موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الحادي والخمسون في آداب المريد مع الشيخ

الباب الحادي والخمسون في آداب المريد مع الشيخ

أدب المريدين مع الشيوخ عند الصوفية من مهام الآداب، وللقوم في ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله ورَسُولِهِ واِتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)} (١).

روي عن عبد الله بن الزبير قال: قدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني تمتم، فقال أبو بكر: أمر القمقاع بن معبد، وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتها، فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقدموا لا تتكلموا بين يدي كلامه.

وقال جابر: كان ناس يضحون قبل رسول الله، فنهوا عن تقديم الأضحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: كان قوم يقولون: لو أنزل في كذا وكذا، فكرة الله ذلك.

وقالت عائشة رضي الله عنها: أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.

وقال الكلبي: لا تسبقوا رسول الله بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم به.

و هكذا أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار، لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره وقد استوفينا هذا المعني في باب المشيخة.

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:١.

وقيل: لا تقدمكوا ولا تمشوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروي أبو الدرداء قال: كنت أمشي أمام أبي بكر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟

وقيل: نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سئل الرسول عليه السلام عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوي فنهوا عن ذلك.

وهكذا أدب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكوت، ولا يقول شيئا بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ ووجد من الشيخ فسحة له في ذلك.

وشأن المريد في حضرة الشيخ كمن هو قاعد على ساحل بحر ينتظر رزقا يساق إليه، فتطلعه إلى الاستماع وما يرزق من طريق كلام الشيخ يحقق مقام إرادته وطلبه واستزادته من فضل الله.

وتطلعه إلى القول يرده عن مقام الطلب، والاستزادة إلى مقام إثبات شيء لنفسه وذلك جناية المريد.

وينبغي أن يكون تطلعه إلى مبهم من حالة يستكشف عنه بالسؤال من الشيخ، على أن الصادق لا يحتاج إلى السؤال باللسان في حضرة الشيخ بل يبادئه بما يريد.

لأن الشيخ يكون مستنطقا نطقه بالحق، وهو عند حضور الصادقين برفع قلبه إلى الله ويستمطر ويستسقي لهم، فيكون لسانه وقلبه في القول والنكطق مأخوذين إلى مهم الوقت من أحوال الطالبين المحتاجين إلى ما يفتح به عليه.

لأن الشيخ يعلم تطلع الطالب إلى قوله واعتداده بقوله، والقول كالبذر يقع في الأرض، فإذا كان البذر فاسدا لا ينبت، وفساد الكلمة بدخول الهوي فيها.

فالشيخ ينفي بذر الكلام عن شوب الهوي ويسلمه إلى الله، ويسأل الله المعونة والسداد ثم يقول فيكون كلامه بالحق من الحق للحق.

فالشيخ للمريدين أمين الإلهام كما أن جبريل أمين الوحي، فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوي، فالشيخ مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرا وباطنا، لا يتكلم بهوي النفس.

وهوي النفس في القول بشيئين:

أحدهما: طلب استجلاب القلوب وصرف الوجوه إليه، وما هذا من شأن الشيوخ.

والثاني: ظهور النفس ياستحلاء الكلام والعجب، وذلك خيانة عند المحققين. والشيخ فيما يجري على لسانه راقد النفس، تشغله مطالعة نعم الحق في ذلك، فاقد الحظ من فوائد ظهور النفس بالاستحلاء والعجب.

فيكون الشيخ لما يجري به الحق سبحانه وتعالى عليه مستمعا كأحد المستعمين

وكان الشيخ أبو السعود رحمه الله يتكلم مع الأصحاب بما يلقي إليه، وكان يقول: أنا في هذا الكلام مستمع كأحدكم، فأشكل ذلك على بعض الحاضرين.

وقال: إذا كان القائل هو يعلم ما يقول كيف كمستمع لا يعلم حتى يسمع منه، فرجع إلى منزله فرأي ليلته في المنام كأن قائلا يقول له:

أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر ويجمع الصدف في مخلاته والدر قد حصل معه، لكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر، ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل. ففهم بالمنام إشارة الشيخ في ذلك.

فأحسن أدب المريد مع الشيخ السكوت والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بماله فيه من الصلاح قولا وفعلا.

وقيل أيضا في قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله ورَسُولِهِ} (١) لا تطلبوا منزله وراء منزلته. وهذا من محاسن الآداب وأعزها.

وينبغي للمريد أن لا يحدث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ، بل يحب للشيخ كل منزلة عالية، ويتمني للشيخ عزيز المنبح وغرائب المواهب.

وبهذا يظهر جوهر المريد في حسن الإرادة، وهذا يعز في المريدين، فإرادته للشيخ تعطيه فوق ما يتمني لنفسه، ويكون قائما بآداب الإرادة.

قال السري رحمه الله: حسن الأدب ترجمان العقل.

وقال أبو عبد الله بن حنيف: قال لي رويم: يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا.

وقيل: التصوف كله أدب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن يلزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول.

ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (٢).

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:١.

٢) سورة الحجرات: آية رقم:٢.

كان ثابت بن قيسبن شماس في أذنه وقر، وكان جمهوري الصوت، فكان إذا كلم إنسانا جهر بصوته.

وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأدذي بصوته فأنزل الله تعالى الآية تأديبا له ولغيره.

أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبة الفتح الهروي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا أبو محمد الجراحي قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا محمد بن المثني.

قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قا حدثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي قال حدثني حايس بن أبي مليكة قال حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على صلى الله عليه وسلم.

فقال أبو بكر استعمله على قومه، فقال عمر لا تستعمله يا رسول الله فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى علت أصواتهما.

فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر ما أردت خلافك، فأنزل الله تعالى الاية، فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع كلامه حتى يستفهم

وقيل: لما نزلت الاية آلي أبو بكر أن لا يتكلم عند النبي إلا كأخ السرار.

فكهذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ لا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك وكثرة الكلام إلا إذا بسطه الشيخ.

فرفع الصوت نتيجة جلبات القلب الوقار، والوقار إذا سكن القلب عقل اللسان ما يقول.

وقد ينازل باطن بعض المريدين من الحرمة والوقار من الشيخ مالا يستطيع المريد أن يشبع النظر إلى الشيخ. وقد كنت أحم فيدخل على عمي وشيخي أبو النجيب السهروردي رحمه الله فيترشح جسدي عرقا.

وكنت أتمني العرق لتخفف الحمي، فكنت أجد ذلك عند دخول الشيخ على، ويكون في قدومه بركة وشفاء.

وكنت ذات يوم في البيت خاليا، وهناك منديل وهبه لي الشيخ وكان يتعمم به، فوقع قدمي على المنديل اتفاقا، فتألم باطني من ذلك وهالني الوطء بالقدم على منديل الشيخ، وانبعث من باطني من الاحترام ما أرجو بركته.

قال ابن عطاء في قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ} زجر عن الأدني لئلا يتخطي أحد إلى ما فوقه من ترك الحرمة.

وقال سهل في ذلك: لا تخاطبوه إلا مستفهمين.

وقال أبو بكر بن طاهر: لا تبدأوه الخطاب، ولا تجيبوه إلا على حدود الحرمة، {ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (١)، أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمد يأحمد كما ينادي بعضكم بعضا، ولكن فخموه واحترموه، وقولوا له يا نبي الله، يا رسول الله.

ومن هذا القبيل يكون خطاب المريد مع الشيخ، وإذا سكن الوقار القلب علم اللسان كيفية الخطاب.

ولما كلفت النفوس بمحبة الأولاد والأزواج، وتمكنت أهوية النفوس والطباع استخرجت من اللسان عبارات غريبة، وهي تحت وقتها صاغها كلف النفس وهواها، فإذا امتلأ القلب حرمة ووقارا يعلم اللسان العبارة.

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:٢.

وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدة فقال: ما يبكيك يا ثابت؟

قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (١) و أنا رفيع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار.

فمضي عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتا البكاء، فأتي إمرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال لها إذا دخلت بيت فرسي فسدي على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفته.

وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتي عاصم النبي وأخبره بخبره، فقال أذهب فادعه، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له إن رسول الله يدعوك، فقال اكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا ثابت؟

فقال: أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال له رسول الله: أما ترضي أن تعيش عيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ فقال قد رضيت ببشري الله تعالى ورسوله ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ الله} (٢).

قال أنس: كنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم المامة في حرب مسيلمة رأي ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم، فقال أف لهؤلاء وما يصتنعون.

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:٢.

٢) سورة الحجرات: آية رقم:٣.

ثم قال ثابت لسالم بن حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا ولم يزالا يقاتلان حتى قتل واستشهد ثابت كما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام، فقال له أعلم أن فلانا رجلا من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهو في ناحية من العسكر وعنده فرس يستن في طيه وقد وضع على درعي برمة.

فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله عليه السلام فقل له إن على دينا حتى يقضي عني، وفلان من عبيدي عتيق، فأخبر الرجل خالدا فوجد الدرع والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته.

قال مالك بن أنس رضي الله عنهما: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. فهذه كرامة ظهرت لثابت بحسن تقواه وأدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فليعتبر المريد الصادق ويعلم أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله، وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما قام القوم بواجب الأدب أخبر الحق عن حالهم وأثني عليهم فقال: {أُولئِكَ الَّذِينَ اِمْتَحَنَ الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوي} (١).

أي اختبر قلوبهم وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصة، وكما أن اللسان ترجمان القلب وتهذب اللفظ لتأدب القلب، فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ.

قال أبو عثمان: الأدب عند الأكابر، وقي مجالسة السادات من الأولياء، يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى، والخير في الأولى والعقبي، ألا تري إلى قول الله تعالى: {ولَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّي تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} (٢).

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:٣.

٢) سورة الحجرات: آية رقم:٥.

ومما علمهم اله تعالى قوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (١).

وكان هذا الحال من وفد بني تميم جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا يا محمد أخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين، قال فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي ذمه شين ومدحه زين، في قصة طويلة.

وكانوا أتوا بشاعرهم وخطيبهم، فغلبهم حسان ابن ثابت وشبان المهاجرين والأنصار بالخطبة.

وفي هذا تأدب للمريد في الدخول على الشيخ والإقدام عليه، وتركه الاستعجال، وصبره إلى أن يخرج الشيخ من موضع خلوته.

سمعت أن الشيخ عبد القادر رحمه الله كان إذا جاء إليه فقير زائر يخبر بالفقير فيخرج ويفتح جانب الباب ويصافح الفقير ويسلم عليه ولا يجلس معه ويرجع إلى خلوته.

وإذا جاء أحد ممن ليس من زمرة الفقراء يخرج ويجلس معه، فخطر لبعض الفقراء نوع إنكار لتركه الخروج إلى الفقير وخروجه لغير الفقير، فانتهي ما خطر للفقير إلى الشيخ، فقال الفقير رابطتنا معه رابطة قلبية وهو أهل وليس عنده أجنبيه، فتكتفي معه بموافقة القلوب وتقنع بها عن ملاقاة الظاهر بهذا القدر.

وأما من هو من غير جنس الفقراء فهو واقف مع العادات والظاهر، فمتي لم يعرف حقه من الظاهر استوحش، فحق المريد عمارة الظاهر والباطن بالأدب مع الشيخ.

__________

١) سورة الحجرات: آية رقم:٤.

قيل لأبي منصور المغربي: كم صحبت أبا عثمان؟ قال: خدمته لا صحبته، فالصحبة مع الإخوان والأقران، ومع المشايخ الخدمة.

وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ يذكر قصة موسي مع الخضر عليهما السلام، كيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها موسي.

وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع موسي عن إنكاره. فما ينكره المريد لقلة علمه بقيقة ما يوجد من الشيخ، فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة.

سأل بعض أصحاب الجنيد مسألة من الجنيد، فأجابه الجنيد، فعارضه في ذلك، فقال الجنيد: (فإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون).

وقال بعض المشايخ: من لم يعظم حرمة من تأدب به حرم بركة ذلك الأدب.

وقيل: من قال لأستاذه لا، لا يفلح أبدا.

أخبرنا شيخنا ضياء الدين عبد الوهاب بن على قال أنا أبو الفتح الهروي قال أنا أبو نصر الترياقي قال أنا أبو محمد الجراحي.

قال أنا أبو العباس المحبوبي قال أنا أبو عيسي الترمذي قال حدثنا هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتركوني ما تركتم، وإذا حدثتكم فخذوا مني، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.

قال الجنيد رحمه الله: رأيت مع أبي حفص النيسابوري إنسانا كثير الصمت لا يتكلم، فقلت لأصحابه: من هذا؟

فقيل لي: هذا إنسان يصحب أبا حفص ويخدمنا، وقد أنفق عليه مائة ألف درهم كانت له، واستدان مائة ألف أخري أنفقها عليه، ما يسوغ له أبو حفص أن يتكلم بكلمة واحدة.

وقال أبو يزيد البسطامي: صحبت أبا على السندي فكنت ألقنه ما يقيم فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفا.

وقال أبو عثمان: صحبت أبا حفص وأنا غلام حدث فطردني وقال لا تجلس عندي، فلم أجعل مكافأتي له على كلامه أن أولى ظهري إليه، فانصرفت أمشي إلى خلف ووجهي مقابل له حتى غبت عنه.

واعتقدت أن أحفر لنفسي بئرا على بابه وأنزل وأقعد فيه ولا أخرج منه إلا بإذن، فلما رأي ذلك مني قربني وقبلني وصيرني من خواص أصحابه إلى أن مات رحمه الله.

ومن آدابهم الظاهرة: أن المريد لا يبسط مع وجود الشيخ إلا لوقت الصلاة، فإن المريد من شأنه التبتل لخدمة، وفي السجادة إيماء إلى الاستراحة والتعزز.

ولا يتحرك في السماع مع وجود الشيخ إلا أن يخرج عن حد التمييز.

وهيبة الشيخ تملك المريد عن الاسترسال في السماع وتقيده، واستغراقه في الشيخ بالنظر إليه ومطالعة موارد فضل الحق عليه أنجع له من الإصغاء إلى السماع.

ومن الأدب أن لا يكتم عن الشيخ شيئا من حاله ومواهب الحق عنده، وما يظهر له من كرامة وإجابة، ويكشف للشيخ عن حاله ما يعلم الله تعالى منه، وما يستحي من كشفه بذكره لإيماء وتعريضا فإن المريد متى انطوي ضميره على شيء لا يكشفه للشيخ تصريحا أو تعويضا.

يصير على باطنه منه عقدة في الطريق، وبالقول مع الشيخ تنحل العقدة وتزول. ومن الأدب أن لا يدخل في صحبة الشيخ إلا بعد علمه بأن الشيخ قيم بتأديبه وتهذيبه، وأنه أقوم بالتأديب من غيره.

ومتي كان عند المريد تطلع إلى شيخ آخر لا تصفو صحبته، ولا ينفذ القول فيه، ولا يستعد باطنه لسراية حال الشيخ إليه، فإن المريد كلما أيقن تفرد الشيخ بالمشيخة عرف فضله وقويت محبته. والمحبة والتألف هو الواسطة بين المريد والشيخ.

وعلى قدر قوة المحبة تكون سراية الحال، لأن المحبة علامة التعارف، والتعارف علامة الجنسية، والجنسية جالبة للمريد حال الشيخ أو بعض حاله.

أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن سليمان قال أنا أبو الفضل حميد قال أنا الحافظ أبو نعيم قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا أنس بن أسلم قال حدثنا عتبة بن رزين عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من علم عبدا آية من كتاب الله فهو مولاه ينبغي له أن لا يخذله ولا يستأثر عليه، فمن فعل ذلك فقد فصم عروة من عري الإسلام.

ومن الأدب أن يراعي خطوات الشيخ في جزئيات الأمور وكلياتها ولا يستحقر كراهة الشيخ ليسير حركاته معتمدا على حسن خلق الشيخ وكمال حلمه ومداراته.

قال إبراهيم بن شيبان: كنا نصحب أبا عبد الله المغربي ونحن شبان ويسافر بنا في البراري والفلوات، وكان معه شيخ اسمه حسن، وقد صحبه سبعين سنه.

فكان إذا جري من أحدنا خطأ، وتغير عليه حال الشيخ، نتشفع إليه بهذا الشيخ حتى يرجع لنا إلى ما كان.

ومن أدب المريد مع الشيخ أن لا يستقل بوقائعه وكشفه دون مراجعة الشيخ، فإن الشيخ علمه أوسع وبابه المفتوح إلى الله أكبر، فإن كان واقعه المريد من الله تعالى يوافقه الشيخ ويمضيها له، وما كان من عند الله لا يختلف، وإن كان فيه شبهة تزول شبهة الواقعة بطريق الشيخ، ويكتسب المريد علما بصحبة الوقائع والكشوف.

فالمريد لعله في واقعته يخامره كمون إرادة في النفس، فيتشبك كمون الإرادة بالواقعة، مناما كان ذلك أو يقظه، ولهذا سر عجيب، ولا يقوم المريد باستئصال شأفة الكامن في النفس، وإذا ذكره للشيخ فما في المريد من كمون إرادة النفس مفقود في حق الشيخ.

فإن كان من الحق يتبرهن بطريق الشيخ، وإن كان ينزع واقعته إلى كمون هوي النفس تزول وتبرأ ساحة المريد، ويتحمل الشيخ ثقل ذلك لقوة حاله وصحة إيوائه إلى جناب الحق، وكمال معرفته.

ومن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه لا يستعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له، ولمساع كلامه وقوله متفرغ.

فكما أن للدعاء أوقاتا وآدابا وشروطا لأنه مخاطبة الله تعال، فللقول مع الشيخ أيضا آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى، ويسأل الله تعالى قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الأدب.

وقد نبه الحق سبحانه وتعالى على ذلك فيما أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} (١) يعني أمام مناجاتكم.

قال عبد الله بن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا حتى شقوا عليه وأحفوه بالمسئلة، فأدبهم الله تعالى وفطمهم عن ذلك، وأمرهم أن لا ينتجوه حتى يقدموا صدقة.

__________

١) سورة المجادلة: آية رقم:١٢.

وقيل: كان الأغنياء يأتون النبي عليه السلام ويغلبون الفقراء على المجلس حتى كره النبي عليه السلام طول حديثهم ومناجاتهم، فأمر الله تعالة بالصدقة عند المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته.

فأما أهل العسرة فلأنهم لم يجدوا شيئا، وأما أهل اليسره فبخلوا ومنعوا، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الرخصة، وقال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} (١).

وقيل: لما أمر الله تعالى بالصدقة لم يناج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على بن أبي طالب فقدم دينارا فتصدق به. وقال على: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية دعا علىا وقال ما تري في الصدقة كم تكون؟ دينارا قال على: لا يطيقونه، قال: كم؟ قال على:

تكون حبة أو شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لزهيد.

ثم نزلت الرخصة ونسخت الآية. وما نبه الحق عليه بالأمر بالصدقة وما فيه من حسن الأدب وتقييد اللفظ والاحترام ما نسخ والفائدة باقية.

أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن سلمان قال أنا أبو الفضل أحمد قال أنا الحافظ أبو نعيم قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا مطلب بن شعيب.

قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه.

فاحترام العلماء توفيق وهداية، وإهمال ذلك خذلان وعقوق.

__________

١) سورة المجادلة: آية رقم:١٣.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!