موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب التاسع والخمسون في الإشارات إلى المقامات على الاختصار والإيجار

الباب التاسع والخمسون في الإشارات إلى المقامات على الاختصار والإيجار

أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله، قال أنا أبو منصور بن خيرون إجازة، قال أنا أبو محمد الحسن ابن على بن محمد الجوهري إجازة، قال أنا أبو عمرو محمد بن عباس بن محمد قال أنا أبو محمد يحيي بن صاعد، قال أنا الحسين بن الحسن المروزي، قال أنا عبد الله بن المبارك، قال أنا الهيثم ابن حميل قال أنا كثير بن سليم المدائني، قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني رجل ذرب اللسان وأكثر ذلك على أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أين أنت من الاستغفار، فإني أستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة.

وروي أبو هريرة رضي الله عنه في حديث آخر فإني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة.

وروي أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة.

وقال الله تعالى: {وتُوبُوا إِلَي الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)} (١).

وقال الله عز وجل: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوّابِينَ} (٢).

وقال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي الله تَوْبَةً نَصُوحًا} (٣)

__________

١) سورة النور: آية رقم:٣١.

٢) سورة البقرة: آية رقم:٢٢٢.

٣) سورة التحريم: آية رقم:٨.

التوبة أصل كل مقام، وقوام كل مقام، ومفتاح كل حال، وهي أول المقامات، وهي بمثابة الأرض للبناء، فمن لا أرض له لا بناء له، ومن لا توبة له لا حال له ولا مقام له.

وإني بمبلغ علمي وقدر وسعي وجهدي اعتبرت المقامات والأحوال وثمرتها فرأيتها يجمعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان وعقوده وشروطه، فصارت مع الإيمان أربعة، ثم رأيتها في إفادة الولادة المعنوية الحقيقة بمثابة الطبائع الأربع التي جعلها الله تعالى بإجراء سننه مفيدة للولادة الطبيعية.

ومن تحقق بحقائق هذه الأربع يلجملكوت السموات، ويكاشف بالقدر والآيات، ويصير له ذوق وفهم لكلمات الله تعالى المنزلات، ويحظي بجميع الأحوال والمقامات، فكلها من هذه الأربع ظهرت، وبها تهيأت وتأكدت.

فأحد الثلاث بعد الإيمان التوبة النصوح، والثاني الزهد في الدنيا، والثالث تحقيق مقام العبودية بدوام العمل لله تعالى ظاهرا وباطنا من الأعمال القلبية والقالبية من غير فتور وفصور.

ثم يستعان على إتمام هذه الأربعة بأربعة أخري بها تمامها وقوامها، وهي قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، والاعتزال عن الناس. واتفق العلماء الزاهدون والمشايخ على أن هذه الأربع بها تستقر المقامات، وتستقيم الأحوال، وبها صار الأبدال أبدالا، بتأييد الله تعالى وحسن توفيقه.

ونبين بالبيان الواضح أن سائر المقامات تندرج في صحة هذه، ومن ظفر بها فقد ظفر بالمقامات كلها.

أولها بعد الإيمان التوبة، وهي في مبدأ صحتها تفتقر إلى أحوال، وإذا صحت تشتمل على مقامات وأحوال، ولا بد في ابتدائها من وجود زاجر،

ووجدان الزاجر حال، لأنه موهبة من الله تعالى على ما تقرر أن الأحوال مواهب، وحال الزجر مفتاح التوبة ومبدؤها.

قال رجل لبشر الحافي: مالي أراك مهموما؟ قال: لأني ضال ومطلوب ضللت الطريق والمقصد، وأنا مطلوب به، ولو تبينت كيف الطريق إلى المقصد لطلبت، ولكن سنة الغفلة أدركتني، وليس لي منها خلاص إلا أن أزجر فأنزجر.

وقال الأصمعي: رايت أعرابيا بالبصرة يشتكي عينيه وهما يسيل منهما الماء، فقلت له، ألا تمسح عينيك؟ فقال: لا لأن الطبيب زجرني، ولا خير فيمن لا ينزجر.

فالزاجر في الباطن حال يهبها الله تعالى، ولا بد من وجودها للتائب. ثم بعد الانزجار يجد العبد حال الانتباه.

قال بعضهم: من لزم مطالعة الطوارق انتبه.

وقال أبو يزيد: علامة الانتباه خمس: إذا ذكر نفسه افتقر، وإذا ذكر ذنبه استغفر، وإذا ذكر الدنيا اعتبر، وإذا ذكر الآخرة استبشر، وإذا ذكر المولي اقشعر.

وقال بعضهم: الانتباه أوائل دلالات الخير، وإذا انتبه العبد من رقدة غفلته أداه ذلك الانتباه إلى التيقظ، فإذا تيقظ ألزمه تيقظه الطلب لطريق الرشد فيطلب، وإذا طلب عرف أنه على غير سبيل الحق فيطلب الحق ويرجع إلى باب توبته، ثم يعطي باتباهه حال التيقظ.

قال فارس: أوفي الأحوال التيقظ والاعتبار.

وقيل: التيقظ تبيان خط المسلك بعد مشاهدة سبيل النجاة.

وقيل: إذا صحت اليقظة كان صاحبها في أوائل طريق التوبة.

وقيل: اليقظة خردة من جهة المولي لقلوب الخائفين تدلهم على طلب التوبة فإذا تمت يقظته نقل بذلك إلى مقام التوبة.

فهذه أحوال ثلاثة تتقدم التوبة.

ثم التوبة في استقامتها تحتاج إلى المحاسبة، ولا تستقيم التوبة بالا بالمحاسبة.

نقل عن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنزها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على الله. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفي مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)} (١).

فالمحاسبة بحفظ الأنفاس، وضبط الحواس، ورعاية الأوقات، وإيثار المهمات.

ويعلم العبد أن الله تعالى أوجب عليه هذه الصلوات الخمس في اليوم والليلة رحمة منه لعلمه سبحانه بعبده، واستيلاء الغفلة عليه، كي لا يستعبده الهوي، وتسترقه الدنيا. فالصلوات الخمس سلسلة تجذب النفوس إلى مواطن العبودية لأداء حق الربوبية، ويراقب العبد نفسه بحسن المحاسبة من كل صلاة إلى صلاة أخري، وبسد مداخل الشيطان بحسن المحاسبة والرعاية، ولا يدخل في الصلاة إلا بعد حل العقد عن القلب بحسن التوبة والاستغفار، لأن كل كلمة وحركة على خلاف الشرع تنكت في القلب نكتة سوداء، وتعقد عليه عقدة.

والمتفقد المحاسب يهيئ الباطن للصلاة بضبط الجوارح، ويحقق مقام المحاسبة، فيكون عند ذلك لصلاته نور يشرق على أجزاء وقته إلى الصلاة الأخري، فلا تزال صلاته منورة تامة بنور وقته، ووقته منورا معمورا بنور صلاته.

__________

١) سورة الحاقة: آية رقم:١٨.

وكان بعض المحاسبين يكتب الصلوات في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضا، وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبة أو أمر آخر خط خطأ، وكلما تكلم أو تحرك فيما لا يعينه نقطة ليعتبر ذنوبه وحركاته فيما لا يعينه، لتضيق المحاسبة مجاري الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، لموضع صدقه في حسن الاقتداء، وحرصه على تحقيق مقام العباد، وهذا مقام المحاسبة والرعاية يقع من ضرورة صحة التوبة.

قال الجنيد: من حسنت رعايته دامت ولايته.

وسئل الواسطي: أي الأعمال أفضل؟ قال: مراعاة السر، والمحاسبة في الظاهر، والمراقبة في الباطن، ويكمل أحدهما بالآخر، وبهما تستقيم التوبة.

والمراقبة والرعاية حالان شريفان، ويصيران مقامين شريفين يصحان بصحة مقام التوبة، وتستقيم التوبة على الكمال بهما، فصارت المحاسبة والمراقبة والرعاية من ضرورة مقام التوبة.

أخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف أبي بكر الشيرازي، قال سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسن الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين، وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائما.

قال المرتعش: المراقبة مراعاة السر لملاحظة الحق في كل لحظة ولفظة.

قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلي كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} (١).

وهذا هو علم القيام، وبذلك يتم علم الحال.

__________

١) سورة الرعد: آية رقم:٣٣.

ومعرفة الزيادة والنقصان هو أن يعلم معيار حاله فيما بينه وبين الله، وكل هذا ملازم لصحة التوبة، وصحة التوبة ملازم لها، لأن الخواطر مقدمات العزائم، والعزائم مقدمات الأعمال، لأن الخواطر تحقق إرادة القلب، والقلب أمير الجوارح، ولا تتحرك إلا بتحرك القلب بالإرادة، وبالمراقبة، حسم مواد الخواطر الرديئة، فصار من تمام المراقبة تمام التوبة، لأن من حصر الخواطر كفي مؤنة الجوارح، لأن بالمراقبة اصطلام عروق إرادة المكلاره من القلب، وبالمحاسبة استدراك ما انفلت من المراقبة.

أخبرنا أبو زرعة عن ابن خلف عن السلمي قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم الإنسان في هذا الطريق المحاسبة والمراقبة، وسياسة العمل بالعلم، وإذا صحت التوبة صحت الإنابة.

قال إبراهيم بن أدهم: إذا صدق العبد في توبته صار منيبا. لأن الإنابة ثاني درجة التوبة.

وقال أبو سعيد القرشي: المنيب الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله.

وقال بعضهم: الإنابة الرجوع منه إليه لا من شيء غيره، فمن رجع من غيره إليه ضيع أحد طرفي الإنابة، والمنيب على الحقيقة من لم يكن له مرجع سواه فيرجع إليه من رجوعه، ثم يرجع من رجوع رجوعه، فيبقي شبحا لا وصف له قائما بين يدي الحق، مستغرقا في عين الجمع ومخالفة النفس ورؤية عيوب الأفعال، والمجاهدة تتحقق بتحقيق الرعاية والمراقبة.

قال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملا فأحتسبه.

وقال أبو عبد الله السجزي: من استحسن شيئا من أحواله في حال إرادته فسدت عليه إرادته إلا أن يرجع إلى ابتدائه فيروض نفسه ثانيا، ومن لم يزن نفسه يميزان الصدق فيما له وعليه لا يبلغ مبلغ الرجال. ورؤية

عيوب الأفعال من ضرورة صحة الإنابة، وهو في تحقيق مقام التوبة، ولا تستقيم التوبة إلا بصدق المجاهدة، ولا يصدق العبد في المجاهدة إلا بوجود الصبر.

وروي فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المجاهد من جاهد نفسه ولا يتم ذلك إلا بالصبر، وأفضل الصبر الصبر على الله بعكوف الهم عليه، وصدق المراقبة له بالقلب، وحسم مواد الخواطر.

والصبر ينقسم إلى فرض وفضل، فالفضل كالصبر على أداء المفترضات، والصبر عن المحرمات. ومن الصبر الذي هو فضل الصبر على الفقر، والصبر عند الصدمة الأولى، وكتما المصائب والأوجاع، وترك الشكوي، والصبر على إخفاء الفقر، والصبر على كتم المنح والكرامات، ورؤية العبر والآيات.

ووجوه الصبر فرضا وفضلا كثيرة، وكثير من الناس من يقوم بهذه الأقسام من الصبر، ويضيق عن الصبر على الله بلزوم صحة المراقبة والرعاية ونفي الخواطر، فإذا حقيقة الصبر كائنة في التوبة كينونة المراقبة في التوبة، والصبر من أعز مقامات الموقنين، وهو داخل في حقيقة التوبة.

قال بعض العلماء: أي شيء أفضل من الصبر، وقد ذكره الله تعالى في كلامه في نيف وتسعين موضعا، وما ذكر شيئا بهذا العدد.

وصحة التوبة تحتوي على مقام الصبر ومع شرفه.

ومن الصبر الصبر على النعمة، وهو أن لا يصرفها في معصية الله تعالى، وهذا أيضا داخل في صحة التوبة.

وكان سهل بن عبد الله يقول: الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء.

وروي عن بعض الصحابة: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر.

ومن الصبر رعاية الاقتصاد في الرضي والغضب، والصبر عن محمدة الناس، والصبر على الخمول والتواضع. والذي داخل في الزهد وإن لم يكن داخلا في التوبة. وكل ما فات من مقام التوبة من المقامات السنية والأحوال وجد في الزهد، وهو ثالث الأربعة التي ذكرنا.

وحقيقة الصبر تظهر من طمأنينة النفس، وطمأنينتها من تزكيتها، وتزكيتها بالتوبة. فالنفس إذا تزكت بالتوبة النصوح زالت عنها الشراسة الطبيعية، وقلة الصبر من وجود الشراسة للنفس وإبائها واستعصائها.

والتوبة النصوح تلين النفس وتخرجها من طبيعتها وشراستها إلى اللين، لأن النفس بالمحاسبة والمراقبة تصفو وتنطفئ نيرانها المتأججة بمتابعة الهوي، وتبلغ بطمأنينتها محل الرضي ومقامه، وتطمئن في مجاري الأقدار.

قال أبو عبد الله النباجي: لله عباد يستحيون من الصبر، ويتلقفون مواضع أقداره بالرضي تلقفا.

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت ومالي سرور إلا مواقع القضاء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حين وصاه اعمل لله باليقين في الرضي، فإن لم يكن فإن في الصبر خيرا كثيرا.

وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير ما أعطي الرجل الرضي بما قسم الله تعالى له.

فالأخبار والآثار والحكايات في فضيلة الرضي وشرفه أكثر من أن تحصي، والرضي ثمرة التوبة النصوح، وما تخلف عبد عن الرضي إلا بتخلفه عن التوبة النصوح، فإذا تجمع التوبة النصوح حال الصبر ومقام الصبر، وحال

الرضي ومقام الرضي، والخوف والرجاء مقامان شريفان من مقامات أهل اليقين، وهما كائنان في صلب التوبة النصوح، لأن خوفه حمله على التوبة، ولو لا خوفه ما تاب، ولو لا رجاؤه ما خاف، فالرجاء والخوف يتلامان في قلب المؤمن، ويعتدل الخوف والرجاء للتائب المستقيم في التوبة.

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في سياق الموت فقال كيف تجدك؟ قال: أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وآمنه مما يخاف.

و جاء في تفسير قوله تعالى: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ} (١) هو العبد يذنب الكبائر ثم يقول قد هلكت لا ينفعني عمل.

فالتائب خاف: فتاب ورجا المغفرة، ولا يكون التائب تائبا إلا وهو راج خائف.

ثم إن التائب حيث قيد الجوارج عن المكاره، واستعان بنعم الله على طاعة الله، فقد شكر النعم، لأن كل جارحة من الجوراح نعمة، وشكرها قيدها عن المعصية، واستعمالها في الطاعة. وأي شاكر للنعمة أكبر من التائب المستقيم.

فإذا جمع مقام التوبة هذه المقامات كلها، فقد جمع مقام التوبة حال الزجر، وحال الانتباه، وحال التيقظ ومخالفة النفس، والتقوى، والمجاهدة، ورؤية عيوب الأفعال، والإنابة، والصبر، والرضي، والمحاسبة، والمراقبة، والرعاية، والشكر، والخوف، والرجاء.

وإذا صحت التوبة النصوح وتركت النفس، وانجلت مرآة القلب، وبان قبح الدنيا فيها، فيحصل الزهد، والزاهد يتحقق فيه التوكل، لأنه لا يزهد في الموجود إلا لاعتماد على الموعود، والسكون إلى وعد الله تعالى هو عين

التوكل، وكلما بقي على العقد بقية في تحقق المقامات كلها بعد توبته يستدركه بزهده في الدنيا، وهو ثالث الأربعة.

أخبرنا شيخنا قال أنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال أنا أبو محمد الحسن بن على الجوهري إجازة قال أنا أبو عمرو محمد بن العباس قال أنا أبو محمد يحيي بن ساعدة قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا الهيثم بن جميل قال أنا محمد بن سليمان عن عبد الله بن بريدة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فبدأ بفاطمة رضي الله عنها فرآها قد أحدثت في البيت سترا وزوائد في يديها، فلما رأي ذلك رجع ولم يدخل، ثم جلس، فجعل ينكت في الأرض ويقول:

مالي وللدنيا، مالي وللدنيا، فرأت فاطمة أنه إنما رجع من أجل ذلك الستر.

فأخذت الستر والزوائد وأرسلت بهما مع بلال وقالت له اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقل له قد تصدقت به فضعه حيث شئت، فأتي بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قالت فاطمة قد تصدقت به فضعه حيث شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي قد فعلت بأبي وأمي قد فعلت اذهب فبعه.

وقيل في قوله تعالى: {إِنّا جَعَلْنا ما عَلَي الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (١) قيل الزهد في الدنيا.

سئل أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزهد فقال:

هو أن لا تبالي بمن أكل الدنيا مؤمن أو كافر.

وسئل الشبلي عن الزهد فقال: ويلكم أي مقدار لجناح بعوضة أن يزهد فيها.

وقال أبو بكر الواسطي: إلى متى تصول بترك كنيف، وإلي متى تصول بإعراضك عما لا تزن عند الله جناح بعوضة.

فإذا صح زهد العبد صح توكله أيضا، لأن صدق توكله مكنه من زهده في الموجود، فمن استقام في التوبة وزهد في الدنيا وحقق هذين المقامين، استوفي سائر المقامات وتكون فيها وتحقق بها.

وترتيب التوبة مع المراقبة وارتباط إحداهما بالأخري أن يتوب العبد ثم يستقيم في التوبة حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئا، ثم يرتق من تطهير الجوارح عن المعاصي إلى تطهير الجوارح عما لا يعني، فلا يسمح بكلمة فضول ولا حركة فضول، ثم ينتقل للرعاية والمحاسبة من الظاهر إلى الباطن، وتستولي المراقبة على الباطن، وهو التحقق بعلم القيام بمحو خواطر المعصية عن باطنه ثم خواطر الفصول، فإذا تمكن من رعاية الخطرات عصم عن مخالفة الأركان والجوارح وتستقيم توبته.

قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ومَنْ تابَ مَعَكَ. . .} (١)

أمره الله تعالى بالاستقامة في التوبة أمرا له ولأتباعه وأمته.

وقيل: لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة. ولا يلزم من هذا وجود العصمة، ولكن الصادق التائب في النادر إذا ابتلي بذنب ينمحي أثر الذنب من باطنه في ألطف ساعة لوجود الندم في باطنه على ذلك، والندم توبة، فلا يكتب عليه صاحب الشمال شيئا.

فإذا تاب توبة نصوحا ثم زهد في الدنيا حتى لا يهتم في غذائه لعشائه، ولا في عشائه لغذائه، ولا يري الادخار، ولا يكون له تعلق هم بغد، فقد جمع في هذا الزهد والفقر، والزهد أفضل من الفقر، وهو فقر وزيادة، لأن الفقير عادم للشيء اضطرارا، والزاهد تارك للشيء اختيارا، وزهد يحقق توكله، وتوكله يحقق رضاه، ورضاه يحقق الصبر، وصبره يحقق حبس النفس وصدق المجاهدة،، وحبس النفس لله يحقق خوفه، وخوفه يحقق رجاءه، ويجمع بالتوبة والزهد كل المقامات.

__________

١) سورة هود: الآية ١١٢.

والزهد والتوبة إذا اجتمعا مع صحة الإيمان وعقوده وشروطه يعوز هذه الثلاثة رابع به تمامها، وهو دوام العمل، لأن الأحوال السنية ينكشف بعضها بهذه الثلاثة، وتيسير بعضها متوقف على وجود الرابع وهو دوام العمل.

وكثير من الزهاد المتحققين بالزهد المستقيمين في التوبة تخلفوا عن كثير من سني الأحوال لتخلفهم عن هذا الرابع، ولا يراد الزهد في الدنيا إلا لكمال الفراغ المستعان به على إدامة العمل لله تعالى، والعمل لله أن يكون العبد لا يزال ذاكرا أو تاليا أو مصليا أو مراقبا لا يشغله عن هذه إلا واجب شرعي، أو مهم لا بد منه طبيعي، فإذا استولي العمل على القلب مع وجود الشغل الذي أداه إليه حكم الشرع لا يفتر باطنه عن العمل، فإذا كان مع الزهد والتوقي متمسكا بدوام العمل فقد أكمل الفضل وما آلي جهدا في العبودية.

قال أبو بكر الوراق: من خرج من قالب العبودية صنع به ما يصنع بالآبق.

وسئل سهل بن عبد الله التستري: أي منزلة إذا قام العبد بها مقام العبودية؟ قال: إذا ترك التدبير والاختيار.

فإذا تحقق العبد بالتوبة والزهد ودوام العمل لله يشغله وقته الحاضر عن وقته الآتي، ويصل إلى مقام ترك التدبير والاختيار، ثم يصل إلى أن يملك الاختيار، فيكون اختيار الله تعالى لزوال هواه، ووفور علمه، وانقطاع مادة الجهل عن باطنه.

قال يحيي بن معاذ الرازي: ما دام العبد يتعرف يقال له لا تختر ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف، فإذا عرف وصار عارفا يقال له إن شئت اختر وإن شئت لا تختر، لأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت، وإن تركت الاختيار فباختيارنا تركت الاختيار، فإنك بنا في الاختيار وفي ترك الاختيار.

والعبد لا يتحقق بهذا المقام العالي والحال العزيز الذي هو الغاية والنهاية وهو أن يملك الاختيار بعد ترك التدبير والخروج من الاختيار إلا بإحكامه هذه الأربعة التي ذكرناها، لأن ترك التدبير فناء، وتمليك التدبير والاختيار من الله تعالى لعبده، ورده إلى الاختيار تصرف بالحق، وهو مقام البقاء، وهو الانسلاخ عن وجود كان بالعبد إلى وجود يصير بالحق، وهذا العبد ما بقي عليه من الإعوجاج ذرة، واستقام ظاهره وباطنة في العبودية، وعمر العلم والعمل ظاهره وباطنه، وتوطن حضرة القرب بنفس بين يدي الله عز وجل، متمسكة بالاستكانة والافتقار، متحققة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك، ولا إلى أحد من خلقك فأضيع، اكلأني كلاءة الوليد ولا تخل عني».


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!