موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

الدّهر


فالأيّام هي دورات متكرّرة للأفلاك السماوية والأسماء الإلهيّة، فكلّ فلك وكلّ اسم له يومه الخاص، وتتداخل هذه الأيّام مع بعضها البعض ففي يوم الشمس مثلاً (وهو السنة) هناك ثلاثمائة وستون يوماً من أيّامنا تتكرّر فيه، وفي يوم القمر هناك ثمانية وعشرون يوماً؛ ففي نفس السنة (يوم الشمس) هناك عدّة أيّام للأرض وعدّة أيّام للقمر، وهكذا فيوم الربّ مثلاً هو ألف سنة مما نعدّ، وهكذا فإنّ جميع الأيّام لجميع الأفلاك والأسماء الإلهيّة تتكرّر في يوم الدّهر الذي هو دورة واحدة لا تتكرّر أبداً.[246] وكذلك فإنّ يوم الدّهر هو نهارٌ كلّه ليس فيه ليل لأنّه هو الفلك المحيط الذي يحوي جميع الأفلاك المادّية والروحانية وليس هناك أي فلك أعلى منه يسبّب له الليل والنهار.

مثله مثل أغلب الصوفية، يعدّ ابن العربي الدّهر اسماً من الأسماء الإلهيّة، وذلك حسب الحديث المشهور الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: (لا تسبوا الدّهر، فإن الله هو الدّهر)،[247] وكذلك الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم عن الله تعالى أنّه يقول: (يؤذيني ابن آدم يسب الدّهر، وأنا الدّهر بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار).[248] وكذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم في سورة الجاثية: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)﴾، فيقول ابن العربي أنّهم، أي الكفّار، على حقّ في إدّعائهم أنّه لا يهلكهم إلاّ الدّهر لأنّ الله هو الدّهر، ولكنّهم ما كانوا يقصدون ذلك، وإنّما كانوا يقصدون الزّمان.[249]

لقد رأينا في بداية هذا الفصل أنّ زمن الشيء وجوده، لذلك فإنّ الله تعالى تسمّى بالدّهر لأنّ حقائق كلّ شيء توجد فيه فهو الدّهر لأن العالَم بأكمله (ظاهره وباطنه)، في كلّ مكان وعبر الزّمان من الأزل إلى الأبد، كلّه تجليّات لأسماء الله الحسنى؛ لذلك فالدّهر يحيط بجميع هذه الأسماء الإلهية.[250] فيوضّح ابن العربي في هذا الكلام أنّه لا يزال العالَم في حكم زمان الحال ولا يزال حكم الله في العالَم في حكم الزّمان ولا يزال ما مضى منه وما يستقبل في حكم زمان الحال؛ ألا ترى في كلام الله في إخباره إيّانا بأمور قد انقضت عبّر عنها بالزّمان الماضي وبأمور تأتي عبّر عنها بالزّمان المستقبل وأمور كائنة عبّر عنها بالحال، فالحال مثال قوله في سورة الرَّحمن: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾، والماضي مثال قوله تعالى في سورة مريم: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)﴾، والمستقبل مثال قوله تعالى في سورة النحل: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40)﴾، وفي سورة الأعراف قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (146)﴾، وفي سورة الأنبياء: ﴿... سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)﴾، ونطلب عند هذا كلّه عيناً وجودية يكون هذا كله فيها وهي له كالظرف فلا نجدها لا عقلاً ولا حسّاً لكن وهماً ظرفياً؛ وذاك الظرف مظروفلظرف متوهم لا يتناهى يحكم به الوهم لا غير. فما ثَمّ إن عقلت ما يُعقل بالوهم ولا يعقلبالعقل ولا بالحس إلا الوجود الحقّ الذي نستند إليه في وجودنا. فلهذه النسبة تَسمى الله تعالى لنا بالدّهر؛ حتى لا يكون الحكم إلا له لا لِما يُتوهم من حكم الزّمان إذ لا حاكمإلا الله، ففيه ظهرت أعيان الأشياء بأحكامها فهو الوجود الدائم وأعيان الممكنات بأحكامها تظهر من خلف حجاب وجوده للطافته فنرى أعيان الممكنات وهى أعياننمن خلف حجاب وجوده ولا نراه؛ كما نرى الكواكب من خلف حجب السموات ولا نرىالسموات.[251]

وعلى هذا الأساس فإنّ الدّهر على الحقيقة يتضمّن المكان والزّمان وليس فقط الزّمان لأنّه الفلك المحيط بكلّ شيء فهو يحوي العالَم من الأزل إلى الأبد وفي كلّ الأمكنة، وسوف نجد أهميّة هذه النتيجة في الفصل الثالث عند الحديث عن الخلق في ستة أيّام ونجد أهميّة الأسبوع حيث إنّ الله تعالى يخلق السموات والأرض في ستة أيّام من الأحد إلى الجمعة وهي الاتجاهات الستة للمكان ثم يستوي على العرش يوم السبت وهو الزّمان وذلك في كلّ لحظة وهي الزّمن الحاضر؛ ففي كلّ آن هناك أسبوع هو الزّمان والمكان معاً ومجموع هذه الآنات هو الدّهر فهو الوجود المستمرّ الدائم كما أشرنا إلى ذلك أعلاه؛ فالدّهر ليس سوى هذه الأيّام السبعة من الأسبوع.[252] وهكذا ففي مفهوم ابن العربي إنّ الزّمان والمكان هما أيّام، فالأسبوع هو الوحدة الأساسية للزمكان وهكذا يكون هناك معنىً علمياً دقيقاً للأسبوع لأوّل مرّة في التاريخ كما سنرى في الفصل القادم.

ولكن حسب هذا المفهوم الذي ذكرناه أعلاه للاسم الدّهر لا يمكن أن نتخيّل صيغة الجمع مثل الدهور مثلاً. ومع ذلك فإنّ ابن العربي نفسه يستعمل هذه الصيغة أحياناً فيتحدّث عن الدّهر الأوّل وعن دهر الدهور، فيقول مثلاً إنّ علم الزّمان علمٌ شريفٌ منه يُعرف الأزل ومنه ظهر قوله عليه السلام: (كان الله ولا شيء معه)[253] وهذا علمٌ لا يعلمه إلا الأفراد من الرجال وهو المعبَّر عنه بالدّهر الأوّل ودهر الدهور، وعن هذا الأزل وُجد الزّمان وبه تسمى الله بالدّهر، وهو قوله عليه السلام: (لا تسبوا الدّهر فإنّ الله هو الدّهر)، ومن حصل له علم الدّهر لم يقف في شيء ينسبه إلى الحق فإنّ له الاتساع الأعظم ومن هذا العلم تعدّدت المقالات في الإله ومنه اختلفت العقائد وهذا العلم يقبلها كلَّها ولا يردّ منها شيئاً، وهو العلم العامّ وهو الظرف الإلهي وأسراره عجيبة؛ ما له عين موجودة وهو في كل شيء حاكم، يقبل الحق نسبته ويقبل الكون نسبته، هو سلطان الأسماء كلّها المعيّنة والمغيّبة عنّا.[254]

ورغم أنّ مثل هذا الكلام يبدو غريباً إلاّ أنّ هناك بعض الإشارات في كتابات ابن العربي تبدو مقارنة لما هو معروف في علم الكون باسم نموذج الفقاعات، حيث إنّ الكون مليءٌ بالثقوب السوداء التي تسبّب تحدّباً كبيراً في الزمكان بحيث إنّها تكون نقطة واحدة في فضائنا ولكنّها في حدّ ذاتها فضاء واسع يشبه فضاءنا تماماً فهي عالم آخر قائم بذاته. فابن العربي يؤكّد أنّ كلّ جزء من العالَم يمكن أن يكون سبباً لعالم آخر مشابهٍ له،[255] يضاف إلى ذلك ما وضّحنا في الفصل السابق أنّ ابن العربي يعدّ أصل العالَم من العقل الأوّل الذي هو أحد الملائكة المهيَّمة؛[256] فكلُّ واحد من هذه الأرواح لديه نفس القدرة ليكوّن عالماً مثل عالمنا الذي نشأ عن هذا العقل الأوّل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الله تعالى يصف نفسه في القرآن الكريم بأنّه ربّ العالَمين، وليس فقط هذا العالَم.

على أية حال، لقد استُعملت كلمة الدّهر في اللغة العربية بشكل تقليدي بمعنى الأزل والأبد أو الخلود ولذلك فقد يقصد ابن العربي بصيغة الجمع لهذه الكلمة الإشارة إلى كلّ هذه التعابير فهي كلّها الدّهر.[257]


[246] الفتوحات المكية: ج3ص202س5.

[247] كنـز العمال: 8137.

[248] كنـز العمال: 8139.

[249] الفتوحات المكية: ج4ص265س29.

[250] الفتوحات المكية: ج4ص266س11.

[251] الفتوحات المكية: ج3ص547س1.

[252] الفتوحات المكية: ج2ص438س5.

[253] كنـز العمال: 29850، وقد تكلَّمنا عن هذا الحديث في أوّل هذا الفصل أعلاه.

[254] الفتوحات المكية: ج1ص156س35.

[255] الفتوحات المكية: ج1ص259س25.

[256] الفتوحات المكية: ج3ص430س5.

[257] الفتوحات المكية: ج4ص266س5.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!