موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب التاسع عشر في حال الصوفي المتسبب

الباب التاسع عشر في حال الصوفي المتسبب

اختلف أحوال الصوفية في الوقوف مع الأسباب والإعراض عن الأسباب.

فمنهم من كان على الفتوح لا يركن إلى معلوم، ولا يتسبب بكسب ولا سؤال، ومنهم من كان يكتسب، ومنهم من كان يسأل في وقت فاقته، ولهم في كل ذلك أدب وحد يراعونه ولا يبتعدونه. وإذا كان الفقير يسوس نفسه بالعلم يأتيه الفهم من الله تعالى في الذي يدخل فيه من سبب أو ترك سبب، فلا ينبغي للفقير أن يسأل مهما أمكن.

فقد حث النبي عليه السلام على ترك السؤال بالترغيب والترهيب. فأما الترغيب فما روي ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي واحدة أتكفل له الجنة. قال ثوبان: قلت: أنا. قال: لا تسأل الناس شيئا» فكان ثوبان تسقط علاقة سوطه فلا يأمر أحدا يناوله، وينزل هو ويأخذها.

وروي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره فيأكل ويتصدق خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه، فإن اليد العلىا خير من السفلي».

أخبرنا الشيخ الصالح أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرني والدي قال: أنا أبو محمد الصيرفي ببغداد قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا على ابن الجعد قال: حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال سمعت هلال بن حصين قال: أتيت المدينة فنزلت دار أبي سعيد فضمني وإياه المجلس، فحدث أنه أصبح ذات يوم وليس عندهم طعام، فأصبح وقد عصب على بطنه حجر

من الجوع فقالت لي امرأتي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أتاه فلان فأعطاه وأتاه فلان فأعطاه.

قال: فأتيته وقلت ألتمس شيئا، فذهبت أطلب فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ويقول: «من يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن سألنا شيئا فوجدناه أعطيناه وواسيناه، ومن استعف عنه واستغني فهو أحب إلينا ممن سألنا». قال: فرجعت وما سألته، فرزقني الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا.

وأما من حيث الترهيب والتحذير، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقي الله وليس في وجهه مزعة لحم».

وروي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يفطن بمكانه فيعطي».

هذا هو حال الفقير الصادق. والمتصوف المحقق لا يسأل الناس شيئا.

ومنهم من يلزم الأدب حتى يؤديه إلى حال يستحيي من الله تعالى أن يسأله شيئا من أمر الدنيا، حتى إذا همت النفس بالسؤال ترده الهيبة، ويري الإقدام على السؤال جراءة، فيعطيه الله تعالى عند ذلك من غير سؤال.

كما نقل عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه جاءه جبريل وهو في الهواء قبل أن يصل إلى النار فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال له: فسل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي: وقد يضعف عن مثل هذا فيسأل الله عبودية ولا يري سؤال المخلوقين، فيسوق الله تعالى إليه من القسم من غير سؤال مخلوق.

بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يقول: إذا وجد الفقير نفسه مطالبة بشيء، لا تخلو تلك المطالبة إما أن تكون لرزق يريد الله أن يسوقه

إليه، فتتنبه النفس له، فقد تتطلع نفوس بعض الفقراء إلى ما سوف يحدث وكأنها تخبر بما يكون، وإما أن يكون ذلك عقوبة لذنب وجد منه، فإذا وجد الفقير ذلك، وألحت النفس بالمطالبة، فليقم وليسبغ الوضوء، ويصلي ركعتين ويقول: يا رب إن كانت هذه المطالبة عقوبة ذنب فاستغفرك وأتوب إليك، وإن كانت لرزق قدرته لي فعجل وصوله إلي، فإن الله تعالى يسوقه إليه إن كان رزقه، وإلا فتذهب المطالبة عن باطنه.

فشأن الفقير أن ينزل حوائجه بالحق، فإما أن يرزقه الشيء أو الصبر، أو يذهب ذلك عن قلبه. فلله سبحانه وتعالى أبواب من طريق الحكمة، وأبواب من طريق القدرة، فإن فتح بابا من طريق الحكمة وإلا فيفتح بابا من طريق القدرة ويأتيه الشيء بخرق العادة كما كان يأتي مريم عليها السلام {. . . كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أَنّي لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله. . . .}

حكى عن بعض الفقراء قال: جعت ذات يوم وكان حالي أن لا اسأل، فدخلت بعض المحال ببغداد مجتازا متعرضا لعل الله تعالى يفتح لي على يد بعض عباده شيئا، فلم يقدر، فنمت جائعا فأتي آت في منامي فقال لي: اذهب إلى موضع كذا وعين الموضع فثم خرقة زرقاء فيها قطعيات أخرجها في مصالحك.

فمن تجرد عين المخلوق وتفرد بالله فقد تفرد بغني قادر لا يعجزه شيء، يفتح عليه من أبواب الحكمة والقدرة كيف شاء. وأولى من سأل نفسه يسألها الصبر الجميل، فإن الصادق تجيبه نفسه.

وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ولده جاء إليه ذات يوم وقال له: أريد حبة، قال: فقلت له: ما تفعل بالحبة؟ فذكر شهوة يشتريها بالحبة ثم قال عن إذنك اذهب واستقرض الحبة، قال: قلت: نعم استقرضها من نفسك فهي أولى من أقرض. وقد نظم بعضهم هذا المعني فقال:

إن شئت أن تستقرض المال منفقـ ... على شهوات النفس في زمن العسر

فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها ... علىك وإرفاقا إلى زمن اليسر

فإن فعلت كنت الغني وإن أبت ... فكل ممنوع بعدها واسع العذر

فإذا استنفذ الفقير الجهد من نفسه، وأشرف على الضعف، وتحققت الضرورة، وسال مولاه ولم يقدر له بشيء، ووقته يضيق عن الكسب من شغله بحاله، فعند ذلك يقرع باب السبب ويسأل، فقد كان الصالحون يفعلون ذلك عند فاقتهم.

نقل عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمد يده عند الفاقة ويقول ثم شيء لله. ونقل عن أبي جعفر الحداد وكان أستاذا للجنيد أنه كان يخرج بين العشاءين ويسأل من باب أو بابين، ويكون ذلك معلومة على قدر الحاجة بعد يوم أو يومين.

ونقل عن إبراهيم بن ادهم أنه كان معتكفا بجامع البصرة مدة، وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلة، وليلة إفطاره يطلب من الأبواب.

ونقل عن سفيان الثوري أنه كان يسافر من الحجاز إلى صنعاء اليمن ويسأل في الطريق، وقال: كنت أذكر لهم حديثا في الضيافة فيقدم إلى الطعام، فأتناول حاجتي، وأترك ما يبقي.

وقد ورد: من جاع ولم يسأل فمات دخل النار. ومن عنده علم وله مع الله حال لا يبالي بمثل هذا، بل يسأل بالعلم ويمسك عن السؤال بالعلم.

وحكى بعض مشايخنا عن شخص كان مصرا على المعاصي ثم انتبه وتاب وحسنت توبته، وصار له حال مع الله تعالى، قال: عزمت أن أحج مع القافلة، ونويت أن لا أسأل أحدا شيئا، واكتفي بعلم الله بحالي. قال: فبقيت أياما في الطريق ففتح الله على بالماء والزاد في وقت الحاجة، ثم وقف الأمر ولم يفتح الله على بشيء، فجعت وعطشت حتى لم يبق لي طاقة، فضعفت

عن المشي وبقيت أتأخر عن القافلة قليلا قليلا حتى مرت القافلة، فقلت في نفسي: هذا الآن مني إلقاء النفس إلى التهلكة وقد منع الله من ذلك، وهذه مسألة الاضطرار أسأل، فلما هممت بالسؤال انبعث من باطني إنكار لهذه الحال، وقلت عزيمة عقدتها مع الله لا أنقضها، وهان على الموت دون نقض عزيمتي، فقصدت شجرة وقعدت في ظلها، وطرحت رأسي استطراحا للموت، وذهبت القافلة.

فبينما أنا كذلك إذ جاءني شاب متقلد بسيف وحركني، فقمت وفي يده أداوة فيها ماء فقال لي اشرب، فشربت ثم قدم لي طعاما وقال كل، فأكلت، ثم قال لي أتريد القافلة؟ فقلت من لي بالقافلة وقد عبرت؟ فقال لي قم، وأخذ بيدي ومشي معي خطوات ثم قال لي: اجلس فالقافلة إليك تجئ، فجلست ساعة فإذا أنا بالقافلة ورائي متوجهة إلي. هذا شأن من يعامل مولاه بالصدق.

و ذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله أن بعض الصوفية أول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل ما أكل المؤمن من كسب يده» بأنه المسألة عند القافة، وأنكر الشيخ أبو طالب هذا التأويل من هذا الصوفي، وذكر أن جعفرا الخالدي كان يحكى هذا التأويل عن شيخ من شيوخ الصوفية، ووقع لي والله أعلم أن الشيخ الصوفي لم يرد بكسب اليد ما أنكر الشيخ أبو طالب منه.

وإنما أراد بكسب اليد رفعها إلى الله تعالى عند الحاجة، فهو من أجل ما يأكله إذا أجاب الله سؤاله، وساق إليه رزقه.

وقال الله تعالى حكاية عن موسي عليه السلام {. . . رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (١).

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال ذلك وإن خضرة البقل تتراءي في بطنه من الهزال.

__________

١) سورة القصص: الآية ٢٤.

وقال محمد الباقر رحمه الله: قالها وإنه محتاج إلى شق تمرة.

وروي عن مطرف أنه قال: أما والله لو كان عند نبي الله شيء ما اتبع المرأة، ولكن حمله على ذلك الجهد.

و ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي عن النصر أباذي أنه قال في قوله: {. . . إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} لم يسال الكليم الخلق، وإنما كان سؤاله من الحق، ولم يسأل غذاء النفس، إنما أراد سكون القلب.

وقال أبو سعيد الخراز: الخلق مترددون بين مالهم وبين ما إليهم، من نظر إلى ماله تكلم بلسان الفقر، ومن شاهد ما إليه تكلم بلسان الخيلاء والخفر. ألا تري حال الكليم عليه السلام لما شاهد خواص ما خاطبه به الحق كيف قال: (أرني انظر إليك) ولما نظر إلى نفسه كيف أظهر الفقر وقال: {لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.

وقال ابن عطاء: نظر من العبودية فخشع وخضع، وتكلم بلسان الافتقار بما ورد على سره من الأنوار، افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله، لا افتقار سؤال وطلب.

وقال الحسين: فقير لما خصصتني من علم اليقين أن ترقيني إلى عين اليقين وحقه.

ووقع والله أعلم في قوله: {لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أن الإنزال مشعر ببعد رتبته عن حقيقة الرب، فيكون الإنزال عين الفقر، فما قنع بالمنزل وأراد قرب المنزل، ومن صح فقره، ففقره في أمر آخرته كفقرة في أمر دنياه، ورجوعه إليه في الدارين وإياه يسأل حوائج المنزلين، وتتساوي عنده الحاجتان، فما له مع غير الله شغل في الدارين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!