موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

اعلم أن العالم وإن كان الله - سبحانه وتعالى - قد أودع فيه من التأثير والتأثر ما سلف ذكره؛ فإنه لا تأثير له من ذاته، وإنما الحق - سبحانه وتعالى - جعل لكل شيء منه مرتبة في التأثير والتأثر على حد معلوم لا يتعداه، وجعل أنواع ذلك الشيء تتفاضل في التأثير والتأثر في تلك المرتبة، فعَرَّف – سبحانه وتعالى – بعض هذه المراتب من شاء، وحجب بعضها عمن شاء، ومكن – سبحانه – كل ذي مرتبة من مرتبته، وجعله فيها على مقامات معلومة، تمكينًا يبقيه عليهم ما شاء، ويعزلهم عنه إذا شاء، وعبر سبحانه وتعالى عن هذا التمكين بالإذن، وعن عدم التمكين بعدم الإذن، فيمتنع التأثير لغلبة سلطان المشيئة على التمكين وعلى عدم التمكين، ويستوي في ذلك طرفا الإباحة والحظر وترك الاستحباب، قال سبحانه وتعالى في عيسى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]، وكرر الإذن في أعماله لغلبة ظهور التأثير على يديه، فيعلم أنه بالحق أثر ونبه على ذلك بقوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ﴾ [المائدة: 17] أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه.

وقال تعالى في طرف الحظر والكراهية ﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102]، وقال تعالى في الخمر والميسر ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... الآية [البقرة: 219] وأمر بالطب والتداوي، وما جاء فيه من السنة معلوم فبين - سبحانه وتعالى - أنه لا تأثير للعالم دونه على سبيل الاستقلال، وأنه المؤثر خلف حجاب الوسائط لا بالوسائط، ثم نبه عليه الرسول ﷺ في قوله: «إنما أنا رسول وليس لىّ من الهداية شيء، ولو كانت الهداية إلىّ لآمن كل من في الأرض،  وإنما إبليس قرين وليس له من الضلالة شيء، ولو كانت الضلالة إليه لأضل كل من في الأرض، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء» وقد نبه الحق على ذلك في أي كثيرة مثل قوله – سبحانه وتعالى – ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]، وقوله تعالى ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ... الآية﴾ [النبأ: 38]، وقوله ﴿لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ [مريم: 87]، عنده ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [طه: 109]، ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]، فمعنى الإذن تمكين المؤثر من التأثير، والأثر في مرتبته لا الإباحة والتخيير كان معناه التخيير لما قال: ﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102]، فإنه إذًا يكون أمرًا، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يؤذن بالسحر ولو أذن به لم يكن محرمًا، فإن قلت: إنما أذن بالضرر به فهو عين ما قلناه من إبقاء مرتبة التأثير، ولا معنى للضرر به إلا التأثير، وعلى هذا كل ما جاء في التنزيل العزيز مقترنًا بـ (لو) فإن حرف (لو) حرف مشؤم لا يكاد يقترن إلا بما لا يكون مع إمكانه غالبًا، حتى قال – سبحانه وتعالى – ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [الزمر: 4]، ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا﴾ [الأنبياء: 17]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 112]  ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾[السجدة: 13]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: 99].

فنبه – سبحانه  - على عظمة سلطان المشيئة، وأنه لو شاء لحول هذه المراتب عن ، وقد أرانا سبحانه وتعالى من ذلك عبرًا وأمثالاً كثيرة، فأرانا أن للحديد مرتبة القطع والبأس الشديد، أبقاها عليه سبحانه ما شاء، وعزله عنها حيث شاء في قصة الذبيح وغيرها، إلى الآن ترى ذلك في نفوسنا ونسمع به في غيرنا، وأرانا الماء له مرتبة الإغراق للآدميين، فأبقى ذلك عليه وعزله عنها حيث شاء، حتى مشى عليه موسى وقومه، وعيسى، ومن مشى عليه منا، وأرانا له أيضًا مرتبة إطفاء النار، أبقاها عليه ما شاء وعزله عنهاحيث شاء، في غوص الجن لسليمان، وأرانا النار لها مرتبة الإحراق للآدميين، أبقاها عليها ما شاءوعزلها عنها حيث شاء، كقصة إبراهيم جعلها عليه بردًا وسلامًا، وأخرج منها ثمرة طيبة.

ومثل ذلك في أبي مسلم الخولاني وغيره، مما رأينا وسمعنا، وأرانا أن السم له مرتبة القتل أبقاها عليه حيث شاء، وعزلها عنه حيث شاء في قصة على  (رضي الله عنه)  حيث سم الله، واستقى السم فلم يضره، وفي قصة خالد  (رضي الله عنه)  سمى الله وتحسا السم فلم يضره، وفي قصة رسول الله ﷺ في العضو المسموم، وكذلك إن اعتبرت معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وما أشبه ذلك، فقد فتحت لك الباب، فتبين بما ذكرناه أن أفعال الخلق كلها بإذنه الذي هو تمكينه لهم، وإبقاء مرتبة التأثير عليهم، وبذلك قامت عليهم الحجة وتبين أنه لا فاعل إلا الله، وأن تأثير الأكوان من حيث بقائه عليها مرتبة التأثير التي وهبها لها، فلما خاف الرسول ﷺ على أمته السحر الذي هو الكفر، أعني: اعتقاد ربوبية الأسباب استقلالًا لظهور التأثير والتأثر، أمرها بالانتزاع عما يؤدي إلى ذلك، فإن معنى السحر في لغة العرب إخراج الباطل في صورة الحق، أي: إقامة السبب مقام المسبب، فلذلك قال سبحانه وتعالى ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: 102] أي: من عم التأثير والتأثر وخواص الأشياء التي بها السحر، ثم نزه سبحانه وتعالى سليمان فقال : ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 102]،  حين نسبوا ذلك إلى الأسباب دون الله. ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102]، أي: الطرق التي يقع بها التأثير والتأثر، ويدعون بتلك الطرق والأسباب مرتبة الألوهية، وينسبون ذلك إلى سليمان، وهذا كما فعل السامري حيث علم أن من خاصية الأرواح أنها ما قاربت شيئًا أو واصلت إلا سرت فيه الحياة، ومن خاصية الأشباح أنها ما قاربت شيئًا أو واصلت الأسرى فيه، الموت بحسب الاستعداد، فإن الموت أنواع كما سلف. قال ابن عباس  (رضي الله عنه) : خلق الله الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، وهي التي كان الأنبياء يركبونها، ومن أثرها أخذ السامري القبضة فإنها مظهر الصورة الجبرائيلية، كما أن الكبش مظهر العزرائيلية، ولكل واحدة من الحقيقتين تشكل وتصور بأنواع شيء، فالصورة العزرائيلية تتجلى للمقبوضين بخصيصة من الخصائص الكبشية، وتنجذب إليها النفوس انجذاب الحديد إلى المغناطيس، وتعرض عن الأشباح. والنزع هو قوة التجلي من الملك مع قوة تعلق النفس بالبدن، فتفترق الأجزاء المجتمعة لم يكن لها حافظ من أمر الله تعالى، فإن الموت حياة مطموسة، وذلك أن الحياة انقسمت قسمين: أحدهما الحياة المبصرة، وهي حياة التأليف، والأخرى الحياة المطموسة، وهي حياة التفريق المسماة موتًا، فلما علم السامري هذا القدر، اتخذ عجلاً من حُلي القوم لما في العجل من خاصية الميل إلى الشهوة، ونقص العقل والشره، والإخلاد إلى الأرض، وما في المال من خاصية ميل النفوس إليه لتميل نفوسهم إليه، وتأخذ من مناسبته بحظ وافر من نقص العقل، فيسخر بها لبعد مناسبتها المقام الموسوي، إذ قد صار موسى حياة فلا تسمع منه الموتى، إذ لا يفهم عن الإنسان إلا من أشرق فيه شيء مما أشرق فيه، كما أخبر التنزيل في سيد المرسلين ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى﴾ [النمل: 80]، ﴿لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ﴾ [يس: 70]، ثم ارتقب الملك حتى رآه قائمًا عند موسى، فعلم أن الحياة قد سرت في الأرض بحسب قبولها، فقبض قبضة من تراب من أثره، كما ذكر الله تعالى لنا في قوله حاكيًا عنه ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ... الآية﴾ [طه: 96]، فنبذتها في العجل فخار، فقال: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: 88]، ولو كان اتخذه بصورة إنسان لتكلم وشهد بصدق موسى، وفضح السامرى بحسب استعداه أو بصورة حيوان، لظهرت منه صفة ذلك الحيوان، كما قلنا في الماء والثمرات، ألا ترى أن مريم – عليها السلام – أمرها الله بهز الجزع، فسرت فيه الحياة منها؛ فأرطب بحسب استعداده لما في مريم من الحياة من أثر نفخ الروح، ومن ملامسة الروح عيسى، كما يكونوا من جذب الحديد المغناطيس، فيجذب الحديد المغناطيس فيجذب الحديد حديدًا آخر، فكذلك تفعل السحرة فيأخذون من تصوير صور معلومة من أشياء معلومة مجموعة من أنواع المعادن والنبات والحيوان، متوافقة الطبائع بالموافقة، ومتنافرة للمتنافرة في أوقات تقتضي ما قصدوا من ذلك بأرصاد سعيدة أو نحيسة، يرقونها برقيا مخصوصة من قبل ترتيب المعاني والحروف، ويبخرونها ببخورات مخصوصة من قبل طبائع الكواكب، كل ذلك بحسب المعنى الذي قصدوه، بعلم يوازنوه هذا هو الأمر المحكم عندهم، لتعلقه بالروحانيات والكواكب، بحسب الأرصاد، وقد يتخذون من الأمور المتنافرة أشياءً معدودة، بعدد معلوم على اسم من يريدون، فيذرونها بين من أرادوا، فلا يجتمعون بعد ذلك ولو كانوا أخوة، بغير وقت ولا رصد ولا رقية، ويتخذون أشياء متحاببة معدودة بعدد معلوم أيضًا، كذلك المحبة لا يحتاج وقتًا، ولا رصد ولا رقية، وهذا الجنس يقدر عليه النسوان والصبيان، وليس شيء من ذلك كله إلا وله ما يبطله بإرصاد ورقى، وعزائم وبخورات وغير ذلك ، ومن هذا القسم النيربخيات والخزعبلات.

فأما القسم الأول: فهو من شأن العين بالنجوم وأرباب الكهانة من أهل دعوات الكواكب، فإنهم يعتمدون موافقة طبع الكواكب المقصودة باللبس والأكل، والبخور والرقية والسكنى، والفعل في أرصاد معلومة وينحرفون عما يخالف طبعه من ذلك كله، ويتوجهون إليه في أوقات معلومة بمخاطبات معلومة، ويرتاضون في ذلك حتى يبلغ من إرتياضهم فيه أن يسمعوا نغمات الأفلاك، فيظهر لهم التأثير وينتشر لهم الصيت، وقد أشار التنزيل إلى ذلك بقوله ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121]، وأشار إليه الرسول ﷺ في قصة ابن صياد قال: أرى عرشًا طافيًا على الماء، فقال: «يرى عرش إبليس طافيًا على الماء». وبالجملة فحرم رسول الله ﷺ من ذلك ما يطلق عليه اسم السحر، الذي هو إخراج الباطل في صورة الحق، أو يؤدي إليه فيما دون ذلك القدر، مما يستدعي نسيان الحق سبحانه أو جحده، أو الإعتماد على الحجاب المخلوق بدعوى الربوبية، والقدرة والتأثير له تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، حتى حذر رسول الله ﷺ أن تهلك أمته كما هلكت الأمم قبلها بنسيان القدر، الذي هو المشيئة والإذن، إذ النفوس شديدة التعلق والأنس بالأسباب، وحرم علم النجوم إلا قدر ما يؤدي إلى الهداية مما نذكره إن شاء الله تعالى، لعلمه ﷺ أن علم النجوم عماد السحر والكهانة من السحر، ومؤدية إليه حتى ربما ادعى الجاهل الكاهن النبوة والرسالة، كما فعله ابن صياد على عهد الرسول ﷺ وبعده ابن المقنع وغيره من الرافضة، حتى لقد أمر بنزع الحلق والخرز، وكل ما أدى إلى السحر فهو محرم إن فهمت، حتى لو أن الطبيب ينسب التأثير إلى نفسه أو إلى العقاقير لكان سحرًا حرامًا.

والذي يدلك على صحة ذلك أحاديث النهي عن ذلك، ومنها ما نورده لنستدل به عليه، فمن ذلك قول ابن عباس – رضى الله عنهما – قال عليه الصلاة والسلام: «من اقتبس علمًا من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر» قال ابن عباس: معنى قوله (شعبة من السحر) أنه يؤدي إلى الكهانة، فهذا دليل على تأثيرها بالإذن وعلى ما جعل الله - تعالى – فيها من العلامات الإحكامية إن فهمت، وعلى أن العلة في تحريمها ما ذكرناه من أنها داعية للتكذيب بالقدر، لدلك على ذلك ما تواتر عن أنس  (رضي الله عنه)  قال: قال رسول الله ﷺ «أخاف على أمتي تكذيبًا بالقدر وإيمانًا بالنجوم».

وعن ابن عباس – رضى الله عنهما – قال: قال رسول الله ﷺ «إن في أمتي أربعًا من الجاهلية ليسوا بتاركيهن، الفخر في الأنساب، والطعن في الأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت»، هذه كلها كما ترى داعية القدر.

وعنه أيضًا عليه الصلاة والسلام فيما رواه عمر  (رضي الله عنه)  «لا تسألوا عن النجوم، ولا تفسروا القرآن برأيكم، ولا تسبوا أحدًا من أصحابي» فإن ترك ذلك الإيمان المحض لعلمه بما جرى بين الصحابة، وكان أمر النجوم وتفسير القرآن لا يطلع على حقيقته، وحقيقة ما جرى بين الصحابة إلا مخصوص من الله  (سبحانه وتعالى)  وقليل ما هم، فأمرهم أن يكلوا ذلك إلى الله تعالى.

ورُوي عنه ﷺ فيما رواه ابن مسعود «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا» فنبه على كِلة أمر ذلك إلى الله حذرًا من تكذيب القدر؛ إما بالإيمان بالاستقلال، أو بإنكار ما وضع الله تعالى فيها من التأثير، وقارنها بالقدر وبأصحابه لما جرى بينهم، فكل من نهى علم النجوم هذا شأنه.

ومن ذلك ما رُوي عنه ﷺ أن أخذ بيد عمه العباس  (رضي الله عنه)  حتى خرج به من المدينة وقال له: «هذه جزيرة قد برأت من الشرك ما لم تضلهم النجوم.قال: قلت: يا رسول الله وكيف تضلهم النجوم؟ قال: يقولون إذا أصابهم الغيث مطرنا بنجم كذا وكذا». 

وروى عنه ﷺ زيد بن خالد الجهني قال: مطر الناس على عهد رسول الله ﷺ فلما أصبح قال: «ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ قال: ما أنعمت على عبادى من نعمة؛ إلا أصبح فريق منهم بها كافرون، وفريق منهم بها مؤمنون، فأما من حمدني على سقياي فقد آمن بى وكفر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فقد آمن بالكواكب وكفر بنعمتي».

وقال ابن عباس – رضى الله عنهما –: إن قومًا ينظرون في النجوم ويحسبون أبجد، وما أرى للذين يفعلون ذلك من خلاق.

وقال له ميمون بن مهران – رضى الله عنهما –: أوصني؟ قال: أوصيك بتقوى الله تعالى، وإياك وعلم النجوم، فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك أن تذكر أحدًا من أصحاب محمد ﷺ إلا بخير، فيكبك الله على وجهك في جهنم، فإن الله تعالى أظهر بهم هذا الدين، وإياك والكلام في القدرفإنه ما تكلم به إثنان إلا أثما، أو أثم أحدهما، فما أنكر الرسول وأصحابه – سلام الله عليهم – علم النجوم، وإنما نهوا عنه لما ذكرناه من خشية التوجه إلى المخلوقات، بسبب ما وضع الله تعالى فيها كما توجهت إليها الأمم السابقة، فمنهم من عبدها استقلالاً، ومنهم من جعل لها منزلة الوزارة والحجبة والتقريب، تعالى الله عما يقول الظالمون، فقالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3].

حتى ولقد حرم النبي ﷺ الرقى الأعجمية إلا ما أمن فيه من الشرك، وكان يستعرض الرقى فيجيز ما أمن فيه من الشرك، قال ﷺ: «أقرب الرقى إلى الشرك رقية الحية والجنون» وروى جابر  (رضي الله عنه)  أنه كان بالمدينة رجل يكنى أبا مذكر، يرقى من العقرب ينفع الله بها، فقال له رسول الله ﷺ: «يا أبا مذكر ما رقيتك هذه اعرضها علىَّ؟ فقال أبو مذكر: شبحنة قرينة بحر قفطي، قال رسول الله لا بأس بها. قال: هذه مواثيق أخذها سليمان بن داوود – عليهما السلام – على الهوام».

وكذلك روى عمران بن حصين – رضى الله عنهما – أنه ﷺ رأى في عضد رجل حلقة من صفر فقال: « ما هذا؟ قال: من الواهنة. قال «انبذها عنك، فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، لو مت وهي عليك وكلت إليها».

وعن أبي قلابة  (رضي الله عنه)  أنه ﷺ قطع التميمة من قلادة الصبي، وهو الشيء يحرز في عنقه من العين، فما أنكرت الرسل علم السحر والنجوم ولا تأثيرها وتأثير الأكوان بإذن الله، وإنما أمرت بالتجافي عنها حذرالهلاك، وحرمت السحر لأنه كفر، ألا ترى أنه غلب على ظنون كثير من المنجمين بأن كل شيء يخر للكواكب في يومه وساعته، لما رأوا من تأثيرها في علم الكهانة والسحر، فهم أشد كفرًا. ومن علم الكهانة علم ابن صياد، ألم ترى الرسول امتحنه فقال: «إني خبأت لك خباءً» وأضمر الدخان. فقال: هو الدخ، وكان ابن صياد تنام عيناه ولا ينام قلبه، وكان النبي ﷺ يختبؤ له ليسمع ما يقول ولمكانة علم النبي ﷺ قال: لابن صياد «أتشهد أني رسول الله؟ قال ابن صياد: أشهد أنك رسول الله ورسول الأميين، ثم قال لرسول الله أتشهد أني رسول الله قال : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله» كل ذلك منه ﷺ حذرًا من مكر الله أن يكون له في ابن صياد خفي علم فيما إدعاه، ألا ترى قوله سبحانه تعالى ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: 86]، ويشبه هذا من الرسول ﷺ ما سلف ذكره من قول الخليل ﴿إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام: 80]، فاستثنى حذرًا من مكر الله، لما اطلعت الرسل عليه من عظمة سلطان المشيئة، فوكلت الأمر في سعة العلم إلى الله تعالى، وقد أمرنا الكتاب والسنة أن نتعلم من علم النجوم، وما نهتدي به في الظلمات قال سبحانه ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 97]، وقال سبحانه ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ [يونس: 5]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61]، ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ [غافر: 15]، ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ [التكوير: 15]،  ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ [النازعات: 5]، ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة، الذين يحببون عباد الله إلى الله  (سبحانه وتعالى)  ويحببون الله إلى عباده» وقال: «أحب عباد الله إلى الله  (سبحانه وتعالى)  رعاة الشمس والقمر، الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده»  وقال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، وقال:﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ [يس: 39]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ [غافر: 15]، ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ [التكوير: 15]، ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ [النازعات: 5]، ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5]. قال ابن عباس – رضى الله عنهما – : هي ثمانية وعشرون منزلة التي ينزلها القمر في كل شهر، أربعة عشر شامية، وأربعة عشر يمانية، وأولها الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوا، والسماك، وهو آخر الشامية، والغفر، والزبان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدم الدلو، ومؤخر الدلو، والرشا، وهو آخر الأربعة عشر اليمانية، وقال سبحانه وتعالى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً [الفرقان: 61].

قال ابن عباس – رضى الله عنهما –: البروج هذه الإثني عشر برجًا أولها الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت، وقال سبحانه وتعالى ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الجَوَارِ الكُنَّسِ﴾ [التكوير: 15،16].

قال ابن عباس – رضى الله عنهما –: هي النجوم السبعة زحل، وبهرام، وعطارد، والمشترى، والزهرة، والشمس، والقمر، وقال: خنوسها رجوعها، وكنوسها تغيبها، وسائر النجوم تكنس بالنهار، وتخنس بالليل، أي: تظهر ،وقال سبحانه ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5]، فعلم الحساب، والأوقات، والهيئات، وعلم المنازل، والبروج، والمطالع، والمغارب، وتسيير الكواكب لأوقات الظعن، والإقامة، والزراعة، وضراب الحيوان، والاهتداء في البر والبحر، كل ذلك فعل مأمور به، وأصح الوجهين لزوم الصوم بمعرفة الحساب دون الرؤية، وفي ذلك أسرار يطلع عليها المنجمون، اللهم إلا من كان ربانيًا عالمًا بالنجوم، فإن الأسرار التي أشرت إليها من شأن أرباب القلوب، وإلى ذلك الإشارة في قوله عليه الصلاة والسلام «إن لربكم في ساعات دهركم نفحات فتعرضوا لها» وقد خص الله – سبحانه وتعالى – أوقاتًا معلومة، وأبهمها على غير أهلها، وأنت لا شك أن الزمان حركة الفلك، فاكشف بهذا القدر عن رمد التقليد، وبالله التوفيق والله أعلم.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!