موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب التاسع والعشرون في أخلاق الصوفية وشرح الخلق

الباب التاسع والعشرون في أخلاق الصوفية وشرح الخلق

الصوفية أوفر الناس حظا في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحقهم بإحياء سنته، والتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الاقتداء وإحياء سنته على ما أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين شيخ الإسلام أبو أحمد عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي قال أنا أبو نصر عبد العزيز ابن محمد الترياقي قال أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي قال أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي قال أنا أبو عيسي محمد بن عيسي بن سورة الترمذي قال حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري البصري قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة».

فالصوفية أحيوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم وفقوا في بدايتهم لرعاية أقواله، وفي وسط حالهم اقتدوا بأعماله، فأثمر لهم ذلك أن تحققوا في نهاياتهم بأخلاقه، وتحسين الأخلاق لا يتأتي إلا بعد تزكية النفس، وطريق التزكية بالإذعان لسياسة الشرع، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وإِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} (١). لما كان أشرف الناس وأزكاهم نفسا كان أحسنهم خلقا، قال مجاهد: [على خلق عظيم] أي على دين عظيم.

والدين مجموع الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة.

سئلت عائشة رضي الله عنه عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [كان خلقه القرآن].

__________

١) سورة القلم: آية ٤.

قال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى وينتهي عما نهي الله عنه، وفي قول عائشة: [كان خلقه القرآن]، سر كبير، وعلم غامض، ما نطقت بذلك إلا بما خصها الله تعالى به من بركة الوحي السماوي، وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخصيصه إياها بكلمة «خذوا شطر دينكم من هذه الحميراء».

وذلك أن النفوس مجبولة على غرائز وطبائع هي من لوازمها وضرورتها، خلقت من تراب، ولها بحسب ذلك طبع، وخلقت من ماء ولها بحسب ذلك طبع، وهكذا من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبحسب تلك الأصول التي هي مبادئ تكونها استفادت صفات من البهيمية والسبعية والشيطانية. وإلي صفة الشيطنة في الإنسان إشارة بقوله تعالى {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ (١٤)} (١). لدخول النار في الفخار. وقد قال الله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥)} (٢).

والله تعالى بخفي لطفه وعظيم عنايته نزع نصيب الشيطان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ورد في حديث حليمة ابنة الحارث أنها قالت في حديث طويل: فبينا نحن خلف بيوتنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاءنا أخوه يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض فاضطجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائما ممتقعا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بياض فاضطجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا.

فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني هذا قد أصيب، انطلقي بنا فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف. قالت فاحتملناه، فما راع

__________

١) سورة الرحمن: آية ١٤.

٢) سورة الرحمن: آية ١٥.

أمه إلا وقد قدمنا به عليها. قالت: ما ردكما، قد كنتما عليه حريصين؟ قلنا: لا والله لا ضير إلا أن الله عز وجل قد أدي عنا وقضينا الذي كان علىنا وقلنا نخشي الإتلاف والإحداث نرده إلى أهله.

فقالت: ما ذاك بكما فاصدقاني شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره. فقالت: خشيتما عليه الشيطان كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لا بني هذا شأن، ألا أخبر كما بخبره؟ قلنا: بلى، قالت: حملت به فما حملت حملا قط أخف منه. قالت: فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور قد أضاءت به قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا لم يقعه المولود معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما.

فبعد أن طهر الله رسوله من نصيب الشيطان بقيت النفس الزكية النبوية على حد نفوس البشر لها ظهور بصفات وأخلاق مبقاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، لوجود أمهات تلك الصفات في نفوس الأمة بمزيد من الظلمة لتفاوت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال الأمة، فاستمدت تلك الصفات المبقاة بظهورها في رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنزيل الآيات المحكمات بإزائها لقمعها تأديبا من الله لنبيه، رحمة خاصة له، وعامة للأمة، موزعة لنزول الآيات على الآناء والأوقات عند ظهور الصفات.

قال الله تعالى: {وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (٣٢)} (١). وتثبيت الفؤاد بعد اضطرابه بحركة النفس بظهور الصفات، لارتباط بين القلب والنفس وعند كل اضطراب، آية متضمنة لخلق صالح سني، إما تصريحا أو تعريضا، كما تحركت النفس الشريفة النبوية لما كسرت رباعيته وصار الدم يسيل على الوجه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه ويقول «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ

__________

١) سورة الفرقان: آية ٣٢.

مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (١). فاكتسي القلب النبوي لباس الاصطبار، وفاء بعد الاضطراب إلى القرار.

فلما توزعت الآيات على ظهور الصفات في مختلف الأوقات، صفت الأخلاق النبوية بالقرآن ليكون خلقه القرآن، ويكون في إبقاء تلك الصفات في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم معني قوله عليه السلام «إنما أنسي لأسن» فظهور صفات نفسه الشريفة وقت استنزال الآيات لتأديب نفوس الأمة وتهذيبها رحمة في حقهم، حتى تتزكي نفوسهم «وتشرف أخلاقهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأخلاق مخزونة عند الله تعالى فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا منحه منها خلقا».

وقال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وروي عنه صلى الله عليه وسلم «أن لله تعالى مائة وبضعة عشر خلقا، من آتاه واحدا منها دخل الجنة».

فتقديرها وتحديدها لا يكون إلا بوحي سماوي إلى النبي، المرسل، والله تعالى أبرز إلى الخلق أسماءه منبئة عن صفائه سبحانه وتعالى، وما أظهرها لهم إلا ليدعوهم إليها، ولو لا أن الله تعالى أودع في القوي البشرية التخلق بهذه الأخلاق ما أبرزها لهم دعوة لهم إليها يختص برحمته من يشاء. ولا يبعد والله أعلم أن قول عائشة رضي الله عنها: [كان خلقه القرآن]، فيه رمز غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول كان متخلقا بأخلاق الله تعالى، فعبرت عن المعني بقولها: [كان خلقه القرآن].

قال الجنيد رحمه الله: كان خلقه عظيما لأنه لم يكن له همة سوي الله تعالى.

__________

١) سورة آل عمران: آية ١٢٨.

وقال الواسطي رحمه الله تعالى: لأنه جاد بالكونين عوضا عن الحق.

وقيل: لأنه عليه السلام عاشر الخلق بخلقه وباينهم بقلبه، وهذا ما قاله بعضهم في معني التصوف: التصوف الخلق مع الخلق، والصدق مع الحق.

وقيل: عظم خلقه حيث صغرت الأكوان في عينيه بمشاهدة مكونها.

وقيل: سمي خلقه عظيما لاجتماعه مكارم الأخلاق فيه.

وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إلى حسن الخلق في حديث أخبرنا به الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفتح الهروي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا أبو محمد الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الحافظ الترمذي قال حدثنا أحمد بن الحسين بن خراض قال حدثنا بن حبان بن هلال قال حدثنا مبارك بن فضالة قال حدثني عبد الله بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون. قالوا:

يا رسول الله علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفقيهقون؟ قال: المتكبرون» والثرثار هو المكثار من الحديث: والمتشدق: المتطاول على الناس في الكلام.

قال الواسطي رحمه الله: الخلق العظيم أن لا يخاصم ولا يخاصم.

وقال أيضا: {وإِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} (١) لوجدانك حلاوة المطالعة على سرك.

وقال أيضا: لأنك قبلت فنون ما أسديت إليك من نعمي أحسن مما قبله غيرك من الأنبياء والرسل.

__________

١) سورة القلم: آية ٤.

وقال الحسين: لأنه لم يؤثر فيك جفاء الخلق مع مطالعة الحق.

وقيل: الخلق العظيم لباس التقوى، والتخلق بأخلاق الله تعالى، إذ لم يبق للأعواض عنده خطر.

وقال بعضهم: قوله تعالى: {ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)} (١)، أتم، لأنه حيث قال (وإنك) أحضره، وإذا أحضره أغفله وحجبه. وقوله (لأخذنا) أتم، لأن فيه فناء. وفي قول هذا القائل نظر، فهلا قال: إن كان في ذلك فناء ففي قوله (وإنك) بقاء، وهو بقاء بعد فناء، والبقاء أتم من الفناء، وهذا أليق بمنصب الرسالة، لأن الفناء إنما عز لمزاحمة وجود مذموم، فإذا نزع المذموم من الوجود وتبدلت النعوت، فأي عزة تبقي في الفناء، فيكون حضوره بالله لا بنفسه، فأي حجبة تبقي هنا لك؟.

وقيل: من أوتي الخلق العظيم فقد أوتي أعظم المقامات، لأن للمقامات ارتباطا عاما، والخلق ارتباط بالنعوت والصفات.

وقال الجنيد: اجتمع فيه أربعة أشياء: السخاء، والألفة، والنصيحة، والشفقة.

وقال ابن عطاء: الخلق العظيم أن لا يكون له اختيار، ويكون تحت الحكم مع فناء النفس وفناء المألوفات.

وقال أبو سعيد القرشي: العظيم هو الله، ومن أخلاقه الجود والكرم والصفح والعفو والإحسان، ألا تري إلى قوله عليه السلام «إن لله مائة وبضعة عشر خلقا من أتي بواحد منها دخل الجنة» فلما تخلق بأخلاق الله تعالى وجد الثناء عليه بقوله {وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} (٢).

__________

١) سورة الحاقة: الآيات ٥٤ - ٥٥.

٢) سورة القلم: آية ٤.

وقيل: عظم خلقك لأنك لم ترض بالأخلاق، وسرت ولم تسكن إلى النعوت حتى وصلت إلى الذات.

وقيل: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحجاز حجزه بها عن اللذات والشهوات، وألقاه في الغربة والجفوة، فلما صفا بذلك عن دنس الأخلاق قال له {وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} (١).

وأخبرنا الشيخ الصالح أبو زرعة بن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه قال أنا أبو عمر المليحي قال أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال أنا أبو سعيد بن الأعرابي قال حدثنا جعفر بن الحجاج الرقي قال أنا أيوب بن محمد الوزان قال حدثني الوليد قال حدثني ثابت عن يزيد عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

كان نبي صلى الله عليه وسلم يقول «مكارم الأخلاق عشرة، تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله تعالى لمن أراد به السعادة: صدق الحديث، وصدق البأس، وأن لا يشبع وجاره وصاحبه جائعان، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للصاحب، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء».

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال «تقوى الله وحسن الخلق».

وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار قال «الغم والفرح» يكون هذا الغم غم فوات الحظوظ العاجلة، لأن ذلك يتضمن التسخط والتضجر، وفيه الاعتراض على الله تعالى وعدم الرضا بالقضاء. ويكون الفرح المشار إليه الفرح بالحظوظ العاجلة الممنوع منه بقوله تعالى {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلي ما فاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} (٢). وهو الفرح الذي قال الله تعالى: {إِذْ قالَ لَهُ

__________

١) سورة القلم: آية ٤.

٢) سورة الحديد: آية ٣٣.

قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (١). لما رأي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة. فأما الفرح بالأقسام الأخروية فمحمود ينافس فيه. قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (٢).

وفسر عبد الله بن المبارك حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذي.

فالصوفية راضوا نفوسهم بالمكابدات والمجاهدات حتى أجابت إلى تحسين الأخلاق. وكم من نفس تجيب إلى الأعمال ولا تجيب إلى الأخلاق.

فنفوس العباد أجابت إلى الأعمال ولا تجيب إلى الأخلاق. فنفوس العباد أجابت إلى الأعمال وجمحت عن الأخلاق، ونفوس الزهاد أجابت إلى بعض الأخلاق دون البعض، ونفوس الصوفية أجابت إلى الأخلاق الكريمة كلها.

أخبرنا الشيخ أبو زرعة إجازة عن أبي بكر بن خلف إجازة عن السلمي قال سمعت حسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت أبا بكر الكتاني يقول:

التصوف خلق فمن زاد علىك بالخلق زاد علىك بالتصوف.

فالعباد أجابت نفوسهم إلى الأعمال لأنهم يسلكون بنور الإسلام، والزهاد أجابت نفوسهم إلى بعض الأخلاق لكونهم سلكوا بنور الإيمان.

والصوفية أهل القرب سلكوا بنور الإحسان، فلما باشر بواطن أهل القرب والصوفية نور اليقين، وتأصل في بواطنهم ذلك انصلح القلب بكل أرجائه وجوانبه، لأن القلب يبيض بعضه بنور الإسلام، وبعضه بنور الإيمان، وكله بنور الإحسان والإيقان، فإذا ابيض القلب وتنور انعكس نوره على النفس.

وللقلب وجه إلى النفس ووجه إلى الروح. وللنفس وجه إلى القلب ووجه إلى الطبع والغريزة. والقلب إذا لم يبيض كله لم يتوجه إلى الروح بكله، ويكون ذا وجهين: وجه إلى الروح، ووجه إلى النفس، فإذا ابيض كله

__________

١) سورة القصص: آية ٧٦.

٢) سورة يونس: آية ١٠.

توجه إلى الروح بكله فيتداركه مدد الروح، ويزداد إشراقا وتنورا، وكلما انجذب القلب إلى الروح انجذبت النفس إلى القلب، وكلما انجذبت توجهت إلى القلب بوجهها الذي يليه، وتنور النفس لتوجهها إلى القلب بوجهها الذي يلي القلب، وعلامة تنورها طمأنينتها.

قال الله تعالى {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) اِرْجِعِي إِلي رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)} (١). وتنور وجهها الذي يلي القلب بمثابة نورانية أحد وجهي الصدف لاكتساب النورانية من اللؤلؤ، وبقاء شيء من الظلمة على النفس لنسبة وجهها الذي يلي الغريزة والطبع، كبقاء ظاهر الصدف على ضرب من الكدر والنقصان مخالفا لنورانية باطنه. وإذا تنور أحد وجهي النفس لجأت إلى تحسين الأخلاق وتبديل النعوت، ولذلك سمي الأبدال أبدالا. والسر الأكبر في ذلك أن قلب الصوفي بدوام الإقبال على الله، ودوام الذكر بالقلب واللسان يرتقي إلى ذكر الذات، ويصير حينئذ بمثابة العرش، فالعرش قلب الكائنات في عالم الخلق والحكمة، والقلب عرش في عالم الأمر والقدرة.

قال سهل بن عبد الله التستري: القلب كالعرش، والصدر كالكرسي.

وقد ورد عن الله تعالى «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ويسعني قلب عبدي المؤمن».

فإذا اكتحل القلب بنور ذكر الذات، وصار بحرا مواجا من نسمات القرب، جري في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات، وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى.

حكى عن الشيخ أبي على الفارمزي أنه حكى عن شيخه أبي القاسم الكركاني أنه قال: إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك،

__________

١) سورة الفجر: الآيات ٢٧ - ٢٨.

وهو بعد في السلوك غير واصل، ويكون الشيخ عني بهذا أن العبد يأخذ من كل اسم وصفا يلائم ضعف حال البشر وقصوره، مثل أن يأخذ من اسم الله تعالى الرحيم معني من الرحمة على قدر قصور البشر.

وكل إشارات المشايخ في الأسماء والصفات التي هي أعز علومهم على هذا المعني والتفسير، وكل من توهم بذلك شيئا من الحلول تزندق وألحد.

وقد أوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا بوصية جامعة لمحاسن الأخلاق، فقال له «يا معاذ أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجوار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، وقصد العمل، ولزوم الإيمان، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، وإياك أن تسب حليما، أو تكذب صادقا، أو تطمع آثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تفسد أرضا. أوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكل ذنب توبة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية، بذلك أدب الله عباده، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب».

وروي معاذ أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب».

أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على بإسناده المتقدم إلى الترمذي رضي الله عنه قال أنبأنا أبو كريب قال حدثنا قبيصة بن الليث عن مطرف عن عطاء عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال سمعت النبي عليه السلام يقول «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة».

وقد كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أسخي الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل ولم يجد من يعطيه ويأتيه الليل لا يأوي إلى منزله حتى يبرأ منه، ولا ينال من الدنيا. وأكثر قوت عامه من أيسر م

يجد من التمر والشعير، ويضع ما عدا ذلك في سبيل الله، لا يسأل شيئا إلا يعطي، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام.

وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن.

وكان أشد الناس حياء، وأكثرهم تواضعا.

فصلوات الرحمن عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!