موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الخامس في ماهية التصوف

الباب الخامس في ماهية التصوف

أخبرنا الشيخ أبو زرعه طاهر أبي الفضل في كتابه قال: أنا أبو بكر أحمد بن على بن خلف الشيرازي إجازة، قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنا إبراهيم بن محمد بن رجاء، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد البغدادي، قال: حدثنا عمر بن أسد، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل شيء مفتاح، ومفتاح الجنة حب المساكين. والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة.

فالفقر كائن في ماهية التصوف وهو أساسه، وبه قوامه.

قال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار بالفقر لم يتحقق بالتصوف.

وسئل الشبلي عن حقيقة الفقر فقال: أن لا يستغني بشيء دون الحق.

وقال أبو الحسين النوري: نعت الفقير السكون عند العدم، والبذل والإيثار عند الوجود.

وقال بعضهم: إن الفقير الصادق ليحترز من الغني حزر أن يدخل عليه الغني فيفسد فقره، كما أن الغني يحترز من الفقير حزر أن يدخل عليه الفقر فيفسد عليه غناه.

وبالإسناد الذي سبق إلى أبي عبد الرحمن، قال: سمعت أبا عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت مظفرا القرميسني يقول: الفقير الذي لا يكون له إلى الله حاجة.

قال: وسمعته يقول: سألت أبا بكر المصري عن الفقير، فقال: الذي لا يملك ولا يملك.

قوله: لا يكون له إلى الله حاجة، معناه أنه مشغول بوظائف عبوديته، تام الثقة بربه، عالم بحسن كلاءته به، لا يحوجه إلى رفع الحاجة لعلمه بعلم الله بحاله، فيري السؤال في البين زيادة.

وأقوال المشايخ تتنوع معانيها، لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات، ونحتاج في تفصيل بعضها من البعض إلى الضوابط، فقد تذكر أشياء في معني التصوف ذكر مثلها في معني الفقر، وتذكر أشياء في معني الفقر ذكر مثلها في معني التصوف.

وحيث وقع الاشتباه فلابد من بيان فاصل، فقد تشتبه الإشارات في الفقر بمعاني الزهد تارة، وبمعاني التصوف تارة، ولا يتبين للمسترشد بعضها من البعض، فنقول:

التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد.

فالتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد، مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفيا وإن كان زاهدا وفقير

قال أبو حفص: التصوف كله آداب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب ولكل مقام أدب.

فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول.

وقال أيضا: حين أدب الظاهر عنوان حين أدب الباطن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه».

أخبرنا الشيخ رضي الدين أحمد بن إسماعيل إجازة، قال: أنا الشيخ أبو المظفر عبد المنعم، قال: أخبرني والدي أبو القاسم القشيري، قال سمعت محمد بن أحمد بن يحيي الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن على يقول: سئل أبو محمد الجريري عن المتصوف فقال: الدخول في كل خلق سني، والخروج عن كل خلق دني.

فإذا عرف هذا المعني في التصوف، من حصول الأخلاق وتبديلها واعتبر حقيقته، يعلم أن التصوف فوق الزهد وفوق الفقر.

وقيل: نهاية الفقر مع شرفه هو بداية التصوف، وأهل الشام لا يفرقون بين التصوف والفقر، يقولون قال الله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله} (١). هذا وصف الصوفية، والله تعالى سماهم فقراء.

وسأوضح معني يفترق الحال به بين التصوف والفقر نقول: الفقير في فقره متمسك به، متحقق بفضله، يؤثره على الغني، متطلع إلى ما تحقق من العوض عند الله، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام»

فكلما لا حظ العوض الباقي، أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر، وعانق الفقر والقلة، وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتلال في طريق الصوفية، لأنه تطلع إلى الأعواض وترك الإجهاد، والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته.

وأيضًا ترك الفقير الحظ العاجل واغتنامه الفقر اختيار منه وإرادة، والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي، لأن الصوفي صار قائما في الأشياء بإرادة الله تعالى لا بإرادة نفسه، فلا يري فضيلة في صورة فقر ولا في صورة غني، وإنما يري الفضيلة فيما يوقفه الحق فيه، ويدخله عليه، ويعلم الإذن من الله تعالى، في الدخول في الشيء، وقد يدخل في صورة سعة مباينة للفقر بإذن من الله تعالى، ويري الفضيلة حينئذ في السعة لمكان الإذن من الله فيه، ولا يفسح في السعة والدخول فيها الصادقين إلا بعد إحكامهم علم الإذن، وفي هذا مزلة لأقدام، وباب دعوي للمدعين. وما من حال يتحقق به صاحب الحال إلا وقد يحكية راكب المحال، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

__________

١) سورة البقرة آية:٢٧٣.

فإذا اتضح ذلك ظهر الفرق بين الفقر والتصوف، وعلم أن الفقر أساس التصوف وبه قوامه، على معني أن الوصول إلى رتب التصوف طريقه الفقر، لا على معني أنه يلزم من وجود التصوف وجود الفقر.

قال الجنيد رحمة الله عليه: التصوف هو أن يمتك الحق عنك، ويحييك به.

وهذا المعني هو الذي ذكرناه من كونه قائما في الأشياء بالله لا بنفسه.

والفقير والزاهد مكنان في الأشياء بنفسهما، واقفان مع إرادتهما، مجتهدان مبلغ علمهما. والصوفي متهم لنفسه، مستقل لعلمه، غير راكن إلى معلومه، قائم بمراد ربه لا بمراد نفسه.

قال ذو النون المصري رحمة الله عليه: الصوفي من لا يتعبه طلب، ولا يزعجه سلب.

وقال أيضا: الصوفية آثروا الله تعالى على كل شيء، فأثرهما الله على كل شيء.

فكان من إيثارهم أن آثروا علم الله على علم نفوسهم، وإرادة الله على إرادة نفوسهم.

قيل لبعضهم: من أصحب من الطوائف؟ قال: الصوفية، فإن للقبيح عندهم وجها من المعاذير، وليس للكبير من العمل عندهم وقع يرفعونك به فتعجبك نفسك، وهذا علم لا يوجد عند الفقير والزاهد، لان الزاهد يستعظم الترك، ويستقبح الأخذ، وهكذا الفقير، وذلك لضيق وعائهم، ووقوفهم على حد علمهم.

وقال بعضهم: الصوفي من إذا استقبله حالان حسنان أو خلقان حسنان يكون مع الأحسن، والفقير والزاهد لا يميزان كل التمييز بين الخلقين الحسنين، بل يختاران من الأخلاق أيضا ما هو أدعي إلى الترك، والخروج عن شواغل الدنيا، حاكمان في ذلك بعلمهم، والصوفي هو المستبين الأحسن من

عند الله، بصدق التجائه، وحسن إنابته، وحظ قربه، ولطيف الوجه، وخروجه إلى الله تعالى، لعلمه بربه، وحظه من محادثته ومكالمته.

قال رويم: التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.

وقال عمرو بن عثمان المكي: التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولا بما هو أولى في الوقت.

وقال بعضهم: التصوف أوله علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة من الله تعالى.

وقيل: التصوف فكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.

وقيل التصوف ترك التكلف، وبذل الروح.

وقال سهل بن عبد الله: الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوي عنده الذهب والمدر.

وسئل بعضهم عن التصوف فقال: تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة.

قال ذو النون المصري: رأيت في بعض سواحل الشام امرأة، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند أقوام تتجافي جنوبهم عن المضاجع، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فقلت:

صفيهم لي، فأنشأت:

قوم همومهم بالله قد علقت ... فما لهم تسمو إلى أحد

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ... يا حسن مطلبهم للواحد الصمد

ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف ... من المطاعم واللذات والولد

ولا للبس ثياب فائق أنق ... ولا لروح سرور حل في بلد

إلا مسارعة في إثر منزلة ... قد قارب الخطو فيها باعد الأبد

فهم رهائن عدوان وأودية ... في الشوامخ تلقاهم مع العدد

قال الجنيد: الصوفي كالأرض، يطرح عليه كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كل مليح.

وقال أيضا هو كالأرض، يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب، يظل كل شيء وكالقطر يسقي كل شيء وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول، ويطول نقلها، ونذكر ضابطا يجمع جمل معانيها، فإن الألفاظ وإن اختلفت متقاربة المعاني.

فنقول:

الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية، ولا يزال يصفي الأوقات عن شواب الأكدار، بتصفية القلب عن شوب النفس، ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقي من الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته الناقدة، وفر منها إلى ربه.

فبدوام تصفيته جمعيته، وبحكمة نفسه تفرقته وكدره، فهو قائم بربه على قلبه، وقائم بقلبه على نفسه. قال الله تعالى: {كُونُوا قَوّامِينَ لله شُهَداءَ بِالْقِسْطِ (٨)} (١). وهذه القوامية لله على النفس هو التحقق بالتصوف.

فال البعض: التصوف كله اضطراب، فإذا وقع السكون فلا تصوف.

والسر فيه أن الروح مجذوبة إلى الحضرة الالهية، يعني أن روح الصوفي متطلعة منجذبة إلى مواطن القرب، وللنفس بوضعها رسوب إلى عالمها، وانقلاب على عقبها، ولابد للصوفي من دوام الحركة، بدوام الافتقار، ودوام الفرار، وحسن التفقد لمواقع إصابات النفس. ومن وقف على هذا المعني يجد في الصوفي جميع المتفرق في الإشارات.

__________

١) سورة المائدة آية:٨.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!