موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(33) المكتوب الثالث والثلاثون صدر إلى الحاج الملا محمد اللاهوري في بيان مذمة علماء السوء الذين هم في أسر محبة الدنيا ومدح العلماء الزهاد الذين يرغبون عن الدنيا

 

 


المخدوم أنّ ذلك السّلب لا يكون إلّا بالإختيار كما ذكر في الحضور. والآن هذا السّلب بحالة ومن الخيال تصوّر زواله. والصّوت المسموع من القلب لا تعلّق له بتلك الحالة، ألا ترى أنّ الرّماد الّذي زالت عنه النّار وصار باردا يصدر عنه صوت بعد صبّ الماء فيه، ولا يقال إنّ النّار مكنونة فيه بعد، ولا اعتبار للوقائع فإن كان هذا الكلام مخفيّا اليوم يظهر صدقه غدا إن شاء الله تعالى. ولمّا كان كتابكم مشتملا على المبالغة صدر في جوابه كلمات وإلّا لا يتيسّر الكلام بلا داع.

(٣٣) المكتوب الثّالث والثّلاثون صدر إلى الحاجّ الملّا محمّد اللّاهوريّ في بيان مذمّة علماء السّوء الّذين هم في أسر محبّة الدّنيا ومدح العلماء الزّهّاد الّذين يرغبون عن الدّنيا

إنّ محبّة الدّنيا من العلماء ورغبتهم فيها كلف على وجه جمالهم وإن كان يحصل منهم فوائد للخلائق لكن لا يكون علمهم نافعا في حقّهم. وإن كان تأييد الشّريعة وتقوية الملّة مرتّبا عليهم لكن لا اعتبار على ذلك، فإنّ التّأييد والتّقوية يحصل من أهل الفجور وأرباب الفتور أحيانا كما أخبر (١) سيّد الأنبياء عليه وعلى آله الصّلوات والتّسليمات عن تأييد الفاجر حيث قال: «إنّ الله ليؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر» (٢) وهم كحجر الفارس حيث انّ كلّما يلصق به من الشّيء الأملس والحديد يكون ذهبا وهو باق على حجريّته وكالنّار المودعة في الحجر والشّجر فإنّه يحصل منها منافع للعالم ولكن لا نصيب للحجر والشّجر من تلك النّار المودعة في باطنهما بل أقول إنّ ذلك العلم مضرّ في حقّهم لأنّه به تمّت الحجّة

__________

(١) اخرجه الشيخان عن ابى هريرة رضى الله عنه والترمذي عن انس رضى الله عنه والطبرانى في الكبير وابو نعيم في الحلية وابن عدى في الكامل بالفاظ مختلفة (محمد مراد القزاني رحمة الله عليه)

(٢) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الجهاد واليسر، باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، ومسلم: كتاب: الإيمان، باب: باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأحمد في المسند، باقي مسند المكثرين، والدارمي في سننه في كتاب المقدمة، باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، جميعهم أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه والطبرانى في المعجم الكبير من حديث النعمان بن عبد الله بن مقرّن وأبو نعيم في الحلية وابن عدى في الكامل بألفاظ مختلفة. شرح الحديث: «إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين “ أي: الدين المحمدي؛ بدليل قوله في الخبر الآتي: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ” واللام للعهد، والمعهود: الرجل المذكور، أو للجنس، ولا يعارضه خبر مسلم: «إنّا لا نستعين بمشرك»؛ لأنه خاص بذلك الوقت، وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنينا مشركا كما قال ابن المنير فلا يتخيّل في إمام أو سلطان فاجر إذا حمى بيضة الإسلام أنه مطروح النفع في الدين لفجوره؛ فيجوز الخروج عليه وخلعه لأن الله تعالى قد يؤيد به دينه وفجوره على نفسه؛ فيجب الصبر عليه وطاعته في غير إثم، ومنه جوزوا الدعاء للسلطان بالنصر والتأييد مع جوره، وهذا قاله لّما رأى في غزوة حنين رجلا يدّعي الإسلام يقاتل شديدا: «هذا من أهل النار " فجرح فقتل نفسه من شدة وجده، فذكره. والمراد بالفاجر: الفاسق إن كان الرجل مسلما حقيقة أو الكافر إن كان منافقا أي الإمام الجائر أو العالم الفاسق أو المجاهد في سبيل الله. انظر: المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير: (ح ١٧٩٠).

عليهم كما قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام «إنّ (١) أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» (٢) فكيف لا يكون مضرّا فإنّ العلم الّذي هو أعزّ الأشياء عند الله تعالى وأشرف الموجودات جعلوه وسيلة لجمع حطام الدّنيا الدّنيّة من المال والجاه والأحباب، والحال أنّ الدّنيا ذليلة عند الله تعالى وحقيرة وأبغض المخلوقات عند الله وإذلال ما هو عزيز عند الله وإعزاز ما هو ذليل عنده في غاية القباحة، بل هو معارضة مع الحقّ سبحانه في الحقيقة. والتّدريس والإفتاء إنّما يكونان نافعين إذا كانا خالصين لوجه الله تعالى وخاليين من شائبة حبّ الجاه والرّياسة وطمع حصول المال والرّفعة. وعلامة خلوّهما عن تلك المذكورات الزّهد في الدّنيا وعدم الرّغبة فيها. فالعلماء الّذين هم مبتلون بهذا البلاء ومأسورون في أسر محبّة الدّنيا فهم من علماء الدّنيا وهم علماء السّوء وشرار النّاس ولصوص الدّين، والحال أنّهم يعتقدون أنفسهم مقتدى بهم في الدّين وأفضل الخلائق أجمعين ويحسبون أنّهم على شيء إلّا أنّهم هم الكاذبون اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ الله أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣) رأى واحد من الاكابر الشّيطان قاعدا فارغ البال عن الإغواء والإضلال. فسأله عن سرّ قعوده بفراغ البال. فقال اللّعين: إنّ علماء السّوء في هذا الوقت قد أمدّوني في أمري مددا عظيما وتكفّلوا لي بالإضلال حتّى جعلوني فارغ البال والحقّ أنّ كلّ ضعف ووهن وقع في أمور الشّريعة في هذا الزّمان وكلّ فتور ظهر في ترويج الملّة وتقوية الدّين إنّما هو من شؤم علماء السّوء وفساد نيّاتهم. نعم إن كان العلماء راغبين عن الدّنيا ومحرّرين من أسر حبّ الجاه والرّياسة وطمع المال والرّفعة فهم من علماء الآخرة وورثة الأنبياء عليهم الصّلوات والتّسليمات وهم أفضل الخلائق وهم الّذين يوزن (٤) مدادهم يوم القيامة بدم الشّهداء في

__________

(١) هذا الحديث اخرجه ابن عساكر عن ابى هريرة رضى الله عنه ورواه الطبرانى أيضا في الصغير والبيهقي في الشعب عنه وابن عدى والحاكم في مستدركه أيضا بالفاظ مختلفة (محمد مراد القزاني رحمة الله عليه)

(٢) شرح الحديث: ترتي على عصيان العالم هذا الوعيد الشديد " لأن عصيانه عن علم؛ ولذا كان المنافقون في الدرك الأسفل لكونهم جحدوا بعد العلم، وكان اليهود شرا من النصارى لكونهم أنكروا بعد المعرفة. قال عبد الحق: «ومفهوم الحديث أن أعظمهم ثوابا عالم ينفعه علمه. قال الغزالي: فالعلم لا يهمل العالم، بل يهلكه هلاك الأبد، أو يحييه حياة الأبد، فمن لم ينفعه علمه لا ينجو منه رأسا برأس. هيهات فخطره عظيم وطالبه طالب النعيم المؤبد أو العذاب السرمد، لا ينفك عن الملك أو الهلك، فهو كطالب الملك في الدنيا فإن لم تتفق له الإصابة لم يطمع في السلامة أهـ. وزعم بعض الصوفية أنه إنما كان أشد الناس عذابا لأن عذابه مضاعف فوق عذاب مفارقة الجسد بقطعه عن اللذات الحسية المألوفة وعدم وصوله إلى ما هو أكمل منها لعدم انفتاح عين بصيرته مع عذاب الحجيم عن مشاهدة الحق تعالى، فعذاب الحجاب إنما يحصل للعلماء الذين تنبهوا للذة لقاء الله في الجملة ولم يتوجهوا إلى تحصيل ذلك واتبعوا الشهوات الحسية المانعة لذلك، وأما غيرهم فلا يعذب هذا العذاب الحجابي الذي هو أعظم من عذاب الجحيم لعدم تصورهم له بالكلية وعدم ذوقهم له رأسا.

(٣) الآية: ٢٠ من سورة المجادلة.

(٤) رواه ابو نعيم ذى الحلية والعسكرى في الامثال مرفوعا بلفظ جبلت القلوب على حب من احسن اليها وبغض من اساء اليها قال السيوطي رواه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا وموقوفا وهو المحفوظ قال ابن عدى وهو المعروف اهـ. (القزاني رحمة الله عليه)

سبيل الله فيترجّح مدادهم» (١). «ونوم العالم عبادة» (٢) متحقّق في حقّهم وهم الّذين استحسن في نظرهم جمال الآخرة ونضارتها وظهرت قباحة الدّنيا وشناعتها، فنظروا إلى الآخرة بنظر البقاء ورأوا الدّنيا متّسمة بسمة الزّوال والفناء; فلا جرم هربوا من الفاني وأقبلوا على الباقي. وشهود عظمة الآخرة إنّما هو ثمرة شهود الجلال اليزاليّ، وإذلال الدّنيا وتحقير ما فيها من لوازم شهود عظمة الآخرة; لأنّ (٣) الدّنيا والآخرة ضرّتان إن رضيت إحداهما سخطت الأخرى. فإن كانت الدّنيا عزيزة فالآخرة حقيرة وإن كانت الدّنيا حقيرة فالآخرة عزيزة، وجمع هذين الأمرين من قبيل جمع الأضداد (ع) ما أحسن الدّين والدّنيا لو اجتمعا * نعم قد اختار جمع من المشائخ الّذين تخلّصوا عن أسر نفوسهم ومقتضيات طبائعهم بالكلّيّة صورة أهل الدّنيا بواسطة نيّات حقّانيّة تراهم في الظّاهر راغبين فيها ولكن لا علاقة لهم بها في الحقيقة أصلا، بل هم فارغون عن الكلّ ومتخلّصون عن الجميع رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله (٤) فلا يمنعهم البيع والشّراء عن ذكر الله، فهم في عين التّعلّق بهذه الأمور غير متعلّقين بشيء. قال

__________

(١) قوله: «يوزن ... “ الخ إشارة إلى حديث ذكره الغزالى في الإحياء مرفوعا ولفظه: «يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء» أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي الدرداء. (محمد مراد القزاني رحمة الله عليه) قاله العراقى قال شارحه: «وأخرجه الشيرازى في الألقاب من طريق أنس بزيادة فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء أخرجه المرهبى في فضل العلم عن عمران ابن الحصين، وابن الجوزى في العلل عن النعمان ابن بشير، والديلمى عن ابن عمر اهـ بقدر المقصود والكلام عليه مستوفى في الشرح المذكور. قلت: ورواه المنجنيقي في «رواية الأكابر عن الأصاغر ” عن الحسن البصري مقطوعا، وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن ابن عمر مرفوعا: «وزن حبر العلماء بدم الشّهداء فرجح عليهم " وفي سنده محمد بن جعفر متهم بالوضع، ومن ثمّ قال الخطيب موضوع، ورواه الديلمي عن نافع بلفظ: «يوزن حبر العلماء ودم الشّهداء فيرجح ثواب حبر العلماء على ثواب دم الشّهداء، ومن أحسن ما قيل في ذلك: يا طالبي علم النّبيّ محمّد * ما أنتم وسواكم بسواء فمداد ما تجري به أقلامكم * أزكى وأرجح من دم الشّهداء

(٢) لا أصل له: قوله نوم العالم عبادة كأنه تلميح إلى حديث مرفوع ذكره الغزالى في الإحياء وبعده: «ونفسه تسبيح " قال العراقى المعروف فيه الصائم بدل العالم ذكره المخرج، قلت ولا يضر ذلك فإنه قد ثبت فضل العالم على الصائم القائم بل على مطلق العابد بمراتب كثيرة في أحاديث عديدة. (محمد مراد القزاني رحمة الله عليه)

(٣) قوله لأن الدنيا والآخرة الخ إشارة إلى ما ورد في الحديث من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يفنى على ما يبقى ذكره في الإحياء عن أبي موسى الأشعرى مرفوعا قال العراقى رواه أحمد والبزار والطبرانى وابن حبان والحاكم وصححه على شرط الشيخين قلت وهو منقطع بين المطلب بن عبد الله وبين أبي موسى اهـ قال شارحه قلت سبقه إلى ذلك الذهبى وقد رواه كذلك القضاعى في مسند الشهاب والبيهقي في الشعب وقال المنذرى رجال أحمد ثقاة وعند بعضهم إلا فآثروا بزيادة إلا للتبنيه اهـ وقلت وذكر في الإحياء في موضع آخر من قول على كرم الله وجهه بلفظ الدنيا والآخرة ضرتان فيقدر ما ترضي أحديهما تسخط الآخرى وروى ابن عساكر عن ابن مسعود رضه قال من أراد الآخرة أضر بالدنيا ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة فأضروا بالفانى للباقى انتهى وهذا الحديث كثير الدوران في هذا الكتاب بألفاظ مختلفة فليتنبه المطالع (القزاني رحمة الله عليه)

(٤) الآية: ٣٧ من سورة النور.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!