موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو على الأغلب من تأليف الشيخ محمد بن أبى العباس الشاذلى، الملقب بابن اللبان (المتوفى سنة 749 هجرية)

فصل الجنب

 

 


ومن المتشابه : « الجنب » في قوله تعالى : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وهو أيضا يتخرج على ما مهدناه ، وذلك أن الصورة :

إذا كانت ظلة غمام الشريعة ، فرأسها كتاب اللّه ، وجنبها سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ومظهرها متابعته ، ومتابعة خلفائه الراشدين ، وعلماء الأمة المتقين ومما يدل على ذلك ، قوله تعالى : وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مع قوله في أثناء السورة : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً فعلم أنه كتاب اللّه ، وكذا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فلما مهد الأمر بالمتابعة لكتابه وسنة رسوله ، حذر من إتيان عذابه قبل ذلك ، ومن قول النفس :

يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وذلك كالصريح في أن الجنب هو :

سنة رسوله وعلماء الأمة المتقين ، لأنهم كانوا يسخرون من الذين آمنوا في اتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا أردفت حسرتها ، بقولها : وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وبقولها لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

فرد اللّه عليها بقوله :

بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ .

تنبيه : قد سبق في أثناء السورة « 1 » قوله تعالى : فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ * أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ « 2 » ثم بيّن أنهم الذين اتقوا بقوله تعالى : لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثم بيّن بقوله : وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ « 1 » .

إن ذلك هو الذي وعدهم به ، في قوله تعالى : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ « 2 » لأنهم يكونون في الدرك الأسفل « 3 » ، والذين اتقوا في الغرف ، ولذلك حق لهم أن يتحسروا على ما فرطوا في جنب اللّه ، وهو صحبة رسوله ( ص ) ، ومتابعته ، حتى يسعدوا به ، وبصحبته كما سعد به المتقون من اتباعه ، واهتدوا باتباعه ، وفي ذلك اليوم تظهر لهم حقيقة سخريتهم في قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً إلى قوله :

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ « 4 » .

تبصرة : إذا تقرر لك بهذا أن الجنب جنبان : جنب حسي ، وجنب معنوي حقيقي ، فكذلك الصاحب بالجنب ، صاحبان : صاحب في السفر الحسي الجنبي ، وصاحب في السفر الغيبي القلبي .

وبذلك فافهم السر في قوله تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إلى قوله : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ « 5 » فإن تنزلت ، فاعتبر قوله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ « 6 » الآية .

وإن ترقيت فاعتبر قوله تعالى عن رسوله : ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى « 7 » ثم اعتبر قول الرسول ( ص ) في سفره « 8 » : « اللّهم أنت الصاحب في السفر ،

والخليفة في الأهل “ .

بيان : قد روى أبو عبد اللّه [ الحكيم الترمذي ] بسنده إلى عبد اللّه بن سلام ( رضي اللّه عنه ) : “ أن النبي صلى الله عليه وسلم يجلسه اللّه معه على العرش “ وذلك يتخرج على ما مهدناه ، لأننا بينا أن الصورة التي يتجلى اللّه فيها هي ظلة غمامة

- اللّهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل .

اللّهم اني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد .

وهي أنوار آياته ، وفي تلك الصورة يتجلى على العرش ، ونبينا صلى الله عليه وسلم يتجلى لأمته في ظلة سنته ، وكتاب اللّه وسنة رسوله : لا يفترقان ، كما لا تفارق “ لا إله إلا اللّه

لمحمد رسول اللّه “ فمن ههنا صحت المجالسة له مع ربه على عرشه ، ووضح بهذا حسرة النفس التي شقيت بمخالفته على تفريطها في جنب اللّه ، لأنها تشهد

- أقول : هو حافظ ، وليس محدثا فقط ، وله كتاب في “ السنن “ كبير . ا ه .

وفي ص 246 وقد ذكرنا احتفال الإمام أبي بكر المروزي في هذا العصر لقول مجاهد : ان اللّه تعالى يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش . وغضب العلماء لإنكار هذه المنقبة العظيمة ، التي أنفرد بها سيد البشر ، ويبعد أن يقول مجاهد ذلك إلّا بتوقيف ، فإنه قال : قرأت القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرّات على ابن عباس ( رضي اللّه عنهما ) أقفه عند كل آية أسأله .

فمجاهد : أجل المفسرين في زمانه ، وأجل المقرئين ، تلا عليه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن فممن قال : أن خبر مجاهد يسلم له ولا يعارض : عباس بن محمد الدوري الحافظ ، ويحيي بن أبي طالب المحدث ، ومحمد بن إسماعيل السلمي الترمذي الحافظ ، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي ، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني [ صاحب السنن ] وإمام وقته إبراهيم بن إسحاق الحربي ، والحافظ أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، وحمدان بن علي الوراق الحافظ ، وخلق سواهم من علماء السنة ، ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم .

ولكن : ثبت في الصحاح أن المقام المحمود في الشفاعة العامة ، الخاصة بنبينا (ص) .

وفي ص 273 عن الإمام أبي محمد بن يحيي بن محمد بن صاعد ، حافظ بغداد : أنه قال في هذه الفضيلة في قعود النبي صلى الله عليه وسلم على العرش : “ لا تدفعها ولا تماري فيها ، ولا نتكلم في حديث فيه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بشيء “ .

انتهى كلام الذهبي وما نقله ، أثبتناه بطوله ، والمتمعن في الآثار والأحاديث ، يرى أن المتكلم الذي قال اللام في العرش ليست للمعهود ، بل للجنس : لم يعد الصواب ، فليس فيها نص جازم ، يؤكد جلوسه على العرش العظيم ، الذي استوى عليه الرحمن .

أما قول الذهبي : ثبت في الصحاح أن المقام المحمود في الشفاعة العامة : الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينكر .

ولكن ليس فيه نفي اجلاس المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرش مخصوص ، بهذا المقام المحمود ، فهو مقام تكريم ، من صورة أجلاس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على عرش ، أو على كرسي بين يدي اللّه ، كما في الأثر .

وللإبهام الذي ( في الأصل الذي راجعنا عليه “ والإبهام أتى “ الخ ، ولا يفهم المعنى ) أتى من الضمير الذي يوضح رجوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرائن ، منها قوله : “ بين يدي اللّه “ وهي جملة توهم المقابلة ، واللّه تعالى منزه عن الجهات والشبه ، ولكنها قرينة على أن عرش المصطفى المكرم به ، غير عرش الرحمن العظيم ، وعلى هذا ينفض الأشكال ، وإلّا احتيج للتأويل ، لأن قوله تعالى : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يتعارض مع هذا الأثر . واللّه أعلم .

453 “ هنالك حقيقة معية ربه له ، ومجالسته .

اعتبار : ذكر أبو عبد اللّه الترمذي في “ نوادر الأصول “ له : حديث رؤيا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأهوال القيامة وفيه : “ ورأيت رجلا من أمتي ، والنبيون حلق حلق ، كلما دنا إلى حضرة طرد ، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده ، فأقعده إلى جنبي “ .

وهو أيضا : يخرج على ما مهدناه ، لأن اتباع السنة ، تارة يكون فيما يقتضي التنزيه ، وتارة يكون فيما يقتضي الحمد ، وبهما يكمل الميزان ، كما ثبت

( 1 ) روى الحكيم ، والطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة “ اني رأيت البارحة عجبا.

رأيت رجلا من أمتي قد أحتوشته ، ملائكة العذاب فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك .

ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك .

ورأيت رجلا من أمتي قد أحتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر اللّه فخلصه منهم .

ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا فجاءه صيام رمضان فسقاه .

ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن شماله ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة .

ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه بره بوالديه فرده عنه .

ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه ، فجاءته صلة الرحم فقالت : إن هذا كان وأصلا لرحمه ، فكلمهم وكلموه ، وصار معهم .

ورأيت رجلا من أمتي يأتي النبيين وهم حلق حلق ، كما مر على حلقة طرد ، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي .

ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه ، فجاءته صدقته فصارت ظلا على رأسه ، وسترا عن وجهه .

ورأيته رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فاستنقذه من ذلك .

ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار ، فجاءته دموعه التي بكى بها في الدنيا من خشية اللّه فأخرجته من النار .

ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله ، فجاءه خوفه من اللّه تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه .

ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه ، فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه .

ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم ، فجاءه وجله من اللّه تعالى فاستنقذه من ذلك .

ورأيت رجلا من أمتي يرعد كما ترعد السعفة ، فجاءه حسن ظنه باللّه تعالى فسكن رعدته .

في الصحيح “ الطهور شطر الإيمان ، والحمد للّه تملأ الميزان “ .

وصاحب غسل الجنابة : إذا شهد نور المتابعة المحمدية في الغسل ، حصل له شطر الإيمان ، فلذلك فاز بصحبته للجنب المحمدي ومجالسته .

ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط مرة ويحبو مرة ، فجاءته صلاته عليه فأخذت بيده فأقامته على الصراط حتى جاز .

ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة ، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلّا اللّه فأخذت بيده ، فأدخلته الجنة “ .

ورواه في “ الوابل الصيب “ بمغايرة ، وقال : رواه الحافظ أبو موسى المديني ، في كتاب “ الترغيب في الخصال المنجية ، والترهيب من الخلال المردية “ وبني كتابه عليه ، وجعله شرحا له ، وقال : هذا حديث حسن جدا .

فصل صفة الفوقية وأما صفة الفوقية ، فقد جاء بها الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وقوله تعالى : وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وآيات كثيرة ، وأحاديث ، وهو معدود من المتشابه ، وذلك أن « فوق » كلمة موضوعة لإفادة جهة العلو ، واللّه تعالى منزه عن الجهات ، وإنما المراد منها حيث أطلقت في حق ربنا سبحانه : إفادة العلو الحقيقي « 1 » .

ومما يدل على عدم اختصاصه بجهة « فوق » قوله تعالى : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وقوله : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وقوله تعالى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ

وقوله : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقوله : وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ وآيات كثيرة يطول ذكرها ، ولو كان في جهة العلو : لتعارضت هذه الآيات ، واختلفت ، وهو مناف لقوله تعالى : وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً .

وفي مسلم « 2 » عن أبي هريرة ( رضي اللّه عنه ) : أنه ( ص ) قال :

“ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد “ فنفي تقييده بجهة فوق ، وهو :وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. والذي يجمع بين الآيات والأحاديث : أن يعلم أن العلو له اعتباران : اعتبار إضافي ، واعتبار حقيقي ، فعلو المخلوقات بعضها على بعض ، إنما هو علو إضافي ، لأن ما من مخلوق له جهة علو ، إلّا وهو مستقل بالنسبة إلى مخلوق آخر هو فوقه ، إلى ما يشاء اللّه . وهذا العلو الإضافي قسمان : قسم حسي : وهو المفهوم بالنسبة إلى الجهات المكانية ، المخصوص بالجواهر المفتقرة للحين . وقسم معنوي : وهو المفهوم بالنسبة إلى درجات الكمال العرفاني ، لأرباب القلوب ، أو الكمال الوهمي لأرباب التقوى قال تعالى :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وقال تعالى :انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا هذا كله في العلو الإضافي .

وأما العلو الحقيقي ، فإنما هو للّه سبحانهوَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُوعلوه هذا محقق قبل الجهات والأماكن ، مفهوم بدون اعتبار النسب والإضافات ، عام في جميع تجلياته على مخلوقاته بأسمائه وصفاته . وإنما يعرفه ويشهده أرباب البصائر والقلوب ، ولتجلي نور توحيده بعلو فوقيته سبحة ، وله حجاب ، فسبحته “ * “ صفة القهر ، وحجابه خلوص العبودية ، قال تعالى :وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. تنبيه : إذا أردت أن تتحقق أن فوقيته ليست فوقية مكانية ، وإنما هي الفوقية الحقيقة ، بقهر الربوبية للعبودية ، فتفكر في حديث “ كان اللّه ولا شيء معه “

ولم يتجدد له بخلقه للسموات علو ، ولا بخلقه الأرض تزول ، ولا بخلقه للعرش استواء .

وإنما عن تجلي أسمائه وصفاته نشأت أعداد مخلوقاته ، غير مماسة له ولا منتسبة إليه بفوق ولا تحت ، ولا شيء من الجهات ، قال تعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فوصفه بالأعلى حال اتصافه بالخلق ، فدل على أن علوه محقق قبل الخلق ، ولذا قال تعالى : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية ، وصف نفسه آخر الآية بالعلو والتنزيه ، في قوله تعالى بعد ذكره قبضه للأرض وطيه للسماء ، فدل على أن علوه علو حقيقي : لا مكاني .

وتأمل قوله تعالى : وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ مع قول فرعون على بني

هي يقطع دونها السراب ، فو اللّه لوددت أني كنت تركتها “ .

قال الشرقاوي في “ شرحه “ على “ الزبيدي “ كان اللّه في الأزل ، أي أنفرد وتوحد ، فكان تامة وجملة “ ولم يكن شيء غيره “ حالية ، ويحتمل أنها خبر كان على مذهب الأخفش ، المجوز دخول الواو في خبر كان وأخواتها ، نحو كان زيد وأبوه قائم .وأما ما وقع في بعض الكتب في هذا الحديث “ كان اللّه ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان “ قال ابن قتيبة هذه زيادة ليست في شيء من كتب الحديث ، ا ه مخيون .

إسرائيل سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ « 1 » فهل يفهم أحد أن فرعون أدّعى أنه فوق بني إسرائيل : نسبة بالمكان أو بالجهة .

وإنما لما أدّعى الربوبية بقوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى كان من لازم دعواه ادعاؤه الفوقية اللائقة بالربوبية ، وهي الفوقية الحقيقية ، بالقهر ، فلذلك قال :

وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ .

لا جرم كذبه اللّه في الأمرين :

فكذبة في قوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بقوله لموسى : لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى .

وكذبه في قهره بقوله : فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى .

تنبيه : قوله تعالى : رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يرجع إلى العلو والفوقية الحقيقية ، وليس المراد : أن العلو الحقيقي له درجات وتفاوت .

وإنما المراد : أن للعباد في ترقيهم إلى معرفته وخلوص التحقيق به :

درجات :

الأولى : درجة الإيمان .

والثانية : درجة التقوى .

والثالثة : الاتباع .

والرابعة : درجة العلم .

قال تعالى : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ .

وقال تعالى : وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ .

وقال تعالى : وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا .

وقال تعالى : وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .

تنبيه : قوله تعالى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وقد

فسرت بالمساجد ، وفسرت بالقلوب ، وكيفما كان ، فرفعها : تحققها واشتمالها على ما ذكره من الدرجات المذكورة ، وتمام الآية يحققه .

تنبيه : لما أدّعى فرعون الربوبية ، واعتقد الجهة للّه تعالى قال : يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ * أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى فرد اللّه عليه وسخف سوء رأيه بقوله تعالى : وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي عدل عن سبيل القرب والدنو من إله موسى ، فإنه تنزه عن علو المكان ، وإنما يصعد إليه بالكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه .

أين هو من قول موسى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى مع أنه لم يبن له صرح ، ولا احتاج في الدنو والقرب إلى صعود السماء .

وكذلك إبراهيم حين جاء ربه بقلب سليم ، ووهب له لسان صدق علي ، فكان مجيئه إليه ، ووصوله إليه ، وعلوه : بسلامة القلب وصدق اللسان ، لا بالتسور والصعود للمكان ، وقد ثبت إيواء اللّه للمؤمنين في قوله تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ .

وفي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي أن ثلاثة حضروا حلقة ذكر ، فدخل أحدهم الحلقة ، والثاني جلس خلقهم ، والثالث أدبر ذاهبا ، فقال ( عليه الصلاة والسلام ) : “ أما أحدهم فأوى إلى اللّه فآواه اللّه ، والآخر استحيا فاستحيا اللّه منه ، والآخر أعرض ، فأعرض اللّه عنه “ .

فنبه صلى الله عليه وسلم ، على أن الداخل أوى إلى اللّه ، فآواه اللّه ، مع العلم بأنه ليس الإيواء في الآية والحديث باعتبار مكان .

وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ( رضي اللّه عنه ) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم

رأى نخامة في المسجد [ في القبلة ] فقال : “ ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه “ .

فدل على أنه ليس مخصوصا بجهة فوق ، وإلّا لما كانت قبلة المصلي ، وأمامه .

وبالجملة ، فالأحاديث الدالة على عموم إحاطة ربنا لجميع الجهات ، وعدم اختصاصه : كثيرة .

والقصد : قد حصل بما ذكرناه .



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!