موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو على الأغلب من تأليف الشيخ محمد بن أبى العباس الشاذلى، الملقب بابن اللبان (المتوفى سنة 749 هجرية)

فصل الكلام

 

 


ومنها صفة الكلام ، والمتشابه منها نسبة الصوت والحروف إلى كلام اللّه سبحانه وتعالى .

وقد وردت آيات وأحاديث ، توهم ذلك ، فمنها قوله تعالى : حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ “ * “ والمسموع إنما هو الحرف والصوت .

ومنها سماع موسى ( عليه السلام ) كلام اللّه .

وما روي من أن اللّه ينادي بصوت يسمعه من بعدكما يسمعه من قرب :

أنا الملك الديان .

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : “ من قرأ حرفا من كتاب اللّه ، فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، بل ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف “ وغير ذلك من الأحاديث الثابتة ، وهي مسألة مهمة ، بعيدة الغور ، تزلزلت فيها أقدام المتكلمين .

ومذهب أهل الحق : أن اللّه كلاما قديما قائما بذاته ، واحدا في حقيقته ، مخالفا لصفة علمه وإرادته ، منزها عن الحروف المرتبة والأصوات المحدثة ، منزلا على نبيه ، مقروءا بالألسنة ، مكتوبا في المصاحف ، مسموعا لموسى ( عليه السلام ) حقيقة ، ولمن يريد اللّه أسماعه ، غير مخلوق في الشجرة ولا قائم بالحوادث .

وموضع البراهين العقلية والسمعية على كل مقام من ذلك : الكتب الكلامية .

والمقصود ههنا رد ما وقع من المتشابه في الكتاب والسنة ، من إيهام نسبة الصوت والحرف إلى اللّه سبحانه وتعالى ، ولابد - في ردها للمحكم - من مراجعة مقدمة هذا الكتاب وهو : أن كلام اللّه سبحانه وتعالى صفته ، وصفة القديم قديمة ، تتقدس عن الحدوث ، والحروف في إفادة الكلام : يلزمها

الترتيب ، وتقدم بعضها على بعض ، وذلك مستحيل على القديم . ولكنا قدمنا أن لصفاته مظهرين ، وبه يعلم : أن لكلامه مظهر ، جسماني منسوب للعباد ، وهي الألسنة والأيدي والأقدام . ومظهر علوي روحاني ، وهو : روح القدس . وقلمه العلي ، والحروف والأصوات : من لوازم المظهرين . وكلامه منزه عنهما ، كتنزه القلب في كلامه عن الحروف اللسانية ، والأصوات الهوائية ، وإن كانت مظاهر له ، وبهذا يتضح لك جميع المتشابه . وأنا أفصله لك : فمنه قوله عزّ وجلّ :فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِأي بواسطة مظاهر الجسمانيات ، وهي أصوات العباد وحروفهم ، وإطلاق كونه سامعا لكلام اللّه بذلك : مجار ، لما قدّمناه : أن المظاهر الجسمانية ليست منسوبة إلى اللّه تعالى : لا لغة ولا شرعا . ومنه : عن عائشة ( رضي اللّه عنها ) في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما : “ أن الحارث بن هشام ، سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ . قال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال .

وأحيانا يأتيني ، يتمثل لي الملك رجلا ، فيكلمني فأوعى ما يقول “ . وهذا كله يحقق أن لكلام اللّه في الروحانات مظهرين : مظهر جلي : يتشكل بالمظاهر الجسمانية وأصواتها وحروفها . ومظهر آخر له حروف وصوت خفي روحاني ، لأن الجرس في أصله هو : الصوت الخفي ، والصلصلة : صوت اليابس الصلب إذا حرك . ويصح نسبة المسموع حينئذ إلى اللّه بالتأويل الذي ذكرته لك .

وههنا سؤالان : أحدهما : ما السر في مناسبة الصوت المسموع بالصلصلة ؟ . الثاني : ما وجه اشتداده عليه ؟ . والجواب عن الأول : أن المتنزل بالوحي ، هو الروح ، وهذا الصوت ليس صوت الروح .

وإنما الروح إذا تجلت للرؤية : أفادت لمن تجلت عليه الرؤية في مظهر يناسب قابليته واستعداده - كما قدمناه - في اختلاف الرائين على حسب صور أخلاقهم وأعمالهم . وكذلك إذا تجلت للأسماع : أفادت السمع بواسطة مظهر يناسب قابلية السمع . ومن المعلوم : أن الإنسان قبل نفخ الروح فيه ، كان أصله من صلصال ، وهي صورة طين يابس ، إذا نقر وداخلته الريح صل وصوت . فافهم بذلك : أن الصوت والحرف المسموع عند تنزل روح الوحي ، إنما هو حادث متناسب لصفة الإنسان ، ظهر لتنزل روح الوحي عليه وانفصامه عنه ، ليس معناه انقطاعه ، فإن كلام اللّه قديم لا يقبل الانقطاع ، وإنما انفصامه : غيبة القلب عن تجليه لحجاب الحس ، فهنالك يجد نفسه قد وعى ، أي جمع له الوحي بكتابه روحانية في لوح قلبه ، تحقيقا لقوله :إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. وأما الجواب عن الثاني : فإنما كان ذلك أشد الوحي ، لأن روح الإنسان لها تعلق بالحس ، وارتباط به ارتباطا جسمانيا ، فإذا جاء الوحي بواسطة الملك ، وهو على مثال الإنسان ، فقد تطور الملك ، وبرز بالوحي إلى الدائرة الإنسانية ، فسهل على الروح تلقيه ، لمناسبته العالم الحسي . وإذا جاء الوحي روحا مجردا : اقتضى تجرد القابل له من علاقة الحس ، فاشتد ثقله كما يشتد عليه التجرد من الجسد عند الموت ، ومن هذا يفهم السر في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ( رضي اللّه عنها ) عقب الوحي : “ حدثيني “ يريد الرجوع

إلى عالم الحس ، ليخف على أمته تلقي ما يلقيه إليهم عند التبليغ .

ومنه في البخاري « 1 » [ والترمذي واللفظ له ] عن أبي هريرة ( رضي اللّه عنه ) ، قال : « إذا قضى اللّه في السماء أمر ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله ، كأنها سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير » « 2 » وهذا يقتضي : ان هذا الصوت المسموع : صوت أجنحة الملائكة .

ولكن في بعض الروايات ما يقتضي نسبته إلى الوحي ، وهو يتخرج على ما قررناه ، لأنه كما أن الوحي سمعه محمد صلى الله عليه وسلم كصلصلة الجرس ، باعتبار قابليته ، فكذلك تسمعه الملائكة كجر السلسلة على الصفوان ، باعتبار قابليتهم ، لا باعتبار نفسه ، وفيه تحقيق : أن أجنحة الملائكة ليست كأجنحة الطير ، وإنما هي صفات روحانية ، كما قاله السهيلي « 3 » وهي قوى تسترسل بها فيما يأذن اللّه تعالى لها من التصريف ، ولهذا جاء ذكر الأجنحة في سياق جعلها رسلا ، قال تعالى : جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ وضربها بها : أعدادها لقبول ما يلقى عليها من روح الأمر ، واسترسالها في تنفيذه ، وكأنه من : ضرب في الأرض إذا سار .

والغرض من ذلك كله : التمثيل والتقريب للأفهام .

تنبيه : من تشبيه ما يسمع الملائكة عند الوحي بالسلسلة ، تفهم المناسبة في رؤيا عبد المطلب قبل مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : “ انه خرج من ظهره سلسلة لها طرف بالمشرق ، وطرف بالمغرب ، وطرف في السماء وطرف في الأرض ، ثم صارت شجرة لها ورق من نور ، تعلق بها أهل المشرق والمغرب ، فأولها المعبرون بولد “ .

فانظر مناسبة هذه الرؤيا للوحي .

أما مناسبة السلسلة ، فقد علمته .

وأما مناسبة مصيرها شجرة ، فخذه من كلامه سبحانه لموسى ( عليه السلام ) ، وسماعه إياه من الشجرة ، وحقيقة تلك الشجرة ، هي الروح المحمدية القائمة بسر “ لا إله إلّا اللّه “ المرادة بقوله : يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ الآية ، وهي الشجرة في قوله تعالى : مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ الآية ، وفي قوله تعالى : وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ فالدهن هو حقيقة : الزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه النار التي آنستها موسى ( عليه السلام ) ، والصبغ هو حقيقة : الصبغة ، في قوله تعالى : صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً .

تنبيه : إفادة الشجرة لاستماع كلام اللّه ، كإفادة ألسنة القراء ، وكلاهما في ذلك بمثابة القلم في إفادة المكتوب ، وإلى هذا السر أشار بقوله تعالى :

وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ “ * “ وإنما ينكشف لك ذلك بمعرفة سبب نزول هذه الآية ، فإن سبب نزولها : أن اليهود قالوا : انا أوتينا التوراة ، فيها موعظة وتفصيل لكل شيء ، فلا حاجة لنا إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنزل اللّه تعالى : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية ، أي لو أن كل ما في الأرض من الأشجار :

أقلام تفيد من كلام اللّه تعالى ما أفادته شجرة موسى لموسى ( عليه السلام ) ، ما نفدت كلمات اللّه ، ولا حصل الاستغناء عنها ، فانظر كيف أشار لشجرة الكلمات الموسوية ، وجعلها بمثابة القلم في إفادة كلمات الربوبية ، فكما أن المكتوب :

لا يحل بالقلم ، ولا يكون صفة له ، ولا ينتقل به عمن هو صفته ، كذلك الكلام المسموع ، لا يحل بالألسنة ، ولا بالمصاحف ، ولا بالأقلام ، ولا يكون صفة للقارئ ، ولا ينتقل بالقراءة والكتابة عن موصوفه تبارك وتعالى .

فإن قيل : فما معنى كونه منزلا ؟ .

قلت : قد أجاب المتكلمون بأن الإنزال : الكتاب والعبارة الدالين عليه ، وفيه نظر ، لأن المعتزلة وصفوه بأنه مخلوق ، ففر أهل السنة من ذلك إلى وصفه بأنه منزل ، فإذا كان الإنزال يرجع إلى الكتاب والعبارة الدالين عليه ، فالكتابة والعبارة مخلوقة أيضا ، فلا فرق بين وصفها بالخلق أو الإنزال ، إلّا أن رددت ذلك إلى أمر تعبدي ، أو توقيف سماعي .

والتحقيق : أن وصفه بالإنزال كوصفه تعالى بالنزول ، وانه نزول بروح أمره ، وكذلك إنزال القرآن : إنزال للروح المحمدية ، قال تعالى : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولًا “ * “ فأبدل الرسول من الذكر ، والمقصود بالعامل البدل ، وذلك نص في أن إنزال الذكر هو إنزال الرسول بالذكر .

وقال تعالى : وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ “ * * “ .

وقال تعالى : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ “ * * * “ .

فجعل الإنزال للملائكة بالروح ، وفسر الروح بكلامه ، وهو قوله تعالى :

أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا .

ولهذا جاء بأن المفسرة .

وسيأتي مزيد بيان في صفة الإنزال إن شاء اللّه تعالى .



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!