موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثاني والعشرون في القول في السماع قبولا وإيثار

الباب الثاني والعشرون في القول في السماع قبولا وإيثار

قال الله تعالى: {. . . فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ الله وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} (١).

قيل: أحسنه أي أهداه وأرشده.

وقال عز وجل: {وإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَي الرَّسُولِ تَري أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. . .} (٢) هذا السماع هو السماع الحق الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، محكوم لصاحبه بالهداية واللب، وهذا سماع ترد حرارته على برد اليقين فتفيض العين بالدمع، لأنه تارة يثير حزنا والحزن حار، وتارة يثير شوقا والشوق حار، وتارة يثير ندما والندم حار، فإذا أثار السماع هذه الصفات من صاحب قلب مملوء ببرد اليقين أبكي وأدمع، لأن الحرارة والبرودة إذا اصطلد ما عصرا ماء، فإذا ألم السماع بالقلب تارة يخف إلمامه، فيظهر أثره في الجسد، ويقشعر منه الجلد.

قال الله تعالى: {. . . تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. . .} (٣) و تارة يعظم وقعه ويتصوب أثره إلى فوق نحو الدماغ، كالمخبر للعقل، فيعظم وقع المتجدد الحادث، فتتدفق منه العين بالدمع، وتارة يتصوب أثره إلى الروح فتموج منه الروح موجا يكاد يضيق عنه نطاق القلب، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب، وهذه كلها أحوال يجدها أرباباها من أصحاب الحال، وقد يحكيها بدلائل هوي النفس أرباب المحال.

__________

١) سورة الزمر: الآية ١٧ - ١٨.

٢) سورة المائدة: الآية ٨٣.

٣) سورة الزمر: الآية ٢٣.

روي أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في ورده فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضا.

فالسماع يستجلب الرحمة من الله الكريم.

روي زيد بن أسلم قال: قرأ أبي بن كعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة من الله تعالى».

وروت أم كلثوم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه الذنوب كما تحات عن الشجرة اليابسة ورقها».

وورد أيضا «إذا اقشعر الجلد من خشية الله حرمه الله تعالى على النار».

وهذه جملة لا تنكر ولا اختلاف فيها، إنما الاختلاف في استماع الأشعار بالألحان، وقد كثرت الأقوال في ذلك وتباينت الأحوال، فمن منكر يلحقه بالفسق، ومن مولع به يشهد بأنه واضح الحق، ويتجاذبان في طرفي الإفراط والتفريط.

قيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني، فقد كان جعفر الطيار يسمع، وإنما المنكر اللهو واللعب في السماع، وهذا قول صحيح.

أخبرنا الشيخ طاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ المقدسي قال أنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن الخوافي قال: أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال حدثنا أبو بكر بن وثاب قال حدثنا عمرو بن الحارث قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجي بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد».

وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا أسأم.

وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله ما يدل على تجويزه.

ونقل عن كثير من السلف صحابي وتابعي وغيرهم.

وقول الشيخ أبي طالب المكي يعتبر لوفور علمه، وكمال حاله، وعلمه بأحوال السلف، ومكان ورعه وتقواه، وتحريه الأصواب والأولى.

وقال: في السماع حرام وحلال وشبهة.

فمن سمعه بنفس مشاهدة شهوة وهوي فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معاني تدله على الدليل، ويشهده طرفات الجليل فهو مباح.

وهذا قول الشيخ أبي طالب المكي وهو الصحيح، فإذا لا يطلق القول بمنعه وتحريمه والإنكار على من يسمع، كفعل القراء المتزهدين المبالغين في الإنكار، ولا يفسح فيه على الإطلاق، كفعل بعض المستهترين به المهملين شروطه وآدابه، المقيمين على الإصرار.

ونفصل الأمر فيه تفصيلا، ونوضح الماهية فيه تحريما وتحليلا.

فأما الدف والشبابة وإن كان فيهما في مذهب الشافعي فسحة فالأولى تركهما والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف، وأما غير ذلك فإن كان من القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات، فلا سبيل إلى الإنكار.

ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج، مما يثير كامن العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج. وأما ما كان فيه ذكر القدود والخدود ووصف النساء فلا يليق بأهل الديانات الاجتماع لمثل ذلك.

وأما ما كان من ذكر الهجر والوصل والقطيعة والصد مما يقرب جملة على أمور الحق سبحانه وتعالى من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين، فمن سمع ذلك وحدث عنده ندم على ما فات، أو تجدد عنده عزم لما هو آت فكيف ينكر سماعه.

وقد قيل إن بعض الواجدين يقتات بالسماع، ويتقوى به على الطي والوصال، ويثير عنده من الشوق ما يذهب عنه لهب الجوع، فإذا استمع العبد إلى بيت من الشعر وقلبه حاضر فيه، كأن يسمع الحادي يقول مثلا:

أنوب إليك يا رحمن إني ... أسأت وقد تضاعفت الذنوب

فأما من هوي ليلي وحبي ... زيارتها فإني لا أتوب

فطاب قلبه لما يجده من قوة عزمه على الثبات في أمر الحق إلى الممات، يكون في سماعه هذا ذكر الله تعالى.

قال بعض أصحابنا: كنا نعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء: عند المسائل، وعند الغضب، وعند السماع.

وقال الجنيد: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الأكل لأنهم يأكلون عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين، وأحوال النبيين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقا.

وسئل رويم عن وجد الصوفية عند السماع فقال: يتنبهون للمعاني التي تعزب عن غيرهم، فيشير إليهم فيتنعمون بذلك من الفرح، ويقع

الحجاب للوقت، فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يمزق ثيابه، ومنهم من يبكي ومنهم من يصيح.

أخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف إجازة عن السلمي قال سمعت أبا سهل محمد بن سليمان يقول: المستمع بين استتار وتجل، فالاستتار يورث التلهب، والتجلي يورث المزيد، فالاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه السكون للواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وكذلك محل الحضرة ليس فيه إلا الذبول تحت موارد الهيبة.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي يقول: المستمع ينبغي أن يستمع بقلب حي ونفس ميتة، ومن كان قلبه ميتا ونفسه حيا لا يحل له السماع.

وقيل في قوله تعالى: {. . . يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ. . .} (١) الصوت الحسن.

وقال عليه السلام: «لله أشد أذنا بالرجل الحسن الصوت بالقري، من صاحب قينة إلى قينته».

نقل عن الجنيد قال: رايت إبليس في النوم فقلت له: هل تظفر من أصحابنا بشيء أو تنال منهم شيئا؟ فقال: إنه يعسر على شأنهم ويعظم على أن أصيب منهم شيئا إلا في وقتين، قلت: أي وقت؟ قال: وقت السماع، وعند النظر، فإني استرق منهم فيه وأدخل عليهم به.

قال: فحكيت رؤياي لبعض المشايخ فقالوا: لو رأيته. قلت له: يا أحمق من سمع منه إذا سمع، ونظر إليه إذا نظر، أتربح أن عليه شيئا أو تظفر بشيء منه. فقلت: صدقت.

__________

١) سورة فاطر: الآية ١.

وروت عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندي جارية تسمعني، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على حالها، ثم دخل عمر ففرت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فحدثته حديث الجارية، فقال: لا أبرح حتى أسمع ما سمع رسول الله، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمعته.

وذكر الشيخ أبو طالب المكي قال: كان لعطاء جاريتان تلحنان، وكان إخوانه يجتمعون إليهما، وقال: أدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين أعدهن للصوفية.

وهذا القول نقلته من قول الشيخ أبي طالب، فقال: وعندي اجتناب ذلك هو الصواب، وهو لا يعلم إلا بشرط طهارة القلب، وغض البصر، والوفاء بشرط قوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ} (١)، وما هذا القول من الشيخ أبي طالب المكي إلا مستغرب عجيب، والتنزه عن مثل ذلك هو الصحيح.

وفي الحديث في مدح داود عليه السلام إنه كان حسن الصوت بالنياحة على نفسه، وبتلاوة الزبور، حتى كان يجتمع الإنس والجن والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه آلاف من الخنازير.

وقال عليه السلام في مدح أبي موسي الأشعري: «لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود».

وروي عنه عليه السلام أنه قال: «إن من الشعر لحكمه».

ودخل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده قوم يقرءون القرآن وقوم ينشدون الشعر، فقال: يا رسول الله قرآن وشعر؟ فقال: «من هذا مرة ومن هذا مرة».

وأنشد النابغة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياته التي فيها:

__________

١) سورة غافر: الآية ١٩.

ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدر

ولا خير في امرئ إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدر

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنت يا أبا ليلي لا يفضض الله فاك» فعاش أكثر من مائة سنة وكان أحسن الناس ثغرا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم على المنبر قائما يهجو الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورأي بعض الصالحين أبا العباس الخضر قال: فقلت له ما تقول في السماع الذي يختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفا الزلال لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء.

ونقل عن ممشاد الدينوري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئا؟ فقال: ما أنكره ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختمون بعده بالقرآن.

فقلت: يا رسول الله إنهم يؤذوني وينبسطون، فقال: احتملهم يا أبا على هم أصحابك. فكان ممشاد يفتخر ويقول، كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما وجه الإنكار فيه فهو أن يري جماعة من المريدين دخلوا في مبادئ الإرادة ونفوسهم ما تمرنت على صدق المجاهدة حتى يحدث عندهم علم بظهور صفات النفس وأحوال القلب، حتى تنضبط حركاتهم بقانون العلم، ويعملون ما لهم وعليهم مشتغلين به.

حكى أن ذا النون لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوال، فاستأذنوه أن يقول شيئا، فأذن له، فأنشد:

القوال صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنك

وأنت جمعت من قلبي ... هوي قد كان مشترك

أما ترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخلي بكي

فطاب قلبه وقام وتواجد وسقط على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض، ثم قام واحد منهم فنظر إليه ذو النون فقال: اتق الذي يراك حين تقوم، فجلس الرجل وكان جلوسه لموضع صدقه وعلمه أنه غير كامل الحال غير صالح للقيام متواجدا.

فيقوم أحدهم من غير تدبر وعلم في قيامه، وذلك إذا سمع إيقاعا موزونا بسمع يؤدي ما سمعه إلى طبع موزون، فيتحرك بالطبع الموزون للصوت الموزون والإيقاع الموزون، وينسبل حجاب نفسه المنبسط بانبساط الطبع على وجه القلب، ويستفزه النشاط المنبعث من الطبع، فيقوم يرقص موزونا بتصنع، وهو محرم عند أهل الحق، ويحسب ذلك طيبة للقلب، وما رأي وجه القلب وطيبته بالله تعالى.

ولعمري هو طيبة القلب ولكن قلب ملون بلون النفس، ميال إلى الهوي، موافق للردي، لا يهتدي إلى حسن النية في الحركات، ولا يعرف شروط صحة الإرادات، ولمثل هذا الراقص قيل:

الرقص نقص، لأنه رقص مصدره الطبع، غير مقترن بنية صالحة لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شوب حركاته بصريح النفاق بالتودد والتقرب إلى بعض الحاضرين من غير نية، بل دلالة نشاط النفس من المعانقة وتقبيل اليد والقدم، وغير ذلك من الحركات التي لا يعتمدها من المتصوفة إلا من ليس له من التصوف إلا مجرد زي وصورة.

أو يكون القوال أمرد تنجذب النفوس إلى النظر إليه، وتستلذ ذلك وتضمر خواطر السوء، أو يكون للنساء إشراف على الجمع، وتتراسل البواطن

المملوءة من الهوي بسفارة الحركات والرقص وإظهار التواجد، فيكون ذلك عين الفسق المجمع على تحريمه.

فأهل المواخير حينئذ أرجي حالا ممن يكون هذا ضميره وحركاته، لأنهم يرون فسقهم، وهذا لا يراه ويريه عباده لمن لا يعلم ذلك.

أفتري أحدا من أهل الديانات يرضي بهذا ولا ينكره؟

فمن هذا الوجه توجه للمنكر الإنكار، وكان حقيقا بالاعتذار، فكم من حركات موجبة للمقت، وكم من نهضات تذهب رونق الوقت، فيكون إنكار المنكر على المريد الطالب يمنعه عن مثل هذه الحركات، ويحذره من مثل هذه المجالس وهذا إنكار صحيح.

وقد يرقص بعض الصادقين بإيقاع ووزن من غير إظهار وجد وحال، ووجه نيته في ذلك إنه ربما يوافق بعض الفقراء في الحركة، فيتحرك بحركة موزونة غير مدع بها حالا ووجدا، يجعل حركته في طرف الباطل لأنها وإن لم تكن محرمة في حكم الشرع ولكنها غير محللة بحكم الحال لما فيها من اللهو، فتصير حركاته ورقصه من قبيل المباحات التي تجري عليه من الضحك والمداعبة، وملاعبة الأهل والولد.

ويدخل ذلك في باب الترويح للقلب، وربما صار ذلك عبادة بحسن النية إذا نوي به استجمام النفس، كما نقل عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم نفسي بشيء من الباطل ليكون ذلك عونا لي على الحق.

ولموضع الترويح كرهت الصلاة في أوقات، ليستريح عمال الله، وترتفق النفوس ببعض مآربها من ترك العمل، وتستطيب أوطان المهمل.

والآدمي تركيبه المختلف، وترتيب خلقه المتنوع بتنوع أصول خلقته - وقد سبق شرحه في غير هذا الباب - لا تفي قواه بالصبر على الحق الصرف، فيكون التفسح في أمثال ما ذكرناه من المباح الذي ينزع إلى لهو ما باطل

يستعان به على الحق، فإن المباح وإن لم يكن باطلا في حقيقة الشرع، لأن حد المباح ما استوي طرفاه واعتدل جانباه، ولكنه باطل بالنسبة إلى الأحوال.

ورأيت في بعض كلام سهل بن عبد الله يقول في وصفه للصادق:

الصادق يكون جهله مزيدا لعلمه، وباطلة مزيدا لحقه، ودنياه مزيدا لآخرته، ولهذا المعني حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، ليكون ذلك حظ نفسه الشريفة، الموهوب لها حظوظها، الموفر عليها حقوقها، لموضع طهارتها وقدسها، فيكون ما هو نصيب الباطل الصرف في حق الغير من المباحات المقبولة برخصة الشرع، المردودة بعزيمة الحال في حقه صلى الله عليه وسلم متسما بسمة العبادات.

وقد ورد في فضيلة النكاح ما يدل على أنه عبادة، وذلك من طريق القياس لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، على ما أطنب في شرحه الفقهاء في مسألة التخلي لنوافل العبادات.

فإذا يخرج هذا الراقص بهذه النية، المتبرئ من دعوي الحال في ذلك من زمن إنكار المنكر، فيكون رقصه لا عليه ولا له، وربما كان بحسن النية في الترويح يصير عبادة، سيما إن أضمر في نفسه فرحا بربه، ونظر إلى شمول رحمته وعطفه، ولكن لا يليق الرقص بالشيوخ ومن يقتدي به، لما فيه من مشابهة اللهو، واللهو لا يليق بمنصبهم، ويباين حال المتمكن مثل ذلك.

وأما وجه منع الإنكار في السماع، فهو أن المنكر للسماع على الإطلاق من غير تفصيل لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما جاهل بالسنن والآثار، وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يقابل بما سوف يقبل.

أما الجاهل بالسنن والآثار فيعرف بما أسلفناه من حديث عائشة رضي الله عنها، وبالأخيار والآثار الواردة في ذلك، وفي حركة بعض المتحركين

تعرف رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحبشة في الرقص، ونظر عائشة رضي الله عنها إليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا سلمت الحركة من المكاره التي ذكرناها.

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» فخجل. وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» فخجل. وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» فخجل. وكان خجل جعفر في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها على وجعفر وزيد.

وأما المنكر المغرور بما أتيح له من أعمال الأخيار فيقال: تقربك إلى الله بالعبادة لشغل جوارحك بها، ولو لا نية قلبك ما كان لعمل جوارحك قدر، فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوي، والنية لنظرك إلى ربك خوفا أو رجاء.

فالسامع من الشعر بيتا يأخذ منه معني يذكره ربه، إما فرحا أو حزنا أو انكسارا أو افتقارا، كيف يقلب قلبه في أنواع ذلك ذاكرا لربه. ولو سمع صوت طائر طاب له ذلك الصوت، وتفكر في قدرة الله تعالى وتسويته حنجرة الطائر، وتسخيره حلقه، ومنشأ الصوت، وتأديته إلى الأسماع، كان في جميع ذلك الفكر مسبحا مقدسا. فإذا سمع صوت آدمي وحضره مثل ذلك الفكر وامتلأ باطنه ذكرا وفكرا كيف ينكر ذلك.

حكى بعض الصالحين قال: كنت معتكفا في جامع جده على البحر.

فرأيت يوما طائفة يقولون في جانب منه شيئا فأنكرت ذلك بقلبي وقلت في بيت من بيوت الله تعالى يقولون الشعر، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام تلك بيت من بيوت الله تعالى يقولون الشعر، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية وإلي جنبه أبو بكر، وإذا أبو بكر يقول شيئا من القول والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك، فقلت في نفسي: ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يسمعون، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع وأبو بكر إلى جنبه يقول، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا حق بحق، أو حق من حق.

بل إذا كان ذلك الصوت من أمرد يخشي بالنظر إليه الفتنة، أو من امرأة غير محرم، وإن وجد من الأذكار والأفكار ما ذكرنا، يحرم سماعه لخوف الفتنه لا لمجرد الصوت، ولكن يجعل سماع الصوت حريم الفتنة، ولكل حرام حريم ينسحب عليه حكم المنع لوجه المصلحة، كالقبلة للشاب الصائم، حيث جعلت حريم حرام الوقاع، وكالخلوة بالأجنبية وغير ذلك. فعلى هذا قد تقتضي المصلحة المنع من السماع إذا علم حال السامع وما يؤديه إليه سماعه، فيجعل المنع حريم الحرام وهكذا.

وقد ينكر السماع جامد الطبع، عديم الذوق، فيقال له: العنين لا يعلم لذة الوقاع، والمكفوف ليس له بالجمال البارع استمتاع، وغير المصاب لا يتكلم بالاسترجاع، فماذا ينكر من محب تربي باطنه بالشوق والمحبة، ويري انحباس روحه الطيارة في مضيق قفص النفس الأمارة، يمر بروحه نسيم أنس الأوطان، وتلوح له طوالع جنود العرفان، وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كأس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة، ولا تحمل عنه سوانح المشاهدة، وكلما قطع منازل النفس بكثرة الأعمال، لا يقرب من كعبة الوصال، ولا يكشف له المسبل من الحجاب، فيتروح بنفس الصعداء، ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، ويقول مخاطبا للنفس والشيطان وهما المانعان:

أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمه

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على قلب محزون تجلت همومه

أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمه

ألا إن أدوائي بليلي قديمة ... وأقتل داء العاشقين قديمه

ولعل المنكر يقول: هل المحبة إلا امتثال الأمر وهل يعرف غير هذا، وهل هناك إلى الخوف من الله، وينكر المحبة الخاصة التي تختص بالعلماء الراسخين والأبدال المقربين، ولما تقرر في فهمه القاصر أن المحبة تستدعي

مثالا وخيالا وأجناسا وأشكالا، أنكر محبة القوم، ولم يعلم أن القوم بلغوا في رتب الإيمان إلى أتم من المحسوس، وجادوا من فرط الكشف والعيان بالأرواح والنفوس.

روي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر غلاما كان في بني إسرائيل على جبل، فقال لأمه: من خلق السماء؟ قالت: الله، قال: من خلق الأرض؟ قالت: الله، قال: من خلق الجبال؟ قالت: الله، قال: من خلق الغيم؟ قالت: الله، فقال: إني أسمع لله شأنا، ورمي بنفسه من الجبل فتقطع.

فالجمال الأزلي الإلهي منكشف للأرواح غير مكيف للعقل ولا مفسر للفهم، لأن العقل موكل بعالم الشهادة لا يهتدي من الله سبحانه إلا إلى مجرد الوجود، ولا يتطرق إلى حريم الشهود المتجلي في طي الغيب المنكشف للأرواح بلا ريب. وهذه الرتبة من مطالعة الجمال رتبة خاصة، وأعم منها رتبة المحبة الخاصة دون العامة من مطالعة جمال الكمال من الكبرياء والجلال، والاستقلال بالمنح والنوال.

والصفات المنقسمة إلى ما ظهر منها في الآباد ولازم الذات في الآزال، فللكمال جمال لا يدرك بالحواس، ولا يستنبط بالقياس، وفي مطالعة ذلك الجمال أخذ طائفة من المحبين خصوا بتجلي الصفات، ولهم بحسب ذلك ذوق وشوق ووجد وسماع، والأولون منحوا قسطا من تجلي الذات، فكان وجدهم على قدر الوجود، وسماعهم على حد الشهود.

وحكى بعض المشايخ قال: رأينا جماعة ممن يمشي على الماء والهواء يسمعون السماع، ويجدون به، ويتولهون عنده (١).

وقال بعضهم: كنا على الساحل، فسمع بعض إخواننا فجعل يتقلب على الماء يمره ويجئ حتى رجع إلى مكانه (٢).

ونقل أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع ولا يحس بها (٣).

__________

١،٢،٣) هذه كلها روايات مجهولة غير معروف راويها ولا من شاهدها وليس لها دليل نقلي أو عقلي يسندها.

ونقل أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع، فأخذ شمعة فجعلها في عينه. قال الناقل: قربت من عينه انظر فرأيت نارا أو نورا يخرج من عينه يرد نار الشمعة.

وحكى عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع عن الأرض في الهواء أذرعا يمر ويجئ فيه.

وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه: إن أنكرنا السماع مجملا مطلقا غير مقيد مفصل يكون إنكارا على سبعين صديقا، وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين، إلا أنا لا نفعل ذلك، لأنا نعلم ما لا يعلمون، وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا يسمعون.

وهذا قول الشيخ عن علمه الوافر بالسنن والآثار، مع اجتهاده وتحريه الصواب، ولكن نبسط لأهل الإنكار لسان الاعتذار، ونوضح لهم الفرق بين سماع يؤثر وبين سماع ينكر.

وسمع الشبلي قائلا يقول:

أسائل عن سلمي فهل من مخبر ... يكون له علم بها أين تنزل

فزعق الشبلي وقال: لا والله ما في الدارين عنه مخبر.

وقيل: الوجد سر صفات الباطن، كما أن الطاعة سر صفات الظاهر، وصفات الظاهر الحركة والسكون، وصفات الباطن الأحوال والأخلاق.

وقال أبو نصر السراج: أهل السماع على ثلاث طبقات: فقوم يرجعون في سماعهم إلى مخاطبات الحق لهم فيما يسمعون، وقوم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبات أحوالهم ومقامهم وأوقاتهم، فهم مرتبطون المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والجمع والمنع، فهم يسمعون لطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع، فهم أقرب الناس إلى السلامة،

وأسلمهم من الفتنة، وكل قلب ملوث بحب الدنيا فسماعه سماع طبع وتكلف.

وسئل بعضهم عن التكلف في السماع فقال: هو على ضربين: تكلف في المستمع لطلب جاه أو منفعة دنيوية، وذلك تلبيس وخيانة، وتكلف فيه لطلب الحقيقة، كمن يطلب الوجد بالتواجد، وهو بمنزلة التباكي المندوب إليه.

وقول القائل إن هذه الهيئة من الاجتماع بدعة، يقال له: إنما البدعة المحذورة الممنوع منها بدعة تزاحم سنة مأمورا بها، وما لم يكن هكذا فلا بأس به، وهذا كالقيام للداخل لم يكن، فكان في عادة العرب ترك ذلك حتى نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل ولا يقام له (١).

وفي البلاد التي فيها هذا القيام لهم عادة إذا اعتمد ذلك لتطييب القلوب والمداراة لا باس به، لأن تركه يوحش القلوب ويوغر الصدور، فيكون ذلك من قبيل العشرة وحسن الصحبة، ويكون بدعة لا بأس بها، لأنها لم تزاحم سنة مأمورة.

__________

١) سبق ذكر خلاف ذلك فكانوا في بعض الأحيان يقومون، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم لبعضهم كما سبق وذكره المؤلف. ومعني ذلك أن كلا التصرفين مباح بناء على ما ذكر آنفا وما ذكر هنا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!