موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الحادي والعشرون في شرح حال المتجرد والمتأهل من الصوفية وصحة مقاصدهم

الباب الحادي والعشرون في شرح حال المتجرد والمتأهل من الصوفية وصحة مقاصدهم

الصوفي يتزوج لله كما يتجرد لله، فلتجرده مقصد وأوان، ولتأهله مقصد وأوان. والصادق يعلم أوان التجرد والتأهل، لان الطبع الجموح للصوفي ملجم بلجام العلم، فما يصلح له التجرد لا يستعجله الطبع إلى التزوج، ولا يقدم على التزوج إلا إذا انصلحت النفس واستحقت إدخال الرفق عليها، وذلك إذا صارت منقادة مطواعة مجيبة إلى ما راد منها، بمثابة الطفل الذي يتعاهد بما يروق له، ويمنع عما يضره، فإذا صارت النفس محكومة مطواعة فقد فاءت إلى أمر الله، وتنصلت عن مشاحة القلب، فيصلح بينهما بالعد، وينظر في أمرهما بالقسط.

ومن صبر من الصوفية على العزوبة هذا الصبر إلى حين بلوغ الكتاب أجله، ينتخب له الزوجة انتخابا، ويهيئ الله له أعوانا وأسبابا، وينعم برفيق يدخل عليه، ورزق يساق إليه.

ومن استعجل المزيد، واستفزه الطبع، وخامره الجهل، بثوران دخان الشهوة المطفئة لشعاع العلم، وانحط من أوج العزيمة الذي هو قضية حاله وموجب إرادته، وشريطة صدق طلبه، إلى حضيض الرخصة التي هي رحمة من الله تعالى لعامة خلقه، يحكم عليه بالنقصان، ويشهد له بالخسران. ومثل هذا الاستعجال هو حضيض الرجال.

قال سهل بن عبد الله التستري: إذا كان للمريد مال يتوقع به زيادة، فدخل عليه الابتلاء، فرجوعه في الابتلاء إلى حال دون ذلك نقصان وحدث.

وسمعت بعض الفقراء وقد قيل له: لم لا تتزوج؟ فقال: المرأة لا تصلح إلا للرجال، وأنا ما بلغت مبلغ الرجال فكيف أتزوج؟

فالصادقون لهم أوان بلوغ عنده يتزوجون.

وقد تعارضت الأخبار، وتماثلت الآثار في فضيلة التجريد والتزويج، وتنوع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لتنوع الأحوال، فمنهم من فضيلته في التجريد، ومنهم من فضيلته في التأهل، وكل هذا التعارض في حق من نار توقانه برد وسلام لكمال تقواه، وقهره هواه.

وإلا ففي غير هذا الرجل الذي يخاف عليه الفتنة يجب النكاح في حال التوقان المفرط، ويكون الخلاف بين الأئمة في غير التائق.

فالصوفي إذا صار متأهلا يتعين على الإخوان معاونته بالإيثار، ومسامحته في الاستكثار، إذا رؤي ضعيف الحال قاصرا عن رتبة الرجال كما وصفنا من صبر حتى ظفر لما بلغ الكتاب أجله.

أخبرنا أبو زرعة عن والده أبي الفضل المقدسي الحافظ قال: أنا أبو محمد عبد الله بن محمد الخطيب قال: أنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن أخي ميمي قال: أنا ابو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن هارون قال: أنا أبو المغيرة قال: حدثنا صفوان بن عمرو قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير عن ابيه عن عوف بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه فيء قسمه في يومه، فأعطي المتأهل حظين والعزب حظا واحدا، فدعينا وكنت أدعي قبل عمار بن ياسر فأعطاني حظين وأعطاه حظا واحدا، فسخط حتى عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ومن حضره، فبقيت معه سلسلة من ذهب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعها بطرف عصاه وتسقط وهو يقول: «كيف أنتم يوم يكثر لكم من هذا؟» فلم يجبه أحد، فقال عمار: وددنا يا رسول الله لو قد أكثر لنا من هذا.

فالتجرد عن الأزواج والأولاد أعون على الوقت للفقير، وأجمع لهمه، وألذ لعيشه.

ويصلح للفقير في ابتداء أمره قطع العلائق، ومحو العوائق، والتنقل في الأسفار، وركوب الأخطار، والتجرد عن الأسباب، والخروج عن كل ما يكون حجابا. والتزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص، ورجوع من التروح إلى النغص، وتقيد بالأولاد والأزواج، ودوران حول مظان الإعوجاج، والتفات إلى الدنيا بعد الزهادة، وانعطاف على الهوي بمقتضي الطبيعة والعادة.

قال أبو سليمان الداراني: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا: من طلب معاشا، أو تزوج امرأة، أو كتب الحديث.

وقال: ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته.

أخبرنا الشيخ طاهر قال: أنا والدي أبو الفضل قال: أنا محمد بن إسماعيل المقري قال: أنا أحمد بن الحسن قال: أنا حاجب الطوسي قال: حدثنا عبد الرحيم قال: حدثنا الفزاري عن سليمان التيمي عن ابي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».

وروي رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وإن أخوف ما أخاف عيكم فتنة النساء إذا تسورن بالذهب، ولبسن ربط الشام وعصب اليمن، وأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يجد».

وقال بعض الحكماء: معالجة العزوبة خير من معالجة النساء.

وسئل سهل بن عبد الله عن النساء فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار.

وقيل في تفسير قوله تعالى: {وخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا} (١) لأنه لا يصبر على النساء.

وقيل في قوله تعالى: {. . . رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. . .} (٢)

الغلمة، فإن قدر الفقير على مقاومة النفس، ورزق العلم الوافر بحسن المعاملة في معالجة النفس وصبر عنهن، فقد حاز الفضل، واستعمل العقل، واهتدي إلى الأمر السهل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ، قيل يا رسول الله وما خفيف الحاذ؟ قال: الذي لا أهل له ولا ولد».

وقال بعض الفقراء لما قيل له تزوج: أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج.

وقيل لبشر بن الحارث: إن الناس يتكلمون فيك، فقال: ما يقولون؟ قيل: يقولون إنه تارك للسنة، يعني النكاح، فقال: قولوا لهم أنا مشغول بالفرض عن السنة.

وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة خفت أن أكون جلادا على الجسر.

والصوفي مبتلي بالنفس ومطالبتها، وهو في شغل شاغل عن نفسه، فإذا أضاف إلى مطالبات نفسه مطالبات زوجته يضعف طلبه، وتكل إرادته، وتفتر عزيمته.

والنفس إذا أطمعت طمعت، وإذا أقنعت قنعت، فيستعين الشاب الطالب على حسم مواد خاطر النكاح بإدامة الصوم، فإن للصوم أثرا ظاهرا في قمع النفس وقهرها.

__________

١) سورة النساء: الآية ٢٨.

٢) سورة البقرة: الآية ٢٨٦.

وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجماعة من الشبان وهم يرفعون الحجارة، فقال: «يا معشر الشبان من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء» أصل الوجاء رض الخصيتين، كانت العرب تجأ الفحل من الغنم لتذهب فحولته ويسمن. ومنه الحديث «ضحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين».

وقد قيل: هي النفس إن لم تشغلها شغلتك.

فإذا أدام الشاب المريد العمل، وأذاب نفسه في العبادة، تقل عليه خواطر النفس.

وأيضًا شغله بالعبادة يثمر له حلاوة المعاملة، ومحبة الإكثار منه، ويفتح عليه باب السهولة والعيش في العمل، فيغار على حاله ووقته أن يتكدر بهم الزوجة.

ومن حسن أدب المريد في عزوبته أن لا يمكن خواطر النساء من باطنه، وكلما خطر له خاطر النساء والشهوة يفر إلى الله تعالى بحسن الإنابة، فيتداركه الله تعالى حينئذ بقوة العزيمة، ويؤيده بمراغمة النفس.

بل ينعكس على نفسه نور قلبه ثوابا لحسن إنابته، فتسكن النفس عن المطالبة، ثم تعرض على نفسه ما يدخل عليه بالنكاح من الدخول في المداخل المذمومة المؤدية إلى الذل والهوان، وأخذ الشيء من غير وجهه، وما يتوقع من القواطع بسبب التفات الخواطر إلى ضبط امرأة وحراستها والكلف التي لا تنحصر.

وقد سئل عبد الله بن عمر بن جهد البلاء فقال: كثرة العيال، وقلة المال.

وقد قيل: كثرة العيال أحد الفقرين، وقلة العيال أحد اليسارين.

وكان إبراهيم بن أدهم يقول: من تعود أفخاذ النساء لا يفلح.

ولا شك أن المرأة تدعو إلى الرفاهية والدعة، وتمنع عن كثرة الاشتغال بالله وقيام الليل وصيام النهار، ويتسلط عن الباطن خوف الفقر ومحبة الادخار وكل هذا بعيد عن المتجرد.

وقد ورد: إذا كان بعد المائتين أبيحت العزوبة لأمتي.

فإن توالت على الفقير خواطر النكاح، وزاحمت باطنه سيما في الصلاة والأذكار والتلاوة فليستعن بالله أولا، ثم بالمشايخ والإخوان، ويشرح الحال لهم، ويسألهم مسألة الله له في حسن الاختيار، ويطوف على الأحياء والأموات والمساجد والمشاهد، ويستعظم الأمر، ولا يدخل فيه بقلة الإكتراث، فإنه باب فتنة كبيرة وخطر عظيم.

وقد قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (١) و يكثر الضراعة إلى الله تعالى، ويكثر البكاء بين يديه في الخلوات، ويكرر الاستخارة.

وإن رزق القوة والصبر حتى يستبين له من فضل الله الخيرة في ذلك فهو الكمال والتمام، فقد يكشف الله تعالى للصادق ذلك منعا أو إطلاقا في منامه أو يقظته أو على لسان من يثق إلى دينه وحاله أنه إذا أشار لا يشير إلا على بصيرة، وإذا حكم لا يحكم إلا بحق، فعند ذلك يكون تزوجه مدبرا معانا فيه.

وسمعنا أن الشيخ عبد القادر الجيلي قال له بعض الصالحين: لم تزوجت؟ فقال: ما تزوجت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج، فقال له ذلك الرجل: الرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالرخص وطريق القوم التزم بالعزيمة، فلا أعلم م

__________

١) سورة التغابن: الآية ١٤.

قال الشيخ في جوابه، ولكني أقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالرخصة وأمره على لسان الشرع.

فأما من التجأ إلى الله تعالى وافتقر إليه استخاره فيكاشفه الله بتنبيهه إياه في منامه، وأمره هذا لا يكون أمر رخصة بل هو أمر يتبعه أرباب العزيمة، لأنه من علم الحال لا من علم الحكم.

ويدل على صحة ما وقع له ما نقل عنه أنه قال: كنت أريد الزوجة مدة من الزمان ولا اجترئ على التزوج خوفا من تكدير الوقت، فلما صبرت إلى أن بلغ الكتاب أجله، ساق الله لي أربع زوجات ما فيهن إلا من تنفق علىّ إرادة ورغبة. فهذه ثمرة الصبر الجميل الكامل.

فإذا صبر الفقير وطلب الفرج من الله يأتيه الفرج والمخرج {. . . ومَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}. (١)

فإذا تزوج الفقير بعد الاستقصاء والإكثار من الضراعة والدعاء، وورد عليه وارد من الله تعالى بإذن فيه، فهو الغاية والنهاية، وإن عجز عن الصبر إلى ما ورود الإذن، واستنفذ جهده في الدعاء والضراعة فقد يكون ذلك حظه من الله تعالى، ويعان عليه لحسن نيته، وصدق مقصده، وحسن رجائه، واعتماده على ربه.

وقد نقل عن عبد الله بن عباس أنه قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج (٢).

__________

١) سورة الطلاق: الآية ٢ - ٣.

٢) وهذا يتعراض مع ما ذكر سابقا حول العزوبة وهو يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام» وقوله صلوات اله وسلامه عليه: «النكاح سنتي». . الحديث.

وعموما ما قيل عن العزوبة هي آراء وتصرفات شخصية لبعض أهل الطريق، يطبقونها على أنفسهم حسب ما تطمئن إليه قلوبهم، وما يرونه أصلح لحالهم.

ونقل عن شيخ من مشايخ خراسان أنه كان يكثر التزوج حتى لم يكن يخلو عن زوجتين أو ثلاث، فعوتب في ذلك فقال هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله تعالى جلسة، أو وقف وقفه في معاملته، فخطر على قلبه خاطر شهوة؟

فقالوا: قد يصيبنا ذلك، فقال: لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد ما تزوجت قط، ولكن ما خطر على قلبي خاطر شهوة قط شغلني عن حالي إلا نفذته لاستريح منه وأرجع إلى شغلي. ثم قال: منذ أربعين سنة ما خطر على قلبي خاطر معصية.

فالصادقون ما دخلوا في النكاح إلا على بصيرة، وقصدوا حسن مواد النفس.

وقد يكون للأقوياء والعلماء الراسخين في العلم أحوال في دخولهم في النكاح تختص بهم، وذلك أنهم بعد طول المجاهدات والمراقبات والرياضات تطمئن نفوسهم، وتقبل قلوبهم، وللقلوب إقبال وإدبار.

يقول بعضهم: إن للقلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أدبرت روحت بالإرفاق، وإذا أقبلت ردت إلى الميثاق، فتبقي قلوبهم دائمة الإقبال إلا اليسير، ولا يدوم إقبالها إلا لطمأنينة النفوس، وكفها عن المنازعة، وترك التشبث في القلوب.

فإذا اطمأنت النفوس واستقرت من طيشها ونفورها وشراستها، توفرت عليها حقوقها، وربما يصير من حقوقها حظوظها، لأن في أداء الحق إقناعا، وفي أخذ الحظ اتساعا، وهذا من دقيق علم الصوفية، فإنهم يتسعون بالنكاح المباح إيصالا إلى النفس حظوظها، لأنها ما زالت تخالف هواها حتى صار داؤها دواءها، وصارت الشهوات المباحة واللذات المشروعة لا تضرها ولا تفتر عليها عزائمها.

بل كلما وصلت النفوس الزكية إلى حظوظها ازداد القلب انشراحا وانفساحا، ويصير بين القلب والنفس موافقة يعطف أحدهما على الآخر، ويزداد كل واحد منهما بما يدخل على الآخر من الحظ، كلما أخذ القلب حظه من الله خلع على النفس خلع الطمأنينة، فيكون مزيد السكينة للقلب مزيد للطمأنينة للنفس، وينشد:

إن السماء إذا اكتست كست الثري ... حللا يدبجها الغمام الراهم

وكلما أخذت النفس حظها تروح القلب تروح الجار المشفق براحة الجار.

سمعت بعض الفقراء يقول: النفس تقول للقلب: كن معي في الطعام أكن معك في الصلاة. وهذا من الأحوال العزيزة لا تصلح إلا لعالم رباني.

وكم من مدع يهلك بتوهمه هذا في نفسه. ومثل هذا العبد يزداد بالنكاح ولا ينقص. والعبد إذا كمل علمه يأخذ من الأشياء ولا تأخذ الأشياء منه.

وقد كان الجنيد يقول: أنا أحتاج إلى الزوجة كما أحتاج إلى الطعام.

وسمع بعض العلماء بعض الناس يطعن في الصوفية، فقال: يا هذا ما الذي ينقصهم عندك؟ فقال: يأكلون كثيرا، فقال: وأنت أيضا لو جعت كما يجوعون أكلت كما يأكلون. ثم قال: ويتزوجون كثيرا، قال: وأنت أيضا لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوجت كما يتزوجون. قال: وأي شيء أيضا؟ قال: يسمعون القول، قال: وأنت أيضا لو نظرت كما ينظرون سمعت كما يسمعون.

وكان سفيان بن عيينه يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا، لأن علىا رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة

وسبع عشرة سرية. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: خير هذه الأمة أكثرها نساء.

وقد ذكر في أخبار الأنبياء أن عابدا تبتل للعبادة حتى فاق أهل زمانه، فذكر ذلك لنبي ذلك الزمان، فقال: نعم الجر لو لا أنه تارك لشيء من السنة، فنمي ذلك إلى العابد، فأهمه فقال: ما تنفعني عبادتي وأنا تارك السنة؟ فجاء إلى النبي عليه السلام فسأله فقال: نعم إنك تارك التزوج.

فقال: ما تركته لأني أحرمه، وما منعني منه إلا أني فقير لا شيء لي وأنا عيال على الناس، يطعمني هذا مرة وهذا مرة، فأكره أن أتزوج بامرأة أعضلها أو أرهقها جهدا (١)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما يمنعك إلا هذا؟ قال: نعم، فقال: أنا أزوجك ابنتي، فزوجه النبي عليه السلام ابنته.

وكان عبد الله بن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أحببت أن أتزوج ولا ألقي الله عزبا.

وما ذكر الله تعالى في القرآن من الأنبياء إلا المتأهلين.

وقيل: إن يحيي بن زكريا عليهما السلام تزوج لأجل السنة ولم يكن يقربها (٢).

وقيل: إن عيسي عليه السلام سينكح إذا نزل إلى الأرض ويولد له.

وقيل: إن ركعة من متأهل خير من سبعين ركعة من عزب.

أخبرنا الشيخ الطاهر بن أبي الفضل قال أنا أبو منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقومي القزويني قال أنا أبو طلحة القاسم بن

__________

١) وهكذا يؤكد ما ذهبنا إليه في الهامش السابق من أن بعض أهل التصوف ترك الزواج لأسباب شخصية يراها في نفسه، وأن العزوبة هي أصلح لحاله. والزواج عموما قد يكون فرضا او واجبا أو حراما أو مندوبا أو مكروها حسب حالة كل مكلف: راجع في ذلك كتاب (دور المراة في المجتمع الإسلامي) تاليف المستشار توفيق على وهبه، ط ٥، ص ١٥٦/ ١٥٨، الرياض،١٤٠٦/ ١٩٨٣.

٢) لا دليل على ذلك من كتاب أو سنة. ولأنه إذا فعل ذلك يكون قد ظلم من تزوجها ظلما بينا.

أبي البدر الخطيب قال حدثنا أبو الحسن على بن إبراهيم بن سلمة القطان قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه قال حدثنا أحمد بن الأزهر قال حدثنا آدم قال حدثنا عيسي بن ميمون عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، فتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء».

ومما ينبغي للمتأهل أن يحذر من الإفراط في المخالطة والمعاشرة مع الزوجة إلى حد ينقطع عن أوراده وسياسة أوقاته، فإن الإفراط في ذلك يقوي النفس وجنودها، ويفتر ناهض الهمة.

وللمتأهل بسبب الزوجة فتنتان: فتنة لعموم حاله، وفتنة لخصوص حاله. ففتنة عموم حاله الإفراط في الاهتمام بأسباب المعيشة.

كان الحسن يقول: والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوي إلا أكبه الله على وجهه في النار.

وفي الخبر: «يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر، ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك».

وروي أن قوما دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت، فعجبوا من ذلك وهابوه أن يسألوه، فقال: لا تعجبوا من هذا فإني سألت الله فقلت يا رب ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: إن عقوبتك بنت فلان تزوج بها، فتزوجت بها وأنا صابر على ما ترون.

فإذا أفرط الفقير في المداراة ربما تعدي حد الاعتدال في وجوه المعيشة متطلبا رضا الزوجة، فهذا فتنة عموم حاله، وفتنة خصوص حاله الإفراط

في المجالسة والمخالطة، فتنطلق النفس عن قيد الاعتدال، وتسترق الغرض بطول الاسترسال، فيستولي على القلب بسبب ذلك السهو والغلفة، ويستجلس مقار المهلة، فيقل الوارد لقلة الأوراد، ويتكدر الحال لإهمال شروط الأعمال.

وألطف من هذين الفتنتين فتنة أخري تختص بأهل القرب والحضور، وذلك أن للنفوس امتزاجا وبرابطة الامتزاج تعتضد وتشتد وتتطري طبيعتها الجامدة، وتلتهب نارها الخامدة. فدواء هذه الفتنة أن يكون للمتأهل عند المجالسة عينان باطنان ينظر بهما إلى مولاه، وعينان ظاهران يستعملهما في طريق هواه. وقد قالت رابعة في معني هذا نظما:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وألطف من هذا فتنة أخري يخشاها المتأهل، وهو أن يصير للروح استرواح إلى لطف الجمال، ويكون ذلك الاسترواح موقوفا على الروح، ويصير ذلك وليجة في حب الروح المخصوص بالتعلق بالحضرة الإلهية، فتتبلد الروح، وينسد باب المزيد من الفتوح، وهذه البلادة في الروح يعز الشعور بها فلتحذر.

ومن هذا القبيل دخلت الفتنة على طائفة قالوا بالمشاهدة. وإذا كان في باب الحلال وليجة في الحب يتولد منها بلادة الروح في القيام بوظائف حب الحضرة الإلهية، فما ظنك فيمن يدعي ذلك في باب غير مشروع، يغره سكون النفس. فيظن أنه لو كان من قبيل الهوي ما سكنت النفس، والنفس لا تسكن في ذلك دائما بل تسلب من الروح ذلك الوصف وتأخذه إليها.

على أني استبحثت عما يبتلي المفتونون بالمشاهدة، فوجدت المحمي من ذلك من صورة الفسق عنده رغوة شراب الشهوة، إذ لو ذهبت علة الشراب م

بقيت الرغوة. فليحذر ذلك جدا، ولا يسمع ممن يدعي فيه حالا وصحة فإنه كذاب مدع.

ولهذا المعني قال الأطباء: الجماع يسكن هيجان العشق، وإن كان من غير المعشوق فليعلم أن مستنده الشهوة. ويكذب من يدعي فيه حالا. وهذه فتن المتأهل.

وفتنة العزب مرور النساء بخاطره، وتصورهن في متخيله، ومن أعطي الطهارة في باطنه لا يدنس باطنه بخواطر الشهوة، وإذا سنح الخاطر يمحوه بحسن الإنابة واللياذ بالهرب. ومتي سامر الفكر كثف الخاطر وخرج من القلب إلى الصدر، وعند ذلك يحذر إحساس العضو بالخاطر، فيصير ذلك عملا خفيا. وما أقبح مثل هذا بالصادق المتطلع إلى الحضور واليقظة، فيكون ذلك فاحشة الحال. وقد قيل: مرور الفاحشة بقلب العارفين كفعل الفاعلىن.

والله أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!