موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثامن والخمسون في شرح الحال والمقام والفرق بينهم

الباب الثامن والخمسون في شرح الحال والمقام والفرق بينهم

قد كثر اشتباه بين الحال والمقام، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك، ووجود الاستباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما، فتراءي للبعض الشيء حالا، تراءي للبعض مقاما، وكلا الرؤيتين صحيح لوجود تداخلهما، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق، فالحال سمي حالا لتحوله، والمقام مقامأ لثبوته وستقراره.

وقد يكون الشيء بعينه حالا ثم يصير مقاما، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة ثم تزول الدعية بغلبة صفات النفس، ثم تعود ثم تزول فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم ويغلب حال المحاسبة، وتنقهر النفس، وتنضبط، وتتملكها المحاسبة فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة.

ثم ينازله حال المراقبة، فمن كانت المحاسبة مقامه يصير له من المراقبة حال.

ثم يحول حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد، إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة، ويتدارك الله عبده بالمعونة، فتصير المراقبة مقاما بعد أن كانت حالا، ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة، ولا يستقر مقام المراقبة قراره إلا بنازل حال المشاهدة، فإذا منح العبد بنازل حال المشاهدة استقرت مراقبته وصارت مقامه، ونزل المشاهدة أيضا يكون حالا يحول بالاستتار، ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقاما، وتتخلص شمسه عن كسوف الاستتار.

ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه، كالتحقق بالفناء، والتخلص إلى البقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين، وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب، وذلك أعلى فروع المشاهدة.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي.

قال سهل بن عبد الله: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر وهو قلب القلب وسويداؤه، والتجويف الثاني ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين، وهو صقال لموضع مخصوص فيه، بمنزلة الصقال الذي في سواد العين، ومنه تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات، فهكذا تنبعث من نظر العقل أشعة العلوم المحيطة بالمعلومات، وهذه الحالة التي خرقت شغاف القلب ووصلت إلى سويدائه وهي حق اليقين هي أسني العطايا وأعز الأحوال وأشرفها، ونسبة هذه الحال من المشهادة كنسبة الأجر من لثوب، إذ يكون ترابا ثم طينا ثم لبنا ثم آجرا.

فالمشاهدة هي الأول والأصل يكون منه الفناء كالطين، ثم البقاء كاللبن، ثم هذه الحالة وهي آخر الفروع.

ولما كان الأصل في الأحوال هذه الحالة وهي شرف الأحوال، وهي محض موهبة لا تكتسب، سميت كل المواهب من النوازل بالعبد أحوالا، لأنها غير مقدورة للعبد بكسبه، فأطلقوا القول، وتداولت ألسنة الشيوخ أن المقامات مكاسب، والأحوال السموات ومتنزل البركات، وهذه الأحوال لا يتحقق بها إلا ذو قلب سماوي.

قال بعضهم: الحال هو الذكر الخفي. وهذا إشارة إلى شيء مما ذكرناه.

وسمعت المشايخ بالعراق يقولون: الحال ما من الله، فكل ما كان من طريق الاكتساب والأعمال يقولون: هذا ما من العبد، فإذا لاح للمريد شيء

من المواهب والمواجيد قالوا هذا ما من الله، وسموه حالا، إشارة منهم إلى أن الحال موهبة.

وقال بعض مشايخ خرسان: الأحوال مواريث الأعمال.

وقال بعضهم: الأحوال كالبروق، فإن بقي فحديث النفس.

وهذا لا يكاد يستقيم على الإطلاق، وإنما مواهب. وعلى الترتيب الذي درجنا عليه كلها مواهب، إذ المكاسب محفوفة بالمواهب، والمواهب محفوفة بالمكاسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد، ولكن في المقامات ظهر الكسب وبطنت المواهب، وفي الأحوال بطن الكسب وظهرت المواهب، فالأحوال مواهب علوية سماوية، والمقامات طرقها.

وقول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوني عن طريق السموات فإني أعرف بها من طرق الأرض، إشارة إلى المقامات والأحوال، فطرق السموات التوبة والزهد وغير ذلك من المقامات، فإن السالك لهذه الطرق يصير قلبه سماويا وهي طرق يكون ذلك في بعض الأحوال، فإنها تطرق ثم تستلبها النفس، فأما على الإطلاق فلا، والأحوال لا تمتزج بالنفس كالدهن لا يمتزج بالماء.

وذهب بعضهم إلى أن الأحوال لا تكون إلا إذا دامت، فأما إذا لم تدم فهي لوائح وطوالع وبوادر، وهي مقدمات الأحوال وليست بأحوال.

واختلفت المشايخ في أن العبد هل يجوز له أن ينتقل إلى مقام غير مقامه الذي هو فيه قبل إحكم حكم مقامه؟

قال بعضهم: لا ينبغي أن ينتقل عن الذي هو فيه دون أن يحكم حكم مقامه.

وقال بعضهم: لا يكمل المقام الذي هو فيه إلا بعد ترقيه إلى مقام فوقه، فينظر من مقامه العالي إلى ما دونه من المقام فيحكم أمر مقامه.

والأولى أن يقال والله علم: الشخص في مقامه يعطي حالا من مقامه الأعلى الذي سوف يرتقي إليه، فيوجد أن ذلك الحال يستقيم أمر مقامه الذي هو فيه، ويتصرف الحق فيه كذلك، ولا يضاف الشيء إلى العبد أنه يرتقي أو لا يرتقي، فإن العبد بالأحوال يرتقي إلى المقامات، والأحوال مواهب يرقي إلى المقامات التي يمتزج فيها الكسب بالموهبة، ولا يلوح للعبد حال من مقام أعلى مما هو فيه إلا وقد قرب ترقيه إليه، فلا يزال العبد يرقي إلى المقامات بزائد الأحوال، فعلى ما ذكرناه يتضح تداخل المقامات والأحوال حتى التوبة، ولا تعرف فضيلة إلا فيها حال ومقام، وفي الرزهد حال ومقام، وفي التوكل حال ومقام، وفي الرضي حال ومقام.

قال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته. أشار إلى الرضي. ويكون منه حللا ثم يصير مقاما، والمحبة حال ومقام، ولا يزال العبد يتتوب بطروق حال التوبة حتى يتوب، وطروق حال التوبة بالانزجار أولا.

قال بعضهم: الزجر هيجان في القلب لا يسكنه إلا الانتباه من الغفلة فيرده إلى اليقظة، فإذ تيقظ بصر الصواب من الخطأ.

وقال بعضهم: الزجر ضياء في القلب يبصر به خطأ قصده

والزجر في مقدمة التوبة على ثلاثة أوجه: زجر من طريق العلم، وزجر من طريق العقل، وزجر من طريق الإيمان، فيتنازل التائب حال الزجر وهي موهبة من الله تعالى تقوده إلى التوبة، فلا يزال بالعبد ظهور هوى النفس يمحوه آثار حال التوبة والزجر حتى تستقر وتصير مقاما.

وهكذا في الزهد لا يزال يتزهد بنازلة حال تريه لذة ترك الاشتغال بالدنيا، وتقبح له الإقبال عليها فتمحو أثر حاله بدلالة شره النفس وحرصها على الدنيا ورؤية العاجلة، حتى تتداركه المعونة من الله الكريم فيزهد ويستقر زهده، ويصير الزهد مقامه. ولا تزال حال التوكل تقرع باب قلبه حتى يتوكل، وهكذا حال الرضي حتى يطمئن على الرضي، ويصير ذلك مقامه.

وههنا لطيفة، وذلك أن مقام الرضي والتوكل يثبت ويحكم ببقائه مع وجود داعية الطبع، ولا يحكم ببقاء حال الرضي مع وجود داعية الطبع، وذلك مثل كراهة يجدها الراضي بحكم الطبع، ولكن علمه بمقام الرضي يغمر حكم الطبع، وظهور حكم الطبع في وجود الكراهية المغمورة بالعلم لا يخرجه عن مقام الرضي، ولكن يفقد حال الرضي، لأن الحال لما تجردت موهبة أحرقت داعية الطبع، فيقال كيف يكون صاحب مقام في الرضي ولا يكون صاحب حال فيه، والحال مقدمه المقام، والمقام أثبت؟

نقول: لأن المقام لما كان مشوبا بكسب العبد احتمل وجود الطبع فيه، والحال لما كانت موهبة من الله نزهت عن مزج الطبع، فحال الرضي أصلف، ومقام الرضي أمكن، ولا بد للمقامات من زائد الأحوال، فلا مقام إلا بعد سابقة حال، ولا تفرد للمقامات دون سابقة الأحوال، فمنها ما يصير مقاما، ومنها مالا يصير مقاما، والسر فيه ما ذكرناه أن الكسب في المقام ظهر، والموهبة بطنت، وفي الحال ظهرت الموهبة والكسب بطن.

فلما كان في الأحوال الموهبة غالبة لم تتقيد وصارت الأحوال إلى مالا نهاية لها، ولطف سني الأحوال أن يصير مقاما، ومقدورات الحق غير متناهية، ومواهبه غير متناهية، ولهذا قال بعضهم: لو أعطيت روحانية عيسي، ومكالمة موسي، وخلة إبراهيم عليه السلام، لطلبت ما وراء ذلك، لأن مواهب الله لا تنحصر، وهذه أحوال الأنبياء ولا تعطي الأولياء، ولكن هذه

إشارة من القائل إلى دوام تطلع العبد وتطلبه، وعدم قناعته بما هو فيه من أمر الحق تعالى، لأن سيد الرسل صلوات الله عليه وسلامه نبه على عدم القناعة، وقرع باب الطلب، واستنزال بركة المزيد بقوله عليه السلام:

كل يوم لم أزدد فيه علما فلا بورك لي في صبيحة ذلك اليوم.

وفي دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم ما قصر عنه رأيي، وضعف فيه عملي، ولم تبلغه نيتي وأمنيتي، من خير وعدته أحدا من عبادك، أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك، فأنا أرغب إليك وأسألك إياه.

فاعلم أن مواهب الحق لا تنحصر، والأحوال مواهب، وهي متصلة بكلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها، وتنفد أعداد الرمال دون أعدادها.

والله المنعم المعطي.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!