موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثاني والثلاثون في آداب الحضرة الإلهية

الباب الثاني والثلاثون في آداب الحضرة الإلهية

كل الآداب تتلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه عليه السلام مجمع الآداب ظاهرا وباطنا.

و أخبر الله تعالى عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغي (١٧)} (١).

وهذه غامضة من غوامض الآداب اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبر الله تعالى عن اعتدال قلبه المقدس في الإعراض والإقبال، أعرض عما سوي الله، وتوجه إلى الله، وترك وراء ظهره الأرضين والدار العاجلة بحظوظها، والسموات والدار الآخرة بحظوظها.

فما التفت إلى ما أعرض عنه، ولا لحقه الأسف على الغائب في إعراضه: قال الله تعالى: {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلي ما فاتَكُمْ} (٢).

فهذا الخطاب للعموم، وما زاغ البصر إخبار عن حال النبي عليه السلام بوصف خاص من معني ما خاب به العموم.

فكان ما زاغ البصر حاله في طرف الإعراض، وفي طرف الإقبال تلقي ما ورد عليه في مقام قاب قوسين بالروح والقلب.

ثم فر من الله تعالى حياء منه وهيبة وإجلالا، وطوي نفسه بفراره في مطاوي انكساره وافتقاره، لكيلا تنبسط النفس فتطغي.

فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس، قال الله تعالى: {كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغي (٦) أَنْ رَآهُ اِسْتَغْني (٧)} (٣).

__________

١) سورة النجم: الآية ١٧.

٢) سورة الحديد: الآية ٢٣.

٣) سورة العلق: الآيات ٦ - ٧.

والنفس عند المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع، ومتي نالت قسطا من المنح استغنت وطغت، والطغيان يظهر منه فرط البسط، والإفراط في البسط يسد باب المزيد، وطغيان النفس لضيق وعائها عن المواهب.

فموسي عليه السلام صح له في الحضرة أحد طرفي ما زاغ البصر، وما التفت إلى ما فاته، وما طغي متأسفا لحسن أدبه، ولكن امتلأ من المنح، واسترقت النفس السمع، وتطلعت إلى القسط والحظ.

فلما حظيت النفس استغنت، وطفح عليها ما وصل إليها، وضاق نطاقها، فتجاوز الحد من فرط البسط، وقال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (١). فمنع ولم يطلق في فضاء المزيد، وظهر الفرق بين الحبيب والكليم عليهما السلام.

وهذه دقيقة لأرباب القرب والأحوال السنية، فكل قبض يوجد عقوبة، لأن كل قبض سد في وجه باب الفتوح، والعقوبة بالقبض أوجبت الإفراط في البسط.

ولو حصل الاعتدال في البسط ما وجبت العقوبة بالقبض، والاعتدال في البسط بإيقاف النازل من المنح على الروح والقلب، والإيقاف على الروح والقلب بما ذكرناه من حال النبي عليه السلام من تغييب النفس في مطاوي الانكسار.

فذلك الفرار من الله إلى الله وهو غاية الأدب، حظي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قوبل بالقبض، فدام مزيده وكان قاب قوسين أو أدني.

و يشاكل الشرح الذي شرحناه قول أبي العباس ابن عطاء في قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغي (١٧)} (٢).

__________

١) سورة الأعراف: الآية ١٤٣.

٢) سورة النجم: الآية ١٧.

قال: لم يره بطغيان يميل بل رآه على شروط اعتدال القوي.

وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدا بكليته لربه، يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل.

وهذا الكلام لمن اعتبر موافق لما شرحناه برمز في ذلك عن سهل ابن عبد الله.

ويؤيد ذلك أيضا ما أخبرنا به شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إجازة قال: أنا الشيخ العالم عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفار النيسابوري. قال أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا نصر بن عبد الله بن على السراج قال أنا أبو الطيب العكي عن أبي محمد الجريري.

قال: التسرع إلى استدراك علم الانقطاع وسيلة، والوقوف على حد الانحسار نجاة، واللياذ بالهرب من علم الدنو وصلة، واستقباح ترك الجواب ذخيرة، والاعتصام من قبول دواعي استماع الخطاب تكلف، وخوف فوت علم ما انطوي من فصاحة الفهم في حيز الإقبال مساءة، والإصغاء إلى تلقي ما ينفصل عن معدنه بعد، والاستسلام عند التلاقي جراءة، والانبساط في محل الأنس غرة. وهذه الكلمات كلها من آداب الحضرة لأربابها.

وفي قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغي (١٧)} (١).

وجه آخر ألطف مما سبق (ما زاغ البصر) حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر (وما طغي) لم يسبق البصر البصيرة، فيتجاوز حده، ويتعدي مقامه، بل استقام البصر مع البصيرة، الظاهر مع الباطن، والقلب مع القالب، والنظر مع القدم.

__________

١) سورة النجم: الآية ١٧.

ففي تقدم النظر على القدم طغيان، والمعني بالنظر علم، وبالقدم حال القالب، فلم يتقدم النظر على القدم فيكون طغيانا، ولم يتخلف القدم عن النظر فيكون تقصيرا.

فلما اعتدلت الأحوال، صار قلبه كقالبه، وقالبه كقلبه، وظاهره كباطنه، وباطنه كظاهرة، وبصره كبصيرته، فحيث انتهي نظره وعلمه قارنه قدمه وحاله، ولهذا المعني انعكس حكم معناه، ونوره على ظاهره، وأتي البراق ينتهي خطوه حيث ينتهي نظره، لا يتخلف قدم البراق عن موضع نظره.

كما جاء في حديث المعراج، فكان البراق بقالبه مشاكلا لمعناه، ومتصفا بصفته، لقوة حاله ومعناه.

و أشار في حديث المعراج إلى مقامات الأنبياء ورأي في كل سماء بعض الأنبياء إشارة إلى تعويقهم وتخلفهم عن شأوه ودرجته، ورأي موسي بعض السموات، فمن هو في بعض السموات يكون قوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (١).

تجاوزا للنظر عن حد القدم، وتخلقا للقدم عن النظر، وهذا هو الإخلال بأحد الوصفين من قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغي} (٢).

فرسول الله حمل مقترنا قدمه ونظره في حجال الحياء والتواضع ناظرا إلى قدمه، قادما على نظره، ولو خرج عن حجال الحياء والتواضع، وتطاول بالنظر متعديا حد القدم، تعوق في بعض السموات كتعوق غيره من الأنبياء فلم يزل صلى الله عليه وسلم متجلس حجاله في خفارة أدب حاله.

حتي خرق حجب السموات، فانصبت إليه أقسام القرب انصبابا، وانقشعت عنه سحائب الحجب جحابا حجابا، حتى استقام على

__________

١) سورة الأعراف: الآية ١٤٣.

٢) سورة النجم: الآية ١٧.

صراط: {ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغي (١٧)} (١). فمر كالبرق الخاطف إلى مخدع الوصل واللطائف، وهذا غاية في الأدب، ونهاية في الأرب.

قال أبو محمد بن رويم حين سئل عن أدب المسافر فقال: لا يجاوز همه قدمه، فحيث وقف قلبه يكون مقره.

أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إجازة: قال: أنا عمر بن أحمد قال أنا أبو بكر بن خلف قال أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال حدثنا القاضي أبو محمد يحيي بن منصور قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن على الترمذي قال حدثنا محمد بن رزام الأبلي قال حدثنا محمد بن عطاء الهجيمي قال حدثنا محمد بن نصير عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (٢).

قال: «يا موسي إنه لا يرني حي إلا مات، ولا يابس إلى تدهده، ولا رطب إلى تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلي أجسادهم».

ومن آداب الحضرة ما قال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب. وهذا يختص ببعض الأحوال والأشياء دون البعض، ليس هو على الإطلاق.

لأن الله تعالى أمر بالدعاء وإنما الإمساك عن القول كما أمسك موسي عن الانبساط في طلب المآرب والحاجات الدنيوية حتى رفعه الحق مقاما في القرب، وأذن له في الانبساط وقال: اطلب مني ولو ملحا لعجينك، فلما بسط وقال: {رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (٣).

__________

١) سورة النجم: الآية ١٧.

٢) سورة الأعراف: الآية ١٤٣.

٣) سورة القصص: الآية ٢٤.

لأنه كان يسأل حوائج الآخرة، ويستعظم الحضرة أن يسأل حوائج الدنيا لحقارتها، وهو في حجاب الحشمة عن سؤال المحقرات.

ولهذا مثال في الشاهد. فإن الملك المعظم يسأل المعظمات، ويحتشم في طلب المحقرات، فلما رفع بساط حجاب الحشمة، صار في مقام خاص من القرب، يسأل الحقير كما يسأل الخطير.

قال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب، لأن معروفه مؤدب قلبه.

وقال بعضهم: يقول الحق سبحانه وتعالى: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفائي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فاختر أيهما شئت الأدب أو العطب.

وقول القائل هذا يشير إلى أن الأسماء والصفات تستقل بوجود محتاج إلى الأدب، لبقاء رسوم البشرية وحظوظ النفس، ومع لمعان نور عظمة الذات تتلاشي الآثار بالأنوار، ويكون معني العطب التحقق بالفناء، وفي ذلك العطب نهاية الأرب.

وقال أبو على الدقاق في قوله تعالى: {وأَيُّوبَ إِذْ نادي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (٨٣)} (١). لم يقل ارحمني لأنه حفظ أدب الخطاب.

وقال عيسي عليه السلام: «إن كنت قلته فقد علمته» ولم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة.

وقال أبو نصر السراج: أدب أهل الخصوصية من أهل الدين في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى

__________

١) سورة الأنبياء: الآية ٨٣.

الخواطر والعوارض والبوادي والعوائق، واستواء السر والعلانية، وحسن الأدب في مواقف الطلب، ومقامات القرب، وأوقات الحضور.

والأدب أدبان: أدب قول، وأدب فعل. فمن تقرب إلى الله تعالى بأدب فعله منحه محبة القلوب.

قال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم.

وقال أيضا: الأدب للعارف بمنزلة التوبة للمستأنف.

وقال النووي: من لم يتأدب للوقت فوقته مقت.

وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن حد استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء.

وقال ابن المبارك أيضا: قد أكثر الناس في الأدب ونحن نقول هو معرفة النفس. وهذه إشارة منه إلى أن النفس هي منبع الجهالات. وترك الأدب من مخامرة الجهل.

فإذا عرف النفس صادف نور العرفان على ما ورد «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ولهذا النور لا تظهر النفس بجهالة إلا ويقمعها بصريح العلم.

وحينئذ يتأدب، ومن قام بآداب الحضرة فهو بغيرها أقوم وعليها أقدر.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!