The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الثلاثون فيه كتاب ذكر تفصيل الخواطر لأهل القلوب وصفة القلب وتمثيله بالأنوار والجواهر

 

 


الفصل الثلاثون فيه كتاب ذكر تفصيل الخواطر لأهل القلوب وصفة القلب وتمثيله بالأنوار والجواهر

قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا) (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْواهَا) الشمس: 7 - 8 أي ألقي فيها وقذف فيها، وقال عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ به نَفْسُهُ) ق: 16وقال: (فَطَوَّعتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فَقَتَلَهُ) المائدة: 30 وقال تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) الناس: 4 الآية، وقال: (إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاًِ إنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) فاطر: 6 وقال تعالى: (اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله) المجادلة: 19 وقال عزّ وجلّ: (الْشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالْفَحْشَاءِ) البقرة: 268 وقال سبحانه مخبراً عن العدوّ: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف: 16 (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنَ أيْديهِمْ) الأعراف: 17 إلى آخر الآية، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر فتذر أرضك وسماءك فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو جهد النفس والمال فتقاتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك فعصاه فجاهد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من فعل ذلك فمات كان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة وقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ولأمرنّهم) النساء: 119 إلى آخر الآية.

وروينا أن عثمان بن أبي العاص قال: يارسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال ذلك الشيطان يقال له خنزب إذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني، وفي الخبر: أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا باللَّه منه، وقد روينا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والحديث المشهور: ما منكم من أحد إلا وله شيطان قالوا: وأنت يا رسول اللَّه: قال: وأنا، إلا أن اللَّه تعالى أعانني عليه فأسلم، وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: وقد روينا من طريق مسند في القلب لمتان؛ لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة من العدوّ إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير، وروينا عن الحسن رحمه اللَّه أنه قال: هما همان يجولان في القلب همّ من اللَّه تعالى وهمّ من عدوّه فرحم اللَّه عبداً وقف عند همه فما كان اللَّه أمضاه وما كان عدوّه يجاهد، وقال مجاهد في قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاس) الناس: 4 قال: هو منبسط على قلب الإنسان، فإذا ذكر اللَّه تعالى خنس وانقبض وإذا غفل انبسط على قلبه وقال عكرمة الوسواس محله في الرجل في فؤاده وعينيه ومحله في المرأة في عينيها إذا أقبلت وفي عجيزتها إذا أدبرت، وقال جرير بن عبدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل النقب الذي تمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه، وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي ذكره اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ) المطففين: 14.

وروينا عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه بذلك نكتة سوداء فإن تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجلواً مثل المرآة ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر في تقسيمه القلوب.

روينا عن أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري وبعضه أيضاً عن حذيفة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: القلوب أربعة، قلب فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ بعضهم: غلبت عليه ذهبت به، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّه) المائدة: 50 وقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ اتَّقُوا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإذَا هُمْ مُبْصِرْونَ) الأعراف: 201 فأخبر أن جلاء القلوب الذكر به يبصر القلب وأن باب الذكر التقوى به يذكر العبد، فالتقوى باب الآخرة كما أن الهوى باب الدنيا، وأمر اللَّه تعالى بالذكر وأخبر أنه مفتاح التقوى لأنه سبب الاتقاء وهو الاجتناب والورع فقال تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأعراف: 171 وأخبر أنه أظهر البيان للتقوى في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاِتِهِ للِنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقونَ) البقرة: 187 وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَريمِ) (الَّذي خَلَقَكَ فَسوَّاكَ فَعَدَلَك) الانفطار: 6 - 7 وقال تعالى: (لَقَد خَلَقنَا الإْنسَانَ في أَحْسَنِ تَقويمٍ) التين: 4 وقال: (وَمِن كُلِّ شَيء خَلَقْنَا زَوٌجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب.

فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها اللَّه تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وأحكاماً بصنعه، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدّو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى، ومنها غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء، ومنها نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان، فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته، والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك، وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوّة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها، فتفصيل ذلك على الإيجاز أن جمل الخواطر ستة: هي حدود القلب وقوادحه من ورائها خزائن الغيب وملكوت القدرة وهي جنود اللَّه تعالى عتيدة وسلطان منه مبين والقلب خزانة من خزائن الملكوت قد أودعه مقلبه من لطائف الرغبوت والرهبوت وشعشع فيه من أنوار العظمة والجبروت ما شاء لأهل الرفيق الأعلى وذوي الملكوت الأدنى فأوّل التفصيل خاطر النفس وخاطر العدوّ وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء لا يردان إلا بالهوى وضد العلم وخاطر الروح وخاطر الملك وهذان لا يعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لا يردان إلا بحق وبما دل عليه العلم وخاطر العقل وهومتوسط بين هذه الأربعة يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لمكان تمييز العقل وتقسيم المعقول لأن العبد يدخل في هواه بشهوة جعلت له واختيار لا يعسر عليه من حيث لا يعقل ولا إجبار ويصلح أيضاً للمحمودين فيكون شاهداً للملك ومؤيداً لخاطر الروح ويثاب العبد في حسن النية وصدق المقصد وإنما كان خاطر العقل تارة مع النفس والعدوّ وتارة مع الروح والملك حكمة من اللَّه تعالى لصنعته وإتقاناً لصنعه ليدخل العبد في الخير والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائداً له وعليه إذ قد جعل سبحانه هذا الجسم مكاناً لجريان أحكامه ومحلاً لنفاذ مشيئته في مباني حكمته كذلك جعل العقل مطية للخير والشر يجري معهما في خزانة الجسم إذ كان مكاناً للتكليف وموضعاً للتصريف وسبباً للتعريف العائد من معاني ذلك على صورة العبد من لذة النعيم أو عذاب أليم فلم يكن العقل غائباً فيكون العبد عن العقل ذاهباً ولم تكن الشهوة عازبة فتكون النفس مفقودة إذ في ذلك تضعيف لحجة اللَّه تعالى عليه ووهن لبرهانه لأن العقل شاهد الحجة والشهوة في النفس مكان البلوى والنية في القلب طريق الججة وذلك أصل سبب عود جزاء الأمر والنهي فالعقل مطبوع على التمييز مجبول على التحسين والتقبيح والنفس مجبولة على الشهوة مطبوعة على الأمر بالهوى وهذا نصيبهما من عطائه وهداه لهما إلى رشاده وإغوائه وخطهما من الكتاب وقسمهما من ولي الأسباب، كما قال تعالى في أحكام ما ذكرناه تكملة لما أخبرنا عما سبق في علمه: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقال تعالى: (أٌُولِئَكَ يَنَالُهُمْ نَصيبَُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) الأعراف: 37 وقال تعالى: (كِتُبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْديهِ إلى عَذَابِ السَّعيِر) الحج: 4 والخاطر السادس هو خاطر اليقين وهو روح الإيمان ومزيد العلم يردان إليه ويصدران عنه وهذا الخاطر مخصوص بخصوص لا يجده إلا الموقنون وهم الشهداء والصديقون لا يرد إلا بحق وإن خفي وروده ودق ولايقدح إلا بعلم اختيار لمراد مختار وإن لطفت أدلته وبطن وجه الاستدلال به ولكن ليس يخفى هذا إلا الخاطر على مقصود به ومراد له وهم الذين وصفهم اللَّه تعالى بالذكرى.

ورد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم الفتيا فقال سبحانه: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَاَنَ لَهُ قَلْب) ق: 37، أي من تولى اللَّه حفظ قلبه، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حاك في صدرك فدعه والإثم حواز القلوب يعني ما يؤثر فيها فيحزها لرقتها وصفائها ولينها ولطفها وقال للرجل الذي سأله عن البر والإثم وهما أصلا أعمال الخير والشر استفت قلبك وان أفتاك المفتون أي أن المتقين يعلمون معاني التأويل والرخصة عن علمهم العلانية وأنت على علم فوقهم مطالب بالتحقيق والعزيمة عن علمك السر وأهل الظاهر أيضاً يعلمون حكم اللَّه تعالى الظاهر عن علم اللسان الظاهر الذي هو حجة على أهل العلم الظاهر وقلبك فقيه منوّر بالإيمان تنظر به أو ينطق به حكم اللَّه تعالى الباطن عن علم القلب الباطن الذي هوحقيقة الإيمان ومنفعته لأهل العلم الباطن ولا يصلح أن يرد رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائلاً إلا إلى فقيه فلولا أن علم القلب هو حقيقة الفقه ما ردّ صاحبه من فتا أهل الظاهر إليه ولا حكم على المفتين به فقد صار علم القلب هو علم العلم إذ جعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على المفتين بالحكم وصار عالم الباطن هوعالم العلماء إذ لم يسعه تقليد العلماء، وفي الحديث الآخر: البر ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس وإن أفتوك وأفتوك فهذا وصف قلب مكاشف بالذكر ونعت نفس ساكنة بمزيد السكينة والبر كما وصف من قلوب المؤمنين في صريح الكلام وفي دليل الخطاب، فأما صريحه فقوله تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه أَلاَ بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنُْ القُلُوب) الرعد: 28 وقوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ السَّكينَةَ في قُلُوبِ الْمؤْمِنينَ لِيزْدَادُوا إيمَاناً مَعَ إيماِنهِم) الفتح: 4 وأما دليل الكلام الذي يشهد بالتدبر فقوله تعالى في وصف قلوب أعدائه المحجوبين: (كَاَنَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَيَستَطيعُونَ سَمْعاً) الكهف: 101 ومثله: (أعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يَرَى) النجم: 35 ففي تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ناظرون إلى غيبه، وقال تعالي في مثله (مَثَلُ الفَريقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ) هود: 24 هذا فريق المتبعين للسبل المتفرقة عن سواء السبيل بهم الضالين عن سواء الصراط، (وَالبَصِيرِ وَالسَّميعِ) هود: 24 هو فريق المهتدين المتبعين للصراط المستقيم، وقال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِعُون السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِروُن) هود: 20 أو ألقي السمع وهو شهيد إن كان اللَّه يريد أن يغويكم هو ربكم وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجمل صفة القلب التقوى ههنا وأشار إلى القلب وقال اللَّه سبحانه وتعالى في ذكر القلوب المقفلة بالذنوب: (لَوْ نَشَاءُ أَصبَنْاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) الأعراف: 100 وقال تعالى في فض طابعها بالتقوى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوَا اللَّه وَيَعَلِّمُكُمُ اللَّه) البقرة: 282 وفي الخبر: إذا أراد اللَّه بعبد خيراً جعل اللَّه زاجراً من نفسه وواعظاً من قلبه، وفي الخبر الآخر: من كان له من قلبه واعظ كان عليه من اللَّه حافظ.

وروينا في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمَانِ) آل عمران: 193 قال سمعناه من قلوبنا وقال في ضده لأعدائه: (أُولئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ) فصلت: 44 عن قَلوبهم، وقال اللَّه تعالى في التوبة من ميل القلوب وهمها: (إنْ تَتُوبَا إلى اللَّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) التحريم: 4، وبمعناه وهموا بما لم ينالوا فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وقال في تحقيق العمى للقلب: (فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلوبُ الْتي في الصُّدُور) الحج: 46 فأهل القلوب يتعظون بلا واعظ من خلق ويزدجرون بلا زاجر في ظاهر وسائر ما ذكرناه من الخواطر لا تعدمه المؤمنون والقلب خزانة اللَّه تعالى من خزائن الغيب وهذه المعاني جنود الله تعالى مقيمة حول القلب يخفي منها ما يشاء ويظهر ويبدي منها ما يريد ويعيد ويبسط القلب بما يشاء منها ويقبضه فيما شاء عنها وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين، ولكن يضعف الخاطر ويخفي لضعف المعاني ودقتها ويقوي اليقين ويظهر بقوتها لأن هذه الثلاثة مكان اليقين أحدها الإيمان وموضعه من اليقين مكان حجر النار والثاني العلم ومكانه موضع الزناد والثالث العقل وهو مكان الحراق فإذا اجتمعت هذه الأسباب قدح خاطر اليقين في القلب، ومثل القلب في قوته بقوة مدده وفي صفائه بجودة عدده مثل المصباح في القنديل إلى مكان العقل منه والزيت موضع العلم به وهو روح المصباح وبمدده يكون ظهور اليقين والفتيلة مكان الإيمان منه وهي أصله وقوامه الذي يظهر بها، فعلى قدر قوة الفتيلة وجودة جوهرها يقوى اليقين وهو مثل الإيمان في قوته بالورع وكماله بالخوف وعلى مقدار صفاء الزيت ورقته واتساعه تضيء النار التي هو اليقين وهو مثل العلم في مدد الزهد وفقد الهوي فصار العلم مكاناً للتوحيد فتمكن الموحد في التوحيد على قدر المكان، وقد قال اللَّه تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إلهَ إلا اللَّه) محمد: 19 وقال تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه وأنْ لاَ إلَه إلاَ هوَ) هود: 14 فقدم العلم علي التوحيد فصار أوّله فكلما اتسع القلب بالعلم باللَّه وزهد في الدنيا ازداد إيماناً وعلا لأنه يرى في علوّه ما لا يراه غيره ويعلم في اتساعه ما لا يعلمه سواه فيكبر المؤمن فيكون ذلك مزيد إيمانه وقوته ثم يشهد كل ما آمن به فيكون بذلك قوة نفسه وسعة مشاهدته وكلما قصر علم القلب باللَّه تعالى وبمعاني صفاته وأحكام ملكوته قلّ إيمان هذا العبد ثم أشهد ما آمن به من وراء حجاب لما غلب عليه من حب الأسباب وسمع الكلام من خلف ستر لعجزه عن المسارعة إلى البر فيضعف بذلك إيمانه ويتخيل مشاهدته ولا يتحقق فليس من علم من صفات اللَّه سبحانه وتعالى وقدرة آياته مائة ألف معنى ثم شهدها كلها من قرب عن كشف مثل من علم منها عشرة معانٍ ثم شهدها من بعد عن حجاب وهما مؤمنات معاً لكن بين إيمانهما في القرب والعلّو والزيادة والنقصان كما بين العشرة إلى مائة ألف فيكون إيمان قلب المسلم معشار معشار عشر إيمان قلب الموقن والمعشار هو عشر العشر جزء من مائة جزء ويكون إيمان قلب المؤمن فيما بين ذلك من الزيادة على العشر والنقصان من مائة ألف على قدر قسمه.

ومثل ذلك فيما نعقله مثل رجل قال لك: إن عندي فلاناً فقد حصل لك علم زنه عنده غير زن هذا العلم غير يقين لأنه يجوز أن يكون قد اشتبه عليه أو يكون قد كان عنده ثم خرج وليس هو الآن عنده وهذا مثل إيمان المسلم هو على علم خبر لا خبر، ثم إنك تأتي إليّ فتسمع كلامه من وراء حجاب فقد علمت الآن أنه عندي لأنك سمعت كلامه واستدللت به على كونه، إلا أن هذا العلم أيضاً غير تحقيق لأن الأصوات تشتبه والأجرام تتقارب، ولو قلت لك بعد ذلك: لم يكن عندي وإنما كان ذلك غيره أشبه صوته تشككت فيه لاحتمال ذلك ولم يكن عندك يقين عين تدفع به قولي ولا شهادة نظر تنكر بها عليّ وهذا مثل لإيمان عموم المؤمنين فهو إيمان خبر لعمري وفيه يقين استدلال ممتزج بظنه إلا أنه غير مشاهدة العارفين لأنه قد يدخل عليهم التخييل والتشبيه فلا يدفعونه بشهادة يقين ثم إنك تدخل إلى الآن بعد أن قيل لك هو عندي أو بعد أن سمعت كلامه فتشهده جالساً لا حجاب بينك وبينه، فهذا هو يقين المعرفة وهذه شهادة الموقن وعندها انتفى كل شك وتحقق خبر العلم وهذا مثل لعلم إيمان الموقنين الذي قد اندرج فيه إيمان عموم المؤمنين من علم الخبر المحتمل ومن سماع الكلام المشتبه من وراء حجاب واسم الإيمان واقع على جميعهم ولكن الأوّل علم أنه عندي بما قيل له فصدق والثاني علم بما سمع فاستدل ولم يشهد فيقطع والثالث هو الذي عاين فقطع وقد شهد له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمزيد فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة وقال: وليس المخبر كالمعاين، ومثل هذا أيضاً أن ترى الشيء بالنهار فتعرفه معرفة عين وتعرف مكانه بنظر لا تخطئه ثم إنّك تحتاج إليه ليلاً فلست تعرف مكانه رأي عين وإنما تقصده بمعرفة استدلال عليه وبحسن ظن أنه موجود على حاله أو يعرف بشيء معهود أنه لا يتحول، وكذلك الأدلة هي الغائبات وسقوطها مع المشاهدات وبمعناها رؤية الشيء بنور القمر فإنه يشبح ويلوح المشكلات ورؤيته في ضياء الشمس فإنها تكشف الأمر على ما هو به، فهذا مثل نور اليقين إلى نور الإيمان ومثل رابع في تفاوت المؤمنين في حقيقة الكمال ودخولهم في الاسم والمعنى مثل صلاة رباعية أقيمت فجاء رجل فأدرك تكبيرة الإحرام ثم جاء آخر فأدرك الركوع ثم جاء آخر فأدرك الركعة الثانية ثم جاء ثالث فأدرك الركعة الثالثة ثم جاء رجل رابع فأدرك الركعة الآخرة فكلهم قد صلوا وأدركوا الصلاة في جماعة ونال فضلها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة، ولكن ليس من أدرك الركعة الأولى في كمال الصلاة وإدراك حقيقتها كمن أدرك الثالثة والرابعة ولا يكون أيضاً من أدرك التكبيرة للإحرام في الفضل كمن لم يدرك شيئاً من القيام وهما مدركان معاً فكذلك المؤمنون في كمال الإيمان وحقائقه لا يستوون وإن استووا في الاسم والمعنى وكذلك في تفاوتهم في الآخرة.

فقد جاء في الخبر أنه يقال: أخرجوا من قلبه مثقال ذرة من إيمان ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة من إيمان فقد حصلوا متفاوتين في الإيمان ما بين الذرة إلى المثقال وكلهم قد دخل النار إلا أنهم على مقامات فيها وفيه دليل أن من كان في قلبه وزن دينار من إيمان لم يمنعه ذلك من دخول النار لعظم ما اقترف من الأوزار وأن من كان في قلبه وزن ذرة من إيمان لم يحق عليه الخلود في دار الهوان لتعلقه بيسير الإيقان وأن من زاد إيمانه على وزن دينار لم يكن للنار عليه سلطان فكان من الأبرار وأن من نقص إيمانه عن ذرة لم يخرج من النار وإن كانت سيماه واسمه في الظاهر في المؤمنين لأنه في علم الله من المنافقين الفجار، وقد قال اللَّه تعالى في وصفهم: (وَإنَّ الٌفُجَّارَ لَفِيَ جَحيم) الانفطار: 14 ثم قال: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبينَ) الانفطار: 16 ثم صار صاحب المثقال والذرة في الجنة على تفاوت درجات وكان الزائد إيمانه على مثقال في أعلى عليين علا هؤلاء وترفع أهل الدرجات العلى على أهل عليين ارتفاع الكوكب الذي في أفق السماء وكلهم قد اجتمع في الجنة على تفاوت مقامات وتعالي درجات، وروينا عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان فلعمري إن قلب المؤقن خير من ألف قلب مسلم لأن إيمانه فوق مائة إيمان مؤمن وعلمه باللَّه تعالى أضعاف علم مائة مسلم، ويقال إن واحداً من الأبدال الثلاثمائة قيمته قيمة ثلاثمائة مؤمن، وكان أبو محمد يقول: يعطي اللَّه تعالى بعض المؤمنين من الإيمان بوزن جبل أحد ويعطي بعضهم مثل ذرة، وقد قال الَّله تعالى: (وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنٌ كُنْتُمْ مَؤْمِنينَ) آل عمران: 139، بالعلو ولا نهاية لعلو الإيمان فصار علوّ كل قلب على قدر إيمانه ولذلك رفع العلماء على المؤمنين درجات في قوله تعالى: (يرفع اللَّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ، ففسرها ابن عباس رضي اللَّه عنه فقال: (الَّذينَ أُوتوا العِلْمَ) الروم: 56 فوق المؤمنين بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.

وروينا في لفظ أبلغ من هذا كفضلي على أمتي، فالموقنون من المؤمنين أعلى إيماناً والعالمون من الموقنين أرفع مقاماً ثم على قدر بياض الماء يستبين من القنديل حسنه وصفاؤه ومثل هذا العقل في صحته من الإعتلال وصفائه من كدر الأحوال والأموال ويجمع ذلك كله القنديل وهو القلب، فعلى قدر رقة القلب ولطف جوهره وصفائه من كدره وحسن طهارته عن الآثار تكون هذه العلوم فيه والأنوار وجوهر الزجاجة في الصفاء محتاج إلى صفاء الماء كما أن صفاء الماء محتاج إلى صفاء الجوهر وبمعيارهما يكون القلب والعقل ووقود النور محتاج إلى قوّة الفتيلة ومدد الزيت فبموضعها في القوّة والمدد يكون العلم باللَّه تعالى واليقين ذلك تقدير العزيز العليم وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم يفارقه خواطر الهوى الجهل والطمع وحب الدنيا ثم يضعف خاطر الهوى ويقوى على قدر تمكن هذه الثلاثة من النفس وحقائقها على مثل ماذكرناه من تمكن خواطر اليقين وضعفها لوجود مكانها وهو العلم والإيمان والعقل، وفي القلب يظهر سلطان ذلك أجمع فأي جند كانت المشيئة معه غلب، وروينا عن علي عليه السلام أن اللَّه فى أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه أرقها وأصفاها وأصلبها، ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان فمثل القلوب مثل الأواني في تقارب جوهرها، فأرقها وأصفاها وأعلاها يصلح للملك والوجه والطيب، وأكثفها وأرداها يصلح للأدناس، وما بين ذلك يصلح لما بينهما، ومثلهما أيضاً مثل الموازين الطيار اللطيف والمعيار يصلح لوزن الذهب بالتحرير والمعيار والكثيف الجافي يصلح للقت والأنعام وما بينهما يصلح لما بين ذلك فيوزن بكل ميزان ما يصلح له من كل شيء موزون كما يجعل في كل إناء ما يليق به من كل شيء مرذول أو مصون، كذلك الحكم والحكمة في الملكوت الباطن كالحكمة والحكم في الملكوت الظاهر بتعديل الظاهر الباطن، وفي تفسير قوله عزّ وجلّ: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَة) النور: 35، فسره أبيّ بن كعب قال: مثل نور المؤمن وكذلك كان يقرأه قال: فقلب المؤمن هو المشكاة فيها مصباح، فكلامه نور وعمله نور ويتقلب في نور، ثم قال في قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُجِّيّ) النور: 40 قال قلب المنافق فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ويتقلب في ظلمة وكان زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: (في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج: 22، قال قلب المؤمن وقال أبو محمد سهل مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي.

وروينا في حديث ابن عمر قال قيل يا رسول اللَّه أين اللَّه في الأرض؟ قال: في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر المأثور عن اللَّه تعالى لم يسعني سمائي ولاأرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن، وفي بعضها اللين الوادع فاللين يعني السهل الرقيق القريب والوادع يعني الساكن المطمئن، وفي الخبر: ما ألبس العبد لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهذه لبسة المتقين وصبغة اللَّه تعالى للعارفين، وفي الحديث قيل: يا رسول اللَّه من خير الناس؟ قال: كل مؤمن محموم القلب، ثم فسره رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد، وقال بعض العارفين في معنى قوله تعالى: (إلاّ مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَليم) الشعراء: 89 أي مما سوى اللَّه ليس فيه غير اللَّه وفي قول أهل التفسير: سليم من الشرك والنفاق، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل وهذا لا يعدمه المؤمنون إلا الصديقين وقال: أكثرمنافقي أمتي قراؤها، وهذا لا يعدمه العابدون إلا العارفين، ومن خواطر اليقين ما يرد بشيء لا تظهر دلائله في الظاهر لخفائه وغموض شواهده فليس يعلم إلا بباطن العلم وغامض الفهم والغوص على لطائف معاني التبيين وباطن الاستنباط منفهم التنزيل وتعليم التأويل كما قال الحبيب الخليل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، كما قال علي بن أبي طالب: ماعندنا شيء أسره إلينا رسول اللَّه سوى كتاب اللَّه تعالى إلا أن يؤتي اللَّه تعالى عبداً فهماً في كتابه، وكما جاء في تفسير قوله تعالى: (يُؤْتي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) البقرة: 269 قال: الفهم في كتاب اللَّه، وقال أصدق القائلين: (فَفَهَّمْنَاْهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء: 79 فخصه بفهم منه زاده به فوق الحكم والعلم الذي شرك فيه أباه فزاده على فتيا أبيه.

وروينا عن علي عليه السلام في الحديث الطويل الذي يقول فيه: واليقين على أربع شعب، على تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأوّلين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة كان في الأوّلين إلا أن أهل اليقين المرادين به العارفين بأحكام اللَّه تعالى الباطنة يعلمون تفصيل خواطر اليقين ومقتضاها من حيث أشهدوا مطلعها من الغيب وبحيث عرفوا موجبها من الوصف بنور اللَّه الثاقب وقربه الحاضر وسلطانه النافذ، كما جاء في الخبر: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه تعالى أي باليقين، وفي لفظ آخر: اتقوا فراسة العالم فكأنه مفسر له ومنه قوله تعالى: (إنَّ فِي ذِلكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّميِنَ) الحجر: 75 وقوله: (قَدْ بَيَّنّا الآيات لِقَومٍ يُوقِنُون) البقرة: 118 أي بنور اليقين، وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق واللَّه إنه للحق يقذفه اللَّه تعالى في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم، وقال بعض العلماء: ظن المؤمن كهانة أي كأنه سحر من نفاذه وصحة وقوعه، وقال بعض العلماء: يد اللَّه تعالى على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ اللَّه عزّ وجلّ لهم من الحق، وقال آخر: لو شئت لقلت إن اللَّه يطلع الخاشعين على بعض سره، وكتب عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المتعظين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّه قيلاً) النساء: 87: (يَا أىُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29 قيل نور تفرقون به بين الشبهات ويقين تفرقون به المشكلات، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَتَّق اللَّّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق: 2 قيل مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب يعلمه علماً بغير تعليم ويفطنه بغير تجربة أي بالشاهد الصحيح والحق الصريح، ومثله قوله تعالى: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهدِيَنَّْهُم سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 قيل: الذين يعملون بما يعلمون، قال يوفقهم ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حكماء، وقال بعض السلف: نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى اللَّه سبحانه وتعالى المستوحشين من الناس فيسوق اللَّه تعالى إليهم من يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة.

وفي الخبر: من علم بما يعلم أورثه اللَّه تعالى علم ما لم يعلم ووفقه فيمايعمل حتى يستوجب الجنة، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار، فمعنى أورثه علم ما لم يعلم أي من علوم المعارف التي هي مواريث أعمال القلوب مثل الفرق بين الاختبار والاختيار والابتلاء والاجتباء والمثوبة والعقوبة ومعرفة النقص من المزيد والقبض والبسط والحل والعقد والجمع والتفرقة إلى غير ذلك من علوم العارفين بعد حس التفقه والأدب عن مشاهدة الرقيب والقرب لصحة المواجيد والقلوب، وقال بعض التابعين: من عمل بعشر ما يعلم علمه اللَّه تعالى ما يجهل، وقد قال حذيفة: أنتم اليوم في زمان من ترك عشر ما يعلم هلك وسيأتي بعدكم زمان من عمل بعشر ما يعلم نجا، وقال بعضهم: كلما ازداد العبدعبادةً واجتهاداً ازداد القلب قوّة ونشاطاً، وكلما ملّ العبد وفتر ازداد القلب ضعفاً ووهناً، وليس يكاد علم اليقين يقدح في معدن العقل لأن علوم العقل مخلوقات ولا يكاد ينتجه الفكر ولا يخرجه التدبر فما أنتجته الأفكار واستخرجته الفطرة من الخواطر والعلوم فتلك علوم العقل وهي كشوف المؤمنين ومحمودات لأهل الدين فأما خاطر اليقين فإنه يظهر من عين اليقين ينادي به العبد مناداة ويبغته مفاجأة لأنه مخصوص به مراد مقصود به محبوب متولى به مطلوب لا يجده إلا عارف أو خائف أو محبّ ومن سوى هؤلاء فبحاله محجوب وبعاداته مطلوب وإلى مقامه ناظر وفي طريقه بمعقوله سائر فأما العارفون المواجهون بعين اليقين المكاشفون بعلم الصديقين فإنهم مسيرون محمولون سابقون مستهترون قد وضعت الأذكار عنهم الأوزار، كما جاء في الخبر: سيروا سبق المفردون بالفتح والمفردون أيضاً بالكسر فهم مفردون للَّه تعالى بما أفردهم اللَّه تعالى كما قال جلّ ذكره: (حَاْفِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بمَا حَفِطَ اللَّهُ) النساء: 34، قيل: ومن المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللَّه وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً، فلما أفردهم اللَّه تعالى ممن سواهم له أفردوه عما سواه به فذكرهم فاستولى عليهم ذكره فاصطلم قلوبهم نوره تعالى فاندرج ذكرهم في ذكره فكان هو الذاكر لهم وكانوا هم المكان لمجاري قدرته عزّ وجلّ فلا يوزن مقدارهذا الذكر ولا يكتب كيفية هذا البر فلو وضعت السموات والأرض في كفة لرجح ذكره تعالى لهم بهما وهم الذين قال لهم فترى من واجهته بوجهي لعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه لوكانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم أوّل ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم وهذا هو ظاهر أوصافهم وأوّل عطاياهم فطلب هؤلاء لا يعرف ونصيبهم لا يكيف ومطلوبهم كنه قدره لا يوصف عطاؤهم غير مخلوق ومشاهدتهم وصف التحقيق بعين اليقين إلى حق اليقين فأول نصيبهم من مطلوبهم علم اليقين وهو صفاء المعرفة باللَّه تعالى وآخر علم الإيمان أول عين اليقين وهو مشاهدة وصف معروف وهذه وجهة التوحيد ولا آخر لأول علم اليقين ولا انقطاع لآخر نصيبهم من مشاهدتهم، فظاهر التوحيد توحيد اللَّه تعالى في كل شيء وتوحيده بكل شيء ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء ولا نهاية لعلم التوحيد ولا غاية لمزيد عطاء الموحدين ولكن لهم نهايات يوقفون تحتها وغايات يصدرون عنها تجعل أماكن لمزيدهم ويزدادون في وسعها ويمدون بعلوم يطلبون بها ما يكاشفون به لما وراءها أبداً لا بديلاً آخر ولا أمد ولا يصل العبد إلى مشاهدة علم التوحيد إلا بعلم المعرفة وهونور اليقين ولا يعطي نور اليقين حتى تمخض الجوارح بالأعمال الصالحات، كمايمخضُ الزق باللبن حتى تظهر الزبدة، وهي اليقين، وليست هذه الزبدة غاية الطالبين ولا بغية الصديقين لأن وراءها صفوها وخالصها ثم تذاب هذه الزبدة حتى يخلص سمنها وهو صفوها ونهايتها وهذا مثل لعين اليقين بعد علمه وبعد مشاهدة الوجه بمرآة القرب وهي نوره فحينئذ لا يفارقه وجده وحضوره فيرفع العبد من خواطر اليقين إلى مشاهدة الصفات بعد ذوب علم الخواطر يتجوهر نور شعاع وجه الذات وهذا مقام الإحسان وإن اللَّه لمع المحسنين بعد مجاهدتهم النفوس فيه وبيعها مع الأموال منه فأحسن إليهم باشترائها منهم وكان معهم كما قال سيجزيهم وصفهم فإنما كانوا محسنين لأن المحسن معهم كما كانوا أعلين إذ الأعلى معهم فقد قال: (وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ

مَعَكُمْ) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً.) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً.

وروينا عن الحسن البصري عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العلم علمان، فعلم باطن في القلب فذاك هو النافع، وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّه أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرحْ صَدْرَهُ للإسْلام) الأنعام: 125 ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة يعني: أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح، وقال بعض العارفين: لي قلب إذا عصيته عصيت اللَّه تعالى يعني أنه لا يقذف فيه إلا طاعة ولا يقر فيه إلا حق فقد صار رسوله إليه فإذا عصاه فقد عصا المرسل بمعنى الخبر الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل وبقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن ينظر بنور اللَّه، فمن نظر بنور اللَّه كان على بصيرة من اللَّه تعالى وكان عمله بنوره طاعة تعالى، وقال بعض العارفين: منذ عشرين سنة ما سكن قلبي إلى نفسي ساعة وما ساكنته طرفة عين، وسئل بعض العلماء عن علم الباطن أي شيء هو؟ فقال: سر من سر اللَّه تعالى يقذفه في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً.

وقد روينا فيه خبراً مسنداً أحببنا أن نسنده وقد جاء رجل إلى النبي فقال: علمني من غرائب العلم فقال: هل عرفت الرب فأخبر أن غرائب العلوم في المعرفة وقد أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصل العلوم الذي فيه غرائب الفهوم فقال: اقرأوا القرآن والتمسوا غرائبه يعني تدبر معانيه واستنباط بواطنه إذ بكلامه عرفه أولياؤه وقد قيل: تكلموا تعرفوا، فمن عرف معاني الكلام ووجوه الخطاب عرف به معاني الصفات وغرائب علوم أسماء الذات، وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن، وقال بعض أهل المعرفة في فهم هذه الآية: إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان قال: العدل تدبر القرآن وفهمه والإحسان مشاهدة الفهم، وفي تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في صفة العدل شاهد لقوله هذا في حديثه الذي وصف فيه شعب الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال والعدل على أربع شعب: غائص الفهم، وزهرة العلم، وروضة الحلم، وشرائع الحكم، فمن فهم فسر جمل العلم ومن علم عرف شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً، وقال بعض المكاشفين ظهر لي الملك: فسألني أن أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي من مشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل نتقرب به إلى الله تعالى فقلت: أليس يكتبان الفرائض؟ قال: بلى، قلت: فيكفيهما ذلك.

وقال بعض العارفين قال: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم التفت إلى يمينه فقال ماتقول رحمك اللَّه ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم أجابني بأغرب جواب ماسمعته قط وأعلاه فقلت رأيتك التفتّ عن شمالك ويمينك ثم أقبلت على صدرك فماذا؟ فقال: سألتني عن مسألة لم يكن عندي فيها علم عتيد فالتفت إلى صاحب الشمال فسألته عنها وظننت أن عنده منها علماً فقال: لا أدري فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال: لا أدري فنظرت إلى قلبي فسألته فحدثني بما أجبتك وإذا هو أعلم منها، وقد كان أبو يزيد وغيره يقولون: ليس العلم الذي يحفظ من كتاب اللَّه فإذا نسي ما حفظ صار جاهلاً إنما العلم الذي يأخذ علمه من ربه عزّ وجلّ أي وقت شاء بلا تحفظ ولا درس فهذا لعمري لا ينسى علمه وهو ذاكر أبداً لا يحتاج إلى كتاب وهو العالم الرباني وهذا هو وصف قلوب الأبدال من الموقنين ليسوا واقفين مع حفظ إنما هم قائمون بحافظ.

وقد روينا في الخبر: إن من أمتي محدثين ومكلمين وإن عمر منهم وقرأ ابن عباس: وما أرسلنامن قبلك من رسول ولا نبي ولامحدث يعني الصديقين وهذا كان طريق السلف من الصحابة وخيار التابيعن إذا سئلوا وفقوا وألهموا الصواب لقربهم من حسن التوقيق وسلوكهم حقيقة محجة الطريق فخاطر اليقين إذا ورد على قلب مؤمن اضطرته مشاهدته إلى القيام به وإن خفي على غيره وحكم عليه بيانه وبرهانه بصحة دليله وإن التبس على من سواه.

وقد قال اللَّه تعالى في تخصيص الموقنين: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) البقرة: 118 هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وقال في نعت المتقين: (وَمَاَ خَلَقَ الله فِي السَّمَوَاتُ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقْونَ) يونس: 6 وقال تعالى: (هذَا بَيَانٌ للِنَّاسِ وَهُدًى وَموْعِظَةٌ لِلْمُتَّقينَ) آل عمران: 138 وقال في فضل العلماء: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ) العنكبوت: 49 وقال: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97 فحقيقة العلم إنما هو من التقوى واليقين وهذا هوعلم المعرفة المخصوص به المقربون وهب لهم الآيات وخصهم بالبيان والدلالات بما استحفظوا من كتاب اللَّه وكانوا عليه شهداء، فهذه الخواطر تبدو في القلوب عن هذه الأواسط التي هي خزائن اللَّه تعالى من خزائن الأرض وخزائن السموات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون والفقه صفة القلب لا لسان العرب، تقول: فقهت بمعنى فهمت، وابن عباس يفسر قول اللَّه عزّ وجلّ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) الأعراف: 179 يقول لا يفهمون بها ويجعل الفقه الفهم فخاطر اليقين والروح والملك من خزائن اللَّه وخاطر العقل والنفس والعدوّ من خزائن الأرض كما قيل النفس ترابية خلقت من الأرض فهي تميل إلى التراب والروح روحاني خلق من الملكوت فهي ترتاح إلى العلوّ والقلب خزانة من خزائن الملكوت مثله كالمرآة تقدح هذه الخواطر عن أوساطها من خزائن الغيب فتوقد في القلب فيتلألأ فيه للتأثير، فمنها مايقع في سمع القلب، فيكون فهماً، ومنها ما يقع في بصر القلب فيكون نظراً وهو المشاهدة، ومنهاما يقع في لسان القلب فيكون كلاماً وهو الذوق، ومنها ما يقع في شم القلب فيكون علماً وهو الفكر وهو العقل المكتسب بتلقيح العقل الغريزي وهذا أقلها لبثاً وأيسرها عناء وما وقع في ناظر القلب وحسه فخرق شفافه ووصل إلى سويدائه وهو المباشرة كان وجداً وهذا هو الحال عن مقام مشاهدة، ومن هذا قوله: أسألك إيماناً يباشر قلبي.

وقال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب كان العبد محباً للآخرة وللدنيا وكان مرة مع اللَّه تعالى ومرة مع نفسه فإذا دخل الإيمان إلى باطن القلب أبغض العبد الدنيا وهجر هواه وقد قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه اللَّه: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر وكان يسمى هذا قلب القلب، والتجويف الآخر ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين هو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين فإذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداة به وهي الملك والروح كانت تقوى وهدى ورشداً وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت في قلب العبد نوراً وطيباً أدركه الحفظة وهم أملاك اليمين فأثبتوهاحسنات وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدوّ والنفس كانت فجوراً وضلالاً وهي من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت في القلوب ظلمة ونتناً أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيئات وكل هذا إلهام وإلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلاً لمن شاء، ومنة ً وفضلاً لمن أحب، كما قال: (وَتَمَّتْ كِلَمَةُ رَبٍّكَ صِدْقاً وَعدْلاً) الانعام: 115 أي بالهداية صدقاً لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالاضلال عدلاً على أعدائه ما أعد لهم من عقابه.

ثم قال تعالى: (لاَ يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلونَ) الأنبياء: 23 فهذه جنود منقادة لأمره وهو ملك جبار عزيز قهار تعالى عن مباشرة الأشياء إذا كانت تنقاد لمشيئته وتطوع لقدرته فتنفذ قدرته إرادته تظهر حكمته أفعاله إذا أراد شيئاً قال له: كن بخفي قدرته فكان بظاهر حكمته، والرب سبحانه قادر على كل شيء، بيده ملكوت كل شيء حكيم في كل شيء، والعبد ضعيف عاجز جاهل لا يقدر على شيء قد ابتلي بالأسباب ووقع عليه الحجاب وجعل مكاناً للأحكام بالعقاب والثواب فالأسباب أواسط البلاء والعبد موضع الابتلاء.

والأوّل سبحانه وتعالى هوالمبلي المريد المبدئ المعيد وينشئكم فيما لا تعلمون وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً وليس يشهد العبد إلا ما أشهد فكذلك تفاوت العباد في المشاهدة ولا يستبين له إلا ما أبين له وأريد به فعند ذلك اختلفوا في الأدلة فإذا أراد اللَّه عزّ وجلّ إظهار شيء من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تكتب في القلب همة سوء فينظر العدوّ إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها ما كان من عمله المبتلي به المصرف فيه فإذا رأى همة قد قدحت في النفس فأثرت ظلمة في القلب ظهر مكانه فقوي بذلك سلطانه والهمة ترد على أحد ثلاث معانٍ لا تحصى فروعها لأن همة كل عبد على قدر بغيته أحدهما هوى وهو عاجل حظ النفس أو أمنيته وهذا عن الجهل الغريزي أو دعوى حركة أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب، فأي هذه الثلاث قدح في القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدوّ منسوب إليه محكوم عليه بالذم ليست تصدر إلا بأحد ثلاثة أصول بجهل، أو غفلة، أو طلب فضول دنيا، وهن مما لا يعني ومضافات إلى الدنيا وأعمالها.

والأفضل مجاهدة النفس والعدوّ عن إمضائها وحبس الجوارح عن السعي فيها إن كنّ من فضول الدنيا المباحات فإن كنّ هذه الثلاث وردن بمحرّمات ففرض عليه كفّ الجوارح عن السعي فيها فإن أمرح قلبه في ذكرها أو نشر خطواته في طلبها كن حجاباً بين قلبه وبين اليقين وإن كنّ وردن بمباحات ففضل له بنفيها عن قلبه كيلا يكون قلبه موطناً للغفلات وأصلهن الابتلاء من اللَّه تعالى بالتقليب والامتحان منه في التصريف ولذلك خلق النفس والروح والموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليظهر أحسن العمل بالزهد فيها وينظر كيف تعملون فإذا أراد اللَّه تعالى سلامة هذا العبد بعد أن أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدوّ عليه وتسويل النفس له نظر القلب عند الابتلاء فهدى النفس بنور إيمانه إلى اللَّه تعلى فأسر الالتجاء إليه وأخفى التوكل عليه عائذاً لائذاً به واضطر مخلصاً له فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوّض إليه أمره فوقاه مكر عدوّه وحينئذ اضطر إليه واتقاه فجعل له مخرجاً ونجاه فينظر اللَّه تعالى إلى القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدوّ لسقوط مكانه وتذهب لخنوسه شدة سلطانه فيصفو القلب من التأثير بنور السراج المنير ويملس من التحرير بقوّة القهار العزيز فيخاف العبد مقام الرب لصفاء القلب عن نظر الرب تعالى فيفزع من الخطيئة ويهرب أو يستغفر منها ويتوب ويظهر عليه شعار تقواه.

وإن أراد الله تعالى بعبد هلكة وكان قد حكم بوقوع الشر نظر القلب بعد الهمة بهوى النفس إلى العقل فرجع العقل إلى النفس فسوّلت وطوعت فسكن العقل واطمأن إلى تسويل النفس وطوعها فانشرح الصدر بالهوى لسكون العقل وانتشر الهوى في القلب لشرح الصدر وتوسعته فقوي سلطان العدوّ لاتساع مكانه فأقبل بتزيينه وغروره وأمانيه ووعده يوحي بذلك زخرفاً من التحول وغروراً فيضعف سلطان الإيمان لقوّة سلطان العدوّ وخفاء نور اليقين فغلب الهوى لقوّة الشهوة فأحرقت الشهوة العلم والبيان فارتفع الحياء واستتر الإيمان بالشهوة فظهرت المعصية لغلبة الهوى وارتفاع الحياء، وهذان المعنيان من ظهور الخيروالشر والطاعة والمعصية فلهذه الأسباب يوجدان في طرفة عين فتصير أجزاء العبد جزأ واحداً ومفصلاته تعود بالمراد منه فصلاً واحداً كالبرق في السرعة بتغليب القدرة على المشيئة إذا قال جلّ وعلا له: (كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59.

وإن أراد الله تعالى إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرّك الروح بخفي اللطف فتحركت بأمره جلّت قدرته فقدح من جوهرها نور سطع في القلب همة عالية وهمة الخير ترى بأحد ثلاثة معان لا تحصى فروعها لأن كل عبد همته في الخير مبلغ علمه ومنتهي مقامه، فأحد الأصول مسارعة إلى أمر يفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل حال العبد أو علم يكون فطنة له أظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت، والمعنى الثالث بتحمل مباح من تصرف فيما يعني مما يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص في البحار يكون حملاً لكربه وتخفيفاً لثقله، فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم وفي كلها رضاه سبحانه وتعالى فإمضاؤها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض، وهذه الأصول الستة من الخير والشر هي الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدوّ وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التي هي النية والوسوسة، وهما الاختيار أو الاختبار، وقد تكون هذه المعاني مكاشفات مزيد للعبد ينظر إلى الله منها ويجد الله تعالى بما أوجده منه عندها ويكون تعريفاً من الله يتعرف إليه بها ويفتح له باب الأنس والشوق منها ثم تتفاوت العباد في مشاهدتها على حسب علوّهم في اليقين وعلى قدر قوّتهم ومكانهم من التمكين إلا أن أصول معاني الخير وأواسطها إلهام الملك والإلقاء في الروح وقوادح الأنوار في كتب الإيمان وفروعها الآخرة والعلم مما أمر به أو ندب إليه والمباح وأصول معاني الشر أضدادها أواسطها النفس والعدوّ وأسبابها الشهوة والهوى يظهرن عن الجهل ويوقعن الحجاب ويصدرن إلى عقاب.

فإذا أراد الله تعالى إظهار خير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدوّ في خزانة الشر، وهي النفس، والملك مجبول على الهداية مطبوع على حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد وينظر الملك إلى اليقين كما ينظر العدو إلى النفس فيشهد اليقين للملك بذلك فيطمئن العقل ويسسكن إلى شهادة اليقين ويصير العقل الآن بإذن الله تعالى مع الملك بتأييد الله تعالى كما كان مع النفس أول مرة مطمئناً إليها فينشرح الصدر لطمأنينة العقل فتظهر أدلة العلم لانشراح الصدر فيقوى سلطان اليقين لصفاء الإيمان وتندرج ظلمة الهوى في نور اليقين وتنطفئ شعلة الشهوة لظهور نور الإيمان ويزين الإيمان بزينة الحياء فتضعف صفات النفس لسقوط الشهوة ويقوى القلب لضعف النفس ويزيد الإيمان بقوّة اليقين وظهور أدلة العلم فتغلب الهدايةلمزيد الإيمان ولبسة الحياء فتظهر الطاعة لغلبة الحق والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ذكر نوع آخر من البيان

وقد تختلف اللمتان من الملك والعدوّ ويتفاوت الإلهام والوسوسة في المعاني من الخير والشر، فربما تقدمت لمة العدوّ بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتاً على الخير وعناية من الرب تعالى فينهي عن ذلك، فعلى العبد أن يعصي الخاطر الأوّل ويطبع الخاطر الثاني، وقديتقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدوّ بالنهي عنه والتثبيط والإملاء فيه بالتأخير محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسداً من العدوّ فعليه أن يطيع الخاطر الأوّل ويعصي الخاطر الثاني، ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدوّ بالشر، وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخبر لقوّة الرغبة في الدنيا ومن قوّة خاطر الشر لقوّة الشهوة والهوى وفي المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم ومن قبل تقليب القدرة وغرائب الأحكام بالمشيئة لأن له في خزانة الخير خزانة الشر إذا شاء وله في خزانة الشر خزائن الخير إذا أحب لمن يحبه لئلا يسكن إلى سواه ولا يدل العبد بما منه أبداه، فإذا شهد العارف ذلك لم يقطع بخير ولم يدل به أبداً لأنه لا يأمن مكر الله تعالى بتقليب خزائن الشر من خزائن الخير إذا عليه أبداه ولم ييأس من شر عليه أبداه لأنه يرجو تقليب خزائن الخير من خزئان الشر فيكون بين الخوف والرجاء ولا يدرك ذلك إلا بدقائق العلوم ولطائف الفهوم وغوامض الفطن وصفاء الأنوار من تعليم الرحيم الجبار، فما كان للعبد يجد بعد خطرة الشر خطرة خير منها تنهاه عنها فهو منظور إليه متدارك وهذا هو الواعظ القائم في القلب والزاجر المؤيد للعقل، وقد تترادف خواطر الشر من النفس والهوى فلا يتعاقبها خاطر خير من الملك وهذا علامة البعد ونهاية قسوة القلب، وقد تتابع خواطر الخير والبر من الروح والملك ويعافى العبد من خاطريالهوى والنفس وهذا علامة القرب وهو حال المقربين وقد ترد خواطر العدوّ ووساوسه بالخير والبر ابتلاء من الله تعالى لعبده وحيلةً من العدوّ ومكراً من النفس يريد العدوّ بذلك الشر أو يخرجه آخر إلى إثم أو خير ليقطعه بذلك عن واجب أو يشغله به عن الأفضل في الحال فيكون ظاهره براً وباطنه إثماً ويكون أوّله خيراً وآخره إثماً، وبغية العدوّ من ذلك باطنه وآخره، وشهوة النفس في ذلك هواها ومناها قد لبسا ظاهره بالخير تزييناً وموّها أوّله بالبر تحسيناً وهذا من أدق ما يبتلى به العاملون ولا يعرف بواطنه وسرائره إلا العالمون.

فأما خاطر الملك فلا يرد إلا بخبر صريح وبر محض على كل حال إذا ورد لأن الخداع والحيلة ليس من وصف الملائكة ولكن قد تنقطع خواطر الملك من القلب إذا اشتدت قسوته ودامت معصيته من المتعبدين فيخلى بين القلب وبين نوازع العدوّ اللعين ويتخلى العدوّ بهوى النفس فيستحوذ ويقترن بالعبد نعوذ بالله من إبعاده وعدم خيره وإرشاده ولايزال العبد مع إلهام الملك في مقام الإيمان، فإذا رفع إلى مقام اليقين تولاه الله تعالى بواسطة أنوار الروح، فكان الروح مكان إلقاء الحق حتى يرد عليه من الله تعالى بواسطة أنوار الروح، من السرائر ما لا يطلع عليه الملك ولا يكون ذلك حتى تفنى خواطر النفس بالهوى ولا تبقى منها باقية، وتطوى النفس فتندرج في الروح فلا يظهر منها داعية ثم يتولاه الله تعالى بنور اليقين فيسطع له نور اليقين من خزانة الغيب المحجوب بمكاشفات الجبروت فيشهد العبد شهادة الحق بالحق معاينة الغيب بفقد كونه ووجد كينونته وما لا يصلح بعد ذلك كشفه إلا لأهله أو لمن سأل عنه، وهذا يكون في مقام التوحيد وهذا أنصبة المقربين.

ذكر بيان آخر من تفصيل المعاني

وكل عمل وإن قل لا بدَّ فيه من ثلاثة معانٍ قد استأثر الله تعالى بتوليها أوّلها التوفيق وهو الإتفاق أن يجمع بينك وبين الشيء ثم القوّة وهو اسم لثبات الحركة التي هي أوّل العقل ثم الصبر وهو تمام الفعل الذي به يتم، فقد رد الله عزَّ وجلَّ هذه الأصول التي يظهر عنها كل عمل إليه، فقال سبحانه: (وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بالله) هود: 88، وقال: (مَا شاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ) الكهف: 39، وقال عزّ وجلّ: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاّ بِالله) النحل: 127، وقد أجمل الله عزّ وجلّ ذكر تقليب الكون بمشيئته في قوله تعالى: (يُقَلِّبُ الله اللَّيْلَ والنَّهَارَ) النور: 44، والمعنى بما فيهما لأنهما ظرفان للأشياء فعبر عنهما بهما كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارَ) سبأ: 33، والمعنى مكركم في الليل والنهار فعبر بهما عن مكرهم لأنهما مكان لمكرهم، وكذلك قوله تعالى: (وَلَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْل والنَّهَارِ) الأنعام: 13 فيها وجهان أحدهما أي ما أقام من السكن والثاني ما سكن من السكون وإنما ذكر السكون دون الحركة لأنه هو الأصل حتى تحرك وهو الأقرب إلى العجز والعدم والتحريك حادث جارٍ بأحداث الله تعالى وإجرائه، ويجوز أيضاً ذكر السكون ليستدل به على الحركة لأنه ضدها، كما قال الله تعالى: (سَرَابيلَ تَقيكُمُ الْحَرَّ) النحل: 81 وهي أيضاً تقي البرد فذكر أحد الوصفين ليستدل به على الآخر.

وقال سبحانه: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهمْ) الأنعام: 110، وكان قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ومقلب القلوب لما شهد من عظيم القدرة ولطيف الصنع في التقليب، ولما رأى من سرعة نفاذ القدرة بالمراد في المقلبات مما لم يشهد سواه فجعله قسماً له تعظيماً لقدرة المحلوف به وخوفاً من سابق العلم بالتقليب فكان يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالوا له: وتخاف يا رسول الله؟ قال وما يؤمنني والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وفي لفظ حديث آخر: إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وقد روي عنه: مثل القلب مثل العصفور في تقلبه يتقلب في كل ساعة، وفي خبر آخر: مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غلياً والخبر المشتهر مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن، فالقلب مكان للتقليب بما فيه من خزائن الغيب كالليل والنهار مكان للأحكام بالتصريف من اختلاف الأزمان في الأوقات والإيمان بتقليب القلوب وبأن المقلب يحول بين القلب وبين صاحبه واجب.

وقد قرن الله عزّ وجلّ الإيمان بالبعث الأمر بهما في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال: 24، وفسره ابن عباس فقال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الإيمان وقيل يحول بين العبد وبين الاستجابة لله تعالى والرسول وقيل: يحول بين المؤمن وبين سوء الخاتمة وبين الكافر وبين حسن الخاتمة وقيل يحول بين المؤمن وبين أن يلقيه في كبيرة يهلك فيها وبين المنافق وبين أن يوفقه لطاعة فينجو بها ويحول بين الموحد وبين الخاتمة بالتوحيد، وهذه مخاوف للمؤمنين بتحقيق الوعيد وكذلك الكون بأسره عند الموحدين في القدرة بالتقليب كمثل ريشة في ريح عاصف تقلبه القدرة على مشيئة القادر وليس في القدرة ترتيب ولا مسافة ولا بعد ولا يحتاج إلى زمان ولا مكان، فما ظهر من الملك وثبت للعيون بمكان وزمان فلأجل الحكمة والصنعة والإتقان وما خفي من الملكوت وتقلب ببصائر القلوب فبلطف القدرة وقهر السلطان ونصيب كل عبد من مشاهدة القدرة بقدر نصيبه من التوحيد ونصيبه من التوحيد حسب قسمه من اليقين وقسمه، من اليقين على قربه من القريب وقربه علي حسب قرب الله تعالى من قلبه وقرب الله تعالى منه بقدر علمه بالله تعالى واتساعه في العلم بالله عزّ وجلّ على نحو مكانه من مزيد الإيمان ومزيد إيمانه على قدر إحسان الله تعالى إليه وإحسانه إليه على قدر عنايته به وإيثاره له وعلم الله من وراء ذلك وذاك سر القدرة المحجوب المخزن ونصيب كل عبد من الجهل على قدر نصيبه من الغفلة ونصيبه من الغفلة على حسب حب الدنيا وحبه للدنيا على قدر قوّة الهوى وقوّة الهوى على قدر غلبة سلطان النفس ونشر صفاتها عليه وقوّة صفات النفس على قدر ضعف اليقين وضعف يقينه على كثافة الحجاب والبعد بينه وبين الله عزّ وجلّ والحجاب والبعد ميراثه الكبر وقسوة القلب والقسوة تورث الانهماك في المعاصي وإدمان المعاصي عن الإعراض والمقت، والإعراض والمقت، من قلة عناية المولى بعبده وسوء نظره له، ومن وراء ذلك سر القدر الذي به عن الخلق قد استأثره، فهذه الأوصاف المذمومة العبد مبتل بها على تضاد تلك الصفات المحمودة التي هي من المنعم بها ولكل وجهة هو موليها ومكان الهوى من القلب على قدر تزيين العدوّ له وتسليطه عليه، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فلا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه) آل عمران: 160، وان يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله، فإذا كان الهادي هو المضلّ فمن يهدي؟.

وقد قال تعالى: (فإِنَّ الله لا يَهْدي مَنْ يُضِلُّ) النحل: 37 أي فإن الله من شأنه أن أحداً لا يهدي من أضله ومن كان أضله الله في سابق علمه فكيف يهديه الآن، كذلك قال على الحرف الآخر فإن الله لا يهدي من يضلّ فإذا كان المعطي هو المانع فمن يعط ولو كان الخير كله في قلب عبد ما قدر أن يوصل إلى قلبه من قلبه ذرة ولا استطاع أن ينفع نفسه بنفسه خردلة لأن قلبه وان كان جارحته فهو خزانته وله فيه ما لا يعلم هو فهو لا يطلع على ما فيه كما قال معجباً لمن جهله وأضله أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً فكيف به أن يملك ما فيه فيصرفه بما يحب، وقد قال: سبحان مصرف القلوب وقد خاطب الله تعالى سيد البشر وأمره أن يخبر فقال: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً ولا ضَرَّا إلاَّ مَا شاءَ اللهُ) الأعراف: 188، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا ولا رشَداً) الجن: 21، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنّي لَنْ يُجيرني مِن اللهِ أحَدٌ ولنْ أجِدَ مِنْ دُونِه مُلْتَحَداً) الجن: 22، وإذا كان المالك عزيزاً جباراً وكان كل شيء بيده لم يوصل إلى ما عنده بقوة ولا حيلة فليس الطريق إليه إلا الصدق والإخلاص والذل والافتقار وقد حجب العقل المكيد عن النظر إلى المبدئ المعيد بما أظهر له من صورته وحركته فستره عن الأول المصوّر وعن القادر المحرّك فادّعى عن نظره إلى حركته وسكونه التي هي حجة له عن المحرّك لغيب ادعاء الحركة والسكون بنفسه لوقوف نظره على نفسه إذ كان مشهوداً وعمي عن النظر إلى الشاهد المحرّك المسكن لبعد مقامه لأنه غيب من وراء الحركة والغيب لا يشهد إلا بغيب وهو اليقين كما لا تدرك الشهادة إلا بشهادة وهي العين فمن عمي بصره لم يرَ من الملك شيئاً كذلك من حجب قلبه لم يرَ من الملك شيئاً، فلعدم اليقين عمي عند المشاهدة ولإيقاع الحجة والحجاب أدرك بالمعقول الشهادة، ولو كان من أولي البصائر لاعتبر الحركة الغيبية بالمتحرك المشاهد فكما أن الحركة غيب في الجسم ظهر عنها المتحرك فأظهر سبحانه المتحرك وأخفى الحركة فيه وأظهر الصنعة وأخفى الصنع فيها لتفصيل حكمته كذلك الصانع ذو الصنعة الأول والحاكم الأعلى ذو الحكمة الأغلب غيب عن الحركة التي أخفاها هو من ورائها بلطائف القدرة فشهد المعقول ما أشهدهما أظهر له ووجه به لأنه معقول عليه محدود له وعمي عما غيب عنه لفقد اليقين منه فعندهما ادّعى الحركة والسكون للشاهد فحجبه ذلك عن الشهيد وشهد الموحد بشهادة التوحيد فوجد لما كشف له الملكوت بنور اليقين فأفرد، وقد قال بعض العارفين: من نظر في توحيده إلى عقله لم ينجه توحيده من النار ومن كان توحيده في الدنيا معلقاً بمعقوله لم يحمل توحيده معه لي اليقين أحسب أن هذا إيمان الذي يقال أخرجوا من النار من كان في قلبه وزن مثقال من إيمان فما زاد على هذا المقدار فهو متصل باليقين وهو مؤيد بالروح يمده روح التأييد فلا ينطفئ فهو المزحزح عن النار

وقد قال بعض علمائنا: من ظن أنه يصل إلى الله بغير الله تعالى قطع به، ومن استعان على عبادة الله تعالى بنفسه وكل إلى نفسه، ثم إن الخلق محجوبون بعد هذا الحجاب بثلاثة حجب بعضها أكثف من بعض أحدها أواسط وأسباب معترضة وشهوات جاذبة وعادات راجعة صادرة، فالأسباب توقفهم عليها والشهوات تجذبهم إليها والعادات تردهم فيها، فأي هذه الحجب ظهر في القلب وبعضها أشد عليه من بعض فهو مكان للعدوّ أوسع من مكان فتمكن سلطانه على قدر سعة مكانه فقويت النفس بتزيين العدوّ وسوّلت بتأميلها فملكت العبد ملكاً أشد من ملك، فإذا ملكت النفس العبد كان مملوكها وأسيرها وكانت بالهوى أميرة فاستهواه الشيطان حينئذ بالغواية والإضلال واستحوذ عليه بمعاني المشاركة في الأولاد والأموال، فشغله بذلك عن الله سبحانه وتعالى وأنساه ذكر الله عزّ وجلّ، وهذا هو الاقتران الذي ذمه الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً) النساء: 38 وهو فوق النزغ الهمز والخاطر بعد الهمة وهو خطور العدوّ على القلب بالوسوسة يزين الهمة ويملي للعبد ويرجيه ويفسح له في أمله ويمنيه بالتوبة حتى تهون عليه المصية ويعده بعدها بالمغفرة حتى يجرئه على الخطيئة وهذا هو الوعد بالغرور وبعده الهلاك والثبور، كما قال يعدهم أي التوبة ويمنيهم المغفرة وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وهذا كله تصديق ظن العدوّ بالعبد واتباع العبد له بالهوى عن مقام البعد وكشف لعلم الله تعالى بإظهار الحكم وإنفاذ المشيئة وهو الابتلاء بالأسباب فصار العدوّ سبباً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْليسُ ظَنَّهُ فاتَّبعُوهُ إلاَّ فَريقاً مَنَ الْمُؤْمنينَ) سبأ: 20، ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال (وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطان) سبأ: 21، يعني بحوله وقوّته وبقهره ومشيئته إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي لنرى وقيل لنعلم العلم الذي يجازي عليه بالثواب والعقاب وقيل: لنختبر ونكشف وقيل: لنعلم المؤمنين ذلك فيستبين لهم ويعلم من عمل تلك الأعمال التي ظهرت منه فتوقع عليه بذلك الحجة ويتبين له كذبه كما قال: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ) العنكبوت: 3، فعلى هذه المعاني مجاز كل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من قوله لنعلم وحتى نعلم إذ كان علمه تعالى قد سبق المعلومات وإذا كانت الأشياء عن علمه بعلمه جاريات فجعل تسليط العدوّ بسلطانه كشفاً وإظهاراً لما أخفاه من سابق علمه كما جعل أفعال العباد الظاهر كشفاً وإظهاراً لإرادته الباطنة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبق العلم وجفّ القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته.

ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها

فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من علم الخبر فهو إلهام وما وقع من علم الشر فهو وسواس وما وقع في القلب من المخاوف فهو الحساس وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو نية وما كان من تدبيرالأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو أمنية وأمل وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكر وتفكير وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة وما كان من تحدث بمعاشها وتصريف أحوالها فهو هم وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم، ويسمّى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطور عدوّ بحسد أو خطرة ملك بهمس، ثم إن ترتيب الخواطر المنشأة من خزائن الغيب القادحة في القلب على ستة معانٍ، وهذه حدود الشيء المظهر ثلاثة منها معفوة وثلاثة منها مطالب بها، فأول ذلك الهمة وهو ما يبدو من وسوسة النفس بالشيء يجده العبد بالحس كالبرقة فإن صرفها بالذكر امتحت وإن تركها بالغفلة كانت خطرة وهو خطور العدوّ بالتزيين وإن نفى الخاطر ذهب وإن ولي عنه قوي فصار وسوسة وهذا محادثة النفس للعدوّ وإصغاؤها إليه وإن نفى العبد هذه الوسوسة بذكر الله خنس العدوّ وصغت النفس، وهذه الثلاث معفوة برحمة الله تعالى غير مؤاخذ بها العبد وإن أمرج العبد النفس في محادثة العدوّ وطاولت النفس العود بالإصغاء والمحادثة قويت الوسوسة فصارت نية فإن أبدل العبد هذه النية بنية خير فاستغفر منها وتاب وإلا قويت فصارت عقداً فإن حلّ هذا العقد بالتوبة وهو الإصرار والأقوى فصار عزماً وهو القصد.

وهذه الثلاثة من أعمال القلب مأخوذ بها العبد ومسؤول عنها فإن تداركه الله تعالى بعد العزم وإلا تمكن العزم فصار طلباً وسعياً وأظهر العمل على الجوارح من خزائن الغيب والملكوت فصار من أعمال الجسم في خزانة الملك والشهادة، فهذه الأعمال توجد من أعمال البر والإثم، فما كان منها من البر همة ونية وعزماً كان محسوباً للعبد في باب النيات مكتوباً له في ديوان الإرادة له به حسنات وما كان منها من الشر نية وعقداً وعزماً فعلى العبد فيه مؤاخذه من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصي وليس شيء مجانس للعدوّ مؤاخٍ له إلا النفس جمع الله تعالى بينهما في الوسوسة بقوله: (الوَسْواسِ الخَنَّاس) الناس: 4، وقوله: (ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بهِ نَفْسُهُ) ق: 16، وكل شيء خلقه الله تعالى فله مثل وضد، فمثل النفس الشيطان وضدهما الروح، ثم إن أعمال الجوارح من النوعين الطاعة والمعصية أعظم في الأجر والوزر معاً إلا ما لا يتأتى أن يعمله بظاهر الجسم من شهادة التوحيد أو وجود شك أو كفر أو اعتقاد بدعة.

باب آخر من البيان والتفصيل

فأما ما كان من لائح يلوح في القلب من معصية ثم يتقلب فلا يلبث فهذا نزغ من قبيل العدوّ وما كان في القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها وما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهتها، فالورود من قبل العدوّ والكراهة من قبل الإيمان وما وجده العبد وجداً بهوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالوجد من النفس والوارد بالمنع من الملك وما وجده العبد من فكر في عاقبة الدنيا أو تدبير الحال ونظر إلى معهود فهذا من قبل العقل وما وجد من خوف أو حياء أو ورع أو زهد أو من شأن الآخرة فهذا عن الإيمان وما شهد القلب من تعظيم أو هيبة أو إجلال أو قرب فهذا من اليقين وهو من مزيد الإيمان وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه كما قال صاحب الأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك وإنما هذا تفصيل الحدود وإظهار المكان وإحكام العلم كما قال تعالى: (وَكُلَّ شَيء فصَّلْنَاه تَفْصيلاً) الإسراء: 12، وقال: (قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97، وليس في التوحيد ولا في المشاهدة تفكر ولا في الإشارة عيان ولا في القدرة ترتيب ولكن لا بدّ من علم التفصيل لا عن التوحيد وهو التفرقة بلسان الشرع عن عين الجمع لإظهار الطرق واستنارة السبل وتطريق السالكين وترتيب العاملين ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة والله غالب على أمره، وقد فصل بعض العلماء أعمال العباد وفرق بين الأمر والإرادة فقال: إن أعمال العباد لا تخلو من ثلاثة أنواع: فرض وفضل ومعصية، قال: فنقول إن الفرض بأمر الله تعالى ومحبة الله ومشيئة الله، تجتمع هذه المعاني الثلاثة في الفرائض قال: ونقول إن النفل لا بأمر الله لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئته جلّ وعلا أي لأنه شرعه وندب إليه فقال: ونقول إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ولكن بمشيئة الله جلّت عظمته أن لا يخرج شيء من إرادته كما لم يخرج شيء من علمه، والإرادة والمشيئة اسمان بمعنى واحد فقد دخل كل شيء فيها كما دخل كل شيء في العلم فالله سبحانه عالم بما أراده وقد سبق به علمه كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة فهو عالم الغيب والشهادة فالغيب علمه والشهادة معلومة فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه والإرادة نفذت العلم في معلومات الخلق وهذا فرض التوحيد فخرجت النوافل عن الأمر خرجت المعاصي عن المحبة في تفصيل الأحكام، وتبين الحلال والحرام ولم تخرج معصية عن مشيئة، وقد قال الله جلّ ثناؤه: (وَكُلُّ صَغيرٍ وَكَبيرٍ مُسْتَطَرٌ) القمر: 53، وقد قال رسول الله: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس فذكر عرضين لطيفين هما سببا المنع والعطاء وقد فرق عالمنا بين الأمر والإرادة فرقاً لطيفاً فحدثني بعض أصحابنا أنه سئل عن قول الله عزّ وجلّ لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا فقال أراده ولم يرده منه يعني أراده شرعاً وإظهاراً وعليه إيجاباً ولم يرده منه وقوعاً ولا كوناً إذ لا يكون إلا ما إراد الله تعالى إذ لو أراد كونه لكان ولو أراده فعلاً لوقع لقوله تعالى: (إنَّمَا أَمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) يس: 82، فلما لم يكن علمت أنه لم يرده، فقد كان الأمران معاً إرادته بالتكليف والتعبد وإرادته بأن لا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع من أن يؤمن، فكذلك القول في نهيه لآدم عن أكل الشجرة إنه أراد الأكل منه ولم يرده له أي أراده وقوعاً وكوناً لأنه قد وجد وكان كقوله إذا أردناه أن نقوله له كن فيكون فلما كان علمت أنه أراده ولم يرده شرعاً ولاأمراً لأنه لم يأمره به ولاشرعه له فقد كان الأمران جميعاً إرادته أن يكون العبد مكلفاً مأموراً وإرادته الأكل منه لأنه قد كان وكذلك القول في كل ما أمر به وأراده إنه أراد الأمر والنهي لهم ليكونوا مكلفين متعبدين ولم يرده ممن لم يكن منه الائتمار والانتهاء لأنه قال تعالى: (إنَّما قَوْلُنا لِشَيْء إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لًَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل: 40، فأخبر أنه إذا أراد شيئاً كونه كما أنه إذا كوّن شيئاً فقد أراده

بدلالة كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله. ة كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله.

وهذا التفصيل في هذه المعاني من الأحكام هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر للملك الجبار يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء ويردهم إلى ما شاء كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلي الكبير الواحد القهار يقهر عباده كيف شاء ويجري عليهم ما يشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتهاد طوعاً وكرهاً بوصف العبودية وبحق الملكة إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم إن تعذبهم فإنهم عبادك وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين، (للهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) الروم: 4.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!