موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثلاثون في تفصيل أخلاق الصوفية

الباب الثلاثون في تفصيل أخلاق الصوفية

من أحسن أخلاق الصوفية التواضع، ولا يلبس العبد لبسة أفضل من التواضع. ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة يقيم نفسه عند كل أحد مقدارا يعلم أنه يقيمه. ويقيم كل أحد على ما عنده من نفسه، ومن رزق هذا فقد استراح وأراح، وما يعقلها إلا العالمون.

أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال أنا عثمان بن عبد الله قال أنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال حدثنا أبو حاتم الرازي قال حدثنا النضر بن عبد الجبار قال أنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى أوحي إلى أن تواضعوا، ولا يبغي بعضكم على بعض».

وقال عليه السلام في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي} (١). قال «على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس».

وكان من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية، ولو أنها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها، ويأكلها، ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.

وأخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف إجازة عن السلمي قال أنا أحمد بن على المقري قال أنا محمد بن المنهال قال حدثني أبي عن محمد بن جابر اليماني عن سليمان بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وترد على من سلم علىك، وأن ترضي بالدون من المجلس، وألا تحب المدحة والتزكية والبر».

__________

١) سورة آل عمران: الآية ٣١.

وورد أيضا عنه عليه السلام «طوبي لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة».

سئل الجنيد عن التواضع فقال: خفض الجناح، ولين الجانب.

وسئل الفضيل عن التواضع فقال: تخضع للحق، وتنقاد له، وتقبله ممن قاله، وتسمع منه.

وقال أيضا: من رأي لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.

وقال وهب بن منبه: مكتوب في كتب الله: إني أخرجت الذر من صلب آدم، فلم أجد قلبا أشد تواضعا إلى من قلب موسي عليه السلام، فلذلك اصطفيته وكلمته.

وقيل: من عرف كوامن نفسه لم يطمع في الغلو والشرف، ويسلك سبيل التواضع، فلا يخاصم من يذمه، ويشكر الله لمن يحمده.

وقال أبو حفص: من أحب أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبر.

وقال لقمان عليه السلام: لكل شيء مطية ومطية العمل التواضع.

وقال النوي: خمسة أنفس أعز الخلق في الدنيا: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سني.

وقال الجلاء: لو لا شرف التواضع كنا إذا مشينا نخطر.

وقال يوسف بن أسباط وقد سئل ما غاية التواضع قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقي أحدا إلا رأيته خيرا منك.

ورأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب وكنت معه في سفره إلى الشام وقد بعث بعض أبناء الدنيا له طعاما على رؤوس الأساري من الإفرنج وهم

في قيودهم، فلما مدت السفرة والأساري ينتظرون الأواني حتى تفرغ، قال للخادم: أحضر الأساري حتى يقعدوا على السفرة مع الفقراء، فجاء بهم وأقعدهم على السفرة صفا واحدا، وقام الشيخ من سجادته ومشي إليهم وقعد بينهم كالواحد منهم، فأكل وأكلوا، وظهر لنا وجهة ما نازل باطنه من التواضع لله، والانكسار في نفسه، وانسلاخه من التكبر عليهم بإيمانه وعلمه وعمله.

أخبرنا أبو زرعة إجازة عن أبي بكر بن خلف إجازة عن السلمي قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت الجريري يقول: صح عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال: خمسة في الظاهر وخمسة في الباطن.

فأما اللواتي في الظاهر، فصدق في اللسان، وسخاوة في الملك، وتواضع في الأبدان، وكف الأذي، واحتماله بلا إباء.

وأما اللواتي في الباطن، فحب وجود سيده، وخوف الفراق من سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.

وقال يحيي بن معاذ: التواضع في الخلق حسن،

ولكن في الأغنياء أحسن، والتكبر سمج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج.

وقال ذو النون: ثلاثة من علامات التواضع: تصغير النفس معرفة بالعيب، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل واحد.

وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعا؟ قال: إذا لم ير لنفسه حقا ما ولا حالا من علمه بشرها وازدرائها، ولا يري أن في الخلق شرا منه.

قال بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء.

وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم، أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر.

والكشف عن حقيقة التواضع أن التواضع رعاية الاعتدال بين الكبر والضعة، فالكبر رفع الإنسان نفسه فوق قدره، والضعة وضع الإنسان نفسه مكانا يزري به ويقضي إلى تضييع حقه.

وقد أنفهم من كثير من إشارات المشايخ في شرح التواضع أشياء إلى حد أقاموا التواضع فيه مقام الضعة، ويلوح فيه الهوي من أوج الإفراد إلى حضيض التفريط، ويوهم انحرافا عن حد الاعتدال، ويكون قصدهم في ذلك المبالغة في قمع نفوس المريدين خوفا عليهم من العجب والكبر، فقل أن ينفك مريد من مبادئ ظهور سلطان الحال من العجب، حتى لقد نقل عن جمع من الكبار كلمات مؤذية بالإعجاب. وكل ما نقل من ذلك القبيل من المشايخ لبقايا السكر عندهم، وانحصارهم في مضيق سكر الحال، وعدم الخروج إلى فضاء الصحو في ابتداء أمرهم، وذلك إذا حدق صاحب البصيرة نظره يعلم أنه من استراق النفس السمع عند نزول الوارد على القلب، والنفس إذا استرقت السمع عند ظهور الوارد على القلب ظهرت بصفتها على وجه لا يجفو على الوقت وصلافة الحال.

فيكون من ذلك كلمات مؤذنة بالعجب، كقول بعضهم: من تحت خضراء السماء مثلي؟ وقول بعضهم: قدمي على رقبة جميع الأولياء، وكقول بعضهم: أسرجت وألجمت وطفت في أقطار الأرض وقلت هل من مبارز، فلم يخرج إلى أحد، إشارة منه في ذلك إلى تفرده في وقته.

ومن أشكل عليه ذلك، ولم يعلم أنه من استراق النفس السمع، فليزن ذلك بميزان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعهم، واجتنابهم أمثال هذه الكلمات، واستبعادهم أن يجوز للعبد التظاهر بشيء من ذلك، ولكن يجعل لكلام الصادقين وجه في الصحة، ويقال إن ذلك طرح عليهم في سكر الحال، وكلام السكاري يحمل.

فالمشايخ أرباب التمكين لما علموا في النفوس هذا الداء الدفين، بالغوا في شرح التواضع إلى حد ألحقوه بالضعة تداويا للمريدين. والاعتدال في التواضع أن يرضي الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه، ولو أمن الشخص جموح النفس لأوقفها على حد يستحقه من غير زيادة ولا نقصان.

ولكن لما كان الجموح في جبلة النفس لكونها مخلوقة من صلصال كالفخار، فيها نسبة النارية وطلب الاستعلاء بطبعها إلى مركز النار، احتاجت للتداوي بالتواضع وإيقافها دون ما تستحقه، لئلا يتطرق إليها الكبر.

فالكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، والتكبر إظهاره ذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين يكون كاذبا.

والكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل الانسلاخ من الإنسانية حقيقة. وقد عظم الله تعالى شأن الكبر بقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (١).

وقال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (٢).

وقد ورد قول الله تعالى: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته» وفي رواية «قذفته في نار جهنم».

__________

١) سورة النحل: الآية ٢٣.

٢) سورة الزمر: الآية ٦٠.

وقال عز وجل ردا للإنسان في طغيانه إلى حده {ولا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا} (١).

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦)} (٢).

وأبغ من هذا قوله تعالى {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)} (٣).

وقد قال بعضهم لبعض المتكبرين: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك حامل العذرة.

وقد نظم الشاعر هذا المعني:

كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه

وإذا ارتحل التواضع من القلب وسكن الكبر، انتشر أثره في بعض الجوارح، ويرشح الإناء بما فيه، فتارة يظهر أثره في العنق بالتمايل، وتارة في الخد بالتصعير، قال الله تعالى: {ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ} (٤).

وتارة يظهر في الرأس عند استعصاء النفس. قال الله تعالى {لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)} (٥).

وكما أن الكبر له انقسام على الجوارح والأعضاء تتشعب منه شعب، فكذلك بعضها أكثف من البعض، كالتيه والزهو والعزة وغير ذلك، إلا أن العزة تشتبه بالكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة. قال الله تعالى {ولله الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ} (٦).

__________

١) سورة الإسراء: الآية ٣٧.

٢) سورة الطارق: الآيات ٥ - ٦.

٣) سورة عبس: الآيات ١٧ - ١٩.

٤) سورة لقمان: الآية ١٨.

٥) سورة المنافقون: الآية ٥.

٦) سورة المنافقون: الآية ٨.

والعزة غير الكبر، ولا يحل لمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها أن لا يضعها لأغراض عاجلة دنيوية، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها.

قال بعضهم للحسن: ما أعظمك في نفسك، قال: لست بعظيم ولكنني عزيز.

ولما كانت العزة غير مذمومة، وفيها مشاكلة بالكبر، قال الله تعالى: {تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (١) فيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، فالوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر، ولا يؤيد في ذلك ولا يثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين، والسادة المقربين، ورؤساء الأبدال والصديقين.

قال بعضهم: من تكبر فقد أخبر عن نذالة نفسه، ومن تواضع فقد أظهر كرم طبعه.

وقال الترمذي: التواضع على ضربين: الأول أن يتواضع العبد لأمر الله ونهيه، فإن النفس لطلب الراحة تتلهي عن أمره، والشهوة التي فيها تهوي في نهيه، فإذا وضع نفسه لأمره ونهيه فهو تواضع، والثاني أن يضع نفسه لعظمة الله، فإن اشتهت نفسه شيئا مما أطلق له من كل نوع من الأنواع منعها ذلك. وجملة ذلك أن يترك مشيئته لمشيئة الله تعالى.

واعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتطيع للحق والخلق لمحو آثارها، وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا عليه السلام في أوطان القرب، كما روي عن عائشة رضي الله عنه في الحديث الطويل قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة

__________

١) سورة الإسراء: الآية ٣٧.

فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة ظنا مني أنه عند بعض أزواجه، فطلبته في حجر نسائه فلم أجده، فوجدته في المسجد ساجدا كالثوب الخلق وهو يقول في سجوده «سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، وقر بك لساني، وها أنا ذا بين يديك يا عظيم يا غافر الذنب العظيم».

وقوله عليه السلام «سجد لك سوادي وخيالي» استقصاء في التواضع بمحو آثار الوجود حيث لم تتخلف ذرة منه عن السجود ظاهرا وباطنا.

ومتى يكن للصوفي حظ من التواضع الخاص على بساط القرب لا يتوفر حظه من التواضع للخلق. وهذه سعادات إن أقبلت جاءت بكليتها.

والتواضع من أشرف أخلاق الصوفية.

ومن أخلاق الصوفية المداراة، واحتمال الأذي من الخلق. وبلغ من مداراة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد قتيلا من أصحابه بين اليهود، فلم يحف عليهم ولم يزد على مر الحق، بل وداه بمائه ناقة من قبله، وإن بأصحابه لحاجة إلى بغير واحد يتقوون به.

وكان من حسن مداراته أن لا يذم طعاما، ولا ينهر خادما.

أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفضل الكرخي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثني قتيبة قال حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، وما مسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مساقط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمداراة مع كل أحد من الأهل والأولاد والجيران والأصحاب والخلق كافة من أخلاق الصوفية، وباحتمال الأذي يظهر جوهر النفس.

وقد قيل: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.

أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه الحافظ المقدسي قال أنا أبو محمد الصرفيني قال أنا أبو القاسم عبيد الله بن حبابة قال أنا أبو القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز قال حدثنا على بن الجعد قال أنا شعبة عن الأعمش عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم».

وفي الخبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم. قيل: ما ذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قال: كان إذا أصبح قال: اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني، فمن ضربني لا أضربه، ومن شتمني لا أشتمه، ومن ظلمني لا أظلمه».

وأخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب قال أنا أبو الفتح الهروي قال حدثنا الترياقي قال أنا الجراحي قال أنا المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا ابن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة رضي الله عنه قالت: استاذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال «بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة» ثم اذن له فآلان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت له ثم ألنت له القول، قال «يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه».

وروي أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «اتق الله حينما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».

فما شيء يستدل به على قوة عقل الشخص ووفور علمه وحلمه كحسن المداراة. والنفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها، ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمداراة قطع حمة النفس، ورد طيشها ونفورها.

وقد ورد «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخبره في أي الحوار شاء».

وروي جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا أخبركم على من تحرم النار؟ على كل هين لين سهل قريب».

وروي أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: أتي النبي عليه السلام برجل فكلمه فأرعد فقال «هون علىك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

وعن بعضهم في معني لين جانب الصوفية:

هينون لينون أيسار بنو يسر ... سواس مكرمة أبناء أيسار

لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري

وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير».

حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إملاء قال حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال أنا أبو الحسين عبد الرحمن بن أبي طلحة الداودي قال أنا أبو محمد بعد الله الحموي السرخسي قال أنا أبو عمر ابن عيسي ابن عمر السمرقندي قال أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال أنا محمد بن أحمد بن أبي خلف قال حدثنا عبد الرحمن محمد عن محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن أبي بكر عن رجل من العرب قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة فوطئت به

على رجل رسول الله فنفحني نفحة بسوط في يده وقال بسم الله أوجعتني.

قال: فبت لنفسي لايما أقول أوجعت رسول الله. قال: فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول أين فلان؟ قلت هذا والله الذي كان مني بالأمس. قال فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك نفحة بالسوط، فهذه ثمانون نعجة فخذها بها.

ومن أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة، ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعا وقوة اليقين شرعا، يؤثرون بالموجود، ويصبرون على المفقود.

قال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علىنا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ، فقلت له: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.

وقال ذو النون: من علامة الزاهد المشروح صدره ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار بالقوت.

روي عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة» فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فأنزل الله تعالى {ويُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (١).

وروي أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد فقال يا رسول الله إني جائع فأطعمني، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه هل عندكن شيء، فكلهن قلن والذي بعثك بالحق نبيا ما عندنا إلا الماء، فقال

__________

١) سورة الحشر: الآية ٩.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة، ثم قال: من يضيف هذا هذه الليلة رحمه الله؟

فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله، فأتي به منزله فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: فقومي علليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعمون شيئا ثم أسرجي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالى نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله، حتى يشبع ضيف رسول الله، فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا، ثم قامت فأثردت وأسرجت، فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله، وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف وباتا طاويين فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة، وأنزل الله تعالى {ويُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (١).

وقال أنس رضي الله عنه: أهدي لبعض أصحابه رأس شاة مشوي وكان مجهودا، فوهبه إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس ثم عادا إلى الأول، فأنزلت الآية لذلك.

وروي أنا أن الحسن الأنطاكي اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقري الري، وله أرغفة معدودة لم تشبع خمسة منهم، فكسروا الرغفان وأطفأوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفعوا الطعام فإذا هو بحاله لم يأكل أحد منهم إيثارا منه على نفسه.

وحكى عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذ

__________

١) سورة الحشر: الآية ٩.

أنا به فقلت أسقيك؟ فأشار إلى نعم، فإذا رجل يقول آه، فقال ابن عمي:

انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك؟ فسمع هشام آخر يقول: آه، فقال: انطلق به إليه، فجئت إليه فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو أيضا قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو أيضا قد مات.

وسئل أبو الحسين البوشنجي عن الفتوة، فقال: الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الأنصار في قوله {والَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ والْإِيمانَ} (١).

قال ابن عطاء: يؤثرون على أنفسهم جودا وكرما {ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (٢). يعني جوعا وفقرا.

قال أبو حفص: الإيثار هو أن يقدم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.

وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب وذي معرفة.

وقال يوسف بن الحسين: من رأي لنفسه ملكا لا يصح منه الإيثار لأنه يري نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يري الأشياء كلها للحق، فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يري نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.

وقال بعضهم: حقيقة الإيثار أن تؤثر بحظ آخرتك على إخوانك، فإن الدنيا أقل خطرا من أن يكون لإيثارها محل أو ذكر.

ومن هذا المعني ما نقل أن بعضهم رأي أخا له فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فأنكر أخوه ذلك منه، فقال: يا أخي سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

__________

١) سورة الحشر: الآية ٩.

٢) سورة الحشر: الآية ٩.

«إذا التقي المسلمان ينزل عليهما مائة رحمة تسعون لأكثرهما بشرا وعشرة لأقلهما بشرا» فأردت أن أكون أقل بشرا منك ليكون لك الأكثر.

أخبرنا الشيخ ضياء الدين أبو النجم إجازة قال أنا أبو حفص عمر بن الصفار النيسابوري قال أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا القاسم الرازي يقول سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من صحب الصوفية فليصحبهم بلا نفس ولا قلب ولا ملك، فمن نظر إلى شيء من أسبابه قطعه ذلك عن بلوغ مقصده.

وقال سهل بن عبد الله: الصوفي من يري دمه هدرا، وملكه مباحا.

وقال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.

قيل: لما سعي بالصوفية وتميز الجنيد بالفقه، وقبض على الشجام والرقام والنوري، وبسط النطع لضرب رقابهم، تقدم النوري فقيل له: إلى ماذا تبادر؟ فقال: أوثر إخواني بفضل حياة ساعة.

وقيل: دخل الروذباري دار بعض أصحابه فوجده غائبا وباب بيته مغلق، فقال: صوفي وله باب مغلق، اكسروا الباب، فكسروه وأمر بجميع ما وجدوا في البيت أن يباع، فأنفذوه إلى السوق واتخذوا رفقا من الثمن وقعدوا في الدار، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئا، ودخلت امرأته وعليها كساء فدخلت بيتا فرمت بالكساء وقالت: هذا أيضا من بقية المتاع فبيعوه، فقال الزوج لها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ قالت: اسكت مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علىنا، ويبقي لنا شيء ندخره عنه.

وقيل: مرض قيس بن سعد، فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم، فقالوا: إنهم يستحيون بمالك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله مال

يمنع الإخوان عن الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل، فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة عواده.

وقيل: أتي رجل صديقا له ودق عليه الباب، فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمائة درهم دين لي، فدخل الدار ووزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه ودخل الدار باكيا، فقالت امراته، هلا تعللت حين شق علىك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاتحني به.

وأخبرنا الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال أنا محمد بن محمد إمام جامع أصفهان قال حدثنا أبو عبد الله الجرجاني قال أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمداباذي قال حدثنا أبو البحتري قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا بريدة بن أبي بردة عن أبي موسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو وقل طعام عيالهم جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم».

وحدث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد أن يغزو قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قوما ليس لهم مال ولا عدة، فليضم أحدكم إليه الرجل والرجلين والثلاثة، فما لأحدكم من ظهر جمله إلا عقبة كعقبة أحدكم» قال: فضممت إلى اثنين أو ثلاثة مالي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملة.

وروي أنس قال: لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخي النبي عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما، فإذا انقضت عدتها تتزوجها، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.

فما حمل الصوفي على الإيثار إلا طهارة نفسه، وشرف غريزته. وما جعله الله تعالى صوفيا إلا بعد أن سوي غريزته لذلك. وكل من كانت

غريزته السخاء والسخي يوشك أن يصير صوفيا، لأن السخاء صفة الغريزة، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس. قال الله تعالى {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (١). حكم بالفلاح لمن يوقي الشح، وحكم بالفلاح لمن أنفق وبذل فقال {ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (٢). أُولئِكَ عَلي هُديً مِنْ {رَبِّهِمْ وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)} (٣). والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين.

والنبي عليه السلام نبه بقوله «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات» فجعل إحدي المهلكات شحا مطاعا، ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكا، بل يكون مهلكا إذا كان مطاعا، فأما كونه موجودا في النفس غير مطاع فإنه لا ينكر ذلك، لأنه من لوازم النفس مستمدا من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، وهو لنفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار.

والسخاء أتم وأكمل من الجود، ففي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء إذا كان من ضرورة الغريزة. وكل سخي جواد وليس كل جواد سخيا.

والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالسخاء، لأن السخاء من نتيجة الغرائز، والله تعالى منزه عن الغريزة. والجود يتطرق إليه الرياء ويأتي به الإنسان متطلعا إلى عوض من الخلق أو الحق بمقابل ما من الثناء وغيره من الخلق والثواب من الله تعالى.

__________

١) سورة الحشر: الآية ٩.

٢) سورة البقرة: الآية ٣.

٣) سورة البقرة: الآية ٥.

والسخاء لا يتطرق إليه الرياء، لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة، لأن طلب العوض مشعر بالبخل لكونه معلولا بطلب العوض، فما تمحض سخاء، فالسخاء لأهل الصفاء، والإيثار لأهل الأنوار.

ويجوز أن يكون قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ولا شُكُورًا (٩)} (١). إنه نفي في الآية الإطعام لطلب الأعواض حيث قال (لا نريد) بعد قوله (لوجه الله) فما كان لله لا يشعر بطلب العوض، بل الغريزة لطهارتها تنجذب إلى مراد الحق لا لعوض، وذلك أكمل السخاء من أطهر الغرائز.

روت أسماء بنت أبي بكر قالت قلت: يا رسول الله ليس لي من شيء إلا ما أدخل على الزبير، فأعطي؟ قال: «نعم لا توكي فيوكي علىك».

ومن أخلاق الصوفية التجاوز والعفو، ومقابلة السيئة بالحسنة.

قال سفيان: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنقد السوق خذ شيئا وهات شيئا.

وقال الحسن: الإحسان أن تعم ولا تخص، كالشمس والريح والغيث.

وروي أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت قصورا مشرفة على الجنة، فقلت يا جبرائيل لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس».

روي أبو هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي عليه السلام يتبسم، ثم رد أبو بكر عليه بعض الذي قال، فغضب النبي وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تتبسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت، فقال «إنك حيث كنت ساكنا كان معك ملك يرد عليه، فلما تكلمت وقع

__________

١) سورة الإنسان: الآية ٩.

الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشيطان. يا ابا بكر ثلاث كلهن حق: ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفو عنها إلا أعز الله نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله قله، وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها كثرة».

أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا الكروخي قال أنا الترياقي قال أنا الجراحي قال أنا المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤا فلا تظلموا».

وقال بعض الصحابة: يا رسول الله الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني، فيمر بي أفأجزيه؟ قال: «لا، أقره».

وقال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس الواصل المكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها».

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مكارم الأخلاق: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك».

ومن أخلاق الصوفية البشر وطلاقة الوجه.

الصوفي بكاؤه في خلوته، وبشره وطلاقة وجهه مع الناس. فالبشر على وجهه من آثار أنوار قلبه، وقد تنازل باطن الصوفي منازلات إلهية، ومواهب قدسية، يرتوي منها القلب، ويمتلئ فرحا وسرورا {قُلْ بِفَضْلِ الله وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (١).

__________

١) سورة يونس: الآية ٥٨.

والسرور إذا تمكن من القلب فاض على الوجه آثاره. قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)} (١). أي مضيئة مشرقة مُسْتَبْشِرَةٌ أي فرحة.

قيل: أشرقت من طول ما اغبرت في سبيل الله. ومثال فيض النور على الوجه من القلب كفيضان نور السراج على الزجاج والمشكاة. فالوجه مشكاة، والقلب زجاج، والروح مصباح، فإذا تنعم القلب بلذيذ المسامرة ظهر البشر على الوجه.

قال الله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)} (٢). أي نضارته وبريقه، يقال: أنضر النبات إذا أزهر ونور {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)} (٣). فلما نظرت نضرت.

فأرباب المشاهدة من الصوفية تنورت بصائرهم بنور المشاهدة، وانصقلت مرآة قلوبهم، وانعكس فيها نور الجمال الأزلي. وإذا أشرقت الشمس على المرآة المصقولة استنارت الجدران. قال الله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (٤). وإذا تأثر الوجه بسجود الظلال وهي القوالب في قول الله تعالى: {وظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والْآصالِ} (٥). كيف لا يتأثر بشهود الجمال.

أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا الكروخي قال أنا الترياقي قال أنا الجراحي قال أنا المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك».

__________

١) سورة عبس: الآية ٣٨.

٢) سورة المطفيين: الآية ٢٤.

٣) سورة القيامة: الآيات ٢٢ - ٢٣.

٤) سورة الفتح: الآية ٢٩.

٥) سورة الرعد: الآية ١٥.

وقال سعد بن عبد الرحمن الزبيدي: يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك. فأما من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس كأنه يمن علىك فلا أكثر الله في القراء مثله.

ومن أخلاق الصوفية السهولة، ولين الجانب، والنزول مع الناس إلى أخلاقهم وطباعهم، وترك التعسف والتكلف. وقد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار. وأخلاق الصوفية تحاكي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول عليه الصلاة والسلام «أما إني أمزح ولا أقول إلا حقا».

وروي أن رجلا يقال له زاهر بن حرام، وكان بدويا، وكان لا يأتي إلى رسول الله إلا جاء بطرفة يهديها إلى رسول الله، فجاء يوما من الأيام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة يبيع سلعة له، ولم يكن أتاه ذلك اليوم، فاحتضنه النبي عليه السلام من ورائه بكفيه، فالتفت فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم فقبل كفيه، فقال النبي عليه السلام: من يشتري العبد فقال: إذا تجدني كاسدا يا رسول الله، فقال ولكن عند الله ربيح. ثم قال عليه السلام: لكل أهل حضر بادية، وبادية آل محمد زاهر بن حرام.

وأخبرنا أبو زرعة طاهر بن الحافظ المقدسي عن أبيه قال أنا المطهر بن محمد الفقيه قال أنا أبو الحسن قال أنا أبو عمرو بن حكيم قال أنا أبو أمية قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني على جمل، فقال أحملك على ابن الناقة، قال أقول لك احملني على جمل وتقول أحملك على ابن الناقة؟ فقال عليه السلام: فالجمل ابن الناقة.

وروي صهيب فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر يأكل فقال: أصب من هذا الطعام، فجعلت آكل من التمر، فقال: أتأكل وأنت رمد فقلت: إذا أمضغ من الجانب الآخر، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروي أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم: يا ذا الأذنين.

وسئلت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في البيت؟ قالت: كان ألين الناس، بساما ضحاكا.

وروت أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها؟ فقال: هذه بتلك.

وأخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفتح الهروي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا أبو محمد الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الحافظ الترمذي قال حدثنا عبد الله بن الوضاح الكوفي قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن شعبة عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إنه كان يقول لأخ لي صغير:

يا أبا عمير ما فعل النغير؟ والنغير عصفور صغير.

وروي أن عمر سابق زبيرا رضي الله عنه فسبقه الزبير، فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم سابقه مرة أخري فسبقه عمر، فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة.

وروي بكر بن عبد الله بن عباس قال قال لي عمر: تعال أنافسك في الماء أينا أطول نفسا، ونحن محرومون.

وروي بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. يقال بدح يبدح إذا رمي، أي يترامون بالبطيخ.

وأخبرنا أبو زرعة عن أبيه قال أنا الحسن بن أحمد الكرخي قال حدثنا أبو طالب محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله قال حدثني إسحاق الحربي قال حدثنا أبو سلمة قال حدثنا حماد بن خالد قال أنبأنا محمد بن عمرو بن علقمة قال حدثنا أبو الحسن بن محصن الليثي عن يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: إن عائشة

رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة طبختها له وقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي فأبت، فقلت لها: كلي فأبت، فقلت لتأكلن أو لألطخن بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الحريرة فلخطت بها وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه وقال لسودة ألطخي وجهها، فلطخت بها وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عمر رضي الله عنه على الباب فنادي يا عبد الله يا عبد الله، فظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل، فقال: قوما فاغسلا وجهكما، فقالت عائشة رضي الله عنها: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.

ووصف بعضهم ابن طاوس فقال: كان مع الصبي صبيا ومع الكهل كهلا، وكان فيه مزاحة إذا خلا.

وروي معاوية بن عبد الكريم قال: كنا نتذاكر الشعر عند محمد بن سيرين وكان يقول ونمزح عنده ويمازحنا، وكنا نخرج من عنده ونحن نضحك، وكنا إذا دخلنا على الحسن نخرج من عنده ونحن نكاد نبكي.

فهذه الأخبار والآثار دالة على حسن لين الجانب، وصحة حال الصوفية، وحسن أخلاقهم فيما يعتمدونه من المداعبة في الربط، وينزلون مع الناس على حسب طباعهم، لنظرهم إلى سعة رحمة الله، فإذا خلوا وقفوا موقف الرجال، واكتسوا ملابس الأعمال والأحوال. ولا يقف في هذا المعني على حد الاعتدال إلى صوفي قاهر للنفس، عالم بأخلاقها وطباعها، سائس لها بوفور العلم، حتى يقف في ذلك على صراط الاعتدال بين الإفراط والتفريط.

ولا يصلح الإكثار من ذلك للمريدين المبتدئين، لقلة علمهم ومعرفتهم بالنفس، وتعديهم حد الاعتدال. فللنفس في هذه المواطن نهضات ووثبات تجر إلى الفساد، وتجنح إلى العناد. فالنزول إلى طباع الناس

يحسن بمن صعد عنهم، وترقي لعلو حاله ومقامه، فينزل إليهم وإلي طباعهم، حتى ينزل بالعلم.

فأما من لم يصعد بصفاء حاله عنهم، وفيه بقية مزح من طباعهم ونفوسهم الجامحة الأمارة بالسوء إذا دخلت في هذه المداخل أخذت النفس حظها، واغتنمت مآربها، واستروحت إلى الرخصة، والنزول إلى الرخصة يحسن لمن يركب العزيمة غالب أوقاته، وليس ذلك شأن المبتدي.

فللصوفية العلماء فيما ذكرناه ترويح يعلمون حاجة القلب إلى ذلك، والشيء إذا وضع للحاجة يتقدر بقدر الحاجة، ومعيار مقدار الحاجة في ذلك علم غامض لا يسلم لكل أحد.

قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجرئ علىك السفهاء، وتركه يغيظ المؤانسين، ويوحش المخالطين.

قال بعضهم: المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للإخلاء.

وكما يصعب معرفة الاعتدال في ذلك يصعب معرفة الاعتدال في الضحك، والضحك من خصائص الإنسان، ويميزه عن جنس الحيوان، ولا يكون الضحك إلا عن سابقة تعجب، والتعجب يستدعي الفكر، والفكر شرف الإنسان وخاصيته. . ومعرفة الاعتدال فيه أيضا شأن من ترسخ قدمه في العلم، ولهذا قيل: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب.

وقيل: وكثرة الضحك من الرعونة.

وروي عن عيسي عليه السلام أنه قال: إن الله تعالى يبغض الضحاك من غير عجب، والمشاء في غير إرب.

وذكر فرق بين المداعبة والمزاح، فقيل: المداعبة ما لا يغضب جده، والمزاح ما يغضب جده.

وقد جعل أبو حنيفة رحمه الله القهقهة في الصلاة من الذنب، وحكم ببطلان الوضوء بها وقال: يقوم الإثم مقام خروج الخارج.

فالاعتدال في المزاح والضحك لا يتأتي إلا إذا خلص وخرج من مضيق الخوف والقبض والهيبة، فإنه يتقوم بكل مضيق من هذه المضايق بعض التقوىم، فيعتدل الحال فيه ويستقيم، فالبسط والرجاء ينشآن المزاح والضحك، والخوف والقبض يحكمان فيه بالعدل.

ومن أخلاق الصوفية ترك التكلف، وذلك أن التكلف تصنع وتعمل وتمايل على النفس لأجل الناس، وذلك يباين حال الصوفية، وفي بعضه خفي منازعة للأقدار، وعدم الرضا بما قسم الجبار.

ويقال: التصوف ترك التكلف.

ويقال: التكلف تخلف، وهو تخلف عن شأو الصادقين.

روي أنس بن مالك قال: شهدت وليمة لرسول الله ما فيها خبز ولا لحم.

وروي عن جابر أنه أتاه ناس من أصحابه فأتاهم بخبز وخل وقالوا:

كلوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم الإدام الخل».

وعن سفيان بن سلمة قال: دخلت على سلمان الفارسي فأخرج إلى خبزا وملحا وقال: كل، لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن يتكلف أحد لأحد لتكلفت لكم.

والتكلف مذموم في جميع الأشياء، كالتكلف بالملبوس للناس من غير نية فيه، والتكلف في الكلام، وزيادة التملق الذي صار دأب أهل الزمان، فما يكاد يسلم من ذلك إلا آحاد وأفراد. وكم من متملق لا يعرف أنه تملق ولا يفطن له، فقد يتملق الشخص إلى حد يخرجه إلى صريح النفاق، وهو مباين لحال الصوفي.

أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنبأنا أبو الفتوح الهروي قال أنا أبو نصر التريياقي قال أنا أبو محمد الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن مطرف عن حسان بن عطية عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» البذاء الفحش. وأراد بالبيان ههنا كثرة الكلام والتكلف للناس بزيادة تملق وثناء عليهم، وإظهار التصفح، وذلك ليس من شأن أهل الصدق.

وحكى عن أبي وائل قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان، فقدم إلينا خبز شعير وملحا جريشا، فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح سعتر كان أطيب، فخرج سلمان ورهن مطهرته وأخذ سعترا، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا: فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة، وفي هذا من سلمان ترك التكلف قولا وفعلا.

وفي حديث يونس النبي عليه السلام أنه زاره إخوانه فقدم إليهم كسرا من خبز شعير، وجز لهم بقلا كان يزرعه ثم قال: لو لا أن الله لعن المتكلفين لتكلفت لكم.

قال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبق ولا تذر.

وروي الزبير بن العوام قال: نادي مناد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما «اللهم اغفر للذين يدعون لأموات أمتي ولا يتكلفون، ألا إني برئ من التكلف وصالحو أمتي».

وروي أن عمر رضي الله عنه قرأ قوله تعالى {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وعِنَبًا وقَضْبًا (٢٨) وزَيْتُونًا ونَخْلًا (٢٩) وحَدائِقَ غُلْبًا (٣٠) وفاكِهَةً وأَبًّا (٣١)} (١). ثم قال: هذا كله قد عرفناه فما الاب؟ قال: وبيد عمر عصاة فضرب بها الأرض ثم قال: هذا لعمر الله هو التكلف، فخذوا أيها الناس ما بين لكم منه، فما عرفتم اعملوا به، ومن لم تعرفوا فكلوا علمه إلى الله.

ومن أخلاق الصوفية الإتقان من غير إقتار، وترك الادخار، وذلك أن الصوفي يري خزائن فضل الحق، فهو بمثابة من هو مقيم على شاطئ بحر، والمقيم على شاطئ البحر لا يدخر الماء في قربته وروايته.

روي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من يوم إلا له ملكان يناديان، فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: الله اعط ممسكا تلفا».

وروي أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد.

وروي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طيرا، فلما كان الغد أتاه به، فقال رسول الله: ألم أنهك أن تخبئ شيئا لغد، فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد.

وروي أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صرة من تمر، فقال: ما هذا يا بلال؟ فقال: أدخر يا رسول الله، قال: أما تخشي، أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا.

وروي أن عيسي بن مريم كان يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسي، ولم يكن له ولد يموت، ولا بيت يخرب، ولا يخبئ شيئا لغد.

فالصوفي كل خباياه في خزائن الله لصدق توكله، وثقته بربه.

__________

١) سورة عبس: الآيات ٢٧ - ٣١.

فالدنيا للصوفي كدار الغربة، ليس له فيها ادخار، ولا له منها استكثار.

قال عليه السلام: «لو توكلتم على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».

أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب قال أنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي قال أنا أبو محمد عبد الله السرخسي قال أنبأنا أبو عمران السمرقندي قال أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال أنا محمد بن يوسف عن سفيان عن أبي المنكدر عن جابر قال: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم قط فقال لا. .

قال ابن عيينة: إذا لم يكن عنده وعد.

وبالإسناد عن الدارمي قال أنا يعقوب بن حميد قال أنا عبد العزيز بن محمد عن ابن أخي الزهري قال: إن جبريل عليه السلام قال: ما في الأرض أهل عشيرة من أبيات إلا قلبتهم، فما وجدت أحدا أشد إنفاقا لهذا المال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أخلاق الصوفية القناعة باليسير من الدنيا.

قال ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرانه.

وقال بشر بن الحارث: لو لم يكن في القناعة إلا التمتع بالعز لكفي صاحبه.

وقال بنان الحمال: الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع.

وقال بعضهم: انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص.

وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف، ودبر أمر الآخرة بالحرص والتعجيل.

وقال يحيي بن معاذ: من قنع بالرزق فقد ذهب بالآخرة وطاب عيشه.

وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه: القناعة سيف لا ينبو.

أخبرنا أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل قال أنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن الخلال ببغداد قال أنا أبو حفص عمر بن إبراهيم قال حدثنا أبو القاسم البغوي قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا أبو سعيد عن صدقة بن الربيع عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد يقول «ما قل وكفي خير مما كثر والهي».

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا».

وروي جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «القناعة مال لا ينفد». وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع الحكمة، وعدوا أنفسكم في الموتي، واسألوا الله تعالى الرزق يوما بيوم، ولا يضركم ألا يكثر لكم.

وأخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبي الفضل والده أنا أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله الشاوي قال أنا أحمد بنعلى الحافظ قال أنا أبو عمرو بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال حدثنا عمرو بن مالك البصري قال حدثنا مروان بن معاوية قد حدثنا عبد الرحمن بن أبي سلمة الأنصاري قال أخبرني سلمة بن عبد الله بن محصن عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصبح آمنا في سربه، معافي في بدينه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».

وقيل في تفسير قوله تعالى {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} (١). هي القناعة.

فالصوفي قوام على نفسه بالقسط، عالم بطبائع النفس، وجدوي القناعة والتوصل إلى استخراج ذلك من النفس لعلمه بدائها ودوائها.

وقال أبو سليمان الداراني: القناعة من الرضا كما أن الورع من الزهد.

ومن أخلاق الصوفية ترك المراء والمجادلة إلا بحق، واعتماد الرفق والحلم، وذلك أن النفوس تثبت وتظهر في الممارين. والصوفي كلما رأي نفس صاحبة ظاهرة قابلها بالقلب، وإذا قوبلت النفس بالقلب ذهبت الوحشة، وانطفأت الفتنة. قال الله تعالى تعلىما لعباده {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)} (٢).

ولا ينزع المراء إلا من نفوس زكية انتزع منها الغل، ووجود الغل في النفوس مراء الباطن، وإذا انتزع المراء من الباطن ذهب من الظاهر أيضا. وقد يكون الغل في النفس مع من يشاكله ويماثله لوجود المنافسة. من استقصي في تذويب النفس بنار الزهادة في الدنيا ينمحي الغل من باطنه، ولا يبقي عنده منافسة دنيوية في حظوظ عاجلة من جاه ومال. قال الله تعالى في وصف أهل الجنة المتقين {ونَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (٣).

قال أبو حفص: كيف يبقي الغل في قلوب ائتلفت بالله، واتفقت على محبته، واجتمعت على مودته، وأنست بذكره، فإن تلك قلوب صافية من هواجس النفوس، وظلمات الطبائع، بل كحلت بنور التوفيق، فصارت إخوانا.

فهكذا قلوب أهل التصوف والمجتمعين على الكلمة الواحدة، ومن التزم بشروط الطريق والانكباب على الظفر بالتحقيق.

__________

١) سورة النحل: الآية ٩٧.

٢) سورة فصلت: الآية ٣٤.

٣) سورة الأعراف: الآية ٧.

والناس رجلان:

رجل طالب ما عند الله تعالى، ويدعو إلى ما عند الله نفسه وغيره، فما للمحقق الصوفي مع هذا منافسة ومراء وغل، فإن هذا معه في طريق واحد، ووجهة واحدة، وأخوه ومعينه والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا.

ورجل مفتتن بشيء من محبة الجاه والمال والرياسة ونظر الخلق، فما للصوفي مع هذا منافسة، لأنه زهد فيما فيه رغب. فمن شأن الصوفي أن ينظر إلى مثل هذا نظر رحمة وشفقة حيث يراه محجوبا مفتتنا فلا ينطوي له على غل، ولا يماريه في الظاهر على شيء، لعلمه بظهور نفسه الأمارة بالسوء في المراء والمجادلة.

أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفتح الهروي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا أبو محمد الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا المحاربي عن ليث عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تماري أخاك، ولا تعده موعدا فتخلفه».

وفي الخبر «من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها».

وأخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب قال أنا أبو عبد الرحمن السهروردي محمد بن أبي عبد الله الماليني قال أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي قال أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي قال أنا أبو عمران عيسي السمرقندي قال أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال حدثنا يحيي ابن بسطام عن يحيي بن حمزة قال حدثني النعمان بن مكحول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من طلب العلم ليباهي به

العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يريد أن يقبل بوجوه الناس إليه، أدخله الله تعالى جهنم».

أنظر كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المماراة مع السفهاء سببا لدخول النار، وذلك بظهور نفوسهم في طلب القهر والغلبة، والقهر والغلبة من صفات الشيطنة في الآدمي.

وقال بعضهم: المجادل المماري يضع في نفسه عند الخوض في الجدال أن لا يقنع بشيء، ومن لا يقنع إلا أن لا يقنع فما إلى قناعته سبيل. فنفس الصوفي تبدلت صفاتها، وذهب عنه صفة الشيطنة والسبعية، وتبدل باللين والرفق والسهولة والطمأنينة.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه».

أنظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم من شرط الإسلام سلامة القلب واللسان.

وروي عنه عليه السلام «أنه مر بقوم وهم يجدون حجرا قال ما هذا؟ قالوا: هذا حجر الأشداء، قال: «ألا أخبركم بأشد من هذا؟ رجل كان بينه وبين أخيه غضب فأتاه فغلب شيطانه وشيطان أخيه فكلمه».

وروي أنه جاء كلام لأبي ذر وقد كسر رجل شاة، فقال أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ فقال أنا؟ قال ولم فعلت ذلك؟ قال عمدا فعلت، قال ولم؟ قال أغيظك فتضربني فتأثم، فقال أبو ذر: لأغيظن من حضك على غيظي، فأعتقه.

وروي الأصمعي عن أعرابي قال: إذا أشكل علىك أمران لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما إلى هواك، فإن أكثر ما يكون الخطأ من متابعة الهوي.

أخبرنا أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل قال أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن على قال أنا خورشيد قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن سليم قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سعيد بن سعد عن أخيه عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية الله في السر والعلانية، والحكم بالحق عند الغضب والرضا، والاقتصاد عند الفقر والغني، وأما المهلكات فشح مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه».

فالحكم بالحق عند الغضب والرضا لا يصح إلا من عالم رباني، أمير على نفسه، يصرفها بعقل حاضر، وقلب يقظان، ونظر إلى الله بحسن الاحتساب.

نقل إنهم كانوا يتوضأون عن إيذاء المسلم يقول بعضهم: لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلى من أتوضأ من طعام طيب.

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الحدث حدثان: حدث من فرجك، وحدث من فيك.

فلا يحل حبوة الوقار والحلم إلا الغضب، ويخرج عن حد العدل إلى العدوان بتجاوز الحد. فبالغضب يثور دم القلب، فإن كان الغضب على من فوقه مما يعجز عن إنقاذ الغضب فيه ذهب الدم من ظاهر الجلد، واجتمع في القلب، ويصير منه الهم والحزن والانكماد، ولا ينطوي الصوفي على مثل هذا، لأنه يري الحوادث والأعراض من الله تعالى، فلا ينكمد ولا يغتم، والصوفي صاحب الرضا صاحب الروح والراحة. والنبي عليه السلام أخبر أن الهم والحزن في الشك والسخط.

سئل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن الغم والغضب قال: مخرجهما واحد واللفظ يختلف، فمن نازع من يقوي عليه أظهره غضبا،

ومن نازع من لا يقوي عليه كتمه حزنا. الحرد غضب أيضا، ولكن يستعمل إذا قصد المغضوب عليه. وإن كان الغضب على من يشاكله ويماثله ممن يتردد في الانتقام منه يتردد دم القلب بين الانقباض والانبساط، فيتولد منه الغل والحقد، ولا يأوي مثل هذا إلى قلب الصوفي. قال الله تعالى {ونَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (١).

وسلامة قلب الصوفي وحاله يقذف زبد الغل والحقد كما يقذف البحر الزبد، لما فيه من تلاطم أمواج الأنس والهبة. وإن كان الغضب على من دونه ممن يقدر على الانتقام منه ثار دم القلب، والقلب إذا ثار دمه يحمر ويقسو ويتصلب، وتذهب عنه الرقة والبياض، ومنه تحمر الوجنتان، لأن الدم في القلب ثار وطلب الاستعلاء، وانتفخت منه العروق، فظهر عكسه وأثره على الخد، فيتعدي الحدود حينئذ بالضرب والشتم، ولا يكون هذا في الصوفي إلا عند هتك الحرمات والغضب لله تعالى، فأما في غير ذلك فينظر الصوفي عند الغضب إلى الله تعالى، ثم تقواه تحمله على أن يزن حركته وقوله بميزان الشرع والعدل، ويتهم النفس بعدم الرضا بالقضاء.

قيل لبعضهم: من أقهر الناس لنفسه؟ قال: أرضاهم بالمقدور.

وقال بعضهم: أصبحت وما لي سرور إلا مواقع القضاء.

وإذا اتهم الصوفي النفس عند الغضب تداركه العلم، وإذا لاح علم العلم قوي القلب وسكنت النفس، وعاد دم القلب إلى موضعه ومقره، واعتدل الحال، وغاضت حمرة الخد، وبانت فضيلة العلم.

قال عليه السلام: «السمت الحسن والتودد والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزء من النبوة».

__________

١) سورة الأعراف: الآية ٧.

وروي حارثة بن قدامة قال: قلت يا رسول الله أوصني وأقلل لعلى أعيه، قال «لا تغضب» فأعاد عليه كل ذلك يقول «لا تغضب» قال عليه السلام «إن الغضب جمرة من النار، ألم تنظروا حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، من وجد ذلك منكم فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع».

أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنبأنا أبو الفتح الهروي قال أنا أبو النصر الترياقي قال أنا الجراحي قال أنا المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا بشر بن المضل عن قرة بن خالد عن أبي حمزة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس «إن فيك خصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة».

ومن أخلاق الصوفية التودد والتآلف والموافقة مع الإخوان وترك المخالفة. قال الله تعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم {أَشِدّاءُ عَلَي الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (١). لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (٢).

والتودد والتآلف من ائتلاف الأرواح على ما ورد في الخبر الذي أوردناه، فما تعارف منها ائتلف. قال الله تعالى {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا} (٣).

وقال سبحانه تعالى: {واِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا} (٤).

وقال عليه السلام «المؤمن آلف مألوف، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».

وقال عليه السلام «مثل المؤمنين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخري، وما التقي مؤمنان إلا استفاد أحدهما من صاحبه خيرا».

__________

١) سورة الفتح: الآية ٢٩.

٢) سورة الأنفال: الآية ٦٣.

٣) سورة آل عمران: الآية ١٠٣.

٤) سورة آل عمران: الآية ١٠٣.

وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ: إني أحبك في الله، فقال أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس وهم لا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قيل من هؤلاء يا رسول الله؟ قال المتحابون في الله».

وقيل: لو تحاب الناس وتعاطوا أسباب المحبة لاستغنوا بها عن العدالة.

وقيل: العدالة خليفة المحبة، تستعمل حيث لا توجد المحبة.

وقيل: طاعة المحبة أفضل من طاعة الرهبة، فإن طاعة المحبة من داخل، وطاعة الرهبة من خارج.

ولهذا المعني كانت صحبة الصوفية مؤثرة من البعض في البعض، لأنهم لما تحابوا في الله تواصوا بمحاسن الأخلاق، ووقع القبول بينهم لوجود المحبة، فانتفع لذلك المريد بالشيخ، والأخ بالأخ، ولهذا المعني أمر الله تعالى باجتماع الناس في كل يوم خمس مرات في المساجد، أهل كل درب وكل محلة، وفي الجامع في الأسبوع مرة أهل كل بلد، وانضمام أهل السواد إلى البلدان في الأعياد في جميع السنة مرتين، وأهل الأقطار من البلدان المتفرقة في العمر مرة للحج، كل ذلك لحكم بالغة، منها تأكيد الألفة والمودة بين المؤمنين. وقال عليه السلام «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

أخبرنا أبو زرعة قال أنا والدي أبو الفضل قال أنا أبو نصر محمد بن سلمان العدل قال أنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي قال أنا أبو العباس عبد الله بن يعقوب الكرماتي قال حدثنا يحيي الكرماني قال حدثنا حماد بن زيد عن مجالد بن سعد عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ألا إن مثل المؤمنين في توادهم وتحابهم

وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكي عضو منه تداعي سائره بالسهر والحمي».

والتآلف والتودد يؤكد أسباب الصحبة، والصحبة مع الأخيار مؤثرة جدا.

وقبل قيل: لقاء الإخوان لقاح.

ولا شك أن البواطن تتلقح ويتقوى البعض بالبعض، بل بمجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحا، والنظر في الصور يؤثر أخلاقا مناسبة لخلق المنظور إليه، كدوام النظر إلى المخزون يحزن، ودوام النظر إلى المسرور يسر.

وقد قيل: من لا ينفك لحظه لا ينفك لفظه. والجمل الشرود يصير ذلولا بمقارنة الجمل الذلول، فالمقارنة لها تأثير في الحيوان والنبات والجماد، والماء والهواء يفسدان بمقارنة الجيف. والزروع تنفي عن أنواع العروق في الأرض والنبات لموضع الإفساد بالمقارنة. وإذا كانت المقارنة مؤثرة في هذه الأشياء، ففي النفوس الشريفة البشرية أكثر تأثيرا.

وسمي الإنسان إنسانا لأنه يأنس بما يراه من خير وشر.

والتآلف والتودد مستجلب للمزيد، وإنما العزلة والوحدة تحمد بالنسبة إلى أراذل الناس وأهل الشر، فأما أهل العلم والصفاء والوفاء والأخلاق الحميدة فيغتنم مقارنتهم، والاستئناس بهم استئناس بالله تعالى، كما أن محبتهم محبة الله، والجامع معهم رابطة الحق، ومع غيرهم رابطة الطبع.

فالصوفي مع غير الجنس كائن بائن، ومع الجنس كائن معاين. والمؤمن مرآة المؤمن، إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء أقواله وأعماله وأحواله تجليات إلهية، وتعريفات وتلويحات من الله الكريم خفية، غابت عن الأغيار، وأدركها أهل الأنوار.

ومن أخلاق الصوفية شكر المحسن على الإحسان، والدعاء له، وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم، وصفاء توحيدهم، وقطعهم النظر إلى الأغيار، ورؤيتهم النعم من المنعم الجبار، ولكن يفعلون ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال «ما من الناس أحد آمن علىنا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا».

وقال «ما نفعني مال كمال أبي بكر».

فالخلق حجبوا عن الله بالخلق في المنع والعطاء.

فالصوفي في الابتداء يفني عن الخلق، ويري الأشياء من الله حيث طالع ناصيته التوحيد، وخرق الحجاب الذي منع الخلق عن صرف التوحيد، فلا يثبت للخلق منعا ولا عطاء، ويحجبه الحق عن الخلق، فإذا ارتقي إلى ذروة التوحيد يشكر الخلق بعد شكر الحق، ويثبت لهم وجودا في المنع والعطاء، بعد أن يري المسبب أولا، وذلك لسعة علمه وقوة معرفته يثبت الوسائط، فلا يحجبه الخلق عن الحق كعامة المسلمين، ولا يحجبه الحق عن الخلق كأرباب الإرادة والمبتدئين، فيكون شكره للحق، لأنه المنعم والمعطي والمسبب، ويشكر الخلق لأنهم واسطة وسبب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول ما يدعي إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله تعالى في السراء والضراء».

وقال عليه السلام «من عطس أو تجشأ فقال الحمد لله على كل حال، دفع الله تعالى بها سبعين داء أهونها الجذام».

وروي جابر رضي الله عنها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من عبد ينعم عليه بنعمة فحمد الله إلا كان الحمد أفضل منها».

فقوله عليه السلام «كان الحمد أفضل منها» يحتمل أن يرضي الحق بها شكرا، ويحتمل أن الحمد أفضل منها نعمة، فتكون نعمة الحمد أفضل من

النعمة التي حمد عليها، فإذا شكروا المنعم الأول يشكرون الواسطة المنعم من الناس ويدعون له.

روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم قال «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، ونزلت علىكم السكينة».

أخبرنا أبو زرعة عن أبيه قال أنا أحمد بن محمد بن أحمد البزار قال أنا أبو حفص عمر بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال أنا عمرو بن زرارة قال حدثنا عيينة بن يونس عن موسي بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال لأخيه:

جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء».

ومن أخلاق الصوفية بذل الجاه للإخوان والمسلمين كافة، فإذا كان الرجل وافر العلم، بصيرا بعيوب النفس وآفاتها وشهواتها، فليتوصل إلى قضاء حوائج المسلمين ببذل الجاه والمعاونة في إصلاح ذات البين. وفي هذا المعني يحتاج إلى مزيد علم لأنها أمور تتعلق بالخلق ومخالطتهم ومعاشرتهم، ولا يصلح ذلك إلا لصوفي تام الحال عالم رباني.

روي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان نبي من الأنبياء يأخذ بركاب الملك يتألفه بذلك لقضاء حوائج الناس.

وقال عطاء: لأن يراني الرجل سنين فيكتسب جاها يعيش فيه مؤمن أتم له من أن يخلص العمل لنجاة نفسه.

وهذا باب غامض لا يؤمن أن يفتتن به خلق من الجهال المدعين، ولا يصح هذا إلا لعبد اطلع الله على باطنه، فعلم منه ألا رغبة له في شيء من الجاه والمال. ولو أن ملوك الأرض وقفوا في خدمته ما طغي ولا استطال ولو دخل إلى أتون يوقد ما ظهرت نفسه بصريح الإنكار لهذا الحال.

وهذا لا يصلح إلا لآحاد من الخلق وأفراد من الصادقين ينسلخون عن إرادتهم واختيارهم، ويكاشفهم الله تعالى بمراده منهم، فيدخلون في الأشياء بمراد الله تعالى، فإذا علموا أن الحق يريد منهم المخالطة وبذل الجاه يدخلون في ذلك بغيبة صفات النفس.

وهذا لأقوام ماتوا ثم حشروا، وأحكموا مقام الفناء ثم رقوا إلى مقام البقاء، فيكون لهم في كل مدخل ومخرج برهان وبيان وإذن من الله تعالى، فهم على بصيرة من ربهم، وهذا ليس فيهم ارتياب لصاحب قلب مكاشف بصريح المراد في خفي الخطاب، فيأخذ وقته أبدا من الأشياء، ولم تأخذ الأشياء من وقته، ولا يكون في قطر من الأقطار إلى واحد متحقق بهذا الحال.

قال أبو عثمان الحيري: لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء: المنع، والعطاء، والعز، والذل، ولمثل هذا الرجل يصلح بذل الجاه والدخول فيما ذكرناه.

قال سهل بن عبد الله: لا يستحق الإنسان الرياسة حتى تجتمع فيه ثلاث خصال: يصرف جهله عن الناس، ويحتمل جهل الناس، ويترك ما في أيديهم، ويبذل ما في يده لهم.

وهذه الرياسة ليست عين الرياسة التي زهد فيها وتعين الزهد فيها لضرورة صدقه وسلوكه، وإنما هذه رياسة أقامها الحق لصلاح خلقه، فهو فيها بالله يقوم بواجب حقها وشكر نعمتها لله تعالى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!