موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب المبادئ والغايات فيما تحوي عليه حروف المعجم من المعاني والآيات

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو للشيخ فخر الدين عبد اللّه أبى الحسن على بن أحمد ابن الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التجيبى الحرّالى

في ذِكرِ الرتبةِ الإحاطيةِ العرشيةِ

 

 


اعلم أنَّ منتهى عِالمِ العيانِ ظاهرٌ بحسبِ إحاطة هذا المقصدِ الذي القولُ في جمعِه وتفصيله هو ظاهرُ عالمِ العرشِ المحيطِ، والعرشُ هو مَحَلُّ القيامِ ومستوى [المُلْكِ ومُنبَعَثُ الشرائعِ، ومستوى] الشعورِ، ومنتهى التخلُّصِ منِ مدارِكِ العيانِ وغايةُ المظاهرِ، ومبدأُ ظهورِ التطويرِ بما يظهرُ أثرُه فيما يكافئه مما دونَه، وذلك حيثُ هو تكاملُ الصُّوَرَ [واشتمال جملتَها بجلبابِ الحُسنِ] لمحلِّ كمالِ التلقَّي منه لما أمضى ظهوره عنه، وهو ظاهرُ عالمِ الكرسيِّ الذي هو لوحُ قلمِه، ومجتمعُ آياتِ أمرِه ولوجوبِ حكمةِ الفتقِ آيةُ الازدواجِ في الخَلقِ؛ كان ما بينهما منِ مسافةِ مسرى الغيبِ الإلهي، هو أفقُ ما بينهما، وهو الأفقُ المبينُ ومجالُ الروحِ الأمينِ لا خانية فيه ولا مَيْنَ في شيءٍ منِ تناهيه، فهذا العالمُ العرشيُّ لإحاطةِ أمرِه وإكمالِ جمعِ كرسيِّهِ وعلاءِ أُفقِه، وقُدْسِ كلماتهِ، وصفاءِ مُثُلِ عالمِه لا حروف أكمل كمالًا وأنهى بهاءً، وأشرف رفعةً وألطف مُثلًا منِ حروفهِ، وذلك بما هو آيةٌ كبرى، وهي في مستجلاها منه، ومطالعةُ ما تمثَّل منها في مرأى الكشفِ ومسِمعِه على حُكمِ مواقعِ معَانيِها لا تخرجُ عمَّا أُعلمَت له مواقعها في أسماءِ الله وصفاتهِ العُلى، فقيماتُه ومُقاماتُه وصْلَةُ لاَمَاتهِ، ومُظهراتُ ظواهرِ حقائقِه نوناتُه، إلى تمامِ ما أتت عليه معانيها، وكلُّها أرواحٌ قدسيةٌ [مَن طالع] منها شيئًا أُرِيَ منها بحسبِ حالهِ، وتمثَّلت له بمقدارِ تهيئةِ الحسِّ في مرمى مقامهِ، ومرأى ألفاتهِ أعلاها، وواواتهِ أدناها، وياءاته ألطفُها وأدناها، ولن ينتهي لكشفِ عالمِ العرشِ إلَّا صِدِّيقٌ أذعن وانقاد على أصفى التعيُّنِ المحيطِ العلمِ، الكاملِ الأمرِ، المحمديِّ الفتحِ، وإنَّما ذلك لانتهاءِ تعلُّمِه إلى منتهى ما في الفِطَر الوصولِ إليه، وتخلُّصه منِ ربقةِ تَقليدِ العقلِ والتقييدِ بما أولى منِ عِلمِ ما ينبني عليه لموجدِه حقيقةُ العجزِ في مدرَكِ العقلِ، ومتفرعِ علومهِ، فينشى ءُ أمينُ ذلك التصديقِ بكاملِ الصدقِ عمَّا وراء طورِ ما في [نهايةِ العقولِ تقريرَه]، فلا يتِوقفُ فيمِا يرِدُ عليه منِ عِلمِ آلِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم ما لا يكونُ علمُه إلَّا بالله ومنَ الله منْ [غيرِ سببٍ] مرتكزٍ في فطرةٍ، [ولا وسيلة في جبلةٍ]، كما ورد أنَّه قيل له -عليه وعلى آلهِ السلامُ: بما عرفتَ ربَّك يا رسول الله، فقال: بربِّي عرفت كلَّ شيءٍ، فمَن عرَفَ بربِّه كانَ مُحَمَّدِيَّ الفتحِ، ومَنْ عرَفَ بعقلهِ فإنْ لم يتقيَّد بحظِّه ممَّا عَلمَ بعقلهِ حتى يُنكرَ ما وراءه بل يقبلُ مواردَ العُلى، فهو صديقٌ، ولانتهاء علمِه إلى أنهى ما في الفِطَرِ الوصولَ إليه، وتصديقه إلى ما وراء العقولِ ثبوته [هو به] ينتهي كشفُه إلى ما في أبطُنِ العيانِ وجوده على مقدارِ تهيئتهِ لتلقي ما يؤتاه منِ ذلك منِ جملتهِ أو تفصيلهِ أو حدودِ حروفهِ بلوائحَ تلوحُ عليه، أو لوامعَ منِ أنوارِها وبوارِقهِا تلمعُ لديه، أو خطفاتٍ منِ معانيها تنفتحُ عليه، أو شوارقَ منِ أعيانهِا تطلعُ له، وفي مطالعةِ هذا العيانِ العليِّ ثباتٌ لمكانِ ظهورِ العنايةِ فيه، فإنَّ المطالعةَ والمكاشفةَ كلُّ ما كان أعلى قدرًا وأقربَ إلى علوِّ الفتحِ المحمديِّ كانت [أملكَ بالتثبُّتِ لمتلقيها]، والمفصِّلِ بها، وكل ما كانت أدنى دنوًا وأقرب إلى لوائحِ المُلكِ والاصطفاءِ الموسَويِّ كانت أغلبَ ولا يثبتُ لها المُطالعُ، وينالُ منِ الصعقةِ والصيحةِ والواقعةِ [بعقدِ النسبِ بسببِ] دنوِّ مكانتهِا منِ عالمِ الدنيا، الذي هو محلُّ [الغيرِ والتغيُّرِ] بمقدارِ تلك المطالعةِ منِ ظاهرِ أمرِ العالمِ الأدنى والمحلِّ الأحرى.

واعلمِ أنَّ ما منِ أمرٍ عليٍّ إلهيٍّ إلَّا وعليه آيةٌ في عبادِه، والإحاطةُ أمرٌ منِ الله، وهو سبحانه المحيطُ بكلماتهِ وحكمتهِ، فما منِ حكمةٍ وسببٍ إلَّا وأمرُه منِ ورائها منِ حيثُ ينالُه شعورًا، ولا ينالُه ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الإنسان: 30]، ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾]البقرة: 255]، والإحاطةُ العليا أمرٌ واحدٌ [سوى آيةِ] الاستدارِةِ والفلكيَّةِ وأعظمها من عالمِ العيانِ الإحاطةُ العرشيّةُ، كما قال -عليه وعلى آله السلامُ-: «ما السماوات السبع في الكرسي إلَّا كالحلقةِ الملقاةِ في الفلاةِ منِ الأرضِ، والكرسيُّ في العرشِ مثل ذلك»، والإحاطةُ الشاملةُ منِ وراء الحُكمِ إحاطةُ ما عبَّر عنِه ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3]، كما قال -عليه وعلى آله السلامُ-: «اللهم أنت الظاهرُ، فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطنُ، فليس دونك شيءٌ، وأنت الأوَّلُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيءٌ»، فهذه إحاطةُ تربيعٍ، [فالعالمُ العرشيُّ] فلكيُّ الظاهرِ مربعُ حقيقةِ الباطنِ، يقومُ على ساقٍ هو عمودُه، وعُمُدٍ أربعةٍ هي أركانُه، وجوامعُ معانيها فيما يعبِّرُ عنه العرشُ الذي وسعَ الكونَ [أمرًا وما] يعبِّرُ عنه العرشُ المجيدُ الذي وسِعَ الكونَ قسِْطًا وعَدْلًا ووزنًا، وفيما يعبِّر عنه العرشُ المحيطُ الذي وسِعَ الكونَ رعايةً وحفظًا وذكرًا وسطرًا، وفيما يعبِّر عنه العرشُ الكريمُ الذي وسِعَ الكونَ لُطفًا ورحمةً وفضلًا ورفقًا، ومسلكُ هذا العالمِ العرشيِّ هو المُلكُ العليُّ الخاصُّ الإلهيُّ الذي هو محلُّ التجليِّ بالمُلكِ في يومِ الدينِ بما وراءه وملكوتُه هو الملكوتُ الأعلى، كما يؤثرُ منِ آثارِه، روي عنه أنَّه -عليه وعلى آلهِ السلامُ- يقولُ مُعلمًا: اللهم ربُّ محمدٍ أسألك بقولهِ الطيِّبِ الطاهرِ، وما ضمَّه، وما رفعته منه إلى ملكوتكِ الأعلى، وما دون ذلك منِ المُلكِ والملكوتِ تنزلُ منه، ولذلك تنزلُ منه هذه الآياتُ الإحاطيةُ العليَّةُ تنزلاتٍ إحاطيةً، وتنزلاتِ تفصيليةً، وتنزلاتٍ [تصويريةً، وتنزلاتِ شخصيةً]، إلى ما يظهرُ من إحاطةِ ما أقام اللهُ له الملائكةَ الكرامَ السادةَ الأربعة -عليهم السلامُ- إسرافيلُ بما وسِعَ الكونَ إكمالًا وإحياءً بما منه قوامُ روحِ كلِّ ذي روحٍ، وميكائيلُ بما وسِعَ الكونَ تتمَّةً جسمانيةً، وتكملةً كونيةً بما منه قوامُ كلِّ ذي كونٍ مسترزقٍ، وهما منِ حكمِ الأوَّلِ والظاهرِ. والروحُ الأمينُ المطاعُ حبيبُ العلماءُ، ومعلِّمُ الأنبياءِ ذو الأخوَّةِ العليَّةِ بمحلِّ شرفٍ منِ المعالي المحمديَّةِ أخو محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم في أمرٍ منِ أمرِ الله تعالى له به محمدُ العلوِّ والمرافقةِ في الرفيقِ الأعلى، جبريلُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- بما وسِعَ الكونَ تعليمَا، وتارةً ووحيًا وإلقاءً وروحًا باطناً بما منه عِلمُ كلِّ ذي علمٍ، [وروحُ باطنِ كلِّ ذي عِلمٍ]، وروحُ باطنِ كلِّ ذي نورٍ، وعزرائيلُ بما وسِعَ الكونَ رجعًا وقطعًا لما بَسَطَهُ روحُ إسرافيلَ منِ الروحِ وإقامةُ ميكائيلَ منِ الرزقِ، وذلك لحكمةِ التصيير منِ عالمِ أدنى صورةٍ إلى عالمٍ أعلى، وعبورٍ منِ النباتِ إلى الحيوانِ إلى المعدنِ إلى أن يصيرَ الغذاءُ أجزاءَ المتغذي منِ عدوةٍ دنيا إلى عدوةٍ قصوى، وهما منِ الحكمِ الباطنِ والآخرِ، ولم يكمل أمرٌ في الكونِ إلَّا ولا بُدَّ أن يكفلَه منِ هذا التربيعِ قوامٌ يقيمُه وأمرٌ يكملُه وتطالعُ الروحانياتُ منِ هؤلاءِ الملائكةِ الأربعة -عليهم الصلاةُ والسلامُ- في كلِّ عالمٍ، وفي كلِّ مرتبةٍ، ويختصُّ كلُّ واحدٍ منِ الخلقِ بحظ منهم منِ حيثُ لا يشعرون، وقد يطالعُ بعضُ السالكين وأربابُ الخلواتِ الشيءَ منِ ذلك إمَّا بما يخُصُّهُ به منِ الحظِّ، أو بمجملِ قوامهِم في بعضِ مراتبِالعوالمِ الدُنى، فمنهم مَن يعظِّمُ ذلك ظناً منه أنَّ ما طالَعَهُ ولو كُشف به منِ خصوصِ حالهِ، أو خصوصِ مرائي العالمِ الذي طالَعه هو عينُ الأمرِ العليِّ المخصوصِ بالأنبياءِ فيكتُمه، أو يتكلَّمُ به على غلطِ ظنهِّ وتَعَيُّن عقلهِ حتى ربَّما جرت عليه أحكامٌ بحسبِ إعلانهِ، وهو مع ذلك يجدُ عذرَ نفسِه وينسبُ مَن يَرُدُ عليه ذلك ويُنكرُه منِ علماءِ الظاهرِ إلى الجهلِ به، ومنهم مَن يشكرُ اللهَ على ما اصطفاه به، ولا يتعرَّضُ لما لا يعلمُ مما وراء صورةِ كشفِه ولا يحكمُ بمضاءِ قضاءٍ فيما وراء حالهِ فيسلمُ ويُسلمُ منه، فينتفعُ وينفعُ به، وإنَّما يكونُ إحاطةُ عِلمِ ذلك كلِّه عند المختصِّ بالعِلمِ العليِّ الإحاطيِّ العلويِّ عِلمَ آلِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم هذا وجهُ الإنباءِ الجامعِ في هذه الرتبةِ.

وأمَّا جهةُ إقامةِ العالمِ العرشيِّ بحروفهِ أمَّا في ذواتهِ فإنَّ حروفَه سبعةٌ ثلاثةٌ ظاهِرةٌ، وهي بناءُ ظاهرِه وهو الراءُ؛ لأنَّه مبدأُ التصوراتِ، والمربين بكلمةِ الله تعالى وربانيَّتهِ، وأوّلُ المظهراتِ المربين بما أقامه اللهُ سبحانه له منِ إحاطةِ حكمتهِ وإظهارِ سُنتَّهِ ونهجِ شريعتهِ، ومُنبعثِ إشعارِ خلقِه، ومنبتِ السدرةِ لكافةِ مخلوقاتهِ، وإنَّما كان [هذا الحرفُ] عمادَه ووترَه؛ لأنَّ قوامَ الراءِ بالألفِ ونهايتَه مظهرُه، وكلُّ أوَّلِ ذِكرٍ في المخلوقاتِ منِ العقلِ الأوَّلِ والقلمِ الأوَّلِ سوى ذلك، فهو منِ أوليَّةِ كليَّةِ ما هو العرشُ والظاهرُ الثاني منِ حروفهِ العينُ؛ لأنَّه أوَّلُ عينٍ ظاهرٍ، وأكبرُها مقدارًا، وأعظمُها عيانًا، فكلُّ عينٍ دونه فمِن عينيَّةِ عينهِ، وكَان العينُ مَبدأَ وجودِه وظهورِه لإقامتهِ بياءِ الفتحةِ التي هي حياةُ العينِ في اسمِه التي هي منِ الألفِ، والظاهرُ الثالثُ الشينُ؛ لأنَّه الفصلُ الأوَّلُ، والمجموعُ المستوفي مع نهايةِ التفصيلِ تفصيلُه، فهو بذلك الشيءِ الذي لا يشاهَدُ فيما دونه منِ الأشياءِ أتمُّ شيئيةٍ منه؛ لأنَّ الشيءَ هو ما به قوامُ أمرٍ، وهو الشيءُ الذي الأشياءُ كلُّها منه، وكان منتهى تنزُّلهِ؛ لأنَّ الشينَ مُقامٌ بياءِ الكثرةِ، وهو أدنى الحروفِ رتبةَ عددٍ على مقتضى الحقِّ الغربي وكَلمَةُ اسمِ العرشِ كلمةٌ متنزّلةٌ، [وذلك أنَّ الأسماءَ منها منزّلةٌ] وهو اسمُ ما كان مبدأَ وجهِ التنزُّلِ، ومنها مترقيَّةٌ وهو لما كان متنزِّلًا نحو الترقي، ومنها مستويةٌ، وهو لما أحاطه فلم يكنُ له وجهةٌ، وهو ما آيتُه التوجُّهِ لكلِّ وجهةٍ، فاسمُ العرشِ اسمٌ متنزِّلٌ نهايةُ تنزُّلهِ استيفاءُ التفصيلِ مجتمعًا، وذلك هو حقيقةُ مدلولِ كلمةِ الشينِ، وقد وضح أنَّ رتبةَ العينِ في العشراتِ، ورتبةَ الراءِ في المئين، ورتبةَ الشينِ على الأحقِّ في الآلافِ، فهذه حروفُه الثلاثةُ الظاهرةُ المنبئةُ معانيها عمَّا هو ظاهرُه.

وأمّا حروفُه الباطنُ فهي الحروفُ المتمِّمةُ لأسماءِ حروفهِ الظاهرةِ، وهي منبهةٌ عما هو باطنهُ، وتلك أربعةُ أحرفٍ أوَّلُها وقوامُها وسواءُ أمرهِا الألفُ، الذي هو عمادُ الراءِ التي هي عمادُه، فالهمزةُ ثانيها التي هي نهايةُ الراءِ، فهو بما الألف نهاية باطنِ حروفهِ منتهى الإدراكِ، ومبدأ المجازِ، فلا يُنالُ بما وراءه بوسيلةِ حكمةٍ، ولا ينالُه إدراكُ عقلٍ، بل العقلُ إنَّما كان عقلًا؛ لأنَّه عقالُ ما وراءه، وهو بما الهمزةُ أيضًا باطنٌ منِ حروفهِ هو [منقطعُ الخلقِ] وحدُّ نهايةِ الحكمةِ ترقيًا، وبدءُ الكونِ وأوَّلُ الأوليِّاتِ تنزلًا، والثالثُ مِن حروفهِ الباطنةُ الياءُ، وهو بما الياءُ منِ حروفِ باطنهِ ذي العبادةِ الجامعةِ والصلاةِ القائمةِ والتواضعِ لربِّه والأداءِ لأمانتهِ والرعايةِ والحفظِ في خلافتهِ، والعابدُ منِ ذلك على ما دونه بما يسعُ كلَّ ذي حظِّ منِ أمرِه، فما منِ عبادةٍ منبئةٍ على حُكمٍ لحكمةٍ وصلاةٍ وحسنةٍ وأداءِ أمانةٍ ورعايةٍ إلَّا مما كليَّتُه منِ حُكمِ يائهِ، والرابعُ مِن حروفهِ النونُ، [وهو فيه] متكررُ نون عليِّ عِلْمِيٍّ عَقْليٍّ منِ موقعِه في العينِ، فمنه نورانيِّةُ كلِّ ذي نورٍ عقليٍّ حِكَميٍّ على مقتضى تنزُّلِ التفصيلِ منِ جوامعِ [أمرِه، ونونٌ] أدنى حسيٍّ متجسدٍ منِ موقعِه في الشينِ، فمنه في المحسوساتِ نورُ كلِّ ذي نورٍ، وإشراقُ كلِّ ذي إشراقٍ حتى [يتنوعَ كلُّ ذي تنوُّعٍ]، وأدنى [بريقٍ في شيءٍ] ولن يخرجَ شيءٌ منِ نظامِ الحكمةِ في تنزُّلها وذواتهِا عن مقتضى هذه الحروفِ السبعةِ.

أمَّا كلُّ عالمٍ، فعمَرَتُه خلقٌ ينشئه اللهُ بلطيفِ حكمتهِ منِ ألطفِ ما اشتمل عليه ذلك العالمُ منِ لطيفِ ظاهرِه وباطنهِ بقصدِ الرحمةِ بالسكونِ للمحلِّ والموطنِ [والتنزَّلِ والانحيازِ] إليه، وهو منِ الرحمةِ في الحُكمِ، ولكنهَّ شِركٌ في الجبلَّةِ في أمرِ السواءِ والإحاطةِ، ولذلك كانت الهجرةُ والغربةُ منِ أوَّلِ ما يحاولُ به رفعَ الشِّركِ عن الجِبلاتِ والأنفسِ، فهو توحيدٌ وسواءٌ في ذاتِ عملٍ، فعمرُةُ العالمِ العرشيِّ منِ الروحِ الذي تجندَُّ الأرواحُ كلُّها منه، ومنِ روحِ القُدُسِ، وهو روحٌ لا يَظهرُ التفاوتَ بالحُسنِ والقبحِ، والخيرِ والشرِّفي أمرِه؛ لأنَّه سواءٌ في إصابةِ المنافعِ إلى المساكين [رفعُ الشِّركِ فيمن يقرَبُ رفع الشركِ]، ومنِ الروحِ الأمينِ وهو روحٌ يُظهرُ التفاوتَ في أمرِه لتنزُّلهِ إلى العالمِ الذي فيه فصلُ الحكمةِ إلى الحُسنِ والقُبحِ، والخيرِ والشرِّ، ومنِ القلمِ الأوَّلِ الأعلمِ، وسوى ذلك مما إليه يستندُ بحسبِ الحكمةِ جوامعُ أمورِ الكونِ كلِّه، فالعالمُ بعمرتهِ هو ما آيتُه اللوحُ والكتابُ المشتملُ على الحروفِ والكَلمِ والكلامِ المسطورِ كلِّ ذلك فيه، وكليَّةُ عمرتهِ [ذِكرُه، وتفصيلُه] فرقانُه، وولاةُ الأمرِ فيه كلمُِهُ وحدودُ مجتمعِ قوامهِم لذلك، وتسخيرُ حقائقُهم منِ حيثُ يظهرُ منه بعضٌ أدنى، ويبطنُ تمامٌ أعلى هي حروفُه، فمَن كُشف له إحاطةُ هذه الحروفِ العرشيَّةِ ملتمحٌ فقد انكشف له منِ حروفهِ ما شاء اللهُ تعالى، وهذه الحقيقةُ كثيرًا ما تترائى الحروفُ لذوي الكشفِ دوائرَ لمَا ذُكر منِ أنَّ الاستدارةَ آيةُ الإحاطةِ، ولخفاءِ الإحاطةِ عن الإحساسِ بل عن دركِ العقولِ يخفى إقامةُ ما هو حقائقُ الحروفِ لمَا هي جوامعُ الكَلمِ التي هي قوامُ مجتمعِ ما هو الكلامُ، وذلك بمنزلةِ الواحدِ منِ آلِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم مثلًا في عالمِ الإنسِ، فإنَّه يقيمُ أمرَهم منِ حيثُ يشهدون سِرَّه، ويغيبُ عنهم كمالُ قوامهِم به وتمامُه، [فهو لذلك] حرفٌ لا يُدرَكُ في عالمِه منِ أمرِه إلاَّ حدٌّ وطرفٌ ظاهرٌ لتمامٍ باطنٍ لا يدركونه منه، ولا منِ أمرِه فيهم، فحروفُ العالمِ العرشيِّ وكلِّ عالمٍ هو الأدنى [لو اجتمع] جميعُ عَمَرَةِ ذلك العالمِ ثُمَّ استبصروا لوجدوا أمرَهم راجعًا إليهم ووجدوا الإذعانَ لهم بذلك، وبأنَّهم لا يدركون تمامَ ما هو عليه عِلمًا ولا عَمَلًا، فلا يدركون منِ أمرِ مَن هم، فهم بمنزلةِ الحروفِ، إلَّا ما يجدون منِ آثارِهم في أنفسِهم، ومَن استبصر منهم كان على يقينٍ منِ أنَّ وراء علمِهم فيهم أمرًا لا يعلمونَه ولا يدركونَه، كما كان صلّى الله عليه وسلّم فإنَّه لمَّا كان ذات حرفٍ، وذات الحروفِ، فهو الباءُ [في إحاطةِ] إقامتهِ وتنزُّلهِ لأدنى رُتَبِ الناسِ وسِعتُه الأحمرُ والأسودُ منِ المخلوقاتِ، وهو سينٌ وطاءٌ وهاءٌ، وميمٌ؛ لوفاءِ أمرِه بإحاطةِ حقيقةِ كلِّ حرفٍ منها، وكذلك سواها منِ الحروفِ، وقد كانوا معه في أمرٍ لا يدركون كنهَه، وقد قالوا لمَّا فقِدوا جثمانَه الكريمَ في ظاهرِ حواسِّهم ما نفضنا أيدينا منِ ترابِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم:«حتى أنكرنا قلوبنا، وقد كان أنار بقدومِه المدينة كل شيء، فأظلم منها عند وفاته كلُّ شيء»، وهذا أدنى [أثرٍ أدركوه] في نفوسِهم وأحوالهِم، وكذلك [كان حالُهم مع] عليٍّ -عليه السلامُ- تُظلمُ عليهم الخطوبُ فتُفرجُ عنهم به حتى انتهى عُمَرُ -رضي اللهُ عنه- إلى أن يقولَ: أعوذُ بالله منِ معضلةٍ ليس بها أبو حسن، ولولا عليٌّ لهلَكَ عُمَرُ، ونحو ذلك كثيرٌ، ويقولُ ذو الرأيِّ منهم: لولا عليٌّ ما عرفنا كيف نقاِتلُ أهل الإسلامِ، وكذلك آلُ محمدٍ عابرِ اليوم المحمديِّ لهم إقامةُ أمرِ الله منِ حيثُ لا يشعرُ به الأقطابُ والأبدالُ والأوتادُ والنقباءُ والنجباءُ، وهؤلاء دون إقامةِ آلِ محمدٍ الإحاطيةِ إقامةً لأمرِ الدينِ والدنيا منِ حيثُ لا يشعرون بمسرى مَدَدِهم منِ آلِ محمدٍ إلاَّ أن يجدوا أثرًا منِ الآثارِ لمن يؤيَّدُ بروحٍ منهم، وكذلك لأولي الأمرِ الظاهرِ منِ الخلفاءِ والملوكِ والأمراءِ والولاةِ والقضاةِ والفقهاءِ والشهداءِ، ومَن يلحقُ بهم ممن يقومُ به أمرُ ظاهرِ الدينِ والدنيا لهم منِ الأقطاِبِ، ومَن ذُكر معهم مَدَدُ إقامتهِ منِ حيثُ لا يشعرون، وذلك لأنَّ الأمرَ كلَّه لله ﴿ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، ﴿ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]، كذلك الأمرُ العرشيُّ على إقامة أمرِه؛ وأتمُّها إحاطةً هي حقائقُ حروفه، وما دون ذلك كَلمِه، وما دون ذلك كلامه، فهذا وجهُ ما آيتُه الكلامُ والكَلمُ والحروفُ في العالمِ العرشيِّ وما دونه.

وأمَّا تفاوتُ الحروفِ في البيانِ والوضوحُ في عالمِ الكشفِ؛ فاعلم أنَّ مُطلقَ الكشفِ له رتبتان: كشفٌ عاميٌّ يحصلُ عن ثمرةِ عملٍ ومجاهدةٍ تنشأُ نواشئه عن أصلِ مقتضى الحكمةِ ونهجِ اختصاصِ التكرُمةِ على حسبِ الحظِّ منِ الإقبالِ على إخلاصِ الوجهةِ بحكم الشريعةِ والسُنةَ، وشأنُه أن يكونَ كشف عيان الكاشفِ وسمعه وسائر حواسِّه، يطالعُ فيها أمورًا بائنةً عنه متمثلةً له في صورِها وأكوانهِا وأحوالهِا وإجمالهِا وبيانهِا على حسبِ قوَّتهِ في الثباتِ لما يطالعه، فيكونُ حاملًا الوصف ما ناله؛ أي البواطنُ، وكان منِ حواسِّه منِ أمرِ مثالٍ أو مسموعِ خطابٍ وسوى ذلك منِ مثالِ الحواسِّ مما يعلمُ منه عاليةَ مقامهِ مما لا يعلمُه الكاشفُ، فإنَّه لا يعلمُ كليَّةَ أمرٍ إلَّا مَن عَلا عليه وتخلَّص منه، كما ورد عنه -عليه الصلاةُ والسلامُ- أنَّه قال: «فقرَّبني ربِّي إلى سندِ العرشِ، فرأيت العرشَ كما ينبغي» ؛ أي إلى الشينِ الذي (بياض في المخطوطات) العرشُ مستندٌ إليه، والمرادُ فوقه وهو الحقُّ تعالى، وأمَّا تحقُّقُ عِلمِ ما ناله الكاشفُ وكُنه فهمِه، فإنَّما يكونُ عند الكاملِ العِلمِ المحمديِّ الإحاطةِ، فمنه ما يكونُ مقصودُه في ظاهرِه على ما يطالعه الكاشفُ، ومنه ما يتبلَّجُ عِلمُه بعد اعتبارٍ إلى ما هو آيتُه، أو بعد تعبيرٍ لما هو تمثيلُه بمنزلةِ الرؤيا، وهذه المكاشفةُ في هذه الرتبةِ وما معها منِ خوارقِ العادةِ وانطلاقِ اللسانِ بالكلامِ في غيبِ أمرٍ ما منِ الأمورِ التي في ظاهرِها بُشرى وتكرُمةٌ، وفي غيبهِا فتنةٌ وامِتحانٌ؛ لأنَّها منِ الامتناعاتِ المشغلةِ عن شوقِ القلبِ إلى وفاءِ الحظِّ منِ الله سبحانه، وفي حفظهِا [اعتبارُ غايةٍ] لأنَّها تجفو بالسرِّ هفوةً منِ هفواتِ شروطِ حفظهِا وملاك البيانِ والوضوحِ والإتمامِ في مطالعةِ هذه الرتبةِ منِ جهةِ علوِّ ما هو في أمرِها آيةٌ على عِلمِ عليٍّ [أو دون من علمِ عليمٍ أو ذو] عِلمٍ مستوضحٍ فيما يشاهدُه الكاشفُ منِ هيئاتِ المرئي وألوانهِ وأحوالهِ، وجوامعُ الإعلامِ في ذلك تُعربُ عنه؛ أمَّا في الأشكالِ فأن تعلمَ أنَّ ما لم يحط المُكاشَفُ بمرآه، وهو الذي يمرُّ في الأقطارِ لا يدركُ المطالعُ غايتَها، فحقيقته تفوت مقامَه ذلك، فلا يبينُ كنهُه في ذلك المقامِ وما أحاط بمثالِ إدراكهِ المكاشف، فما كان إلى الاستدارةِ، فهو منِ آياتِ إحاطةِ الحكمةِ، وما سوى ذلك يُعتبرُ بما مثالُه في العوالمِ الحواسُّ الظاهرةُ منِ الأشياءِ كائناً ما كان منِ حيوانٍ أو معدنٍ أو نحوِ ذلك، فعلمُه موجودٌ في عبرةِ مثالهِ منِ عالمِ الحسِّ، وكذلك تعبيرُه في مثالهِ منه فيما يقعُ في عالمِ الرؤيا، وفرقُ ما بين عالمِ الكشفِ وعالمِ الرؤيا: أنَّ عالمَ الكشفِ مفهومُه في مدلولِ ظاهرِ الباطنِ، وعالمَ الرؤيا تمثيلٌ هو منِ وجودِ الظاهرِ المحسوسِ، فهذا [وجهُ التبيينِ لما هو في مرائي] الكشفِ بمنزلةِ الهيئاتِ.

وأمَّا في الألوانِ فما كان إلى الشَّفاف وما لا يحصلُ له لونٌ فهو منِ آياتِ إطلاقِ الإحاطةِ، [وما كان] إلى البياضِ، [فهو منِ آياتِ] استواءِ الفِطرةِ، وما كان إلى الخُضرةِ، فهو منِ آياتِ الامتحانِ وثمرةِ المجاهدةِ، وما كان إلى الحُمرةِ، فهو ما آيتُه البهجةُ والمسرَّةُ، وهو حقيقةٌ وسطٌ في سواءٍ وحكمةٍ، وما كان إلى الصُفرةِ، فهو منِ آياتِ الاحتجابِ بالحكمةِ، ومبدأُ التغيُّرِ والإغماءِ على ناصعِ الوضوحِ الأوَّلِ، ولن يقع في الكشفِ الروحاني ما هو سوادٌ؛ لأنَّ أمرَه في الظاهرِ تغييرُ حالِ فطرةٍ إلى حدِّ سوءِ حالٍ، ولكن يقعُ فيه منقطعٌ ومجازٌ عمَّن هو آيتُه ما هو العماءُ الذي [مظهرُه يكونُ] في الكشفِ الأعلى، وأمَّا أحوالُه فمأخوذةٌ منِ مَوجدة الكاشف، فإن وجَدَ له رَوْحًا فهو منِ عينِ الرحمةِ، وإنْ وجَدَ منه انقباضًا وقاسَرَهُ غشيان، فهو منِ عينِ المحنةِ ومطالعِ الرهبةِ.

وأمَّا إجمالُه وبيانُه فمستجلى منِ جهةِ اللسانِ المسموعِ إن كانأ عجميًا فمبنى أمرِه إلى موقفٍ ينعجمُ غيبُه، وإن كان عربيًا فبحسبِ بيانِ كَلمِه وانتظامهِ؛ وأعلاه ظاهرًا وأحسنه إذا ما كان منِ آي القرآنِ وسُوَرِه، وأكثر ما يكونُ إظهارُ أمرِ الوقتِ على وجهِ البيانِ المخصوصِ بكلامٍ غيرِ القرآنِ، وما وُجِّهَ بيانُه نحو الخاصَّةِ كان بشعرٍ موزونٍ، وما وُجِّهَ تلاوتُه نحوِ عامةِ أهلِ السلوكِ كان بكلامٍ منثورٍ صحفي، وما تلقَّنه الكاشفُ منِ ذلك فنسيه أو تردَّد فيه، مما كان قد تحقَّقه في حالِ الكشفِ منِ مستجلى السمعِ أو غيرِه منِ الحواسِّ، فهو بما له تحقيقٌ في الاستقبالِ أمرُه، وللمكاشَفِ منه حظٌّ لم يَحِل أوانُه.

واعلم أنَّه كما أنَّ منِ ثمرةِ خلوصِ الوجهةِ إلى تحصيلِ الحظِّ على حُكمِ الشِرعةِ التكرمةُ بكشفِ ظواهرَ منِ عالمِ الحسِّ عن ظاهرِ الحسِّ؛ لأنَّه اطِّلاعٌ على خاصِّ ملكوتٍ منِ ملكوتِ المَلكِ الحميدِ، [فلذلك منِ ثمرتهِ] إعطاءُ حظٍّ أو مَلَكَةٍ من الأصحابِ عن ظاهرِ حواسِّ عامةِ الناسِ، إمَّا في وقتٍ لأمرٍ عارضٍ كمن يحتجبُ عن [عدٍّ ولتمامِ كائنة] يُقامُ فيها، وإمَّا في أكثرِ أوقاتهِ أو دائمًا حتى لا يقدرُ في عالمِ الظاهرِ عند المقتصرين عن إدراكهِ خاصةً حتى [يعدّونه منِ] الموتى، كما هو في حالِ الخضرِ -عليه السلامُ- ومَن يجري مجراه منِ أقطابٍ وأبدالٍ، وأحوالٍ تعرضُ لبعضِ الأوتادِ والنجباءِ، ومَن ينخرطُ في سلكِ أمرِهم حتى أنَّ مَن له التزامٌ منهم في ظاهرِ العالمِ يوجبُ مشهده في موطنِ بركةٍ يختصُّ منِ المقيدين بظاهرٍ بين أصحابهِ، فقام له مثالٌ يتقيدون به، فلا يتفطَّنُ لذلك منِ أصحابهِ وخواصِّه إلَّا مَن اطَّلع على ذلك لا مَن يرجعُ إلِى تمامِ حكمةٍ خاصةٍ أو عامةٍ، وذلك لأنَّهم ولاةٌ [للأمورِ وعمالٌ لأمرِ الله] في الأرضِ، وكما أنَّه يتمُّ قيامُ أمرِ ولاة ِالظاهرِ بزيادةِ ظهورٍ على العامةِ واعتضادٍ بمكنةٍ، فكذلك يقامُ أمرُ ولاةِ الباطنِ بزيادةِ علوٍّ في الاستبطانِ والتمكُّنِ في عالمِ المُلكِ، وحظ منِ الملكوتِ بما يقومُ لهم مقامَ قوَّةِ الاعتدالِ، كملوكِ الدنيا وولاتهِا منِ خرقِ الهواءِ وامتطاءِ الماءِ ومعالجتهِ يكونُ الغذاءُ منِ غيرِ عناءٍ، ورفعُ حجابِ العادةِ في تقصيرِ الإدراكِ عن غائبٍ أوِ بعيدٍ عن منالهِ منِ ظاهرِ الوجودِ، وذلك بمقدارِ ما يعلو هذا الأمر منِ أمرِ الله على أمرِ ما ولَّاه ولاةُ الظاهرِ في خلقِه، فجملةُ هذه الرتبةِ في الكشفِ الأدنى البائنِ عن ذاتِ الكاشفِ مَن انتهى منها إلى رتبةِ كشفِ الحروفِ العرشيَّةِ العليَّةِ التي هي نهايةُ مرتقى الحكمةِ، والعملُ بمقتضى السُّنةَ تتضحُ فيها الحروفُ الخفيَّةُ العُلى الثلاثةُ: الألفُ، والواوُ، والياءُ؛ لأنَّه موطنُ ظهورِ غيبِ الجمعِ والتفصيلِ، ومنتهى المستجلى في عالمِ الحكمةِ، ففيه تظهرُ مقيماتُه منِ الحروفِ الأولى التي خفيت فيما دونه، ومَن أظهر ما سوى ذلك منِ الحروفِ العين، ثُمَّ النون، وينتشرُ حرفُ الشينِ انتشارًا فيما يشيرُ إلى قولهِ تعالى: ﴿ إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ﴾ [النجم: 16]، ثُمَّ تتفاوتُ سائرُ الحروف في وضوحها فيها بمقدارِ نسبتها في حروفه السبعة المذكورةِ، وكذلك كلُّ عالمٍ دونه أوضح الحروفِ فيه ما أملك بحروفِ اسمِه الظاهرةِ في ذِكر اسمِه، والباطنةِ في تتمَّةِ أسمائها بحسبِ اسمِه في لسانِ الكاشفِ، أو مستحقِّ إدراكهِ منه الجامعُ مغزى اسمٍ بمقتضى حالهِ ومقامهِ؛ هذا حالُ هذه الرتبةِ الدنيا منِ الكشفِ.

وأمَّا الرتبةُ العليا منِ الكشفِ فإنَّه كشفٌ عليٌّ محمديٌّ علويٌّ إلِّيٌّ؛ وهو كشفٌ في ذاتِ الكاشفِ فيما يشيرُ إلى ما هو هو أنَّهِ وجدان ذاتِ الحروفِ والكَلمِ والكلامِ والوجودِ كلِّه في ذاتهِ بأمرٍ منِ أمرِ الله لا يعزبُ عن كنهِه نطقٌ ولا يحيطُ به إلَّا واجدُه.

ولمَّا كان أنهى الحروفِ خفاءً وفوتًا للعقولِ في مقتضى درجِ الحكمةِ هو حرفُ الألفِ، وكان أظهرُها وأوضحُها في ذلك ما هو حرفُ الميمِ؛ لأنَّه كليَّةٌ مما هو في جنسِ العيانِ [عينيًا مهيئًا]، ومنقطعُ إدراكِ الحواسِّ الذي هو منقطعُ الظهورِ والوجودِ العينيِّ كان الأمرُ في هذا الكشفِ العليِّ على ما يؤولُ إليه ذلك ويعادلُه لكمالِ أمرِ السواءِ، وكانت الألفُ في كشفِ الوجدانِ الذي هو في ذاتِ الكاشفِ أوضحَ الحروفِ وأثبتَها كشفًا؛ لأنَّه في ذاتهِ وعلى صورتهِ وإطلاقِ أمرِه مصيرُ الألفِ دنيا حالِ هذا الواجدِ الكاشفِ في ذاتهِ، ويصيرُ عليه إحاطةُ كمالهِا كشفَ ما هو حرفُ الميمِ في هذا الوجدانِ الذي هو غايةُ مرماه وتمامُ أمرِه ممَّا ليس له في النطقِ آيةٌ ولا علامةٌ، وإنَّما آيةُ ما هو ذاتِ الأمرِ فيه الصمتُ العليُّ المحيطُ الذي هو صمتٌ عن كلِّ ذي اسمٍ، ولذلك خُصَّ اسمُ الصمتِ بهذه الحروفِ: وأمَّا الميمُ فالأحقُّ به لأنَّه التمامُ الذي يشيرُ إليه التمامُ، والصادُ لإحاطةِ المطابقةِ، والتاءُ لوجوبِ المرجعِ منه؛ إذ ليس وراء ظهورِه ظهورٌ، كما أنَّه ليس وراء باطنِ الألفِ باطنٌ يصارُ إليه، ومنِ تفصيلِ هذا الأمرِ العليِّ ما هو القطعُ والكفُّ والمحقُ والاصطلامُ، ونحو ذلك مما ينتجُ في مرتقى السلوكِ فناءَ الدرجةِ والمقام عند الارتقاءِ عنه إلى ما فوقه، فيضمحلُّ الأدنى لتمامِ مطلعِ أعلاه، ومنِ أدنى آياتهِ الإحراقُ سبعة ما هو النارُ ممَّا بين البأسِ الذي هو عذابُ ما هو قوامُ أعلى الواردين ومحرقُهم إلى ما هو الشوقُ والوجدُ والخوفُ الذي هو عذابُ نفوسِهم إلى ما هو السعيرُ والزمهريرُ الذي هو عذابُ أجسامهِم فيما أوَّلُه ما ناله إحساسُهم في الدنيا إلى ما وراء ذلك، وذلك في دنوِّه وظهورِه آيةُ دليلٍ ما وراء أمرِ الحجابِ في الكشفِ العليِّ فيما يشيرُ إليه قولُه -عليه الصلاةُ والسلامُ-: «حجابُه النورُ لو كشفه لأحرقت سُبحاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصرُه منِ خلقِه»، ثُمَّ سائرُ الحروفِ في البيانِ والوضوحِ على ما يعادلُ أحوالهِا في المعاني، فما كان أيسرُ منالاً معنى كان أقربَ إلى ما هو حالُ الكشفِ العليِّ في حرفِ الميمِ، وما كان أخفى منالًا في معناه كان أوضحَ وأقربَ إلى ما هو الكشفُ العليُّ الوجدانيُّ في حرفِ الألفِ بنسبةٍ معادلةٍ وموازنةٍ لإثباتِ أمرِ السواءِ، ثُمَّ محوُه وصمتُه حيثُ يظهرُ ما هو في غيبةِ ذاتِ حجابهِ.

وأما اختلافُها بحسبِ حالِ كاشفِها ونهايةِ تنزُّلهِا فاعلم أنَّ مُثلَ الكشفِ في تفصيلهِا وجوامعِها [وحروفهِا في] رتبةِ الكشفِ الأدنى تتراءى للمكاشَفِ على حالِ قوَّتهِ في إحساسِها وتنزلُ له على حسبِ ما هو الأملك منِ معانيها، فمتى كان هو مثلًا عمادًا لأجمعِ أمرٍ يُطالعُ ساقَ العرشِ، فلو ترقَّى في مقامهِ فكان قائمًا بذلك الأمرِ قيامَ إحاطةٍ طالَعَ ألفَ عالَمِ العرشِ، وتبدو له باديةُ ذلك على مقدارِ ما لا يغلبُ مرآه نيلُ حسِّه، ولا يغيبُ عن محصَّلِ ما هو حظُّه عن إدراكهِ منِ عِظَمٍ وتكوينٍ وأساريرَ، فعِظَمُها بحسبِ ذهابِ مقدارِه في الأمرِ الذي هو فيه، كما روي أنَّه صلّى الله عليه وسلّم أنَّه رأى جبريلَ -عليه السلامُ- في أمرٍ سَادًّ الأفقِ ما بين السماءِ والأرضِ على تمامِ ما تكونُ صورتُه هناك، ورآه بالأفقِ المبينِ أفقَ ما بين العرشِ والكرسيِّ على تمامِ ما تكونُ رؤيتُه الأولى آيتُها، وذلك لقوَّته -عليه السلامُ- على إدراكهِ، ولوضوحِ حقيقتهِ في ذاتهِ، [ورأته الصحابةُ كثيرًا على مثالِ البشرِ]، وتوهَّم الحسنُ -عليه السلامُ- أنَّه دُحَيَّة الكلبي -رضي اللهُ عنه- ولم يستطع مرآه المشرك] في يومِ أُحُد فمات، فالذي كان فيه خبأ الإيمانِ أغمي عليه حتى أفاق فأسلَم، مع أنَّه على مثالِ البشرِ، وجبريلُ -عليه السلامُ- لامٌ عليٌّ كما فَسِّرَ في «الٓمٓ» بعضُ المفسرين.

واعلم أنَّ الوجودَ كلَّه منتشرُ الأشخاصِ متعدِّدُ التفصيلِ جامعُ الحقيقةِ، فمَن لم يُفتح له منِ الإدراكِ فيه إلَّا بددُه طالعه جماعاتٍ من عوالمَ، وسمعه كلامًا، ومَن فُتح له إدراكُ جمعٍ لمنتشرِ بددِه طالعه صورًا مفرداتٍ، وسَمِعَهُ كلماتٍ، وصاحِبُ هذا الكشفِ المفردِ مرآه هو عالية صاحب ذلك الكشفِ المجموعِ مرائيه، ومَن فُتح له وراء ذلك الأمرِ الاطلاعُ على حدودِ إحاطاتهِ وتسخيراتِ كلِّ واحدٍ منِ حقائقِه طالَعَهُ حروفًا، ومَن التمح منِ حقائقِ تلك التسخيراتِ بحقيقةٍ واحدةٍ، وصارت تلك الحدودُ [له حدًّا واحدًا] طالعه أمرًا واحدًا محيطًا، هو حرفٌ واحدٌ في مرآه مثالًا، وهو حرفٌ واحدٌ في مسمعِه فهمًا، فمستطلعُ الوجودِ كلِّه لهذا الكاشف حرفٌ واحدٌ، وهو عاليةُ ذلك العالية، ومستطلعه لذلك التعدُّدِ الإحاطاتِ حقائقٌ متكاملةٌ، وحروفٌ متعدّدةٌ، ومستطلعه لذلك الكاشفِ مفردُ صورتهِ الجامعةِ لحظوظٍ منِ إحاطاتِ حروفهِ صورةٌ مفردةٌ وكلمةٌ واحدةٌ، ومستطلعه جميعُه أو جميعٌ منه لذلك الأدنى رتبة صورةٌ متعددةٌ متعاونةٌ متعاضدةٌ وكلامٌ منتظمٌ، فالوجودُ كلُّه جميعٌ وكلامٌ لذَا، وصورةٌ وكلمةٌ لذلك، وحقائقُ حروفٍ مثالاً وسمعًا لذلك وحرفٌ واحدٌ مثالًا وسمعًا لذلك الأعلى، وسيجري ذكرُ مثالِ ذلك في تثنيةِ الكلامِ في هذه الرتبةِ في مواقعِ هذه الرُتبِ منِ عالمِ الأرضِ المحسوسِ إن شاء اللهُ تعالى، وكذلك تتراءى الألوانُ لذي الجميعِ جميعًا منها، ولذي الجمعِ واحدًا جامعًا منها، ولذي الحدودِ رائقًا منِ لطائفِها، ولذي [الحدِّ المحيطِ شفافًا عنها] وتتناسبُ منِ حالِ الكاشفِ على نحو ما أشير إليه قبل، وقد يقعُ [لمُطالعِ سِرٍّ] وكاشف أن يُرادَ منه حملُ صورِ ما طالَعه أو نطقَه لمن هو له، فيحملُ كشفَ ما لم يبلغه مقامُه إلى مَن يبلُغه، كما قال -عليه الصلاةُ والسلامُ- في الرؤيا أو تُرى له أساريرَ ذلك وبشرى رؤياه ورَوحه على حسبِ أمنيتهِ وإشفاقهِ في مقامهِ أو فيما يتحمَّلُه لمن هو له، وكل ذلك فيجميعِ ما يتعلقُ بمطلعِ الكشفِ منِ جميعِ جهاتِ الحواسِّ الخمسِ؛ هذا حال رتبةِ الكشفِ الأدنى.

وأمَّا الكشفُ الأعلى في مواقعِ هذه المطالعةِ، فلها منِ هذه الدنيا اعتبارٌ ودون تحقُّقِها لأصحابِ الكشفِ الأدنى مجازٌ وانحسارٌ، وفيها للمتحقِّقين بها بيانٌ واستبصارٌ، وبالجملةِ فكشفُها عائدٌ إلى ذاتِ المكاشَفِ بوجدِانٍ يرجعُ منه إليه، وتعودُ عائدتُه عِليه؛ فواجدٌ بذاتهِ تفصيلَ ما ذاتُه منِ حكمةِ الله ومتحقِّقٌ بما هو منِ غيبِ أمرِ الله بحدِودِ الإحاطةِ واحدٌ بحقيقةِ ذلك الحرفِ في ذاتهِ على ما ينكشفُ منِ غيبِ أمرِ الله، فتندرجُ بذلك الحروف العرشية بما حوته في حروفِ موجدتهِ وحقيقةِ ذاتهِ، وما كان أعلى استبطانًا بالغيبِ عن العينِ، فهو منِ أدنى آياتهِ، وما كان أظهرُ للعيانِ، وكان غيبُه في شدَّةِ ظهورِه كان أبهرَ آياتهِ، وهو أمرٌ خاصٌ بمحمدٍ صلّى الله عليه وسلّم وآله، ولا يتضحُ لغيرِ واجدِه، ولا يتفاهمُ به إلا بسُنةَ الأحديةِ في ذِكر الرتبةِ التفصيليةِ السمائيةِ والفلكيةِ.

وإذ قد أتينا والحمدُ لله على ما شاء اللهُ منِ أمرِ الرتبةِ الإحاطيةِ العرشيةِ، فنصلُ ذلك بذِكرِ رتبةِ التفصيلِ بالسبعِ الذي أحكمت الحكمةُ العليَّةُ عددَها بما كَمُل منِ زوجيَّةِ أوَّلِ الوِترِ الذي هو الثلاثُ وجامعُها السابعُ، وهو عددُ رتبةِ الواوِ الذي هو ذاتُ العلوِّ، وتمامُ جوامعِ التفصيلِ، وجامعُ عددَي الدالِ والجيمِ الذي هو ثاني الشفعِ، وثاني واحدِ الهمزةِ وآيتُها الأولى.

واعلم أنَّ عالمَ السبعِ مزدوجٌ في السبعِ سماواتٍ، والسبعَ أرضين ازدواجٌ واحديُّ العرشِ والكرسيِّ، إلاَّ أنَّ زوجَ السبعِ عالمٌ متبدِّلٌ، وزوجَ الواحدين منِ مجموعِ أمرِ العرشِ [والكرسيِّ عالمٌ ثابتٌ عنه يتبدَّلُ عالمُ السبعِ]، وسبعُ السماواتِ محلُّ تفصيلِ ما يحيطُ به العالمُ العرشيُّ ووجهُ الأرضِ في سبعِ أقاليمَ، وما يتصِلُ به منِ سبعِ أرضين محلُّ تفصيلِ ما يحيطُ [به الكرسيُّ] منِ صورِ تكاملِ ذروِها ومظهرِها للعيانِ فيوجهِ الأرضِ.

ولمَّا كانت نهايةُ موقفِ الحكمةِ كانت مبدأً للعودِ على ما يشيرُ إليه قولُه تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلْأَرْضُ غَيْرَ ٱلْأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ ﴾ [إبراهيم: 48]، فيقلبان ظهرًا لبطنٍ وبطناً لظهرٍ، وبدءُ ذلك في عالمِ ذرِّها من أوَّلِ ظهورِ الموتِ على وجهِ الأرضِ إلى تمامِ تبدُّلهِا هي في ذواتهِا يومَ الحشرِ، ولمَّا كان السبعُ السماوات عالمٌ [بقوةِ الطرقِ] أعلَم وجهُه الذي هو سماءُ الدنيا بما صار آيةً على عددِها وإعلامًا بإحكامهِا، فكانت السماءُ الدنيا تسعةَ أفلاكٍ متلاصقاتٍ لا آفاقَ بينها؛ ليكون آيةً كليّةً [للتسعِ منِ] السبعِ السماواتِ والعرشِ والكرسيِّ ذوات بيِّنةِ الآفاقِ، فتاسعها الفلكُ الأعظمُ المحرِّكُ الأسرعُ حركةً وهو آيةُ ما هو العرشُ، وثانيها المبدأُ البطيءُ الحركةِ والقليلُ الفوتِ لحركةِ الأوَّلِ ذي الصورِ، والبروجُ آيةُ الكرسيِّ الذي هو لوحُ قلمِ العرشِ وسبعُها المعلَّمةُ بالدراري السبعِ السيارةِ آيةُ السماواتِ السبعِ، وعالمُ السماءِ عالمٌ برزخيٌّ يتلقى عمَّا فوقه، ويُلقي [على ما] دونه، ولتعدُّدِه هو محلُّ كلامٍ وأدناه هو محلُّ تنزُّلِ القرآنِ، ووسعُ ما بين أنهى العرشِ وأدنى وجه السماء، وهو متسعُ الشريعةِ ومتشعَّبُ الأديانِ مما بين دينِ السوداءِ وإثباتِ الإيمانِ لها بقولها: «إنَّ اللهَ في السماءِ» نهايةُ معرفة حادثة بأنَّ اللهَ على العرشِ استوى، ومتعلَّقُ برزخِ كلِّ متدينٍ بعد وفاتهِ، وهو محلُّ تديُّنهِ في حياتهِ، إلَّا ما يُزده اللهُ منِ فضلهِ، وكلٌّ بفضلهِ ولكن الفضلَ منِ غيرِ سببٍ محمولُ فضلٍ على الفضلِ الذي هو بتوسُّطِ سَبَبٍ موصولٍ، فذلك موقعُ كشفِ كلِّ كاشفٍ منِ عالمِ السماواتِ؛ محلُّ دينهِ وخلوصُ عملهِ، ولكن غالبَ منكشفِ السماواتِ كَلمٌ منتظماتٌ، والحروفُ فيه آيُ كَلمٍ خفيَّاتٍ؛ لأنَّها في الرتبةِ الثانيةِ منِ الرُّتبِ الجامعاتِ، وهي في ذواتهِا متضايفاتٌ؛ لأنَّ ألفَ ما دونهِا هو بعينهِ [لامُ ما] فوقها ولامُ ما دونهِا هو في انتهاءِ ميمِ تمامِ أمرِ أعلاها، فقيماتُها مُقاماتٌ وألفاتُها لاماتٌ ومطالعوها متوسطو المنزلةِ منِ الرتبةِ العليا وما ودونها منِ الرتبةِ الدنيا، فهم لذلك إمَّا تلامذةٌ لمطالعي العُليا، وإمَّا مشايخُ لمَن قصُر عن هذه الرتبةِ إلى ما هو أنزلُ وأدنى، وحروفُ هذه الرتبةِ التفصيليةِ إلى كثافةٍ في مُثلهِا وألوانهِا وملتبسةٌ بالإجمالِ في بيانهِا، فإنَّ الأمرَ إمَّا على لُطفٍ، وإمَّا تنزُّلٍ كثيف؛ لأنّها صارت حروفَ حروفٍ أعلى منها، ومُثلَ مُثلهِا وآياتِ آياتهِا، وأظهرُها هي حروفُ اسمِها عند كاشفِها وما يتصلُّ بها، وأمَّا حروفُ آياتِ تلك الآياتِ منِ القِطَعِ الفلكياتِ، فأظهرُها مثلُ الكواكبِ؛ لأنَّها نُطقُ مضمونٍ منِ التدبيرِ المخصوصِ بالسماءِ الدنيا، إلَّا أنَّها لا تمتازُ حروفًا إلاَّ لذي إدراكٍ نافذٍ وكشفٍ واضحٍ؛ [لأنَّ أمرَها] متألفٌ بعضُها مع بعضٍ جارٍ على حسبِ هيئاتِ الإنشاءِ والإقبالِ والاضمحلالِ والإدبارِ في الأمورِ التي ترجعُ حكمتُها إليها، وكشفُ مُثلهِا مختصٌّ بأوقاتٍ تناسبُها يطَّلعُ عليها أهلُ الاختصاصِ، واللهُ سبحانه المانُّ على ما يشاءُ بما يشاءُ [إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، وصلى اللهُ على سيِّدِنا محمدٍ وآلهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا].

﴿سُبْحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۞ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلْمُرْسَلِينَ ۞ وَٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ [الصافات: 180-182].

* * *


hXPh3Gy1sKg

 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!