القربات، والمسافر يقطع المسافات، ويتقلب في المفاوز والفلوات، بحسن النية لله تعالى، سائرا إلى الله تعالى، بمراغمة الهوي، ومهاجرة ملاذ الدنيا.

أخبرنا شيخنا إجازة قال: أنا عمر بن أحمد قال: أنا أحمد بن محمد بن خلف قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت على بن عبد الرحيم يقول: سمعت النوري يقول: التصوف ترك كل حظ النفس.

فإذا سافر المبتدي تاركا حظ النفس، تطمئن النفس وتلين كما تلين بدوام النافلة، ويكون لها بالسفر دباغ يذهب عنها الخشونة واليبوسة الجليلة، والعفونة الطبيعية، كالجلد يعود من هيئة الجلود إلى هيئة الثياب، فتعود النفس من طبيعة الطغيان إلى طبيعة الإيمان.

ومن جملة المقاصد في السفر رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفرج، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال، ومواطئ أقدام الرجال، واستماع التسبيح من ذرات الجمادات، والفهم من لسان حال القطع المتجاوزات، فقد تتجدد اليقظة بتجدد مستودع العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات. قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. . .} (١).

وقد كان السري يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل أذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار.

ومن جملة المقاصد بالسفر إيثار الخمول، وإطراح حظ القبول، فصدق الصادق يتم على أحسن الحال، ويرزق من الخلق حسن الإقبال، وقلما يكون صادق متمسك بعروة الإخلاص وقلب عامر إلا ويرزق إقبال الخلق حتي

__________

١) سورة فصلت: الآية ٥٣.

سمعت بعض المشايخ يحكى عن بعضهم أنه قال: أريد إقبال الخلق علىّ لا أني أبلغ نفسي حظها من الهوي فإني لا أبالي أقبلوا أو أدبروا.

ولكن لكون إقبال الخلق علامة تدل على صحة الحال، فإذا ابتلي المريد بذلك لا يأمن نفسه أن تدخل عليه بطريق الركون إلى الخلق، وربما يفتح عليه باب من الرفق، وتدخل النفس عليه من طريق البر والدخول في الأسباب المحمودة، وتريه فيه وجه المصلحة والفضيلة في خدمة عباد الله وبذل الموجود، ولا تزال النفس به والشيطان حتى يجراه إلى السكون إلى الأسباب، واستجلاء قبول الخلق، وربما قويا عليه فجراه إلى التصنع والتعمل ويتسع الخرق على الراقع.

وسمعت أن بعض الصالحين قال لمريد له: أنت الآن وصلت إلى مقام لا يدخل علىك الشيطان من طريق الشر، ولكن يدخل علىك من طريق الخير.

وهذا مزلة عظيمة للأقدام، فالله تعالى يدرك الصادق إذا ابتلي بشيء من ذلك، ويزعجه بالعناية السابقة، والمعونة اللاحقة إلى السفر، فيفارق المعارف والموضع الذي فتح عليه هذا الباب فيه، ويتجرد لله تعالى بالخروج إلى السفر، وهذا من أحسن المقاصد في الأسفار للصادقين.

فهذه جمل المقاصد المطلوبة للمشايخ في بداياتهم، ما عدا الحج، والغزو، وزيارة بيت المقدس.

وقد نقل أن ابن عمر خرج من المدينة قاصدا إلى بيت المقدس، وصلي فيه الصلوات الخمس، ثم أسرع راجعا إلى المدينة من الغد.

ثم إذ من الله على الصادق بأحكام أمور بدايته، قلبه في الأسفار ومنحه الحظ من الاعتبار، وأخذ نصيبه من العلم قدر حاجته، واستفاد من مجاورة الصالحين، وانتقش في قلبه فوائد النظر إلى حال المتقين، وتعطر باطنه باستنشاق عرف معارف المقربين، وتحصن بحماية نظر أهل الله وخاصته،

وسبر أحوال النفس، وأسفر السفر عن دقائق أخلاقها وشهواتها الخفية، وسقط عن باطنه نظر الخلق، وصار يغلب ولا يغلب كما قال الله تعالى إخبارا عن موسي: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (١).

فعند ذلك يرده الحق إلى مقامه، ويمده بجزيل إنعامه، ويجعله إماما للمتقين، به يقتدي، وعلما للمؤمنين، به يهتدي.

وأما الذي أقام في بدايته، وسافر في نهايته، يكون ذلك شخصا يسر الله له في بداية أمره صحبة صحيحة، وقيض له شيخا عالما يسلك به الطريق، ويدرجه إلى منازل التحقيق، فيلازم موضع إرادته، ويلتزم بصحبته من يرده عن عادته.

وقد كان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة غير الله فحرام علىك أن تحضرني. فمن رزق مثل هذه الصحبة يحرم عليه السفر. فالصحبة خير له من كل سفر وفضيلة يقصدها.

أخبرنا رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة قال: أنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري عن والده الأستاذ أبي القاسم قال: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت عياش بن أبي الصخر يقولك سمعت أبا بكر الزقاق يقول: لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئا عشرين سنة.

فمن رزق صحبة من يندبه إلى مثل هذه الأحوال السنية، والعزائم القوية، يحرم عليه المفارقة واختيار السفر.

__________

١) سورة الشعراء: الآية ٢١.

ثم إذا أحكم أمره في الابتداء بلزوم الصحبة وحسن الاقتداء، وارتوي من الأحوال، وبلغ مبلغ الرجال، وانبجس من قلبه عيون ماء الحياة، وصارت نفسه مكسبه للسعادات، يستنشق نفس الرحمن من صدور الصادقين من الإخوان في أقطار الأرض وشاسع البلدان، يشرئب إلى التلاق، وينبعث إلى الطواف في الآفاق، يسيره الله تعالى في البلاد لفائدة العباد، ويستخرج بمغناطيس حاله خبء أهل الصدق، والمتعطلين إلى من يخبر عن الحق، ويبذر في أراضي القلوب بذر الفلاح، ويكثر ببركة نفسه وصحبته أهل الصلاح.

وهذا مثل هذه الأمة الهادية فالأمة الهادية في الإنجيل: {. . . كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوي عَلي سُوقِهِ. . . .} (١) تعود بركة البعض على البعض، وتسري الأحوال من البعض إلى البعض، ويكون طريق الوراثة معمورا، وعلم الإفادة منشورا.

أخبرنا شيخنا قال: أنا الإمام عبد الجبار البيهقي في كتابه، أنا أبو بكر البيهقي قال: أنا أبو على الروذبادي قال: حدثنا أبو بكر بن داسته قال: حدثنا أبو داود قال: أنا يحيي بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

فأما من أقام ولم يسافر يكون ذلك شخصا رباه الحق سبحانه وتعالى، وتولاه وفتح عليه أبواب الخير وجذبه بعنايته.

وقد ورد: جذبه من جذبات الحق توازي عمل الثقلين.

__________

١) سورة الفتح: الآية ٢٩.

ثم لما علم منه الصدق، ورأي حاجته إلى من ينتفع به، ساق إليه بعض الصديقين حتى أيده بلطفه ولفظه، وتداركه بلحظه ولقحه وبقوة حاله، وكفاه يسير الصحبة لكمال الأهلية في الصاحب والمصحوب، وإجراء سنة الله تعالى في إعطاء الأسباب حقها لإقامة رسم الحكمة، يحوج إلى يسير الصحبة، فيتنبه بالقليل للكثير، ويغنيه اليسير من الصحبة عن اللحظ الكثير، ويكتفي بوافر حظ الاستبصار عن الأسفار، ويتعوض بأشعة الأنوار عن مطالعة العبر والآثار، كما قال بعضهم: الناس يقولون: افتحوا أعينكم وأبصروا، وأنا أقول: أغمضوا أعينكم وأبصروا.

وسمعت بعض الصالحين يقول: لله عباد طور سيناهم ركبهم، تكون رؤوسهم على ركبهم، وهم في مجال القرب، فمن نبع له معين الحياة في ظلمة خلوته، فماذا يصنع بدخول الظلمات، ومن أندرجت له أطباق السماوات في طي شهوده ما ذا يصنع بتقلب طرفه في السموات، ومن جمعت أحداق بصيرته متفرقات الكائنات ما ذا يستفيد من طي الفلوات، ومن خلص بخاصية فطرته إلى مجمع الأرواح ما ذا تفيده زيارة الأشباح.

قيل: أرسل ذو النون المصري إلى ابي يزيد رجلا وقال قل له: إلى متى هذا النوم والراحة وقد سارت القافلة؟ فقال للرسول: قل لأخي: الرجل من ينم الليل كله ثم يصح في المنزل قبل القافلة، فقال ذو النون: هنيئا له، هذا كلام لا تبلغه أحوالنا.

وكان بشر يقول: يا معشر الفقراء سيحوا تطيبوا، فإن الماء إذا كثر مكثه في موضع تغير.

وقيل: قال بعضهم عند هذا الكلام: صر بحرا حتى لا تتغير، فإذا أدام المريد سير الباطن بقطع مسافة النفس الامارة بالسوء حتى قطع منازل آفاتها، وبدل أخلاقها المذمومة بالمحمودة، وعانق الإقبال على الله تعالى بالصدق والإخلاص، اجتمع له المتفرقات، واستفاد في حضره أكثر من

سفره، لكون السفر لا يخلو من متاعب وكلف ومشوشات، وطوارق ونوازل يتجدد الضعف عن سياستها بالعلم للضعفاء، ولا يقدر على تسليط العلم على متجددات السفر وطوارقه إلا الأقوياء.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للذي زكي عنده رجلا: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: ما أراك تعرفه.

فإذا حفظ الله عبده في بداية أمره من تشويش السفر، ومنعه بجمع الهم وحسن الإقبال في الحضر، وساق إليه من الرجال من اكتسب به صلاح الحال، فقد أحسن إليه.

قيل في تفسير قوله تعالى: {. . . ومَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (١) هو الرجل المنقطع إلى الله يشكل عليه شيء من أمر الدين، فيبعث الله إليه من يحل إشكاله. فإذا ثبت قدمه على شروط البداية، رزق وهو في المقام من غير سفر ثمرات النهاية، فيستقر في الحضر انتهاء وابتداء، وأقيم في هذا المقام جمع من الصالحين.

وأما الذي أدام السفر، فرأي صلاح قلبه وصحة حاله في ذلك.

يقول بعضهم: اجتهد أن تكون كل ليلة ضعيف مسجد، ولا تموت بين منزلين.

وكان من هذه الطبقة إبراهيم الخواص، ما كان يقيم في بلد أكثر من أربعين يوما، وكان يري إن أقام أكثر من أربعين يوما يفسد عليه توكله، فكان علم الناس ومعرفتهم إياه يراه سببا ومعلوما.

وحكى عنه أنه قال: مكثت في البادية أحد عشر يوما لم آكل، وتطلعت نفسي أن آكل من حشيش البر، فرأيت الخضر مقبلا نحوي،

__________

١) سورة الطلاق: الآيات ٢ - ٣.

فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لم هربت منه؟ قال: تشوفت نفسي أن يغيثني. فهؤلاء الفرارون بدينهم.

أخبرنا أبو زرعة طاهر بن الحافظ أبي الفضل المقدسي عن أبيه قال: أنا أبو بكر أحمد بن على قال: أنا أبو عبد الله بن يوسف بن نامويه قال: حدثنا أبو محمد الزهري القاضي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أسباط قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا محمد يعني ابن مسلم عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن سليمان بن هرمز، عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب شيء إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسي بن مريم يوم القيامة».

وهذه كلها أحوال اختلفت، واتبع أربابها الصحبة وحسن النية مع الله، وحسن النية يقتضي الصدق، والصدق لعينة محمود، كيف تقلبت الأحوال.

فمن سافر ينبغي أن يتفقد حاله، ويصحح نيته، ولا يقدر على تخليص النية من شوائب النفس إلا كثير العلم، تام التقوى، وافر الحظ من الزهد في الدنيا.

ومن انطوي على هوي، ومن لم يستقص في الزهد لا يقدر على تصحيح النية فقد يدعوه إلى السفر نشاط جبلي نفساني، وهو يظن أن ذلك داعية الحق، ولا يميز بين داعية الحق وداعية النفس، ويحتاج الشخص في علم صحة النية إلى العلم بمعرفة الخواطر، وشرح الخواطر وعلمها يحتاج إلى باب مفرد لنفسه. ونومئ الآن إلى ذلك برمز يدركه من نازله شيء من ذلك، فأكثر الفقراء من علم ذلك ومعرفته عن بعد.

اعلم أن ما ذكرناه من نشاط النفس واقع للفقير في كثير من الأمور، فقد يجد الفقير الروح بالخروج إلى بعض الصحاري والبساتين، ويكون ذلك

الروح مضرا به في ثاني الحال، وإن كان يتراءي له طيبة القلب في الوقت، وسبب طيبة قلبه في الوقت أن النفس تتفسح وتتسع ببلوغ غرضها، وتيسير يسير هواها بالخروج إلى الصحراء والتنزه، وإذا اتسعت بعدت عن القلب، وتنحت عنه، متشوقة إلى متعلق هواها، فيتروح القلب لا بالصحراء بل ببعد النفس منه، كشخص تباعد عنه قرين يستثقله.

ثم إذا عاد الفقير إلى زاويته، واستفتح ديوان معاملته، وميز دستور حاله، يجد النفس مقارنة للقلب بمزيد ثقل موجب لتبرمه بها، وكلما ازداد ثقلها تكدر القلب. وسبب زيادة ثقلها استرسالها في تناول هواها، فيصير الخروج إلى الصحراء عين الداء، ويظن الفقير أنه ترويح ودواء، فلو صبر على الوحدة والخلوة ازدادت النفس ذوبانا، وخفت ولطفت وصارت قرينا صالحا للقلب لا يستثقلها.

وعلى هذا يقاس التروح بالأسفار. فللنفس وثبات إلى توهم التروحات، فمن فطن لهذه الدقيقة لا يغتر بالتروحات المستعارة التي لا تحمد عاقبتها، ولا تؤمن غائلتها، ويتثبت عند ظهور خاطر السفر، ولا يكترث بالخطر، بل يطرحه بعدم الالتفات، مسيئا ظنه بالنفس وتسويلاتها.

ومن هذا القبيل والله اعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس تطلع من بين قرني الشيطان» فيكون للنفس عند طلوع الشمس وثبات، تستند تلك الوثبات والنهضات من النفس إلى المزاج والطبائع، ويطول شرح ذلك ويعمق.

ومن ذلك القبيل خفة مرض المريض غدوة بخلاف العشيات، فيتشكل اهتزاز النفس بنهضات القلب، ويدخل على الفقير من هذا القبيل آفات كثيرة، يدخل في مداخل باهتزاز نفسه ظنا منه أن ذلك حكم نهوض قلبه، وربما يتراءي له أنه بالله يصول، وبالله يقول، وبالله يتحرك، فقد ابتلي بنهضة النفس ووثوبها.

ولا يقع هذا الاشتباه إلا لأرباب القلوب وأرباب الأحوال، وغير أرباب القلب والحال عن هذا بمعزل. وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص دون العوام، فاعلم ذلك فإنه عزيز علمه.

وأقر مراتب الفقراء في مبادئ الحركة للسفر لتصحيح وجه الحركة أن يقدموا صلاة الاستخارة، وصلاة الاستخارة لا تهمل وإن تبين للفقير صحة خاطره، أو تبين له وجه المصلحة في السفر ببيان أوضح من المخاطر، فللقوم مراتب في التبيان من العلم بصحة الخاطر ومما فوق ذلك، ففي ذلك كله لا تهمل صلاة الاستخارة اتباعا للسنة ففي ذلك البركة.

وهو من تعلىم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء قال: أنا أبو القاسم بن عبد الرحمن في كتابه أن أبا السعيد الكنجرودي أخبرهم قال: أنا أبو عمرو بن حمدان قال: حدثنا أحمد بن الحسين الصوفي قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن قال: «إذا همّ أحدكم بالأمر أو أراد الأمر فليصل ركعتن من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - يسميه بعينه - خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وأجله، فاقدره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلمه شرا لي مثل ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان».


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!