موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب السادس والخمسون في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية من ذلك

الباب السادس والخمسون في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية من ذلك

حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال أنا الشريف نور الهدي أبو طالب الزيتي، قال أنا كريمة المروزية، قالت أخبرنا أبو الهيثم الكشميهني.

قال أخبرنا أبو عبد الله الفريري، قال أنا أبو عبد الله البخاري - قال حدثنا عمر بن حفص، قال حدثنا أبي، قال حدثنا الأعمش قال حدثنا زيد بن وهب.

قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله تعالى إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفتح فيه الروح، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسلق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار.

وقال تعالى: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} (١).

أي حريز، لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها. ثم قال بعد ذكر تقلباته {ثُمَّ أَنْشَاناهُ خَلْقًا آخَرَ} (٢) قبل هذا الإنشاء نفخ الروح فيه.

__________

١) سورة المؤمنون: آية رقم:١٢،١٣.

٢) سورة المؤمنون: آية رقم:١٤.

وأعلم أن الكلام في الروح صعب المرام، والإمساك عن ذلك سبيل ذوي الأحلام. وقد عظم الله تعالى شأن الروح، وأسجل على الخلق بقلة العلم حيث قال: {وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلًا} (١).

وقد أخبرنا الله تعالى في كلامه عن إكرامه بني آدم فقال: {ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} (٢).

وروي أنه لما خلق الله تعالى آدم وذريته.

قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة.

فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.

فمع هذه الكرامة، واختياره سبحانه وتعالى إياهم على الملائكة، لما أخبر عن الروح أخبر عنهم بقلة العلم وقال: {ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (٣) الخ.

قال ابن عباس: قال اليهود للنبي عليه السلام: أخبرنا ما الروح، وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من أمر الله، ولم يكن نزل إليه فيه شيء، فلم يجبهم، فأتاه جبرائيل بهذه الآية.

وحيث أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخبار عن الروح وماهيته بإذن الله تعالى ووحيه، وهو صلوات الله عليه معدن العلم وينبوع الحكمة.

__________

١) سورة الإسراء: آية رقم:٨٥.

٢) سورة الإسراء: آية رقم:٧٠.

٣) سورة الإسراء: آية رقم:٣٥.

فكيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه، لا جرم لما تقاضت الأنفس الإنسانية المتطالعة إلى الفضول المتشوفة إلى المعقول، المتحركة بوضعها بالسكون فيه، والمنسورة بحرصها إلى كل تحقيق وكل تمويه.

وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر، وخاضت غمرات معرفة ماهية الروح، تاهت في التيه، وتنوعت أراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح.

ولو لزمت النفوس حدها، معترفة بعجزها، كان ذلك أجدر بها وأولى.

فأما أقاويل من ليس متمسكا بالشرائع، فتنزه الكتاب عن ذكرها، لأنها أقوال أبرزتها العقول التي ضلت عن الرشاد، وطبعت على الفساد، ولم يصبها نور الاهتداء، ببركة متابعة الأنبياء، فهم كما قال الله تعالى: {كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} (١).

{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وفِي آذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ} (٢) فلما حجبوا عن الأنبياء لم يسمعوا، وحيث لم يسمعوا لم يهتدوا، فأصروا على الجالات، وحجبوا بالمعقول عن المأمول.

والعقل حجة الله تعالى يهدي به قوما ويضل به قوما آخرين، فلم تنقل أقوالهم في الروح واختلافهم فيه. وأما المستمسكون بالشرائع، الذين تكلموا في الروح، فقوم منهم بطريق الاستدلال والنظر، وقوم منهم بلسان الذوق والوجد لا باستعمال الفكر، حتى تكلم في ذلك مشايخ الصوفية أيضا، وكان الأولى الإمساك عن ذلك، والتأدب بأدب النبي عليه السلام.

وقد قال الجنيد: الروح شيء استأثر الله بعلمه، ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود.

__________

١) سورة الكهف: آية رقم:١٠١.

٢) سورة فصلت: الآية ٥.

ولكن نجعل للصادقين محملا لأقوالهم وأفعالهم، ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة، حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسع القول في التفسير إلا نقل، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما تحتمل الآية من المعني، من غير القطع بذلك.

وإذا كان الأمر كذلك فللقول فيه وجه ومحمل.

قال أبو عبد الله النباحي: الروح جسم يلطف عن الحس، ويكبر عن اللمس، ولا يعبر عنه بأكثر من موجود.

وهو وإن منع عن العبارة، فقد حكم بأنه جسم، فكأنه عبر عنه.

وقال ابن عطاء: خلق الله الأرواح قبل الأجساد، لقوله تعالى: {ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ} يعني الأرواح {ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ} يعني الأجساد.

وقال بعضهم: الروح لطيف قائم في كثيف، كالبصر جوهر لطيف قائم في كثيف.

وفي هذا القول نظر.

وقال بعضهم: الروح عبارة، والقائم بالأشياء هو الحق.

وهذا فيه نظر أيضا، إلا أن يحمل على معني الإحياء، فقد قال بعضهم:

الإحياء صفة المحيي، كالتخليق صفة الخالق، وقال {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأمره كلامه، وكلامه ليس بمخلوق.

أي صار الحي حيا بقوله كن حيا، وعلى هذا لا يكون الروح معني في الجسد.

فمن الأقوال ما يدل على أن قائلة يعتقد قدم الروح، ومن الأقوال ما يدل على أنه يعتقد حدوثه.

ثم إن الناس مختلفون في الروح الذي سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال قوم: هو جبرائيل.

ونقل عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، ولكل وجه منه سبعون ألف لسان، ولكل لسان منه سبعون ألف لغة.

يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، ويخلق من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن الروح خلق من خلق الله، صورهم على صورة بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح.

وقال أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس.

وقال مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورءوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.

وقال سعيد بن حبير: لم يخلق الله تعالى أعظم من الروح غير العرش، ولوشاء أن يبلغ السموات والأرضيين السبع في لقمة لفعل.

صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة الآدميين، يقوم بوم القيامة عن يمين العرش والملائكة معه في صف واحد، وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولو لا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لأحرق أهل السموات من نوره.

فهذه الأقاويل لا تكون إلا نقلا وسماعا، بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.

و إذا كان الروح المسئول عنه شيئا من هذا المنقول فهو غير الروح الذي في الجسد.

فعلى هذا يسوغ القول في هذا الروح ولا يكون الكلام فيه ممنوعا.

وقال بعضهم: الروح لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره.

وقال بعضهم: الروح لم يخرج من كن لأنه لو خرج من كن كان عليه الذل.

قيل: فمن أي شيء خرج؟

قال: من بين جماله وجلاله سبحانه وتعالى بملاحظة الإشارة خصها بسلامه وحياها بكلامه، فهي معتقة من ذل كن.

وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح أمخلوفة هي؟

قال: نعم. ولو لا ذلك ما أقرت بالربوبية حيث قالت: «بلى» والروح هي التي قام بها البدن، واسنحق بها اسم الحياة، وبالروح ثبت العقل، وبالروح قامت الحجة، ولو لم يكن الروح كان العقل معطلا لا حجة عليه ولا له.

وقيل: إنها جوهر مخلوق ولكنها ألطف المخلوقات، وأصفي الجواهر وأنورها، وبها تتراءي المغيبات، وبها يكون الكشف لأهل الحقائق. وإذا حجبت الروح عن مراعاة السير أساءت الجوارح الأدب، ولذلك صارت الروح بين تجل واستتار، وقابض ونازع.

وقيل: الدنيا والآخرة عند الأورواح سواء.

وقيل: الأرواح أقسام: أرواح تجول في البرزخ، وتبصر أحوال الدنيا والملائكة، وتسمع ما تتحدث به في السماء عن أحوال الآدميين، وأرواح تحت العرش، وأرواح طيارة إلى الجنان وإلي حيث شاءت على أقدرها من السعي إلى الله أيام الحياة.

وروي سعيد بن المسيب عن سلمان قال: أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حتى يردها إلى جسدها.

وقيل: إذا ورد على الأروح ميت من الأحياء التقوا وتحدثوا وتساءلوا، ووكل الله بها ملائكة تعرض عليها أعمال الأحياء.

حتي إذا عرض على الأموات ما يعاقب به الأحياء في الدنيا من أجل الذنوب قالوا نعتذر إلى الله ظاهرا عنه، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى.

وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض الأعمال يوم الأثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضا وإشراقا فاتقوا الله تعالى ولا تؤذوا موتاكم.

وفي خبر آخر إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الموتي، فإن كان حسنا استبشروا، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا.

وهذه الأخبار والأقوال تدل على أنها أعيان في الجسد، وليست بمعان وأعراض.

سئل الواسطي: لأي علة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الخلق؟ قال: لأنه خلق روحه أولا، فوقع له صحبة التمكن والاستقرار.

ألا تراه يقول كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد أي لم يكن روحا ولا جسدا.

وقال بعضهم: الروح خلق من نور العزة، وإبليس من نار العزة، ولهذا قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (١) و لم يدر أن النور خير من النار.

قال بعضهم: قرن الله تعالى العلم بالروح، فهي، للطافتها تنمو بالعلم كما ينمو البدن بالغذاء، وهذا في علم الله، لأن علم الخلق قليل لا يبلغ ذلك.

والمختار عند أكثر متكلمي الإسلام: أن الإنسانية والحيوانية عرضان خلقا في الإنسان، والموت بعد مهما، وأن الروح هي الحياة بعينها، صار البدن بوجودها حيا، وبالإعادة إليه في القيامة يصير حيا.

وذهب بعض متكلمي الإسلام إلى أنه: جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة، لاشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو اختيار أبي المعالي الجويني.

وكثير منهم مال إلى أنه عرض، إلا أنه ردهم عن ذلك الأخبار الدالة على أنه جسم، لما ورد فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ، فحيث وصف بأوصاف دل على أنه جسم.

لأن العرض لا يوصف بأوصاف، إذ الوصف معني، والمعني لا يقوم بالمعني. واختار بعضهم أنه عرض.

سئل ابن عباس رضي الله عنهما. قيل: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان؟

قيل له: فأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: فأين يذهب لحمها إذا مرضت؟

وقال بعض من يتهم بالعلوم المردودة المذمومة وينسب إلى الإسلام: الروح تنفصل من البدن في جسم لطيف.

__________

١) سورة ص: آية رقم:٧٦.

وقال بعضهم: إنها إذا فارقت البدن تحل معها القوة الوهمية بتوسط النطقية، فتكون حينئذ مطالعة للمعاني والمحسوسات، لأن تجردها من هيآت البدن عند المفارقة غير ممكن.

وهي عند الموت شاعرة بالموت، وبعد الموت منخلية بنفسها مقهورة، وتتصور جميع ما كانت تعتقده حال الحياة، وتحس بالثواب والعقاب في القبر.

وقال بعضهم: أسلم المقالات أن يقال: الروح شيء مخلوق، أجري الله تعالى العادة أن يحيي البدن مادام متصلا به، وأنه أشرف من الجسد، يذوق الموت بمفارقة الجسد، كما أن الجسد بمارفته يذوق الموت، فإن الكيفية والماهية يتماشي العقل فيهما كما يتماشي البصر في شعاع الشمس.

ولما رأي المتكلمون أنه يقال لهم: الموجودات محصورة: قديم وجسم وجوهر وعرض، فالروح أي هؤلاء؟

فاختار قوم منهم: أنه عرض.

وقوم منهم: أنه جسم لطيف كما ذكرنا.

واختار قوم: أنه قديم، لأنه أمر، والأمر كلام، والكلام قديم.

فما أحسن الإمساك عن القول فيما هذا سبيله.

وكلام الشيخ أبي طالب المكي في كتابه: يدل على أنه يميل إلى أن الأرواح أعيان في الجسد، وهكذا النفوس، لأنه يذكر أن الروح تتحرك للخير، ومن حركتها يظهر نور في القلب يراه الملك فيلهم الخير عند ذلك، وتتحرك للشر.

ومن حركتها تظهر ظلمة في القلب فيري الشيطان الظلمة فيقبل بالإغواء.

وحيث وجدت أقوال المشايخ تشير إلى الروح أقول:

ما عندي في ذلك على معني ما ذكرت من التأويل دون أن أقطع به، إذ ميلي في ذلك إلى السكوت والإمساك فأقول، والله أعلم:

الروح الإنساني العلوي السماوي من عالم الأمر.

والروح الحيواني البشري من عالم الخلق.

والروح الحيواني البشري محل الروح العلوي ومورده.

والروح الحيواني جسماني لطيف حامل لقوة الحس والحركة ينبعث من القلب، أعني بالقلب ههنا المضغة اللحمية المعروفة الشكل، المودعة في الجانب الأيسر من الجسد، وينتشر في تجاريف العروق الضوراب.

وهذه الروح لسائر الحيوانات، ومنه تفيض قوي الحواس، وهو الذي قوامه بإجراء سنة الله بالغذاء غالبا، ويتصرف بعلم الطلب فيه باعتدال مزاج الأخلاط.

ولورود الروح الإنساني العلوي على هذا الروح تجنس الروح الحيواني، وبأين أرواح الحيوانات، واكتسب صفة اخري فصار نفسا محلا للنطق والإلهام.

قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها} (١) فتسويتها بورود الروح الإنساني عليها وانقطاعها عن جنس أرواح الحيوانات، فتكونت النفس بتكوين الله تعالى من الروح العلوي.

وصار تكون النفس التي هي الروح الحيواني من الآدمي من الروح العلوي في عالم الأمر كتكون حواء من آدم في عالم الخلق.

__________

١) سورة الشمس: آية رقم:٧،٨.

وصار بينهما من التآلف والتعاشق كما بين آدم وحواء، وصار كل واحد منهما يذوق الموت بمفارقة صاحبه.

قال الله تعالى: {وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} (١) فسكن آدم إلى حواء، وسكن الروح الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني وصيره نفسا.

وتكون من سكون الروح إلى نفس القلب وعني بهذا القلب اللطيفة التي محلها المضغة اللحمية، فالمضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطفية من عالم الأمر.

وكان تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر كتكون الذرية من آدم وحواء في عالم الخلق، ولو لا المساكنة بين الزوجين اللذين أحدهما النفس ما تكون القلب.

فمن القلوب قلب مطلع إلى الأب الذي هو الروح العلوي ميال إليه، وهو القلب المؤيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه حذيفة رضي الله عنه قال القلوب أربعة:

قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن.

وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر.

وقلب مربوط على غلافة فذلك قلب المنافق.

وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق.

فمثل الإيمن فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد. فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها.

__________

١) سورة الأعراف: آية رقم:١٨٩.

والقلب المنكوس ميال إلى الأم التي هي النفس الأمارة بالسوء. ومن القلوب قلب متردد في ميله إليها، وبحسب غلبة ميل القلب يكون حكمه من السعاد والشقاوة. والعقل جوهر الروح العلوي ولانه ولدال عليه، وتدبيره للقلب المؤيد والنفس الزكية المطمئنة تدبير الوالد المولد البار، والزوج للزوجة الصالحة.

وتدبيره للقلب المنكوس والنفس الأمارة بالسوء تدبير الوالد للولد العاق والزوج للزوجة السيئة، فمنكوس من وجه ومنجذب إلى تدبير هما من وجه إذ لا بد له منهما.

وقول القائلين وختلافهم في محل العقل، فمن قائل إن محله الدماغ.

ومن قائل إن محله القلب، كلام القاصرين عن درك حقيقة ذلك.

وختلافهم في ذلك لعدم استقرار العقل على نسق واحد، وانجذابه إلى البار تارة وإلي العاق أخري. وللقلب والدماغ نسبة إلى البار والعاق.

فإذا رؤي في تدبير العاقل قيل مسكنه الدماغ.

وإذا رؤي في تدبير البار قيل مسكنه القلب. فالروح العلوي يهم بارتفاع إلى مولاه شوقا وحنونا وتنزها عن الأكوان.

ومن الأكوان القلب والنفس، فإذا ارتقي الروح يحنو القلب إليه حنو الولد الحنين البار إلى الوالد، وتحن النفس إلى القلب الذي هو الولد حنين الوالدة الحنينة إلى ولدها. وإذا حنت النفس ارتقت من الأرض، وانزوت عروقها الضاربة في العالم السفلي، وانطوي هواها، وانحسمت مادته، وزهدت في الدنيا، وتجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود.

وقد تخلد النفس التي هي الأم إلى الأرض بوضعها الجبلي، لتكونها من الروح الحيواني الجنس، ومستندها في ركونها إلى الطبائع التي هي أركان

العالم السفلي. قال الله تعالى: {ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَي الْأَرْضِ واِتَّبَعَ هَواهُ} (١)

فإذا سكنت النفس التي هي الأم إلى الأرض، انجذب إليها القلب المنكوس، انجذاب الولد الميال إلى الوالدة المعوجة الناقصة، دون الوالد الكامل المستقيم، وتنجذب الروح إلى الولد الذي هو القلب.

لما جبل عليه من اجذب الوالد إلى ولده، فعند ذلك يتخلف عن حقيقة القيام بحق مولاه، وفي هذين الانجذابين يظهر حكم السعادة والشقاوة {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (٢).

وقد ورد في أخبار داود عليه السلام: أنه سأل ابنه سيمان: أين موضع العقل منك؟ قال: القلب، لأنه قلب الروح، والروح قالب الحياة.

وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان، روح الحياة وروح الممات، فإذا اجتمعا عقل الجسم. وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد يصير الحي ميتا. وروح الحية ما به مجاري الأنفاس وقوة الأكل والشرب وغيرهما.

وقال بعضهم: الروح نسيم طيب تكون به الحياة، والنفس ريح حارة تكون منها الحركة المذمومة والشهوات، ويقال: فلان حار الرأس.

وفي الفصل الذي ذكرناه يقع التنبيه بماهية النفس، وإشارة المشايخ بماهية النفس إلى ما يظهر من آثارها من الأفعال المذمومة والأخلاق المذمومة، وهي التي تعالج بحسن الرياضة إزالتها، وتبديلها، والأفعال الرديئة تزال والأخلاق الرديئة تبدل.

__________

١) سورة الأعراف: آية رقم:١٧٦.

٢) سورة يس: آية رقم:٣٨.

أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني قال أنا إجازة أبو سعيد محمد بن أبي العباس الخليلي، قال أنا القاضي محمد بن سعيد الفرخزادي قال أنا أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم.

قال أنا الحسين بن محمد بن عبد الله السفياني، قال حدثنا محمد بن الحسن اليقظيني، قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال حدثنا صفوان بن صالح، قال حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن خالد بن ريد عن سعيد بن أبي هلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الاية {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها (٩)} (١) وقف ثم قال اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وزكها أنت خير من زكاها.

وقيل: النفس لطيفة مودعة في القالب، منها الأخلاق والصفات المذمومة، كما أن الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة، كما أن العين محل الرؤية، والأذن محل السمع، والأنف محل الشم، والفم محل الذوق.

وهكذا النفس محل الأوصاف المذمومة، والروح محل الأوصاف المحمودة، وجميع أخلاق النفس وصفاتها من أصلين.

أحدهما: الطيش.

والثاني: الشره، وطيشها من جهلها، وشرهها من حرصها، وشبهت النفس في طيشها بكرة مستديرة على مكان أملس مصوب لا تزال متحركة بجلتها ووضعها، وشبهت في حرصها بالفراش الذي يلقي نفسه على ضوء المصباح، ولا يقنع بالضوء اليسير دون الهجوم على جرم الضوء الذي فيه هلاكه.

__________

١) سورة الشمس: آية رقم:٩.

فمن الطيش توجد العجلة وقلة الصبر، والصبر جوهر العقل، والطيش صفة النفس وهواها وروحها لا يغلبه إلا الصبر.

إذ العقل يقمع الهوي، ومن الشره يظهر الطمع والحرص، وهما اللذان ظهرا في آدم حيث طمع في الخلود، فحرص على أكل الشجرة.

وصفات النفس لها أصول من أصل تكونها، لأنها مخلوقة من تراب، ولها بحسبه وصف.

وقيل: وصف الضعف في الآدمي من التراب، ووصف البخل فيه من الطين، ووصف الشهوة فيه من الحمأ المسنون، ووصف الجهل فيه من الصلصال.

وقيل: قوله كالفخار، فهذا الوصف فيه شيء من الشيطنة لدخول النار في الفخار، فمن ذلك الخداع والحيل والحسد.

فمن عرف أصول النفس وجبلاتها، عرف أن لا قدرة له عليها بالاستعانة ببارئها وفاطرها، فلا يتحقق العبد بالإنسانية إلا بعد أن يدبر دواعي الحيوانية فيه بالعلم والعدل.

وهو رعاية طرفي الإفرط والتفريط، ثم بذلك تتقوى إنسانيته ومعناه، ويدرك صفات الشيطنة فيه، والأخلاق المذمومة وكمال إنسانيته، ويتقاضاه أن لا يرضي لنفسه بذلك، ثم تنكشف له الأخلاق التي تنازع بها الربوبية من الكبر والعز ورؤية النفس والعجب وغير ذلك.

فيري أن صرف العبودية في ترك المنازعة للربوبية، والله تعالى ذكر النفس في كلامه القديم بثلاثة أوصاف:

بالطمأنينة قال: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)} (١)

__________

١) سورة الفجر: آية رقم:٢٧.

وسماها لوامه قال: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ (٢)} (١)

وسماها أمارة فقال: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ} (٢)

وهي نفس واحدة، ولها صفات متغايرة، فإذا امتلأ القلب سكينة خلع الطمأنينة، لأن السكينة مزيد الإيمان، وفيها ارتقاء القلب إلى مقام الروح، لما منح من حظ اليقين، وعند توجه القلب إلى محل الروح تتوجه النفس إلى محل القلب، وفي ذلك طمأنينتها.

و إذا انزعجت من مقار جبلاتها ودواعي طبيعتها متطلعة إلى مقار الطمأنينة فهي لوامة، لأنها تعود باللائمة على نفسها، ولنظرها وعلمها بمحل الطمأنينة، ثم انجذابها إلى محلها التي كانت فيه أمارة بالسوء، وإذا أقامت في محلها لا يغشاها نور العلم فهي على ظلمتها أمارة بالسوء.

فالنفس والروح يتطاردان، فتارة يملك القلب دواعي الروح، وتارة يملكه دواعي النفس.

وما السر فقد شار القوم إليه، ووجدت في كلام القوم:

أن منهم من جعله بعد القلب وقبل الروح.

ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف، وقلوا السر محل المشاهدة، والروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة.

والسر لذي وقعت إشارة القوم إليه غير مذكور في كتاب الله، وإنما المذكور في كلام الله الروح والنفس وتنوع صفاتها، والقلب والفؤاد والعقل.

__________

١) سورة القيامة: آية رقم:١،٢.

٢) سورة يوسف: آية رقم:٥٣.

وحيث لم نجد في كلام الله تعالى ذكر السر بالمعني المشار إليه ورأينا الاختلاف في القول فيه.

وأشار قوم إلى أنه دون الروح، وقوم إلى أنه لطف من الروح فنقول والله أعلم:

الذي سموه سرا ليس هو بشيء مستقل بنفسه له وجود وذات كالروح والنفس، وإنما لما صفت النفس وتزكت انطلق الروح من وثاق ظلمة النفس، فأخذ في العروج إلى أوطان القرب، وانتزح القلب عند ذلك عن مستقره متطلعا إلى الروح.

فاكتسب وصفا زائد على وصفه، فانعجم على الواجدين ذلك الوصف حيث رأوه أصفي من القلب فسموه سرا.

ولما صار للقلب وصف زائد على وصفه بتطلعه إلى الروح، اكتسب الروح وصفا زائدا في عروجه، وانعجم على الواجدين فسموه سرا. والذي زعموا أنه ألطف من الروح، روح متصفة بوصف أخص مما عهدوه، والذي سموه قبل الروح سرا هو قلب اتصف بوصف زائد غير ما عهدوه.

وفي مثل هذا الترقي من الروح والقلب تترقي النفس إلى محل القلب، وتنخلع من وصفها، فتصير نفسا مطمئنة تريد كثيرا من مرادات القلب من قبل، إذا صار القلب يريد ما يريده مولاه، متبرئا عن الحول والقوة والإرادة والاختيار.

وعندها ذاق طعم صرف العبودية، حيث صار حرا عن إرادته واختياراته. وأما العقل فهو لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان.

وقد ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقعد فقعد، ثم قال له انطق فنطق، ثم قال له اصمت فصمت.

فقال وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي وسلطاني وجبروتي ما خلقت خلقا أحب إلى منك ولا أكرم على منك، بك أعرف، وبك أحمد، وبك أطاع، وبك آخذ، وبك أعطي، وإياك أعاتب، ولك الثواب، وعلىك العقاب، وما أكرمتك بشيء أفضل من الصبر.

وقال عليه السلام: لا يعجبكم إسلام رجل حتى تعلموا ما عقدة عقله.

وسألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت يا رسول الله بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: بالعقل في الدنيا والآخرة.

قالت: قلت: أليس يجزي الناس بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل يعمل بطاعة الله إلا من قد عقل، فبقدر عقولهم يعملون، وعلى قدر ما يعملون يجزون.

وقال عليه السلام إن الرجل لينطلق إلى المسجد فيصلي وصلاته لا تعدل جناح بعوضة، وإن الرجل ليأتي المسجد فيصلي وصلاته تعدل جبل أحد إذا كان أحسنها عقلا.

قيل: وكيف يكون أحسنها عقلا؟ قال: أورعها عن محارم الله، وأحرصها على أسباب الخير، وإن كان دونه في العمل والتطوع.

وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى قسم العقل بين عباده أشتاتا، فإن الرجلين يستوي علمهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب أحد.

وروي عن وهب بن منبه أنه قال: إني أجد في سبعين كتابا أن جميع ما أعطي الناس من بدء الدنيا إلى انقطاعهما من العقل في جنب عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم كهيئة رملة وقعت من بين جميع رمال الدنيا.

واختلف الناس في ماهية العقل، والكلام في ذلك يكثر، ولا نؤثر نقل الأقاويل، وليس ذلك من غرضنا.

فقال قوم: العقل من العلوم، فإن الخالي من جميع العلوم لا يوصف بالعقل، وليس العقل جميع العلوم، فإن الخالي عن معظم العلوم يوصف بالعقل.

وقالوا: ليس من العلوم النظرية، فإن من شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل، فهو إذا من العلوم الضرورية وليس هو جميعها، فإن صاحب الحواس المختلطة عاقل وقد عدم بعض مدارك العلوم الضرورية.

وقل بعضهم: العقل ليس من أقسام العلوم، لأنه لو كان منها لوجب الحكم بأن الذاهل عن ذكر الاستحالة والجواز لا يتصف بكونه عاقلا، ونحن نري العاقل في كثير من أوقاته ذاهلا.

وقالوا: هذا العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم.

و نقل عن الحارث بن أسد المحاسبي وهو من أجل المشيخ أنه قال: العقل غريزة يتهيأ بها درك العلوم.

وعلى هذا يتقرر ما ذكرناه في أول ذكر العقل: أنه لسان الروح، لأن الروح من أمر الله، وهي المتحملة للأمانة التي أبت السموات والأرضون أن يحملنها.

ومنها يفيض نور العقل، وفي نور العقل تتشكل العلوم. فالعقل للعلوم بمثابة اللوح المكتوب، وهو بصفته منكوس متطلع إلى النفس تارة، ومنتصب مستقيم تارة.

فمن كان العقل فيه منكوسا إلى النفس فرقة في أجزاء الكون، وعدم حسن الاعتدال بذلك، وأخطأ طريق الاهتداء.

ومن انتصب العقل فيه واستقام تأيد العقل بالبصيرة التي هي للروح بمثابة القلب، واهتدي إلى المكون، ثم عرف الكون بالمكون مستوفي أقسام المعرفة بالمكون والكون، فيكون هذا العقل عقل الهداية.

فكما أحب الله إقباله في أمر دله على إقباله عليه وما كرهه الله في أمر دله على الإدبار عنه، فلا يزال يتبع محاب الله تعالى ويجتنب مساخطه، وكلما استقام العقل وتأيد بالبصيرة كانت دلالته على الرشد ونهيه عن الغي.

قال بعضهم: العقل على ضربين، ضرب يبصر به أمر دنياه، وضرب يبصر به أمر آخرته.

وذكر: أن العقل الأول من نور الروح، والعقل الثاني من نور الهداية.

فالعقل الأول موجود في عامة ولد آدم، والعقل الثاني موجود في الموحدين، مفقود من المشركين.

وقيل: إنما سمي العقل عقلا. لأن الجهل ظلمة، فإذا غاب النور بصره في تلك الظلمة زالت الظلمة فأبصر فصار عقلا للجهل.

وقيل: عقل الإيمان مسكنه في القلب، ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد.

والذي ذكرناه من كون العقل لسان الروح وهو عقل واحد ليس هو على ضربين.

ولكنه إذا انتصب واستقام تأيد بالبصيرة واعتدل، ووضع الأشياء في مواضعها. وهذا العقل هو العقل المستضئ بنور الشرع.

لأن انتصابه واعتداله هداه إلى الاستضاءة بنور الشرع، لكون الشرع ورد على لسان النبي المرسل، وذلك لقرب روحه من الحضرة الإلهية، ومكاشفة بصيرته التي هي للروح بمثابة القلب بقدرة الله وآياته، واستقامة عقله بتأييد البصيرة.

فالبصيرة تحيط بالعلوم التي يستوعبها العقل، والتي يضيق عنها نطاق العقل لأنها تستمد من كلمات الله التي ينفد البحر دون تفادها.

والعقل ترجمان تؤدي البصيرة إليه من ذلك شطرا كما يؤدي القلب إلى اللسان بعض ما فيه، ويستأثر ببعضه دون اللسان.

ولهذا المعني من جمد على مجرد العقل من غير الاستضاءة بنور الشرع حظي بعلوم الكائنات التي هي من الملك، والملك ظاهر الكائنات.

ومن استضاء عقله بنور الشرع تأيد بالبصيرة فاطلع على الملكوت، والملكوت باطن الكائنات، اختص بمكاشفة أرباب البصائر والعقول، دون الجامدين على مجرد العقول دون البصائر.

وقد قال بعضهم: إن العقل عقلان، عقل للهداية مسكنه في القلب وذلك للمؤمنين الموقنين ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد.

والعقل الآخر مسكنه في الدماغ ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد، فبالأول يدبر أمر الآخرة، وبالثاني يدبر أمر الدنيا.

والذي ذكرناه: أنه عقل واحد إذا تأيد بالبصيرة دبر الأمرين، وإذا تفرد دبر أمرا واحدا وهو واضح وأبين.

وقد ذكرنا في أول الباب من تدبيره للنفس المطمئنة والأمارة ما يتنبه الإنسان به على كونه عقلا واحدا مؤيدا بالبصيرة تارة، ومنفردا بوصفه تارة.

والله الملهم للصواب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!