The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الحادي والثلاثون كتاب العلم وتفضيله وأوصاف العلماء وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم وكشف طرق العلماء من السلف الصالح وذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلم والفرق بين العلم الظاهر والباطن وبين علماء الدنيا والآخرة وفضل أهل المعر

 

 


الفصل الحادي والثلاثون كتاب العلم وتفضيله وأوصاف العلماء وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم وكشف طرق العلماء من السلف الصالح وذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلم والفرق بين العلم الظاهر والباطن وبين علماء الدنيا والآخرة وفضل أهل المعر

وذكر معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة على كل مسلم وفي الحديث الآخر اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم، قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: أراد بذلك علم حال يعني علم حال العبد من مقامه الذي أقيم فيه بأن يعلم أحدكم حاله الذي بينه وبين الله عزّ وجلّ في دنياه وآخرته خاصة فيقوم بأحكام الله تعالى عليه في ذلك، وقال بعض العارفين معناه طلب علم المعرفة وقيام العبد بحكم ساعته وما يقتضي منه في كل ساعة من نهاره، وقال بعض علماء الشام إنما عنى به طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفس ووساوسها ومعرفة مكايد العدو وخدعه وغروره وما يصلح الأعمال ويفسدها فريضة كله من حيث كان الإخلاص في الأعمال فريضة ومن حيث أعلم بعداوة إبليس ثم أمر بمعاداته وذهب إلى هذا القول عبد الرحيم ابن يحيى الأرموي ومن تابعه، وقال بعض البصريين في معناه: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة لأنها رسل الله تعالى إلى العبد ووسواس العدوّ والنفس فيستجيب لله تعالى بتنفيذ ما منه إليه ومنها ابتلاء الله تعالى للعبد واختبار تقتضيه مجاهدة نفسه في نفيها ولأنها أول النية التي هي أول كل عمل وعنها تظهر الأفعال وعلى قدرها تضاعف الأعمال فيحتاج أن يفرق بين لمة الملك ولمة العدوّ وبين خاطر الروح ووسوسة النفس وبين علم اليقين وقوادح العقل ليميز بذلك الأحكام، وهذا عند هؤلاء فريضة وهو مذهب مالك بن دينار وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد وأتباعهم من النساك وقد كان أستاذهم الحسن البصري يتكلم في ذلك وعنه حملوا علوم القلوب، وقال عباد أهل الشام معناه طلب علم الحلال فريضة إذ قد أمر الله تعالى به وأجمع المسلمون على تفسيق آكل الحرام، وقد جاء في خبر مفسر طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ومال إلى هذا القول إبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط ووهيب بن الورد وحبيب بن حرب.

وقال بعض هذه الطائفة من أهل المعرفة: معناه طلب علم الباطن فريضة على أهله قالوا وهذا مخصوص لأهل القلوب ممن استعمل به واقتضى منه دون غيره من عوام المسليمن ولأنه جاء في لفظ الحديث: تعلموا اليقين فمعناه اطلبوا علم اليقين وعلم اليقين لا يوجد إلا عند الموقنين وهو من أعمال الموقنين المخصوص في قلوب العارفين وهو العلم النافع الذي هو حال العبد عند الله تعالى ومقامه من الله تعالى كما شهد له الخبر الآخر في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعلم باطن في القلب وهو العلم النافع فهذا تفسير ما أجمل في غيره، وقال جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان ثم يعلمنا القرآن فازددنا إيماناً وسيأتي زمان قوم يتعلمون القرآن قبل الإيمان يعين تعلمنا علم الإيمان وهذا مذهب نساك أهل البصرة، وقال بعض السلف: إنما معناه طلب علم ما لم يسع جهله من علم التوحيد وأصول الأمر والنهي، والفرق بين الحلال والحرام إذ لا غاية لسائر العلوم بعد ذلك وكلها يقع عليه اسم علم من حيث هي معلومات ثم قد أجمعوا أن ليس تعليم ما زاد على ما ذكرناه فرضاً وإنما فيه فضل أو ندب، وقال بعض فقهاء الكوفة: معناه طلب علم البيع والشراء والنكاح والطلاق وإذا أراد الدخول فيه افترض عليه مع دخوله في ذلك طلب علمه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يتجر في سوقنا هذا إلا من تفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى وكما قيل تفقه ثم اتجر ومال إلى هذا سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما، وقال بعض المتقدمين من علماء خراسان: هو أن يكون الرجل في منزله فيريد أن يعمل شيئاً من أمر الدين أو يخطر على قلبه مسألة الله سبحانه وتعالى فيها حكم وتعبد وعلى العبد في ذلك اعتقاد أو عمل فلا يسعه أن يسكت على ذلك ولا يجوز له أن يعمل فيه برأيه ولا يحكم بهواه فعليه أن يلبس نعليه ويخرج فيسأل عن أعلم أهل بلده فيسأله عن ذلك عند النازلة فهذا فريضة وحكي هذا القول عن ابن المبارك وبعض أصحاب الحديث.

وقال آخرون: يعني طلب علم التوحيد فرض وإنما اختلفوا في كيفية الطلب وماهية الإصابة، فمنهم من قال من طريق الاستدلال والاعتبار، ومنهم من قال من طريق البحث والنظر، ومنهم من قال من طريق التوفيق والأثر، وقالت طائفة من هؤلاء: إنما أراد طلب علم الشبهات والمشكلات إذا سمعها العبد وابتلى بها وقد كان يسعه ترك الطلب إذا كان غافلاً عنها على أصل التسليم ومعتقد جملة المسلمين لا يقع في وهمه ولا يحيك في صدره شيء من الشبهات فيسعه ترك البحث فإذا وقع في سمعه شيء من ذلك ووقر في قلبه ولم يكن عنده تفصيل ذلك وقطعه ومعرفة تمييز حقه من باطله لم يحل له أن يسكت عليه لئلا يعتقد باطلاً أو ينفي حقاً فافترض عليه طلب ذلك من العلماء به فيستكشفه حتى يكون على اليقين من أمره فيعتقد من ذلك الحق وينفي الباطل ولا يقعد عن الطلب فيكون مقيماً على شبهة فيتبع الهوى أو يكون شاكاً في الدين فيعدل عن طريق المؤمنين أو يعتقد بدعة فيخرج بذلك عن السنة ومذهب الجماعة وهو لا يعلم، ولهذا المعنى كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم أرنا الحق حقاً فنتبعه وأرنا الباطل باطلاً فنجتنبه ولا تجعل ذلك متشابهاً علينا فنتبع الهوى، وهذا مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وداود بن علي والحسين الكرابيسي والحرث بن أسد المحاسبي ومن تابعهم من المتكلمين، فهذه أقوال العلماء في معنى هذا الخبر: حكينا ذلك عن علمنا بمذاهبهم على معنى مذهب كل طائفة واحتججنا لكل قول، فالألفاظ لنا والمعنى لهم وهذا كله حسن ومحتمل وهؤلاء كلهم وإن اختلفوا في تفسير الحديث بألفاظ فإنهم متقاربون في المعنى إلا أهل الظاهر منهم فإنهم حملوه على ما يعلمونه وأهل الباطن تأولوه على علمهم ولعمري أن الظاهر والباطن علمان لا يستغني أحدهما عن صاحبه بمنزلة الإسلام والإيمان مرتبط كل واحد بالآخر كالجسم والقلب لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وهؤلاء المختلفون في الأقوال مجمعون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد بذلك طلب علم الأقضية والفتاوى ولا علم الاختلاف والمذاهب ولا كتب الأحاديث مما لا يتعين فرضه وإن كان الله تعالى لا يخلى من ذلك من يقيمه بحفظه والذي عندنا في حقيقة معنى هذا الخبر والله أعلم أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة يعني علم هذه الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها من حيث لم يفترض على المسلمين غيرها، ثم إن العمل لا يصح إلا بعلمه فأول العمل العلم به فصار علم العمل فرضاً من حيث افترض العمل.

فلما لم يكن على المسلمين فرض من الأعمال إلا هذه الخمس فصار طلب علم هذه الخمس فرضاً لأنه فرض الفرض وعلم التوحيد داخل فيها لأنه في أوّله شهادة أن لا إله إلا الله بإثبات صفاته المتصلة بذاته ونفي صفات سواه المنفصلة عن إياه كله داخل في علم شهادة: أن لا إله إلا الله وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام إذا لا يكون مسلماً إلا بإخلاص العمل لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله فبدأ به واشترط للإسلام والأصل في هذا أنه لم يرد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم كل ما جاز أن يكون معلوماً بإجماع الأمة، إنه لم يعن بذلك علم الطب أو علم النجوم ولا علم النحو أو الشعر أوالمغازي وهذه تسمى علوماً لأنها تكون معلومة وأربابها علماء بها إلا أن الشرع لم يرد بالأمر بمقتضاها والأمة مجمعة أيضاً أنه لم يرد بذلك علم الفتيا والقضاء ولا علم افتراق المذاهب واختلاف الآراء وهذه تسمى علوماً عند أهلها وبعضها فرض على الكفاية وكلها ساقطة عن الأعيان، والخبر جاء بلفظ العموم بذكر الكلية وبمعنى الاسم فقال: طلب العلم فريضة ثم قال: على كل مسلم بعد قوله: اطلبوا العلم فكان هذا على الأعيان فكأنه على ما وقع عليه إسم العلم ومعناه المعهود المعروف بإدخال التعريف عليه فأشير بالألف واللام إليه فإذا بطلت هذه الوجوه صحّ أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم أي طلب علم ما بني الإسلام عليه فافترض على المسلمين علمه فريضة بدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين سأله: أخبرني ماذا افترض الله تعالى عليّ، وفي لفظ آخر: أخبرنا بالذي أرسلك الله تعالى إلينا به، فأخبره بالشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع فقال: والله لا أزيد عليه شيئاً ولا أنقص منه شيئاً فقال: أفلح ودخل الجنة إن صدق فكان علم هذه الخمس فريضة من حيث كان معلومه فريضة إذ لا عمل إلا بعلم.

وقد قال عزّ وجلّ: (إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف: 86، وقال في مثله: (حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) النساء: 43، وقال: (هلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ) الأنعام: 148، وقال: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذينَ ظلمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أضَل الله) الروم: 29، وقال تعالى: (ولا تَتَّبعْ أَهْواءَ الَّذين لا يَعْلَمُونَ) (إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً) الجاثية: 18 - 19، وقال سبحانه وتعالى: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله وأنْ لا إله إلاَّ هُوَ) هود: 14، وقال: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الأنبياء: 7، فهذه الآية افترض الله فيها طلب العلم وذلك الخبر الذي جاء في أبنية الإسلام الخمسة افترض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه هذه الأعمال ثم قال مجملاً: طلب العلم فريضة ثم وكده بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مسلم فكان تفسير ذلك وتفصيله أن علم هذه الخمس التي هي بنية الإسلام فرض لأجل فرضها.

وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق مرسل أنه مر برجل والناس مجتمعون عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل علامة فقال: بماذا؟ قالوا بالشعر والأنساب وأيام العرب، فقال: هذا علم لا يضرّ جهله، وفي لفظ آخر: علم لا ينفع وجهل لا يضر، وروينا في الخبر: إن من العلم جهلاً وإن من القول عياً، وفي الخبر الآخر: قليل من التوفيق خير من كثير من العلم، وفي خبر غريب: كل شيء يحتاج إلى العلم يجتاج إلى التوفيق والخبر المشهور قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك من علم لا ينفع فسماه علماً إذ له معلوم وأن أصحابه علماء عند أصحابهم ثم رفع المنفعة عنهم واستعاذ بالله منه.

وقد روينا في خبر أن الشيطان ربما سبقكم بالعلم، قلنا: يا رسول الله كيف يسبقنا بالعلم؟ قال: يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال في العلم قائلاً وللعمل مسوفاً حتى يموت وما عمل، ففي هذا الخبر دليلان، أحدهما أنه أريد به طلب فضول العلم الذي لا نفع له في الآخرة ولا قربة في طلبه من الله والثاني أن العلم المفضل المندوب إليه إنما هو الذي يقتضي العمل لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأمر بعمل بغير علم ولايكره طلب علم للعمل به ألا تسمع إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الآخر: فضل من علم أحب إليّ من فضل من عمل وخير دينكم الورع.

ذكر فضل علم المعرفة واليقين على سائر العلوم وكشف طريق علماء السلف الصالح من علماء الدينا والآخرة

قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ألوف من صحابته كلهم علماء بالله فقهاء عن الله تعالى أهل رضوان من الله تعالى ولم ينصب نفسه إلى الفتيا ولا حملت عنه الأحكام والقضايا إلا بضعة عشر رجلاً، وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى الأمير الذي تقلّد أمور الناس فضعها في عنقه، وروى ذلك عن أنس ثم جماعة من الصحابة والتابعين بإحسان، وكان ابن مسعود يقول: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن مسألة ويسكت عن تسعة، وكان ابن عباس على ضد ذلك كان يسئل عن عشرة فيجيب في تسعة ويسكت عن واحدة، وكان من الفقهاء من يقول لا أدري أكثر من أن تقول أدري، منهم: سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وبشر بن الحرث رضي الله عنهم، وكانوا في مجالسهم يجيبون عن بعض ويسكتون عن بعض ولم يكونوا يجيبون في كل ما يُسألون عنه.

وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك، وفي لفظ آخر كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر للآخر حتى يرجع إلى الذي سئل عنها أول مرة، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما من التابعين، وقد روينا مسند ألا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلّف، تفصيل ذلك أن الأمير هو الذي يتكلم في علم الفتيا والأحكام كذلك كان الأمراء يسئلون ويفتون والمأمور الذي يأمره الأمير بذلك فيقيمه مقامه ويستعين به لشغله بالرعية والمتكلف هو القاصّ الذي يتكلم في القصص السالفة ويقص أخبار من مضى لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحال ولم يندب إليه من العلوم وقد تدخله الزيادة والنقصان والاختلاف، فلذلك كره القصص فصار القاصّ من المتكلفين.

وقد جاء في لفظ الحديث الآخر بتأويل معناه: لا يتكلم على الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو مراء فكان قولهم: أمير هو المفتي في الأقضية والأحكام كما ذكرنا آنفاً ومعنى مأمور هو العالم بالله عزّ وجلّ الزاهد في الدنيا يتكلم في علم الإيمان واليقين وفي علم القرآن والحث على مصالح أعمال الدين بأمر من الله تعالى أذن الله تعالى له في ذلك بقوله تعالى: (وإذْ أَخَذَ الله ميثاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران: 187، وقد كان أبو هريرة وغيره يقولون: لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثتكم بحديث أبداً ثم يتلو هذه والآية التي قبلها ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتى الله تعالى عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينه ولا يكتمه، وأما المرائي فهو المتكلم في علوم الدنيا الناطق عن الهوى يستميل بذلك قلوب الناس ويجتلب بكلامه المزيد من الدنيا والرفعة فيها، وقال بعض العلماء: كان الصحابة والتابعون بإحسان يتدافعون أربعة أشياء: الأمانة والوديعة والوصية والفتيا، وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً وأشدهم دفعاً لها وتوقفاً عنها أروعهم، وقال بعض السلف: كان شغل الصحابة والتابعين بإحسان في خمسة أشياء: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثاً: أمر بمعروف، أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى، وقال الله أصدق القائلين: (لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أمَرَ بِصَدقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) النساء: 114، ورأى بعض أصحاب الحديث بعض فقهاء الكوفة من أهل الرأي بعد موته في المنام قال: فقلت له ما فعلت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي قال: فكره وجهه وأعرض عني وقال ما وجدناه شيئاً وما حمدنا عاقبته.

وحدثونا عن علي بن نصر بن علي الجهضمي عن أبيه قال: رأيت الخليل بن أحمد في النوم بعد موته فقلت: ما أجد أعقل من الخليل لأسألنه فقال لي: أرأيت ما كنا فيه؟ فإني لم أر شيئاً ما رأيت أنفع من قول: سبحان الله، والحمد للّّه، ولا إله إلا الله والله، أكبر، وحدثونا عن بعض الأشياخ قال: رأيت بعض العلماء في المنام فقلت له: ما فعلت تلك العلوم التي كنا نجادل فيها ونناظر عليها قال: فبسط يده ونفخ فيها وقال طاحت كلها هباءً منثوراً ماانتفعت إلا بركعتين حصلتا لي في جوف الليل وحدثت عن أبي داود السجستاني قال: كان بعض أصحابنا كثير الطلب للحديث حسن المعرفة به فمات فرأيته في المنام فقلت ما فعل الله بك فسكت فأعدت عليّه فسكت فقلت غفر الله لك قال: لا، قلت لم؟ قال: الذنوب كثيرة والمناقشة دقيقة ولكن قد وعدت بخير وأنا أرجو خيراً، قلت: أي الأعمال وجدتها فيما هناك أفضل، قال: قراءة القرآن والصلاة في جوف الليل، قلت: فأيما أفضل ما كنت تقرأ أو تقرئ؟ فقال: ما كنت أقرأ قلت: فكيف وجدت قولنا فلان ثقة وفلان ضعيف فقال: إن خلصت فيه النية لم يكن لك ولا عليك، وحدثت عن بعض الشيوخ قال: حدثني أحمد بن عمر الخاقاني قال: أريت في منامي كأني في طريق أمضي إذ صادفني رجل فأقبل عليّ وهو يقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضّلوك عن سبيل الله فقلت له: لي تعني؟ فقال: لك ولذاك الذي خلفك، فالتفت فإذا سري رحمه الله فأعرضت عن الرجل وأقبلت على السري وقلت: هذا أستاذنا ومؤدبنا الذي كان يؤدبنا في الدنيا، ثم قلت له: يا أبا الحسن إنك قد صرت إلى الله تعالى فأخبرنا بأي عمل تقبله الله تعالى فأخذ بيدي ثم قال تعال فجئت أنا وهو إلى بنية مثل الكعبة فوقفنا إلى جانبها إذا أشرف علينا من البنية شخص فأضاء ذلك الموضع منه فأومأ سري إليه وأشالني نحوه وكان سري قصيراً وأنا أيضاً قصير فمد ذلك الشخص الذي كان فوق البنية يده فأخذني فشالني إليه فلم أقدر أفتح عيني من أنواركانت في ذلك المكان، ثم قال لي: قد سمعت كلامك مع الشيخ كل خلق في القرآن محمود تفعله وكل خلق في القرآن مذموم تنتهي عنه وحسبك هذا.

وقد حدثونا عن سري السقطي قال: كان شاب يطلب علم الظاهر ويواظب عليه ثم ترك ذلك وانفرد واشتغل بالعبادة فسألت عنه فإذا هو قد اعتزل الناس وقعد في بيته يتعبد فقلت له: قد كنت حريصاً على الطلب لعلم الظاهر فما بالك انقطعت؟ قال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي: كم تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه فقال: إن حفظ العلم العمل به فتركت الطلب وأقبلت على النظر فيه للعمل، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم الخشية، وقال غيره من الفقهاء: إنما العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: اعلموا ما شئتم أن تعملوا فو الله لا يؤجركم الله تعالى عليه حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية وإن العلماء همتهم الرعاية.

وروينا عنه أيضاً أنه قال: إن الله لا يعبأ بذي قول ورواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أبو حصين: إن أحدهم ليفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وقال غيره: يسأل أحدهم عن الشيء فيسرع للفتيا ولو سئل أهل بدر عنهالأعضلتهم، وقال عبد الرحمن بن يحيى الأسود وغيره من العلماء: إن علم الأحكام والفتاوى كان الولاة والأمراء يقومون به وترجع العامة إليهم فيه ثم ضعف الأمر وعجزت الولاة عن ذلك لميلهم إلى الدنيا وشغلهم بالحروب عنها فصاروا يستعينون على ذلك بعلماء الظاهر وبالمفتين في الجوامع، فكان الأمير إذا جلس للمظالم قعد عن يمينه وشماله مفتيان يرجع إليهما في القضاءوالأحكام ويأمر الشرط بمثل ذلك فكان من الناس من يتعلم علم الفتيا والقضاء ليستعين بهم الولاة على الأحكام والقضاء حتى كثر المفتون رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة ثم اختلف الأمر بعد ذلك حتى تركت الولاة الاستعانة بالعلماء ومما يدلك على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث كتب إلى ابن مسعود عقبة بن عامر ألم أخبر أنك تفتي الناس ولست بأمير ولا مأمور، وفي حديث أبي عامر الهروي قال: حججت مع معاوية فلما قدمنا مكة حدث عن رجل يقضي ويفتي الناس مولى لبني مخزوم فأرسل إليه فقال: أمرت بهذا قال: لا، قال: فما حملك عليه؟ قال: نفتي وننشر علماً عندنا، فقال معاوية: لو تقدمت إليك قبل يومي هذا لقطعت منك طابقاً ثم نهاه ولم يكونوا يقولون ذلك في علم القلوب ولا علم الإيمان واليقين بل قد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم تجلّى لهم أمور صادقة وقد كان عمر رضي الله عنه يجلس إلى المريدين فيستمع إليهم.

وفي الخبر: إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه تلقى الحكمة، وقال بعض أصحاب الحديث: رأيت سفيان الثوري حزيناً فسألته فقال وهو برم: ما صرنا إلا متجر الأبناء الدنيا قلت: وكيف؟ قال: يلزمنا أحدهم حتى إذا عرف بنا وحمل عنا جعل عاملاً أو جابياً أو قهرماناً، وكان الحسن يقول: يتعلم هذا العلم قوم لا نصيب لهم منه في الآخرة يحفظ الله تعالى بهم العلم على الأمة لئلا يضيع، وقال المأمون رحمه الله: لولا ثلاث لخربت الدنيا: لولا الشهوة لانقطع النسل ولولا حب الجمع لبطلت المعايش ولولا حب الرياسة لذهب العلم، فهذا كله وصف علماء الدنيا وأهل علم الألسنة، وأما علماء الآخرة وأهل المعرفة واليقين فإنهم كانوا يهربون من الأمراء ومن أتباعهم وأشياعهم من أهل الدنيا وكانوا ينتقصون علماء الدنيا ويطعنون عليهم ويتركون مجالستهم، وقال ابن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من الصحابة ما سئل أحدهم عن حديث ولا استفتي في فتيا إلاودّ أن صاحبه قد كفاه ذلك، وقال مرة: أدركت ثلاثمائة يسأل أحدهم عن الفتيا أو الحديث فيرد ذلك إلى الآخر ويحيل الآخر على صاحبه وكانوا يتدافعون الفتيا ما بينهم ولم يكونوا إذا سئل أحدهم عن مسألة من علم القرآن أو علم اليقين والإيمان يحيل على صاحبه ولا يسكت عن الجواب.

وقد قال الله سبحانه: (فَسْئلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43 فهم أهل الذكر لله تعالى وأهل التوحيد والعقل عن الله تعالى ولم يكونوا يتلقنون هذا العلم دراسة من الكتب ولا يتلقاه بعضهم من بعض بالألسنة إنما كانوا أهل عمل وحسن معاملات فكان أحدهم إذا انقطع إلى الله تعالى واشتغل به واستعمله المولى بخدمته بأعمال القلوب وكانوا عنده في الخلوة بين يديه لايذكرون سواه ولا يشتغلون بغيره فإذا ظهروا للناس فسألوهم ألهمهم الله تعالى رشدهم ووفقهم لسديدقولهم وآتاهم الحكمة ميراثاً لأعمالهم الباطنة عن قلوبهم الصافية وعقولهم الزاكية وهممهم العالية فآثرهم بحسن توفيقه أن ألهمهم حقيقة العلم وأطلعهم على مكنون السر حين آثروه بالخدمة وانقطعوا إليه بحسن المعاملة فكانوا يجيبون عما عنه يسألون بحسن أثرة الله تعالى لهم وبجميل أثره عندهم فتكلموا بعلم القدرة وأظهروا وصف الحكمة ونطقوا بعلوم الإيمان وكشفوا بواطن القرآن وهذا هو العلم النافع بين العبد وبين الله تعالى وهو الذي يلقاه به ويسأله عنه ويثيبه عليه وهو ميزان جميع الأعمال.

وعلى قدر علم العبد بربه تعالى ترجح أعماله وتضاعف حسناته وبه يكون عند الله تعالى من المقربين لأنه لديه من الموقنين فهم أهل الحقائق الذين وصفهم علي عليه السلام وفضلهم على الخلائق، فقال في وصفهم القلوب أوعية وخيرها أوعاها والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكيه العمل والمال تنقصه النفقة، محبة العلم دين يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ثم تنفس الصعداء فقال: ها إن ههنا علماً جماً لو أجد له حملة بلى أجد لقناً غير مأمون يستعمل الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله تعالى على أوليائه ويستظهر بحججه على خلقه أو منقاداً لأهل الحق ينزرع الشك في قلبه بأوّل عارض من شبهة لا بصيرة له وليسا من رعاة الدين في شيء لا ذا ولا ذاك فمفهوم باللذة سلس القيادة في طلب الشهوات أو مغرىً بجمع الأموال والإدخار منقاد لهواه أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه بل لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة، إمّا ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته وأين أولئك الأقلون عدداً الأعظمون قدراً أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعها نظراءهم ويزرعوها في القلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله من خلقه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه، ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم فهذه كلها أوصاف علماء الآخرة وهذه نعوت علم الباطن وعلم القلوب لا علم الألسنة وكذلك وصفهم معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصف العلم بالله تعالى.

فيما رويناه من حديث رجاء بن حيوة بن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ قال: تعلّموا العلم فإن تعلّمه لله خشية وطلبه عبادة ومدراسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على السرّاء والضرّاء والزين عند الإخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم الله في الخيرقادة وهداة يقتدي بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أعمالهم ويقتدى بفعالهم وينتهي إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم حتى كل رطب ويابس لهم مستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسابع البر ونعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوّة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعول بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله تعالى وبه يعبد وبه يوحد وبه يتورع وبه توصل الأرحام العلم إمام والعمل تابعه تلهمه السعداء وتحرمه الأشقياء، فهذه أوصاف علماء الآخرة ونعت العلم الباطن.

وقد كان من أفضل الأمراء بعد الخلفاءالأربعة: عمر بن عبد العزيز فحدثونا عن زكريا بن يحيى الطائي قال: حدثني عمي زجر بن حصين أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن رحمهما الله: أما بعد فأشر علي بقوم أستعين بهم على أمر الله تعالى فكتب إليه: أما أهل الدين فلن يريدوك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة، وكان الحسن يتكلم في بعض علماءالبصرة ويذمهم وكان أبو حازم وربيعة المدنيان يذمان علماء بني مروان، وقد كان الثوري وابن المبارك وأيوب وابن عون يتكلمون في بعض علماء الدنيا من أهل الكوفة، وكان الفضيل وإبراهيم ابن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في بعض علماءالدنيا من أهل مكة والشام كرهنا تسمية المتكلم فيهم لأن السكوت أقرب إلى السلامة، وكان بشر يقول: حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول: حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي، وقدكان سفيان الثوري إمامه من قبله يقول لأهل علم الظاهر: طلب هذا ليس من زاد الآخرة، وقال ابن وهب ذكر طلب العلم عند مالك، فقال: إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ماذا يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي ومن حين تمسي إلى حين تصبح فلاتؤثرن عليه شيئاً.

وقال أبو سليمان الداراني: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوّج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا، وأما علم الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين فهو مع كل مؤمن موقن حسن الإسلام وهو مقامه من الله وحاله بين يدي الله ونصيبه منه في درجات الجنة، به يكون من المقربين عنده والعلم بالله تعالى والإيمان به قرينان لا يفترقان، فالعلم بالله تعالى هو ميزان الإيمان به يستبين المزيد من النقصان لأن العلم ظاهر الإيمان يكشفه ويظهره والإيمان باطن العلم يهيجه ويشعله، فالإيمان مدد العلم وبصره والعلم قوّة الإيمان ولسانه وضعف الإيمان وقوّته ومزيده ونقصه بمزيدالعلم بالله عزّ وجلّ ونقصه وقوّته وضعفه، وفي وصية لقمان الحكيم لابنه: يابني كمالايصلح الزرع إلا بالماء والتراب كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل ومثل المشاهدة من المعرفة من اليقين من الإيمان كمثل النشاء من الدقيق من السويق من الحنطة، والحنطة تجمع ذلك كله كذلك الإيمان أصل ذلك والمشاهدة أعلى فروعه كالحنطة أصل هذه المعاني والنشاء أعلى فروعها فهذه المقامات موجودة في أنوار الإيمان يمدها علم اليقين، ثم إن المعرفة على مقامين: معرفة سمع ومعرفة عيان، فمعرفة السمع في الإسلام وهو أنهم سمعوا به فعرفوه، وهذا هو التصديق من الإيمان ومعرفة العيان في المشاهدة وهو عين اليقين والمشاهدة أيضاً على مقامين: مشاهدة الاستدلال ومشاهدة الدليل عنها، فمشاهدة الاستدلال قبل المعرفة وهذه معرفة الخبر وهو في السمع لسانها القول والواجد بها واجد يعلم علم اليقين من قوله تعالى: (سَبَإٍ بَنَبَإٍ يَقينٍ) (إِنّي وَجَدْتُ) النمل: 22 - 23، فهذا العلم قبل الوجدوهو علم السمع وقد يكون سببه التعليم ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين أي جالسوا الموقنين واسمعوا منهم علم اليقين لأنهم علماؤه وأما مشاهدة الدليل فهي بعد المعرفة التي هي العيان وهو اليقين لسانه الوجد والواجد بها واجد قرب وبعد هذا الوجد علم من عين اليقين وهذا يتولاه الله تعالى بنوره على يده بقدرته، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فوجدت بردها فعلمت فهذا التعليم بعد الوجد من عين اليقين باليقين وهذا من أعمال القلوب، وهؤلاء علماء الآخرة وأهل الملكوت وأرباب القلوب وهم المقربون من أصحاب اليمين وعلم الظاهر من علم الملك وهو من أعمال اللسان والعلماء به موصوفون بالدنيا وصالحوهم أصحاب اليمين وجاء رجل إلى معاذ بن جبل فقال: أخبرني عن رجلين، أحدهما مجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتريه الشك في أموره فقال معاذ: ليحبطن شكّه أعماله، قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت معاذ فقال الرجل: والله لئن أحبط شكّ الأوّل أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها قال: فأخذ معاذ بيده وقام قائماً ثم قال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا وقد روينا معناه مسنداً قيل: يا رسول الله رجل حسن اليقين كثيرالذنوب ورجل مجتهد في العبادة قيل اليقين: فقال ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كانت غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة.

وروينا في حديث أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصام النهار، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العلم إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى يقصر يقينه وقد يعمل الضعيف إذا كان متيقناً أفضل من العمل القوي الضعيف في يقينه ومن يضعف يقينه تغلبه المحقرات من الإثم، وقد كان يحيى بن معاذ يقول: إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً وإن نور التوحيد أحرق لسيّئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين واليقين على ثلاث مقامات: يقين معاينة وهذا لا يختلف خبره فالعالم به خبير وهو للصديقين والشهداء، ويقين تصديق واستسلام وهذا في الخبر والعالم به مخبر مسلم وهذا يقين المؤمنين وهم الأبرار منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كقوله تعالى جده: (وَمَا زَادَهُمْ إلاّ إيمَاناً وَتسْليمًا) الأحزاب: 22، وقد يضعف هؤلاء بعدم الأسباب ونقصان المعتاد ويقوون بوجودها وجريان العادة ويحجبون بنظرهم إلى الأواسط ويكاشفون بها ويجعلون مزيدهم وأنسهم بالخلق ويكون نقصهم ووحشتهم بفقدهم ويكون من هؤلاء الاختلاف ويتلوّنون بالخلاف لتلوين الأشياء وتغيرها نقصها.

المقام الثالث من اليقين

وهو يقين ظن يقوى بدلائل العلم والخبر وأقوال العلماء ويجد هؤلاء المزيد من الله تعالى والنصيب منه لهم ويضعف بفقدالأدلة وصمت القائلين وهذا يقين الاستدلال وعلوم هذا في المعقول وهو يقين المتكلمين من عموم المسلمين من أهل الرأي وعلوم العقل والقياس والنظر وكل موقن بالله تعالى فهو على علم من التوحيد والمعرفة ولكن علمه ومعرفته على قدر يقينه ويقينه من نحو صفاء إيمانه وقوّته وإيمانه على مقتضى معاملته ورعايته، فأعلى العلوم علم المشاهدة عن عين اليقين وهذا مخصوص للمقربين في مقامات قربهم ومحادثات مجالستهم ومأوى أنسهم ولطيف تملقهم، وأدنى العلوم علم التسليم والقبول بعدم الإنكار وفقد الشكوك وهذا لعموم المؤمنين وهو من علم الإيمان ومزيد التصديق وهذا لأصحاب اليمين، وبين هذين مقامات لطيفات من أعلى طبقات المقربين إلى أوسط المقامات ومن أدنى طبقات أصحاب اليمين إلى أعلى أواسط الأعلين.

ذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلوم

وروينا في الخبر: العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري، وعن الشعبي أنه قال: لا أدري، نصف العلم يعني أنه من الورع وكان الثوري رضي الله عنه يقول: إنما العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه يعني أن التورع والتوقف في الأمور هو سيرة المؤمنين وإن لم يكونوا علماء لأن الورع هو الجبن عن الإقدام والهجوم على الشبهات والوقوف عند المشكلات بسكون أو سكوت، واليقين هو الإقدام على الأشياء ببصيرة وتمكين والقطع بالأمر على علم وخبر فهذا صفة العلماء الموثوق بعلمهم لا يحسنه سواهم كما قال علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية وقدمه أمامه يوم الجمل وجعل يقول له: أقدم أقدم ومحمد يتأخر وهو يركزه بقائم رمحه، فالتفت إليه محمد ابنه فقال: هذا والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه عليّ برمحه، ثم قال: تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها والمرء إذا قال: لا أدري فقد عمل بعلمه وقام بحاله فله من الثواب بمنزلة من درى فقام بحاله وعمل بعلمه فأظهره، فلذلك كان قول لا أدري نصف العلم ولأن حسن من سكت لأجل الله تعالى تورعاً كحسن من نطق لأجله بالعلم تبرعاً، وقال علي بن الحسين ومحمد بن عجلان: إذا أخطأ العالم قول لا أدري أصيبت مقالته، وقاله مالك والشافعي بعدهما واعلم أن مثل العلم والجهل في تفاوت الناس فيهما مثل الجنون والعقل والمجانين طبقات، كالعقلاء طبقات، وكذلك الجهال طبقات كالعلماء فخصوص الجهال يشبهون عموم العلماء فهم يشتبهون على العامة حتى يحسبوهم علماء وهم مكشوفون عند العلماء بالله تعالى وكذلك العارفون يشتبهون على عموم العلماء وهم ظاهرون للموقنين، وقال بعض العلماء: العلم علمان، علم الأمراء وعلم المتقين، فأما علم الأمراء فهو علم القضايا وأما علم المتقين فهو علم اليقين والمعرفة.

وقد قال الله سبحانه في وصف علم المؤمنين وذكر علم الإيمان: (يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذينَ أُوتُوا العْلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة: 11، فجعل المؤمنين علماء فدل على أن العلم والإيمان لا يفترقان والواو هنا عند أهل اللغة للمدح لاللجمع، العرب إذا مدحت بالأوصاف أدخلت الواو للمبالغة فقالوا: فلان العاقل والعالم والأديب، ومثل هذا قوله تعالى: (لكنِ الراسخون في الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِليْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ والْمُقيمينَ الصَّلاةَ والْمؤْتُونَ الزَّكوة) النساء: 162 كله نعت، فالمؤمنون هم الراسخون في العلم وهم المقيمون والمؤتون أيضاً وكلهم وصف الراسخون في العلم ولذلك انتصب قوله والمقيمين الصلاة لأنه مدح والعرب تنصب وترفع بالمدح وبمعناه قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ) آل عمران: 7، فوصف العلماء بالإيمان كما وصف المؤمنين بالعلم وكذلك قوله تعالى: (وقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمانَ) الروم: 56، ومن هذا حديث أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمتي خمس طبقات كل طبقة أربعون عاماً فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والإيمان والذين يلونهم إلى الثمانين البر والتقوى والذين يلونهم إلى مائة وعشرين أهل التواصل والتراحم، فقرن العلم بالإيمان وقدمهما على سائرالطبقات.

وقد قرن الله سبحانه الإيمان بالقرآن وهو علم: كما قرن القرآن بالإيمان كما قال تعالى: (كتبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، قيل القرآن وتكون الهاء عائدة إلى الله تعالى في أكثر الوجوه، كما قال: (ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتَابُ ولا الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً) الشورى: 52، فأهل الإيمان هم أهل القران وأهل القرآن أهل الله وخاصته، وقال المهدي لسفيان بن الحسين لما دخل عليه وكان أحد العلماء أمن العلماء أنت فسكت فأعادعليه فسكت فقيل: ألا تجيب أمير المؤمنين؟ فقال: يسألني عن مسألة لا جواب لها، إن قلت لست بعالم وقد قرأت كتاب الله تعالى كنت كاذباً وإن قلت إني عالم كنت جاهلاً، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أنس في قوله: (إِنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28، قال: من لم يخشَ الله تعالى فليس بعالم ألا ترى أن داود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك بأنك جعلت العلم خشيتك والحكمة والإيمان بك فما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك، وقد سمّى عبد الله بن رواحة العلم إيماناً فكان يقول لأصحابه: اقعدوا بنا نؤمن ساعة فيتذاكرون علم الإيمان وقدجعل الله للمؤمنين سمعاً وبصراً وقلباً، وهذه طرائق العلم التي يؤخذ العلم منها ويوجد بها وهي أصول العلم والنعم التي أنعم الله على الخلق بها وطالبهم بالشكر عليها، فقال سبحانة: (والله أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجعلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفئدِةَ لعلَّكُمْ تَشْكُرون) النحل: 78، فأثبت العلم بها بعد النفي بها له، وقال تعالى في وصف من لم يكن مؤمناً ونفي الغنية بالعلم بها: (وجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وأبْصاراً وأفْئِدةً فما أغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أبْصارُهُمْ ولا أفْئِدتُهُمْ مِنْ شيء إذ كانوا يجْحَدوان بآياتِ الله) الأحقاف: 26، فمن آمن بآيات الله تعالى أغنى عنه سمعه وبصره وقلبه فكانت طرق العلم إليه.

وقال عزّ وجلّ في معنى ذلك أيضاً: (ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئكَ كان عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء: 36، فلولا أن العلم يقع بالسمع والبصر والقلب ما نهى عما لا يعلم هذه الأشياء ففي النهي عن قفو ما لا يعلم هذه الأواساط ويتبعه إثبات العلم بها فكل مؤمن هو ذو سمع وبصر وقلب فهو عالم بفضل الله ورحمته.

ومما فضل الله تعالى به هذه الأمة على سائر الأمم وخصها به ثلاثة أشياء: تبقية الإسناد فيهم يأثره خلف عن سلف متصلاً إلى نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى من خلا من علمائنا وإنما كانوا فيهم يستنسخون الصحف كلما اختلقت صحيفة جددت فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثاني حفظ كتاب الله تعالى المنزل عن ظهر غيب، وإنما كانوا يقرؤون كتبهم نظراً ولم يحفظ جميع كتاب أنزله الله تعالى قط غير كتابنا هذا إلا ما ألهمه الله تعالى غزيراً من التوراة بعد أن كان بختنصر أحرق جميعها عند إحراق بيت المقدس، فلذلك قال سبط من اليهود إنه ابن الله تعالى عزّ عن ذلك علواً كبيراً لما خصه به وأفرده من حفظ جميع التوراة، والثالث أن كل مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان ويسمع قوله ويؤخذ من رأيه وعلمه مع حداثة سنه ولم يكونوا فيما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين والرهبان لا غير من الناس، وزادها رابعة على أمة موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبات الإيمان في قلوبهم لا يعتريه الشك ولا يختلجه الشرك مع تقليب القلوب في المعاصي، وكانت أمة موسى عليه السلام تتقلب قلوبهم في الشك والشرك كما تتقلب جوارحهم في المعاصي، فلذلك قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة بعد أن رأوا الآيات العظيمة من انفلاق البحر وسلوكهم فيه طرائق وأنجاهم من الغرق وأهلك فرعون.

وروينا بعض الأخبار أن في بعض الكتب المنزلة: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ولا في تخوم الأرضين من يصعد به ولا من وراء البحار من يعبره يأتي به العلم مجعول في قلوبكم، تأدّبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلّقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يعطيكم ويغمركم، وفي الإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعملوا حتى تعملوا بما قد علمتم، وفي أخبارنا نحن: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم حتى قيل: من علم بعشر ما يعلم ورثه الله علم ما يجهل، وقد روينا عن حذيفة بن اليمان: إنكم اليوم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك ويأتي بعدكم زمان من عمل منهم بعشر ما يعلم نجا، هذا لقلة العاملين وكثرة البطالين، وفي كتابنا المجمل المختصر: واتقوا الله ويعلمكم الله واتقوا الله واعلموا واتقوا الله واسمعوا، واعلم أن من عمل بعلم أو نطق به فأصاب الحقيقة عند الله تعالى فله أجران، أجر التوفيق وأجر العمل - وهذا مقام العارفين، ومن نطق بجهل أو عمل به وأخطأ الحقيقة فعليه وزران - وهذا مقام الجهال، ومن قال أو عمل بعلمه وأخطأ الحقيقة فله أجر لأجل العلم وهذا مقام علماء الظاهر، ومن قال بجهل أو عمل عملاً وأصاب الحقيقة فعلية وزر لتركه طلب العلم وهذا مقام جهلة العابدين، ومثل العالم مثل الحاكم وقد قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكام ثلاثة أقسام فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القضاة ثلاثة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فذاك في الجنة وقاضٍ قضى بالجور وهو يعلم أو قضى بالجور وهو لا يعلم فهما في النار، ومن أحسن ما سمعت في قوله تعالى: (يا بني آدَمَ قَدْ أَنْزَلنا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُواري سوْءاتِكُمْ) الأعراف: 26 قيل العلم وريشاً قيل اليقين ولباس التقوى أي الحياء.

وروينا عن وهب بن منبه اليماني في معناه: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم وقد أسنده حمزة الخراساني عن الثوري فرفعه إلى عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد رويناه أيضاً مسنداً، قال مسعر عن سعد بن إبراهيم وسأله سائل: أي أهل المدينة أفقه؟ فقال: أتقاهم لله عزّ وجلّ، وقال بعض العلماء: لو قال لي قائل أي الناس أعلم لقلت أورعهم ولو قال لي قائل أي أهل هذه المدينة خير؟ لقلت: تعرفون أنصحهم لهم، فإذا قالوا نعم قلت هو خيرهم وقال آخر: لو قيل لي من أحمق الناس لأخذت بيد القاضي فقلت هذا وقال الله تعالى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَديداً) الأحزاب: 70، فجعل تعالى مفتاح القول السديدوالعلم الرشيد والسمع المكين التقوى، وهي وصية الله تعالى من قبلنا وإيانا إذ يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ وَصّيْنا الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أنِ أتَّقُوا الله) النساء: 131، وهذه الآية قطب القرآن ومداره عليها كمدار الرحى على الخشبان.

وروينا عن عيسى عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به وهو لا يطلبه ليعمل به، وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام، وفي الحديث: ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ثم قرأ: ماضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون، وفي قوله عزّ وجل: (فأمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) آل عمران: 7، الآية هم أهل الجدل الذين عنى الله تعالى فاحذروهم، وعن بعض السلف: يكون في آخر الزمان علماء يغلق عنهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل، وفي بعض الأخبار: إنكم في زمان ألهمتم فيه العلم وسيأتي قوم يلهمون الجدل، وعن ابن مسعود: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع ويأتي بعدكم زمان خيركم فيه المتبين يعني الآن لبيان الحق واليقين في القرن الأول وبعد ذلك في زماننا هذا لكثرة الشبهات والالبتاس ودخول المحدثات مداخل الليل في السير، فأشكل الأمر إلا على الفرد الذي يعرف طرائق السلف فيجتنب الحدث كله.

وروينا عن بعض العلماء: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبدسوءًا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل، وفي الخبر المشهور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبعض الخلق إلى الله عزّ وجلّ الألد الخصم، وقد روينا في خبر الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وفي بعضها مفسراً والعي عي اللسان لا عي القلب، والخبر الآخر ما روى الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل، وفي الحديث أن الله تعالى ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل الكلام بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلاء بلسانها، والخلاء هو الحشيش الرطب، وكان أحمد بن حنبل يقول: العلم إنما هو ما جاء من فوق يعني إلهاماً من غير تعليم وقال أيضاً: علماء أهل الكلام زنادقة، وقال قبله أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.

بيان آخر في فضل علم الباطن على الظاهر

مما يدلك على أن العلم الذي فضله العلماء وأعظموا ذكره وخطره ووصفوا به العالم ومدحوه به وجاءت بفضله الآثار وندب إليه وفضل في الأخبار أهله إنما هو العلم بالله تعالى الدال على الله تعالى الراد إليه الشاهد بالتوحيد في علم الإيمان واليقين وعلم المعرفة والمعاملة دون سائر علوم الفتيا والأحكام، إنهم يقولون من عمل بعلمه ويذكرون العمل بالعلم ويصفون جملته بالخشية والخشوع فهذا إنما هو علم القلوب لا علم اللسان الذي يكون به العلم ولا تتأتى عنه المعاملات من أعمال الإيمان مثل أعمال القلوب التي هي مقامات اليقين وصفات المتقين ومثل أعمال الجوارح من الصالحات التي هي مزيد الإيمان والذين أربابها أهل الفقر والزهد وذو التوكل والخوف وأصحاب الشوق والمحبة وليس يعنون أن يكون الإنسان إذا علم علم الأحكام والقضايا عمل بها والتزم الدخول في أحكامها ليعامل منها مثل أن يطلب القضاء فيقضي بين الناس إذا كان عالماً به أويقتني المال ويدخل في البيع والشراء إذا كان عالماً بالزكوات والبياعات أو يتزوج النساء ويطلق لأنه عالم بالنكاح والطلاق ليكون بهذه الأشياء عاملاً بعلمه، هذا ما قاله أحد بل قد روي في كراهة ذلك وذمه ما يكثر ذكره، وأهل هذه العلوم موصوفون بالرغبة في الدنيا والحرص على جمعها ويلابسون الأمراء فيعاملون لهم فبطل أنهم هم المعنيون بالعلم الموصوفون بالخشوع والزهد، ومثل ذلك أيضاً تفضيل الجمهور من السلف العلم على العمل وقولهم ذرة من علم أفضل من كذا من العمل وركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من عابد، وحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي، والخبر المشهور: كفضل القمر على سائر الكواكب، وقول ابن عباس وسعد، وقدروينا مسنداً: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وكذلك قيل في موته أحب إليه من موت ألف عابد إنما يعنون بذلك العلم بالله تعالى أفضل من العمل لأن العلم بالله تعالى وصف من الإيمان ومعنى من اليقين الذي لم ينزل من السماء أعزّ منه فهو لا يعادله شيء لا يصح عمل ولا يقبل إلا به ولأنه معيار الأعمال كلها على وزنه تتقبل الأعمال قبولاً حسناً بعضه أحسن من بعض ويثقل في الميزان ثقلاً فوق ثقل ويرفع به العاملون في درجات عليين بعضها من بعض، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ) الأعراف: 52، ثم قال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) الأعراف: 7، وقال تعالى: (والْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ الحْقَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ) الأعراف: 8 فما كان العائد منه إلى الربوبية أقرب كان أفضل والعمل وصف العامل وحكم العبودية لا أنهم يعنون العلم بالفتيا والأحكام والقضاء التي هي أماكن الخلق عائدة عليهم أفضل من معاملات الله سبحانه وتعالى بالقلوب من مقامات التوكل والرضا والمحبة التي هي معاينة اليقين الذي هو مقام المقربين هذا لا يقوله عالم.

وقد روينا عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل، ألا تراه كيف جعل العلم دالاً على الله تعالى كالجهاد، وكذلك جاء في الخبر: أول من يشفع الأنبياء ثم الشهداء، وفي الخبر: للأنبياء على العلماء فضل درجة وللعلماء على الشهداء فضل درجتين، وقال ابن عباس في معنى قوله عزّ وجلّ: (يَرْفَعِ الله الَّذين آمَنُوا مِنْكُم والَذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درَجاتٍ) المجادلة: 11، قال: للعلماء درجات فوق الذين آمنوا بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام، وقال ابن مسعود: لما مات عمر رضي الله عنهما: إني لأحسب أنه ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل: تقول هذا وفينا جله الصحابة فقال: ليس أعني العلم الذي تريدون إنما أعني العلم بالله تعالى، فجعل العلم بالمعلومات غير حقيقة العلم وفضل العلم بالله تعالى بتسعة أعشارها وليس يزيد علم الظاهر على الأعمال كثير زيادة إذ هو من الأعمال الظاهرة لأنه صفة اللسان ولأنه للعموم من المسلمين، فأعلى مقاماته الإخلاص فإن فاتهم فهو دنيا كسائر الشهوات والإخلاص هو أول حال العالم بالله تعالى بالعلم الباطن ولا نهاية لمقاماتهم إلى أعلى مقامات العارفين ودرجات الصديقين.

باب ذكر الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة وذم علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا

وقد فرقت العلماء بين العلم بالله تعالى وبين العلم بأمر الله تعالى وفرقوا بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، فقال سفيان: العلماء ثلاثة، عالم بالله وبأمر الله فذلك العالم الكامل، وعالم بالله تعالى فذاك التقيّ الخائف، وعالم بأمر الله تعالى غير عالم بالله تعالى فذاك العالم الفاجر، وقيل أيضاً: عالم لله تعالى وهو العامل بعلمه، وعالم بأيام الله تعالى وهو الخائف الراجي، وسئل سفيان عن العلم ما هو؟ فقال هو الورع، قيل: وأي شيء هو الورع؟ فقال: طلب العلم الذي يعرف به الورع وهو عند قوم طول الصمت وقلة الكلام وما هو كذلك إنما هو المتكلم العالم عندنا افضل من الصامت.

وروينا عن لقمان في وصيته: للعلم ثلاث علامات، العلم بالله وبما يحبه الله تعالى وبما يكره فجعل حقيقة العلم ودليل وجوده هذه الثلاث، ومما يدلك على الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة أن كل عالم بعلم إذا رآه من لا يعرفه لم يتبين عليه أثر علمه ولا عرف أنه عالم إلا العلماء بالله عزّ وجلّ فإنما يعرفون بسيماهم للخشوع والسكينة والتواضع والذلة، فهذه صبغة الله تعالى لأوليائه ولبسته للعلماء به، ومن أحسن من الله صبغة فمثلهم في ذلك كمثل الصناع إذ كل صانع لو ظهر لمن لا يعرفه لم يعرف صنعه دون سائر الصنائع ولم يفرق بينه وبين الصناع إلا الصناع، فإنه يعرف بصنعته لأنها ظاهرة عليه إذ صارت له لبسة وصفةلالتباسها بمعاملته، فكانت سيماه كما قيل: ما ألبس الله تعالى عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكنية هي لبسة الأنبياء وسيما الصديقين والعلماء فاعلم الناس بلطف ما يحب الله تعالى وخفي ما يكره أهل القلوب الفاقهة عن الله تعالى وهم العارفون به، وقد كان سهل رحمه الله يقول: العلماء ثلاثة، عالم بالله تعالى، وعالم لله تعالى وعالم بحكم الله تعالى يعني العالم بالله تعالى العارف الموقن، العالم لله عزّ وجلّ هو العالم بعلم الإخلاص والأحوال والمعاملات، والعالم بحكم الله تعالى هو العالم بتفصيل الحلال والحرام فسرنا ذلك على معاني قوله ومعرفة مذهبه، وقد قال مرة في كلام أبسط من هذا: عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم المؤمنون، وعالم بأمر الله لابأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام، وعالم باللّّه تعالى عالم بأيام الله وهم الصديقون، يعني قوله بأيام الله أي بنعمته الباطنة وبعقوباته الغامضة، ثم قال: الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء نيام إلا الخائفين والخائفون منقطعون إلا المحبين، والمحبون أحياء شهداء وهم المؤثرون لله تعالى على كل حال، وقد كان يقول: طلاب العلم ثلاثة، واحد يطلبه للعمل به، وآخر يطلبه ليعرف الاختلاف فيتورع ويأخذ بالاحتياط، وآخر يطلبه ليعرف التأويل فيتناول الحرام فيجعل حلالاً فهذا يكون هلاك الحق على يديه، وقد حدثت عن أبي يوسف أنه كان إذا صار رأس الحول وهب ماله لامرأته واستوهبها مالها فتسقط عنهما الزكاة فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال: ذلك من فقهه فإنما يطلب لعلم المعرفة الورع والاحتياط للدين فهذا هو العلم النافع فإذاطلب لمثل هذا ولتأويل الهوى كان الجهل خيراً منه وصار هذا العلم هو الضار الذي استعاذ الرسول منه.

وروينا عن عمر وغيره: كم من عالم فاجر وعابد وجاهل، فاتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين، وعن عمر أيضاً: وقد رويناه مسنداً: اتقوا كل منافق عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون، وروينا عنه أيضاً تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم، وروينا عن علي وابن عباس رضي اللّّه عنهما وعن كعب الأحبار: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوّفون ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ولا ينتهون ويؤثرون الدنيا على الآخرة ويأكلون الدنيا بألسنتهم أكلاً يقربون الأغنياء ويباعدون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذاجالس غيره ذلك حظهم من العلم، وفي حديث علي رضي الله عنه: علماؤهم شر الخليفة، منهم بدت الفتنة وفيهم تعود، وفي حديث ابن عباس: أولئك الجبارون أعداء الرحمن، وروينا عن علي عليه السلام: ما قطع ظهري في الإسلام إلا رجلان، عالم فاجر، ومبتدع ناسك، فالعالم الفاجر يزهد الناس في علمه لما يرون من فجوره والمبتدع الناسك يرغب الناس في بدعته لما يرون من نسكه، وقال صالح بن حسان البصري: أدركت المشيخة وهم يتعوذون بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة، وقال الفضيل بن عياض: إنما هما عالمان، عالم دنيا وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور وعالم الآخرة علمه مستور، فاطلب عالم الآخرة واحذر عالم الدنيا لا يصدنك بشكره، ثم قرأ إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، قال: فالأحبار العلماء والرهبان الزهاد، وقال سهل بن عبد الله: طلاب العلم ثلاثة، فواحديطلب علم الورع مخافة دخول الشبهة عليه، فيدع الحلال خوف الحرام فهذا زاهد تقي، وآخر يطلب علم الاختلاف والأقاويل فيدع ما عليه ويدخل فيما أباح الله تعالى بالسعة ويأخذ للرخصة، وآخر يسأل عن شيء فيقال: هذا لا يجوز فيقول: كيف أصنع حتى يجوز لي، فيسأل العلماء فيخبرونه بالاختلاف والشبهة، فهذا يكون هلاك الخلق على يديه وقد أهلك نفسه وهم علماء السوء، واعلم أن كل محب للدنيا ناطق بعلم فإنه آكل للمال بالباطل وكل من أكل أموال الناس بالباطل فإنه يصد عن سبيل الله لا محالة وإن لم يظهر ذلك في مقاله ولكنك تعرفه في لحن معناه بدقائق الصد عن مجالسة غيره وبلطائف المنع من طرقات الآخرة لأن حب الدينا وغلبة الهوى يحكما عليه بذلك شاء أم أبى.

وقال بعض العلماء: إن الله عزّوجلّ يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار من العلماءومن تواضع لله تعالى ورثه الله تعالى الحكمة، وفي الخبر عن ابن مسعود: إن الله تعالى ليمقت الحبر السمين، وقال رسول الله لمالك بن الصيف: حبر من أحبار اليهود، فقال: نشدتك الله تعالى ألم تجدفيما أنزل تعالى على موسى عليه السلام أن الله تعالى يبغض الحبر السمين، وكان ابن الصيف سميناً فغضب عندها فقال: (ما أنْزل اللهُ على بَشَرٍ منْ شَيءٍ) الأنعام: 91، ففيه نزلت هذه الآية تعريفاً لبهته: (قُلْ مَنْ أنْزلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بهِ مُوسى نُوراً) الأنعام: 91، فقال له أصحابه: ويحك ماذا قلت جحدت كتاب موسى فقال: إنه محكني فقلت ذلك ويقال ما آتى الله تعالى عبداً علماً إلا أتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك علامة العلم النافع، وقد روينا معناه في الأثر: من آتاه عزّ وجلّ زهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين، وكان الحسن يقول: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله، وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه يا داودلاتسألنّ عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، يا داود إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، يا داود من ردّ إليّ هارباً كتبته عندي جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً.

وروينا عن عيسى عليه السلام: مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع، وكذلك علماء الدنيا قعدوا على طريق الآخرة فلا هم نفذوا ولا تركوا العباد يسلكون الله عزّ وجلّ، قال: ومثل علماء السوء كمثل قناة الحش ظاهرها حسن وباطنها نتن ومثل القبور المشيدة ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى، وقال بشر بن الحارث: من طلب الرياسة من العلماء فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه مقيت الله في السماء والأرض، وكان الأوزاعي يروي عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي والعون فيستعيذ بالله تعالى من حاله ويمقته وينظر إلى عالم الدنيا قد تصنع للخلق وتشوف للطمع والرياسة فلا يمقته، هذا العالم أحقّ بالمقت من ذلك الشرطي، وقد كان أبو محمد يقول: لا تقطعوا أمراً من الدين والدنيا إلابمشورة العلماء تحمدوا العاقبة عند الله قيل: يا أبا محمد من العلماء؟ قال الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون الله تعالى على نفوسهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في وصيته: وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى.

وروينا في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى وصف بالحكم فأوحىالله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تردني بشيء من ذلك وإني لا أقبل شيئاً من نفاقك قال: فأسقط في يديه وحزن وترك ذلك وخالط العامة ومشى في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى النبي عليه السلام: قل له الآن وافقت رضاي، وقال بعض العلماء: كان أهل العلم على ضربين، عالم عامة وعالم خاصة، فأما عالم العامة فهو المفتي في الحلال والحرام وهؤلاء أصحاب الأساطين، وأما عالم الخاصة فهو العالم بعلم التوحيد والمعرفة هؤلاء أهل الزوايا وهم المنفردون وقد كانوا يقولون مثل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مثل دجلة كل أحد يعرفها، ومثل بشر بن الحارث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد، وقال حماد بن زيد: قيل لأيوب العلم اليوم أكثر أو فيما مضى؟ فقال: العلم فيما مضى كان أكثر والكلام اليوم أكثر، ففرق بين العلم والكلام وقد كانوا يقولون فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر علماً، وكان أبو سليمان يقول: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام، وقال بعض العارفين هذا العلم على قسمين: نصفه صمت ونصفه تدري أين تضعه، وزاد آخر: ونصفه وجد ونصفه نظريعني تفكراً واعتباراً، وسئل سفيان عن العالم من هو؟ فقال: من يضع العلم في مواضعه ويؤتي كل شيء حقه، وقال بعض الحكماء: إذا كثر العلم قل الكلام، وقد كان إبراهيم الخواص رحمه الله يقول: الصوفي كلما ازداد علماً نقصت طينته، وقال بعض شيوخنا: قلت للجنيد يا أبا القاسم يكون لسان بلاقلب، قال كثير: قلت فيكون قلب بلا لسان فقال: نعم قد يكون، ولكن لسان بلا قلب بلاء وقلب بلا لسان نعمة قلت فإذا كان لسان وقلب قال: فذاك الزيد بالنرسبان يعني العسل.

وقد روينا حديثاً مقطوعاً عن سفيان عن مالك بن مغول قال: قيل يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: اجتناب المحارم ولايزال فوك رطباً من ذكر الله تعالى، قيل: يا رسول الله فأي الأصحاب خير؟ قال: صاحب إن ذكرت أعانك وإن نسيت ذكرك، قيل: فأي الأصحاب شر؟ قال: صاحب إن سكت لم يذكرك وإن ذكرت لم يعنك، قال: فأي الناس أعلم؟ قال: أشدهم لله تعالى خشية، قال فاخبرنا بخيارنا نجالسهم قال: الذين إذا رأوا ذكر الله تعالى قالوا: فأي الناس شر يا رسول الله؟ قال: اللهم اغفرا قالوا أخبرنا يا رسول الله قال: العلماء إذا فسدوا وقد وصف علي عليه السلام علماء الدنيا الناطقين عن الرأي والهوى بوصف غريب.

رويناه عن خالد بن طليق عن أبيه عن جده وجده عمران بن حصين قال: خطبنا علي بن أبي طالب عليه السلام ورضي عنه فقال: ذمتي رهينة وأنا زعيم لا يهيج على التقوي زرع قوم ولا يظمأ على الهدى شح أصل، وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علماًً أغار في أغباش الفتنة عمي عماً في غيب الهدنة سماه أشباه الناس وأرذالهم عالماً ولم يغن في العلم يوماً سالماًً بكر فاستكثر مما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس مفتياً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ؟ لها عشوالرأي من رأيهم فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب ركاب الجهالات خباط عشوات ظلمة لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث وتستحل بقضائه الفروج الحرام، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما قرطبه أولئك الذين حلت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا، ووصف علي عليه السلام علماء الآخرة في حديث كهيل بن زياد الذي يقول فيه الناس: ثلاثة عالم رباني يعني عالماً بالربوبية فننسبه إلى رب كما سماهم الله في قوله: (كُونُوا رَبَّانِيِّين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ) آل عمران: 79 الآية، فسمّى العالم بكتابه ربانياً والدارس له ربانياً فهذا قد جمع العلم والعمل وكذلك يقال: العالم الرباني هو الذي يعلم ويعمل ويعلم الناس الخير، قال: فذاك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماء، وقال تعالى في تقدمتهم: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحْبَارُ) المائدة: 63 فقدم الربانيين على الأحبار وهم علماء الكتب وكذلك رويناه عن مجاهد قال: الربانيون فوق الأحبار درجة، وقال غيره: والأحبار فوق الرهبان يعني علماء القلوب أرفع من علماء الألسنة والعلماء بالكتب أفضل من العباد بدرجة، وقد ضمهم الله تعالى إلى أنبيائه في النصرة له والصبر معه في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ) آل عمران: 641، ثم وصفهم بالثبات لأمره والقوة في دينه والصبر لحكمه في تمام الآية وربيون جمع ربي يقال ربي ورباني فجمع ربي ربيون وجمع رباني ربانيون.

وكذلك جاء عن رسول الله: يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء فقدم العلماء على الشهداء لأن العالم إمام أمة فله مثل أجور أمته والشهيدعمله لنفسه، وفي خبر آخر: حبر العلماء يوزن بدم الشهداء فأعلى حال الشهيد دمه وأدنى وصف العالم حبره، فسوى بينهما وزاد العالم على الشهيد بأعلى مقامه وكان علي عليه السلام يقول العالم أفضل من الصائم القائم والمجاهد في سبيل الله وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمةلا يسدها إلاخلف منه.

وقد روينا معناه مسنداً إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيءما طرد الليل والنهار إلا موت العالم بحم طمس وموت قبيلة أيسر من موت عالم ثم قال علي عليه السلام في حديث كهيل ومتعلم على سبيل النجاة يعني مريداً طالباً للعلم متعلماً من العلماء بالله تعالى على طريق معاملة وإخلاص لطلب السلامة وأن ينجو من الجهل في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، ثم قال: وهمج رعاع الهمج الفراش الذي يتهافت في النار لجهله واحدته همجة رعاع خفيف طياش لاعقل له يستفزه الطمع ويستخفه الغضب ويزدهيه العجب ويستطيله الكبر ثم بكى علي عليه السلام وقال: هكذا يموت العلم بموت حامليه ثم تنفس عند وصف الربانيين فقال: واشوقاه إلى رؤيتهم يعني الربانيين من العلماء وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في الباب الذي قبل هذا، فهؤلاء الذين بكى عليهم شوقاً هم الذين اشتاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم قبله فقال: واشواقاه إلى لقاء إخواني ووددت أني قد رأيت إخواني، ثم قال: هم قوم يجيئون بعدكم، ثم وصفهم فإنما كانوا إخوانه لأن قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم السلام وأخلاقهم بمعاني صفات الإيمان وهم أبدال هذه الأمة جاء في وصفهم ما يجل عن الوصف هم على ثلاث طبقات: صديقون، وشهداء، وصالحون، وإن منهم من قلبه على قلب إبراهيم الخليل ومنهم من قلبه على قلب موسى الكليم وعيسى الروح ومحمد الحبيب صوات الله عليهم وسلم أجمعين، ومنهم على قلب جبريل وميكائيل وإسرافيل والأخوة تقع بين الاثنين في المجالسة وقرب الشبه في الأفعال والأخلاق كما قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذين نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمْ الَّذينَ كَفَرُوا) الحشر: 11 لما كانوا على أوصافهم في القلوب من أسرار الكفر واعتقاد الشك جعلهم إخواناً، وكذلك قال: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وهؤلاء ليسوا أمثالهم في الخلقة ولا بينهم أبوة ولا أمومة لأن الشياطين من ولد إبليس والمبذرين أولاد آدم عليه السلام، ولكن تشابهت قلوبهم في المواجيد والأخلاق والأفعال، فآخى بينهم للتشابه، فمن كان من علماء الآخرة فعقله يستضيء من أنوار قلبه وفهمه ينبئ عن استنباط علمه ومشاهدته وأخلاقه على معاني يقينه وقوته وطريقه وسلوكه في منهاج سنته وسبيله فهو من إخوانه وإخوان النبيين الذين اشتاق إلى رؤيتهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الغرباء بين الملأ الذين قال بدا الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي لفظ آخر الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أمات الناس من سنتي يعني أنهم يظهرون طريقته التي تركها الناس وجهلوها، وفي خبر آخر: هم المتمسكون بسنتي وما أنتم عليه اليوم، وفي حديث آخر: الغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس سوء كثيرين من يبغضهم أكثر ممن يحبهم، فهؤلاء الغرباء الذين قد أنعم الله عليهم بمرافقة النبيين في أعلى عليين فقال مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقاً، وقد كان الثوري يقول: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فأعلم أنه مخلط، وقال أيضاً إذا رأيت الرجل محبباً إلى إخوانه محموداً في جيرانه فأعلم أنه مراء، وقد وصف الله تعالى علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال تعالى في علماء الدنيا: (وإذْ أخذاللهُ مِيثاق الذين أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلْنَّاس ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمِ واشتَرَوْا بهِ ثًمناً قليلاً) آل عمران: 187، وقال في نعت علماءالآخرة: (وإنَّ مِنْ أهْلِ الكِتابَ لَمَن يُؤمْنُ بِالله وما أُنْزل إليْكُم) آل عمران: 199 إلى قوله: (لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم) آل عمران: 199

وقد روينا عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علماء هذه الأمة رجلان، فرجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذاك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله تعالى يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يرافق المرسلين، ورجل أتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به عن عباد الله عزّ وجلّ وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به على عبادالله تعالى وأخذعليه طمعاً واشترى به ثمناً يعذب حتى يفرغ من حساب الناس، ومن أغلظ ما سمعت فيمن أكل الدنيا بالعلم ما حدثونا عن عتبة بن واقد عن عثمان بن أبي سليمان قال: كان رجل يخدم موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يقول: حدثني موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى صفي الله فجعل يسأل عنه فلا يحس له أثراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً قال الرجل: نعم هوذا الخنزير: فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله فيما أصابه هذا فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى لو دعوتني بما دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكني أخبرك لم صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.

وروينا عن الحسن بأنه انصرف يوماً من مجلسه فأستأذن عليه رجل من أهل خراسان فوضع بين يديه كيساً فيه خمسة آلاف درهم وأخرج من حقيبته رزمة فيها عشرة أثواب من دقيق بر خراسان، فقال الحسن: ما هذا؟ فقال: يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة، فقال له: عافاك الله ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك، إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة لاخلاق له، وفي خبر: إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة وعلماء الدنيا الطالبون لها بالعلم الآكلون لها بالدين المتخذون الأصدقاء والأخلاء من أبنائها المكرمون المحبون لهم المقبلون بالبشر والبشاشة عليهم هم معرفون في كل زمان بأوصافهم ولحن قولهم وسيماهم، وقد روينا في مقامات علماء السوء حديثاً شديداً نعوذ بالله من أهله ونسأله أن لا يبلونا بمقام منه فرويناه مرة مسنداً من طريق ورويناه موقوفاً على معاذ بن جبل رضي الله عنه وأنا أذكره موقوفاً أحب إليّ، حدثونا عن منذر بن علي عن أبي نعيم الشامي عن محمد بن زياد عن معاذ بن جبل يقول فيه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووافقته أنا على معاذ قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحبّ إليه من الاستماع، وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم، ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأوّل من النار، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من علمه أو تهاون بشيء من حقه فغضب فذلك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً فذلك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطا والله عزّ وجلّ يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار عليك بالصمت فيه تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب.

وقد روينا حديثاً يدل على أوصاف علماء الآخرة وفيه أصول ما يدعون الخلق إليه من مقامات الإيمان وأسباب الدين والإيقان، رويناه عن شقيق بن إبراهيم البلخي عن عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر ذكره عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وواقفته أنا على جابر بن عبد الله قال: لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومما يدلك أن علم اليقين والتقوى وعلم المعرفة والهدى هو العلم المذكور، المقصود عند السلف أن الصحابة والتابعين كانوا يشفقون من فقد ذلك ويخافون عدمه ويخبرون عن رفعه وقلته في آخر الزمان وإنما يعنون بذلك علم القلوب والمشاهدات الذي هو نتيجة التقوى وعلم المعرفة واليقين الذي هو من مزيد الإيمان وثمرة الهدى، فإذا فقد المتقون وقل الخائفون وعدم الزاهدون ذهبت هذه العلوم لأنها قائمة بهم موجودة عندهم هم أربابها والناطقون بها وهي أحوالهم وطرائقهم هم السالكون لها والقائمون بها فلأجل معرفة الصحابة والتابعين عزة ذلك كانوا يبكون على فقده، وقدوصف الله العلماء بالزهد في الدنيا والاستصغار لها وبعمل الصالحات والإيمان بها كما وصف أبناء الدنيا بالرغبة فيها والإستعظام لها قال تعالى في معنى ذلك: (فَخَرَجَ على قَوْمِهِ في زينتهِ قال الَّذين يُريدونَ الْحياة الدُّنْيا يا ليْتَ لنا مِثْل ما أُوتي قارُونُ إنَّهُ لذُو حظٍّ عَظيمٍ) القصص: 79، (وقال الَّذين أوتُوا العِلْمَ وَيْلكُمْ ثوابُ الله خِيْرٌ لِمَنْ آمنَ وعمِلَ صالحِاً) ، ثم قال عزّ وجل: (ولا يُلَقَّاها إلا الصَّابِرون) القصص: 80، أي لا يلقى هذه الحكمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا التي خرج فيها قارون.

وروينا عن جندب بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلماناً حزاورة فيعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وعن ابن مسعود قال: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه تثقيف الغناء ليسوا بخياركم، وفي لفظ آخر: يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه، وروينا عن ابن عمر وغيره لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يتوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن ولقد رأيت رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده وينثره نثر الدقل، وفي الخبر الآخر بمعناه: كنا أصحاب رسول الله أوتينا الإيمان قبل القرآن وسيأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده ويقولون قرأنا، فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا فذلك حظهم منه، وفي لفظ آخر: أولئك شرار هذه الأمة، فأما العلم المأثور الذي نقله خلف عن سلف والخبر المرسوم في الكتب المستودع في الصحف الذي يسمعه من غبر عمن قدم فهذا علم الأحكام والفتيا وعلم الإسلام والقضايا طريقه السمع ومفتاحه الاستدلال وخزانته العقل وهو مدون في الكتب ومحبر في الورق يتلقاه الصغير عن الكبير بالألسنة وهو باق بقاء الإسلام وموجود بوجود المسلمين لأنه حجة الله تعالى على عباده ومحجة العموم من خلقه فضمن إظهاره فلم يكن ليظهر إلا بحملة تظهره ونقلة تحمله فقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف: 9، وكما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعناه وعلم ظاهر على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم العتيد المستودع ظهور الكتب الذي هو ظاهر الدين وفي جهله وعدمه وجود الشرك كما ضمن الله تعالى تبقية الإسلام على كره المشركين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم اللّّه من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وقد أخبر أن حامل الفقه قد يكون غير فقيه القلب إذا لم يعمل بعلمه وأنه قد يحمله إلى من هو أفقه منه إذا عمل به إذا وعاه كما قال في الخبر الآخر: ربّ مبلغ أوعى من سامع فمدحه بالعمل به إذا وعاه، فتذكر به وتفكر فيه وإن لم يكن سمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقال الله سبحانه وتعالى: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) الحاقة: 12 يعني أذن القلب الحافظة ما سمعت الذاكرة لما وعت كما قال تعالى: (إنَّ في ذلك لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهيدٌ) ق: 37 يعني أصغي بسمعه إلى سامعه وشهد بقلبه ما سمعه من شاهده، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (وَتَعِيها أُذُن ٌواعيِةٌ) الحاقة: 12، قال: أذن عقلت عن الله تعالى أمره ونهيه فوعته وعملت به كما وصف سبحانه وتعالى المؤمنين الذين نعتهم بقوله في تمام وصفهم: (والحْافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) التوبة: 112، وقدروينا عن عليّ رضي الله عنه: اطلبوا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، وقال أيضاً رضي الله عنه: إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب وقال بعض السلف: من ضحك ضحكة مج مجة من العلم، وقال الخليل بن أحمد رحمه اللهّ: ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما وعاه الصدر، وإذا جمع العالم ثلاثاً تمت النعمة به على المتعلم الصبر والتواضع وحسن الخلق، وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة به على العالم العقل والأدب وحسن الفهم والله أعلم.

ذكر وصف العلم وطريقة السلف وذم ما أحدث المتأخرون من القصص والكلام

لا بدّ للعالم بالله تعالى من خمس هي علامة علماء الآخرة: الخشية، والخشوع، والتواضع، وحسن الخلق، والزهد، قال الله تعالى: (إنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28 وقال تعالى: (خاشِعينَ لله) آل عمران: 199 الآية فلا بدّ له من التواضع وحسن الخلق، قال اللّّه عزّ وجلّ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ) (وَقُلْ إني أنا النَّذيرُ المْبُينُ) الحجر: 88 - 89، وقال تعالى: (فبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ) آل عمران: 159 الآية والزهد في الدنيا، قال الله تعالى: (الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ) التوبة: 29 ويلكم ثواب الله خير فمن وجد فيه هذه الخلال فهو من العلماء بالله عزّ وجل واعلم أنه إنما يستبين العالم عند المشكلات في الدين ويحتاج إلى العارف عند شبهات حاكت الصدور كما قال عبد الله بن مسعود رضي اللّّه عنه: لا تزالون بخير ما إذا حاك في صدر أحدكم شيء وجد من يخبره به ويشفيه منه وأيم الله أوشك أن لا تجدوا ذلك، وكما قال له رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الناس أعلم فقال: الله ورسوله أعلم، فقال أعلمهم بالحق إذا اشتبهت الأمور ووقعت المشكلات، وإن كان يزحف على أسته، فكذلك إذا اختلف الناس وإن كان في عمله تقصير وكما قال في حديث عمران بن حصين: إن الله تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات ويحب السخاء ولو على تمرات ويحب الشجاعة ولوعلى قتل الحيات، وقد حصلنا في زماننا هذا في مثل ما خافه ابن مسعود لأن مشكلة لو وردت في معاني التوحيد وشبهة لو اختلجت في صدر مؤمن من معاني صفات الموحد وأردت كشف ذلك على حقيقة الأمر بما يشهده القلب الموفق ويثلج له الصدر المشروح بالهدى كان ذلك عزيزاً في وقتك هذا ولكنت في استكشاف ذلك بين خمسة نفر، مبتدع ضال يخبرك برأيه عن هواه فيزيدك حيرة، أو متكلم يفتيك بقصور علمه عن شهادة الموقنين وبقياس معقوله على ظاهر الدين وهذا شبهة فكيف تنكشف به شبهة، أو صوفيّ شاطح تائه غالط يجاوز بك الكتاب والسنة لا يباليهما ويخالف بقوله الأئمة لا يتحاشاها فيجيبك بالظن والوسواس والحدس والتمويه ويمحو الكون والمكان ويسقط العلم والأحكام ويذهب الأسماء والرسوم، وهؤلاء تائهون في مفازة التيه لم يقفوا على الحجة قد غرقوا في بحر التوحيدلم يجعلوا أئمة المتقين ولا حجة للمتقين وهذا ساقط القول إذ ليس معه حجة ولا هو على سنن المحجة، أو مفتٍ عالم عند نفسه موسوم بالفقه عند أصحابه يقول هذا من أحكام الآخرة ومن علم الغيب لا نتكلم فيه لأنّا لم نكلفه وهو في أكثر مناظرته يتكلم فيما لم نكلف ويجالد فيما لم ينطق به السلف ويتعلم ويعلم ما علمه بتكلف ولا يعلم المسكين أنه كلف علم يقين الإيمان وحقيقة التوحيدومعرفة إخلاص المعاملة وعلم ما يقدح في الإخلاص ويخرج من جملته قبل ما هو فيه لأنه متكلف لبعض ما هو يبتغيه لأن علم الإيمان وصحة التوحيد وإخلاص العبودية للربوبية وإخلاص الأعمال من الهوى الدنيوية وما يتعلق بها من أعمال القلوب هو من الفقه في الدين ونعت أوصاف المؤمنين إذ مقتضاه الإنذار والتحذير لقوله تعالى: (لِيَتفَقَّهُوا في الدينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) التوبة: 122 الآية، ولقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين فإني متعلم معكم ولقول الصحابة رضي الله عنهم تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً فهذا مزيداً الهداية بالإيقان وهو زيادة المؤمنين في الإيمان كما قال تعالى: (فَزَادَهُمْ إيماناً) آل عمران: 173 وقال عزّ وجلّ: (ويَزَيدُ الله الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً) مريم: 76 ولا يشعر أن حسن الأدب في المعاملة بمعرفة ويقين هو من صفات الموقنين وذلك هو حال العبد في مقامه بينه وبين ربه عزّ وجل ونصيبه من ربه تعالى، وحظه من مزيد آخرته.

وذلك معقود بشهادة التوحيدالخالصة المقترنة بالإيمان من خفايا الشرك وشعب النفاق وهو مقترن بالفرائض وفرض فرضها الإخلاص بالمعاملة وإن علم ما سوى هذا مما قد أشرب قلبه وحبب إليه من فضول العلوم وغرائب الفهوم إنما هو حوائج الناس ونوازلهم فهو حجاب عن هذا واشتغال عنه، فآثر هذا الغافل لقلة معرفته بحقيقة العلم النافع ما زين له طلبه وحبّب إليه قصده، آثر حوائج الناس وأحوالهم على حاجته وحاله وعمل في أنصبتهم منه في عاجل دنياهم من نوازل طوارقهم وفتياهم ولم يعمل في نصيبه الأوفر من ربه الأعلى لأجل آخرته التي هي خبر وأبقى إذ مرجعه إليها ومثواه المؤبد فيها، فآثر التقرب منهم على القربة من ربه عزه وجلّ وترك للشغل بهم حظه من الله تعالى إلا جزل وقدم التفرغ لهم على فراغ قلبه لما قدم لغده من تقواه بالشغل بخدمة مولاه وطلب رضاه واشتغل بصلاح ألسنتهم عن صلاح قلبه وظواهر أحوالهم عن باطن حاله وكان سبب ما بلي به حب الرياسة وطلب الجاه عند الناس والمنزلة بموجب السياسة والرغبة في عاجل الدنيا وعزها بقلة الهمة وضعف النية في عاجل الآخرة وذخره فأفنى أيامه لأيامهم وأذهب عمره في شهواتهم ليسميه الجاهلون بالعلم عالماً وليكون في قلوب البطالين عندهم فاضلاً فورد القيامة مفلساً وعندما يراه من أنصبة المقربين مبلساً إذ فاز بالقرب العاملون وريح الرضا العالمون ولكن أنّى له وكيف بنصيب غيره؟ وقد جعل الله تعالى لكل عمل عاملاً ولكل علم عالماً أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب كل ميسر لما خلق له هذا فصل الخطاب بينهما فإن الأمة لم تختلف، إن علم التوحيد فريضة سيما إذا وقعت الشبهات وأدخلت فيه المشكلات وإنما اختلفوا في مسألتين أي شيء هو التوحيد وفي كيفية طلبه والتوصل إليه، فمنهم من قال بالبحث والطلب ومنهم من يقول بالاستدلال والنظر، ومنهم من قال بالسمع والأثر، وقال بعضهم: بالتوقيف والتسليم وقال بعض الناس: يدرك دركه بالعجز والتقصير عن بلوغ دركه، والرجل الخامس من العلماء هو صاحب حديث وآثار وناقل رواية الأخبار يقول لك إذا سألته اعتقد التسليم وأمر الحديث كما جاء ولا تفتيش وهذا يتلو المفتي في السلامة وهو أحسنهم طريقة وأشبههم بسلف العامة خليقة ليس عنده شهادة يقين ولا معرفة بحقيقة ما رآه ولا هو مشاهد واصف لمعنى ما نقله إنما هو للعلم رواية وللأثر والخبر ناقلة عن غير خبر يخبره ولا فقه في نقله فهو على بينة من ربه وليس يتلوه شاهد منه، وقدكان الزهري يقول: حدثني فلان، وكان من أوعية العلم ولا يقول وكان عالماً وكان مالك بن أنس رحمه الله يقول: أدركت سبعين شيخاً من التابعين منهم عباد ومنهم مستجاب الدعاء ومنهم من يستسقى به ما حملت عنهم علماً قط قيل: ولم ذاك قال لم يكونوا من أهل هذا الشأن وفي رواية لم يكونوا يدرون ما يحدثون به ولم يكن لهم فقه فيما يسألون عنه قال مالك وتقدم علينا ابن شهاب الزهري وهو حديث السن فنزدحم عليه حتى نصل إليه لأنه كان عالماً بما يحدث به فهذا بمعنى ما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

وقال بعض السلف ما كانوا يعدون علم من لا يعرف اختلاف العلماء علماً وقال آخرين: من لم يعرف اختلاف العلماء لم يحل له أن يفتي ولم يسمَّ عالماً وقال قتادة وسعيد بن جبير أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه إذا كتب الرجل مائة ألف حديث له أن يفتي، قال: لا، قيل: فمائتي ألف حديث قال: لا قيل فثلاثمائة ألف حديث قال أرجو وفي التوراة مكتوب الطبيب الحاذق للعلة الباطنة يصلح.

وكتب سلمان الفارسي من المدائن إلى أبي الدرداء وكان قد آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما فيمن آخى: يا أخي بلغني أنك أقعدت طبيباً تداوي المرضى فانظر فإن كنت طبيباً فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطبباً فالله الله لا تقتل مسلماً، قال: فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل عن شيء وسأله إنسان عن شيء فأجابه ثم قال ردوه فقال له: أعد عليّ فأعاد فقال: متطبب والله فرجع في جوابه ولعمري أنه قدجاء عن رسول اللهّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تطبب ولم يعلم منه طب فقتل فهو ضامن، وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: سلوا جابر بن زيد فلو نزل أهل البصرة على فتياهل وسعهم وكان من صالحي التابعين، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء يقول: سلوا سعيد بن المسيب، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سلوا مولانا الحسن فإنه قد حفظ ونسينا، وقال بعض البصريين: قدم علينا رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتينا الحسن فقلنا ألا نذهب إلى هذا الصحابي فنسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتجيء معنا؟ قال: نعم فاذهبوا، قال: فجعلنا نسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يحدثنا حتى حدثنا عشرين حديثاً قال: والحسن ينصت يستمع إليه، ثم جثا الحسن على ركبتيه فقال: يا صاحب رسول الله أخبرنا بتفسير ما رويت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نفقه فيه، فسكت الصحابي وقال ما عندي إلاما سمعت، قال: فابتدأ الحسن رحمه الله يفسر ما رواه، فقال: أما الحديث الأوّل الذي حدثتنا به فإن تفسيره كيت وكيت والحديث الثاني تفسيره كذا وكذا حتى سرد عليه الأحاديث كلها التي حدثنا بها وأخبرنا بتفسيرها، قال: فلا ندري نعجب من حسن حفظه إياه وأدائه الحديث أو من علمه وتفسيره، قال: فأخذ الصحابي كفاً من حصى وحصينا به ثم قال: تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم فهؤلاء أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردون الأمور في الفتيا وعلم اللسان إلى من هو دونهم في القدر والمنزلة وهو في علم التوحيد والمعرفة والإيمان فوقهم درجات ولا يرجعون إليهم في الشبهات ولا يردون إليهم في علم المعرفة واليقين فهذا كما قيل: إنما العلم نور يقذفه الله تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فقد يكون ذلك تفضيلاً للنظراء بعضهم على بعض، وقديكون تخصيصاً للشباب على الشيوخ ولمن جاء بعد السلف من التابعين وربما كان تكرمة للخاملين المتواضعين لينبه عليهم ويعرفون شأنهم ليعظمواويرفعوا كما قال الله تعالى: (وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ على الَذينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرضِ وَنَجْعَلهُمْ أَئِمَّةً) القصص: 5 والنور إذا جعل في الصدر انشرح القلب بالعلم ونظر باليقين فنطق اللسان بحقيقة البيان وهو الحكمة التي يودعها الله تعالى في قلوب أوليائه كما جاء في تفسير قوله عز وجلّ: (وَآتيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ) ص: 20 قيل: الإصابة في القول فكأنه يوفقه للحقيقة وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ومنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقدْ أُوتيَ خيْراً كَثيراً) البقرة: 269 قيل: الفهم والفطنة.

وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الهداية حين تلا قوله عزّ وجلّ (فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ) الأنعام: 125 فقيل: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال: إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله فذكر سببه الزهدفي الدنياوالإقبال على خدمة المولى وحسن التوفيق والإصابة في العلم مواهب من اللهّ عزّ وجلّ وأثرة يختص بها من يشاء كما سئل أبو موسى الأشعري وهو أمير الكوفة عن رجل قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود للسائل: أعد على الأمير فتياك فلعله لم يفهم، قال السائل: قلت أيها الأمير ما قولك في رجل قاتل في سبيل الله فقتل مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه أعد على الأمير فلعله لم يفهم فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول أبو موسى في الجنة، ثم قال ما عندي غير هذا فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود لكني لا أقول هكذا، قال: فما قولك؟ فقال: أقول إن قتل في سبيل الله فأصاب الحق فهو في الجنة فقال أبو موسى صدق لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم والقول في تسليم أخبار الصفات والسكوت عن تفسيرها كما قال أصحاب الحديث إلا أن بمعرفة معاني الأسماء والصفات وشهودها ينفي الظن والوسواس فيها وترك التشبيه والتمثيل بها والطمأنينة إلى اليقين بالمعرفة بمشاهدتها هو مقام الموقنين واعتقاد أنها صفات لله تعالى يتجلى بها وبما شاء من غيرها بلا حد ولا عدد يظهر بصفة صفة كيف شاء غير موقوف على صفة ولا محكوم عليه بصورة بلا إظهار غيرته بل هو كيف ظهر وبأي وصف تجلّى مع نفي الكيفية والمثلية لفقد الجنس والجوهرية هو مقام المقربين من الشهداء، وهؤلاء هم الصديقون وخصوص الموقنين فمن عدل به عن وجهة هؤلاء ولم يواجه بشهادتهم عدل إلى التسليم والتصديق فوقف عنده فكان معقله واستراحته وليس بعد هؤلاء مقام يمدح ولا وصف يذكرفمن فتش ذلك بعقله وفسره برأيه دخل عليه التشبيه أو خرج إلى النفي والإبطال.

ومن الدليل على فضل هذا العلم على سائر العلوم ما جاء في الأخبار المأثورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين في فضل مجالس الذكر وفضل الذاكرين: إنما يريدون به علم الإيمان والمعرفة وعلوم المعاملات والتفقه في بصائر القلوب والنظر بعين اليقين إلى سرائر الغيوب وليس يريدون به مجالس القصص ولا يعنون بذلك القصاص لأنهم كانوا يرون القصص بدعة ويقولون لم يقص في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبي بكر ولا عمر حتى ظهرت الفتنة فلما وقعت الفتنة ظهر القصاص ولما دخل علي رضي اللهّ عنه البصرة جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول: لا يقصّ في مسجدنا حتى انتهى إلى الحسن وهو يتكلم في هذا العلم فاستمع إليه ثم انصرف ولم يخرجه وجاء ابن عمر إلى مجلسه من المسجد فوجد قاصّاً يقصّ فوجّه إليه صاحب الشرطة أن أخرجه من المسجد فأخرجه، فلو كان القصص من مجالس الذكر والقصّاص علماء لما أخرجهم ابن عمر من المسجد، هذا مع ورعه وزهده، وقد روينا عن ابن شوذب عن أبي التياح قال: قلت للحسن إمامنا يقصّ فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء ويمدون أيديهم فقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعة ومدّ الأيدي بالدعاء بدعة، وروى أبو الأشهب عن الحسن: القصص بدعة، وقيل لابن سيرين: لو قصصت على إخوانك فقال: قد قيل لا يتكلم على الناس إلا أحد ثلاثة: أمير أو مأمور أو أحمق فلست بأمير ولا مأمور وأكره أن أكون الثالث.

وروينا عن عون بن موسى عن معاوية بن قرة قال: سألت الحسن البصري قلت: أعود مريضاً أحبّ إليك أوأجلس إلى قاصّ، فقال: عد مريضك فقلت أشيع جنازة أحبّ إليك أو أجلس إلى قاصّ قال: شيع جنازتك قلت: وإن استعان بي رجل في حاجة أعينه أو أجلس إلى قاصّ قال: اذهب في حاجتك حتى جعله خيراً من مجالس الفراغ، فلوكانت مجالس الذكر عندهم هي مجالس القصّاص ولو كان القصص هو الذكر لما وسع الحسن أن يثبط عنه ولا يؤثر عليه كثيراً من الأعمال لأنه قد كان يدعو إلى الله تعالى بالتوحيد ويتكلم في علم المعرفة واليقين والذاكرين لله تعالى وحضور مجلس الذكر من مزيد الإيمان وقد رفع الله تعالى مقام الذاكرين فوق مقام المؤمنين في قوله تعالى: (إنَّ المُسْلِمينَ والْمسْلِمَاتِ والْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ) الأحزاب: 35 فجعل الذاكرين والذاكرات أعلى المقامات.

وقد روينا في خبر أبي ذر حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة، قيل يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم؟ وقال بعض السلف: حضور مجلس ذكر يكفر عشرة من مجالس الباطل وأما عطاء فإنه قال مجلس ذكريكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو وحدثونا عن معاذ الأعلم قال: رآني يونس بن عبيدوأنا في حلقة المعتزلة فقال تعال فجئت فقال: إن كنت لا بد فاعلاً فعليك بحلقة القصاص، وقد كان الحسن البصري أحد المذكرين وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السجستاني ومحمد بن واسه وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا والنور فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة في خواطرالقلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس وربما قنع بعد أصحاب الحديث رأسه فاختفى من ورائهم ليسمع ذلك فإذا رآه الحسن قال له: يا لكع وأنت ما تصنع ههنا؟ إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر والحسن رحمه الله هو إمامنا في هذا العلم الذي نتكلم به أثره نقفو وسبيله نتبع ومن مشكاته نستضيء أخذنا ذلك بإذن الله تعالى إماماً عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه، وكان من خيار التابعين بإحسان قيل: ما زال يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها وقدلقي سبعين بدرياً ورأى ثلاثمائة صحابي وولد لليلتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين من التاريخ ولد بالمدينة وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال إنها ألقمته ثديها تعلله حين بكى فدّر ثديها عليه وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأى عثمان بن عفان ولعي بن أبي طالب ومن بقي في وقته من العشرة ثم رأى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عهد عثمان ومن سنة نيف وعشرين من الهجرة إلى سنة نيف وتسعين.

ومن آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبصرة أنس بن مالك وبالمدينة سهل بن سعد الساعدي ومكة أبو الطفيل وباليمن أبيض بن جمال المازني وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى وبالشام أبو قرصافة وبخراسان بريدة الأسلمي ودخلت سنة مائة من التاريخ ولم يبق على وجه الأرض عين تطرف رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أطراف الأرض ثم توفي الحسن في سنة عشر ومائة وكان أبو قتادة العدوي يقول: عليكم بهذا الشيخ فو الله ما رأينا أحداً لم يصحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وكانوا يقولون كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته فكان على شمائله ونذرت امرأة بالبصرة نذراً إن فعل الله تعالى ذلك بها أن تنسج ثوباً من غزلها وصفته وتكسوه خير أهل البصرة فرأت تمام نذرها فوفت بما نذرت ثم سألت: من خير أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن، وكان الحسن رضي الله عنه أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه وأظهر أنواره وكشف به قناعه وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه فقيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممّن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان قيل: وقالوا الحذيفة بن اليمان نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن أين أخذته فقال خصّني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني وقال مرة فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير.

وفي لفظ آخر كان الناس يقولون يا رسول الله مالمن عمل كذا وكذا يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول: يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا؟ فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وبسرائر العلم ودقائق الفهم وخفايا اليقين من بين الصحابة فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن الفتن العامة والفتن الخاصة ويرجعون إليه في العلم الذي خصه به ويسألونه عن المنافقين وهل بقي منهم ممن ذكر الله تعالى وأخبر عنهم أحد فكان يخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق فبرأه منه ثم يسأله عن علامات النفاق وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه ويستعفي مما لا يجوز له أن يخبر به فيعذر في ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلّى عليها وإن لم ير حذيفة لم يصل عليها وكان حذيفة يسمى صاحب السر وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئلوا عن علم يقول أحدهم تسألوني عن هذا وصاحب السر فيكم يعني حذيفة.

وروينا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما حدث عن النبي في فضل مجلس الذكر لأن أقعد مع قوم يذكرون اللّّه تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربع رقاب، قال: فالتفت إلى يزيد الرقاشي وزياد النميري فقال لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم ويخطب على أصحابه ويسرد الحديث سرداً إنما كما نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله تعالى علينا وقد كان عبد الله بن رواحة يقول لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعالوا حتى نؤمن ساعة فيجلسون إليه فيذكرهم العلم بالله تعالى والتوحيد والآخرة وكان يخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قيامه فيجتمع إليه الناس يذكرهم الله تعالى وأيامه ويفقههم فيما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فربما خرج عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم مجتمعون عنده فيسكتون فيجلس إليهم ويأمرهم أن يأخذوا فيما كانوا فيه ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا أمرت وإلى هذا دعوت، وروي نحو هذا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد كان يتكلم بهذا العلم، وقد روينا هذا مفسراً في حديث جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فسمي علم الإيمان إيماناً كما سماه ابن رواحة لأن علم الإيمان وصف الإيمان والعرب تسمي الشيء بوصفه وتسميه بأصله كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثله: تعلموا اليقين، وكما قال تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) يوسف: 84 أي من البكاء فسماه بأصله لأن الحزن أصل البكاء.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج ذات يوم فرأى مجلسين، أحدهما يدعون الله تعالى ويرغبون إليه والآخر يتفقهون في الدين ويعلّمون الناس فوقف بينهما ثم قال: أما هؤلاء فيسألون اللّّه تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلّمون الناس ويفقهون في الدين وإنما بعثت معلماً ثم عدل إلى الذين يفقهون الناس في الدين ويذكرون الله تعالى فجلس معهم، ويحكي عن بعض السلف قال: دخلت المسجد ذات يوم فإذا بحلقتين، أحدهما يقصون ويدعون والأخرى يتكلمون في العلم وفقه الأعمال قال: فملت إلى حلقة الدعاء فجلست إليهم فحملتني عيناي فنمت فهتف بي هاتف أو قال لي شخص: جلست إلى هؤلاء وتركت مجلس العلم أما لو جلست إليهم لوجدت جبريل لله عندهم، فحقيقة الذكر هو العلم بالله تعالى، ألا تسمع إلى ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الذكر قول لا إله إلا الله، وقال سبحانه وتعالى: في تصديق: (فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلّهَ إلاَّ اللهُ) محمد: 19 وقال في مثله: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وأنْ لا إلهِ إلاَّ هُوَ) هود: 14، ثم إن العلم من الذكر علم المشاهدة والمشاهدة، صفة عين اليقين فإذا كشف غطا العين شهدت معاني الصفات بأنوارها وهو مزيد نور اليقين الذي هو كمال الإيمان وحقيقته، فهنالك ذكرت الموصوف بمشاهدة المذكور بنور وصفه: ألم تر إلى قولّه تعالى: (كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْري) الكهف: 101، فمن كانت عينه في كشف من ذكره شهد المذكور فعندها ذكر ثم توجد حقيقة العلم بعد نسيان الخلق كقوله تعالى: (واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسيتَ) الكهف: 24، فحق الذكر نسيان ما سواه كما أن حقيقة الإيمان الكفر بكل إله كقوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ وَيؤْمِنْ بالله) البقرة: 256، وقال بعض أهل الحديث: جاءني رجل من إخواني من أهل المعرفة، فقال: قد وجدت من قلبي غفلة فأريد أن تحملني إلى مجلس من مجالس الذكر فقلت نعم فسمّى له مذكراً يتكلم في علوم العامة قال: فحضرنا عنده واجتمع الخلق فأخذ في شيء من القصص وذكر الجنة والنار فنظر إليّ صاحبي فقال أليس زعمت أن هذا يذكر الله ويذكر ربه عزّوجلّ ويذكر أيامه فقلت: نعم هكذا هو عندنا فقال: ما أسمع إلا ذكر الخلق فأين ذكرالله تعالى؟ ثم توقف ساعة ينتظر منه ما يريد من علم المعرفة ومما سمعه من شيوخه الصوفية قال: فليس إلا القصص والحكايات فالتفت إليّ وقال: قم بنا فإنه لا يسعني الجلوس لأنه لا نية لي في ذلك فقلت أما أنا فأستحي أن أتخطى الناس فاصنع أنت ما ترى فقام يتخطى الناس حتى خرج.

وقد روى الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه خرج من المسجد وقال: ما أخرجني إلا القصاص ولولاه ما خرجت وقال ضمرة: قلت للثوري رحمه الله نستقبل القاص بوجهنا فقال: ولّوا البدع ظهوركم وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر؟ فقلت: نهى الأمير القصاص أن يقصوا، وحدثنا عن أبي معمر عن خلف بن خليفة قال: رأيت سياراً أبا الحكم يستاك على باب المسجد وقاصّ يقص في المسجد فجاءه رجل فقال: يا أبا الحكم إن الناس ينظرونك فقال: إني في خير مما هم فيه أنا في سنة وهم في بدعة وقد فعل الأعمش أبلغ من ذلك دخل البصرة وكان فيها غريباً فنظر إلى قاصّ في الجامع وهو يقول: حدثناالأعمش عن أبي إسحاق وحدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: فتوسط الأعمش الحلقة ورفع يده وجعل ينتف شعر إبطه فبصر به القاصّ فقال: يا شيخ ألا تستحي نحن في علم وأنت تفعل هذا؟ فقال له الأعمش: الذي أنا فيه أفضل من الذي أنت فيه، قال: كيف؟ قال: لأني في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدثتك مما تقول شيئاً فلما سمع الناس ذكر الأعمش انفضوا عن القاص واجتمعوا حوله وقالوا حدثنا يا أبا محمد، وأخبرونا عن محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثه قال: صليت مع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلاة العيد فإذا قاصّ يقص يلعن المبتدعة ويذكر السنة فلما قضينا الصلاة وصرنا ببعض الطريق ذكر أبو عبد الله القاص فقال ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يحدثون به كذباً وأخبرت عن محمد بن جعفر أن أبا الحرث حدثه أنه سمع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول أكذب الناس القصاص والسؤال وحدثونا عنه أيضاً أنه قال: ما أحوج الناس إلى قاصّ صدوق لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر قلت له: أنت تحضر مجالسهم؟ قال: لا.

وروينا عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد النميري قال: أتيت أنس بن مالك وهو بالزاوية فقال لي: قصّ فقلت كيف؟ والناس يزعمون أنه بدعة فقال: ليس شيء من ذكر الله تعالى بدعة، قال: فقصصت وجعلت أكثر قصصي ودعائي رجاء أن يؤمن، قال: فجعلت أقص وهو يؤمن وقد كانوا يجعلون الدعاء قصصاً وحدث يوسف بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن الخراز قال: فقد الحسن عامر بن عبد الله العنبري فقال: اذهبوا بنا إلى أبي عبد الله فأتاه الحسن فإذا عامر في بيت قد لف رأسه وليس إلا رمل فقال له الحسن: يا أبا عبد الله لم نرك منذ أيام، فقال: إني كنت أجلس هذه المجالس فأسمع تخليطاً وتغليظاً وانّي كنت أسمع مشيختنا فيما يروون عن نبيينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول إن أصفى الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم فكرة في الدنيا وأكثر الناس ضحكاً في الجنة أكثرهم بكاءً في الدنيا وأشد الناس فرحاً في الآخرة أطولهم حزناً في الدنيا فوجدت البيت أخلى لقلبي وأقدر لي من نفسي على ما أريد منها، قال الحسن: أما إنه لم يعن مجالسنا هذه إنما عنى مجالس القصاص في الطرق الذين يخلطون ويغلطون ويقدمون ويؤخرون وقد قسم بعض العلماء المتكلمين ثلاثة أقسام فوصفهم بأماكنهم فقال المتكلمون ثلاثة أصحاب الكراسي وهم القصاص وأصحاب الأساطين وهم المفتنون وأصحاب الزوايا وهم أهل المعرفة فمجالس أهل العلم بالله تعالى وأهل التوحيد والمعرفة هي مجالس الذكر وهي التي جاءت فيها الآثار، وفي الخبر: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، وفي الحديث أن لله تعالى ملائكة سياحين في الهواء فضلاً عن كتاب الخلق إذا رأوا مجالس الذكر ينادي بعضهم بعضاً: ألا هلموا إلى بغيتكم فيأتوهم حتى يجلسوا إليهم فيحفون بهم ويستمعون منهم ألا فاذكروا الله واذكروا أيامه، وقال وهب بن منبه اليماني: مجلس يتنازع فيه العلم أحب إليّ من قدره صلاة لعل أحدهم يسمع الكلمة فينتفع بها السنة أو ما بقي من عمره، وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن مجالس الذكر وفضلها فرغب فيها وقال رحمه الله: وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس فيذكرون الله عزّ وجلّ ويعددون نعمه عليهم كما قالت الأنصار.

وروينا عن عليّ كرم الله وجهه: ما يسرني أن الله تعالى أماتني طفلاً وأدخلني الدرجات العلى من الجنة قيل: ولم؟ قال: لأنه أحياني حتى عرفته، وقال مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا طيب شيء فيها قيل: وما هو؟ قال: المعرفة ثم أنشأ يقول:

إن عرفان ذي الجلال لعز ... وضياء وبهجة وسرور

وعلى العارفين أيضاً بهاء ... وعليهم من المحبة نور

فهنياً لمن عرفك إلهي ... هو والله دهره مسرور وقال يحيى بن معاذ الرازي: في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى شيء ولم يستوحش، قيل: وما هي؟ قال: معرفة الله تعالى، وقال آخر: لم يخطئك من العارف إحدى ثلاث خلال تدل عليه هيبة أو حلاوة أو أنس، وقال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: خرج العلماء والزهاد والعباد وقلوبهم مقفلة ولم يفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ثم تلا وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو يعني مقفلة عن مفاتح المعرفة وشهادة عين التوحيد فمجالس الذكر هذه قديماً كانت لأهل المعرفةوأصحاب معاملات القلوب وعلم الباطن وهم علماء الآخرة وأهل الفقة في الدين، وقد قال اللّّه تعالى وهو أصدق القائلين: (فلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 الآية، فذكر الفقة الذي هو من صفة القلب والخوف الذي هو سبب الفقه وعلم العقل داخل في علم الظاهر والعلم بالله داخل فياليقين كما روي في الخبر اليقين الإيمان كله، وقال الله تعالى: (وما يَعْقِلُهَا إلا الْعَالِمُون) العنكبوت: 43 فجعل العقل وصفاً من العلم وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعليم اليقين كما أمر بطلب العلم فكان هذا الحديث مخصوصاً من ذاك فيكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلّموا اليقين للخصوص لأن اليقين مقام فوق العلم ويكون قوله طلب العلم فريضة للعموم وفي قوله تعلموا اليقين أمر بمجالسة الموقنين لأن اليقين لا يظهر بذاته وإنما يوجد عندا لموقنين فقد أمرهم ولم يقل تعلموا علم المعقول ولا علم الفتاوى وكان علماء الظاهر قديماً يسمون المفتين ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفت قلبك وإن أفتاك المفتون فرده إلى فقه القلب وصرفه عن فتيا المفتين فلولا أن القلب فقيه لم يجز أن يدله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير فقيه ولولا أن علم الباطن حاكم على الظاهر ما دفعه من علوم أهل الظاهر وهم علماء الألسنة إلى علم الباطن وهو علم أهل القلوب مارده إليه ولا يجوز أن يرده من فقيه إلى فقيه دونه كيف وقد جاء هذا الحديث بلفظه مؤكدة بالتكرير والمبالغة فقال استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك، وهذا مخصوص لمن كان له قلب وألقى سمعه وشهد قيام شاهده وعرى عن شهواته ومعهوده لأن الفقه ليس من وصف اللسان ألم تسمع قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الأعراف: 179، فمن كان له قلب سميع بسميع شهيد بشهيد فقه به الخطاب فاستجاب لما سمع وأناب وذكر في قوله تعالى: (لِيتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 وصفين ظهرا عن الفقه أحدهما النذارة وهو مقام في الدعوة إلى الله عز وجل ولا يحكون النذير إلا مخوّفاً ولا يكون المخوف إلا خائفاً والخائف عالم والثاني الحذر وهو حال من المعرفة بالله عزّ وجلّ وهو الخشية له، والفقه والفهم اسمان لمعنى واحد والعرب تقول: فقهت بمعنى فهمت وقد فضل الله تعالى الفهم عنه على العلم والحكمة ورفع الإفهام على القضاء والأحكام فقال تعالى: (فَفَهَّمْنَاها سُلَيْمانَ) الأنبياء: 79، فأفرده بالفهم عنه وهو الذي فضله به على حكم أبيه في القضية بعد أن أشركهما في الحكم والعلم، وقد فضل الحسن بن علي رضي الله عنهما علماء الهداية إلى الله سبحانه وتعالى الدالين عليه عزّوجلّ وسماهم العلماء وحققهم بالعلم في كلام روي لنا عنه منظوماً وقد رويناه أيضاً عن عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه:

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاّء

ووزن كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء

فمن كان عالماً يعلم معلومه الله سبحانه وتعالى فمن أفضل منه وأي قيمة تعرف له إذ كل علم قيمته معلومة ووزن كل عالم علمه، وقد قال عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين كلاماً في هذا المعنى ويفرد به العلماء بالله تعالى ويرفع طريقهم فوق كل طريق أنشدونا عنه رحمه الله تعالى:

الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد

لايعرفون ولا تسلك مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد

والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد

وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما مات عمر رضي الله عنه: إني لأحب هذا الرجل قد ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل له: تقول هذا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون فقال: إني لست أعني العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجلّ، وكان ابن مسعود يقول: المتقون متوارون، وكذلك كان يقول: المتقون سادة والعلماء قادة ومجالستهم زيادة يعني أن المتقين سادة الناس كماقال الله عزّ وجل: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتقاكُمْ) الحجرات: 13 والعلماء قادة المتقين أي أئمتهم يقتفون آثارهم لأنه قال تعالى: (واجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِمَاماً) الفرقان: 74، ففضل العلماء على المتقين وجعلهم أئمة لهم صار المتقون أصحابه وأخبر بالمزيد في مجالستهم أي مجالستهم زيادة على مجالسة المتقين غير العلماء لأن كل عالم تقيّ وليس كل تقيّ عالماً كما روى بمعناه العلماء كثير والحكماء من العلماء قليل والصالحون كثير والصادقون من الصالحين قليل، وسئل ابن المبارك من الناس؟ قال: العلماء، قيل فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: من يأكل بدينه، وقال مرة في رواية الذين يتلبسون ويطلبون ويتعرضون للشهادات وقال فرقد السنجي للحسن رحمهما الله تعالى في شيء سأله عنه، فأجابه: يا أبا سعيد إن الفقهاء يخالفونك فقال: ثكلتك أمك فرقد وهل رأيت بعينيك فقهاء؟ إنما الفقيه الزاهدفي الدنيا الراغب في الآخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكافّ عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم جمعنا قوله هذا في ثلاث روايات عنه مختلفة فهذه صفات العالم بالله تعالى وهم العارفون.

وحدثنا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: بلغنا أنك كنت تختلف إلى معروف أكان عنده حديث؟ فقال: يا بني كان عنده رأس الأمر تقوى الله عزّ وجلّ وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه: بأي شيء ذكر هؤلاء الأئمة ووصفوا؟ فقال: ما هو إلا الصدق الذي كان فيهم قيل له: وما الصدق؟ قال: هو الإخلاص قيل له: فالإخلاص ما هو؟ قال: الزهد، قيل: وما الزهد؟ فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد سلوا بشر بن الحرث وقد حدثت عن بشر في منصور بن عمار رحمهما الله حكايات ظريفة كان منصور بن عمار من الواعظين المذكرين ولم يكن العلماء في وقته مثل بشر وأحمد وأبي ثور يعدونه عالماً كان عندهم من القصاص وكانت العامة تسمية عالماً فحدثت عن نصر بن علي الجهضمي أنه مزح ذات يوم مزاحاً أفرط فيه فقيل له: تقول هذا وأنت من العلماء؟ فقال: ما رأيت أحداً من العلماء إلا وهو يمزح فقيل له: قد رأيت بشر بن الحرث فهل سمعته يمزح قال: نعم كنت جالساً معه ذات يوم في بعض الدروب فجاء منصور بن عمار يعدو، فقال: يا أبا نصر الأمير قد أمر بجمع العلماء والصالحين فترى لي أن أختفي؟ فدفعه بشر وقال: تنح عنا لا يمر حمل شوك فيلقيك علينا فنحترق فهذا كان محل القصاص عندالعلماء فيما سلف حتى ذهب أهل هذا العلم وجهلت مجالس الذكر وعلوم اليقين والمعاملات إلا من عرف سيرة المتقدمين وطريقة السالفين الذين كانوا يفرقون بين مجالس الذكر وبين القصاص ويميزون بين العلماء وبين المتكلمين وبين علم اللسان وفقه القلب وبين علم اليقين وعلم العقل لأن الفرق بين العالم والقاص أن العالم يسكت حتى يُسأل فإذا سئل أجاب فيما يعلم بما هيأ الله تعالى له وكشف وينطق فيما أجراه الله عزّوجلّ عليه وعرف فإن كان الصمت أفضل آثر السكوت لعلمه بالأفضل فإن لم ير أهله تربص حتى يضعه في أهله وأهله من عرفه وكان له نصيب من مشاهدته ووجده.

وقال الله سبحانه وتعالى: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43، ففي ذلك معنيان، أحدهما أن أهل الذكر هم العلماء بالله تعالى لقوله: إن كنتم لا تعلمون فلا يجوز أن يقول سلوا من لا يعلم وهم جاهلون فيزدادوا جهلاً، والمعنى الثاني يدل على أن العلماء سكوت حتى يسألوا فإذا سئلوا وجب عليه أن يجيبوا لقوله تعالى لمن لا يعلم فاسئلوا فدل أن مجالس الذكر هي مجالس العلماء التي وردت الأخبار بفضائلها وفي تدبره أن أهل الذكر هؤلاء المسؤولون هم الذين وصل لهم القول لعلهم يتذكرون فلما وصل لهم المفصل تذكروا عما وعد تعالى فلما تذكروا علموا فعندها أمر أن يسألوا، ولذلك روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا ينبغي للجاهل أن يستقر على جهله ولا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه.

وقد قال الله تعالى: (فَسْئلُوا أهْل الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ) النحل: 43 وهكذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي رويناه من طريق أهل البيت: العلم خزائن مفتاحها السؤال فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والعالم، والمستمع، والمحب لهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وقال الأغمش: من الكلام كلام جوابه السكوت، وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: حسن سؤال الصادقين مفتاح قلوب العارفين، فأما القاص فهو الذي يبتدئ فيقصّ الأخبار ويذكر القصص والآثار ولذلك سمي قاصهًا أي يتبع قصة من سلف، ومنه قوله تعالى: (وقالت لأُخْتِهِ قُصِّيهِ) القصص: 11، أي تتبعي أثر موسى تعرفي قصته وأخبريني خبره، وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: من اذالة العلم أن ينطق به قبل أن يسأل عنه، وقال مرة من إذالة العلم أن يجيب عن كل ما يسأل عنه أي من إهانته ووضعه، يقال أشل هذا وأذل هذا أي ارفع وضع، يقال: إذا تكلم بالعلم قبل أن يسأل عنه ذهب ثلثا نوره، وقد قال إبراهيم بن أدهم وغيره: سكوت العالم أشد على الشيطان من كلامه لأنه يسكت بحلم وينطق بعلم فيقول الشيطان: انظروا إلى هذا سكوته أشد عليّ من كلامه، ولذلك يقال: الصمت زين العالم وستر الجاهل وعن القاسم بن محمد أنه قال: من أكرم المرء نفسه أن يسكت على ما عنده حتى يسأل عنه، وكذلك هو لعمري لأنه إذا تكلم بعد السؤال فهو صاحبها وربما كان فرضاً وليس الحاجة إلاالقيام بالفرض من الشهوات، ولقوله تعالى: (فَسْئلوا أهْلَ الذِّكْر) النحل: 43 فأوجب أن يجيبوا من حيث أمر أن يسألوا وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فتوعد عليه بالعقاب، وقد يكون الابتداء بالشيء من خفايا الشهوات والشهوات من الدنيا ووصف رجل لمالك بن أنس فقال: لابأس به لولا أنه يتكلم بالشيء قبل أن يسأل عنه، وقال مرة: لابأس به إلا أنه يتكلم بكلام شهر في يوم، وقد قيل في معنى ما ذكر: إن الكلام من الشهوات، قال: هو الذي يبتدئ به قبل أن يسأل عنه ووصف بعضهم الأبدال فقال في وصفهم: أكلهم فاقة وكلامهم ضرورة وكانوا لا يتكلمون حتى يسألواعن شيء فيجيبوا، ومن لم يتكلم حتى يسأل فليس يعد لاغياًولا متكلماً فيما لايعنيه لأن الجواب بعد السؤال كالفرض بمنزلة رد السلام وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأرى رد الجواب واجباً كرد السلام، وقد قال أبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهما: من سئل عن علم فليقل به ومن لا فليسكت وإلا كتب من المتكلفين ومرق من الدين، ورويناه عن ابن عباس أيضاً وقد كانوا يخافون من دخول التكلف عليهم في كل شيء ويعد بعضهم بالابتداء بالكلام من غير حاجة تدعو إليه أو قبل سؤال عنه من غير أن يرى له موضعاً أو يجد له أهلاً يعدونه من التكلف، وفي وصية ابن عباس لمجاهد: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه أفضل ولاآمن عليك الخطأ ولا تكلم فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً فرب متكلّم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت.

وروي في حديث الأنصاري الذي قالت له أمه عند موته: هنيئاً لك الجنة جاهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك أنه في الجنة ولعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه، ومن أظهر علماً من غير أن يسأل عنه ونشره في غير أهله فأنكر عليه سئل عنه وكان عليه فيه مطالبة لأنه قد تكلف إظهاره فإن كان سئل عنه ثم تكلم فيه لم يكن عليه فيه مطالبة فيمن أنكر لأنه خرج جواباً على سؤال، ومن هذا كان السلف المتكلمون في هذا العلم يسكتون حتى يسألوا عنه، وكان أبو محمد يقول: العالم يقعد فيسكت ويرفع قلبه إلى مولاه فيفتقر إليه في حسن توفيقه ويسأله أن يلهمه الصواب فأي شيء سئل عنه تكلم بما فتح له مولاه فجعل العالم في حالة سكوته ونظره إلى سيده محتاجاً إلى التوكل ومنتظراً للوكيل في أي شيء يجريه، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة كأنما تقلع ضرسه وقال رقبة بن مصقلة وغيره ليس العالم الذي يجمع الناس فيقصّ عليهم إنما العالم الذي إذا سئل عن العلم كأنما يسعط الخردل، وقد روينا أنه قاله الأعمش وقد كان محمد بن سوقة يسأله عن الحديث فيعرض عنه ولا يجيبه فالتفت الأعمش إلى رقبة فقال له هو إذاً أحمق مثلك إن كان يدع فائدته لسوء خلقي فقال محمد بن سوقة: ويحك إنما أجعله بمنزلة الدواء أصبر على مرارته لما أرجو من منفعته، وقد روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنه مر برجل يتكلم على الناس فقال هذا يقول اعرفوني، وحدثني بعض علماء خراسان عن شيخ له عن أبي حفص النيسابوري الكبير، وكان هذا هناك نظير الجنيد ههنا أنه قال إنما العالم الذي يسأل عن مسألة في الدين فيغتم حتى لو جرح لم يخرج منه دم من الفزع يخاف أن يسأل في الآخرة عما سئل عنه في الدنيا ويفزع أن لا يتخلص من السؤال إلا أن يرى أنه قد افترض عليه الجواب لفقد العلماء، ومن ههنا كان ابن عمر رضي الله عنهما يسكت عن تسع مسائل ويجيب عن واحدة ويقول: تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون عليه في جهنهم، تقولون أفتانا ابن عمر بهذا، وكان إبراهيم التميمي إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول: لم تجد من تسأله غيري أو احتجتم إليّ؟ قال: وجهدنا بإبراهيم النخعي أن نسنده إلى سارية فأبى وكان إذا سئل عن شيء بكى وقال: قد احتاج الناس إليّ وقد كان سفيان بن عيينة تفرد في زمانه بعلوم انفرد بها في وقته وكان مع ذلك يضرب المثل لنفسه ويقول:

خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

وأما أبو العالية الرياحي فكان يتكلم على الاثنين والثلاثة فإذا صاروا أربعة قام، وكذلك كان إبراهيم والثوري وابن أدهم رحمهم الله تعالى يتكلمون على النفر فإذا كثر الناس انصرفوا وكان أبو محمد سهل رحمه الله يجلس إليه خمسة أو ستة إلى العشرة وقال لي بعض الشيوخ: كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضع عشرة، قال وما تم أهل الجلسة عشرون، وقد حدثت عن أبي الحسن بن سالم شيخنا رحمه الله: أن قوماً اجتمعوا في مسجده فأرسلوا إليه بعضهم، إن إخوانك قد حضروا ويحبون لقاءك والسماع منك فإن رأيت أن تخرج إليه فذاك وكان المسجد على باب بيته، ولم يكن يدخل عليه في منزله فقال للرسول بعد أن خرج إليهم: من هم؟ فقال: فلان وفلان وسماهم فقال: ليس هؤلاء من أصحابي هؤلاء أصحاب المجلس ولم يخرج كأنه رآهم عموماً لا يصلحون لتخصيص علمه فلم يذهب وقته لوقتهم وكذلك العالم خلوته تعز عليه فإن وافق خصوص أصحاب آثرهم على خلوته فكان ذلك مزيداً لهم وإن هو لم يوافق لم يؤثر على خلوته غيره فيكون مناخاً للبطالين، وقد كان ابن سالم أبو الحسن يخرج إلى إخوانه ممن يراه موضعاً لعلمه فيجلس إليهم ويذاكرهم وربما أدخلهم إليه نهاراً أو ليلاً ولعمري أن المذاكرة تكون بين النظراء والمحادثة تكون مع الإخوان والجلوس للعلم يكون للأصحاب، والجواب عن السوال نصيب العموم، وكان عند أهل العلم أن علمهم مخصوص لا يصلح إلا للخصوص والخصوص قليل، ولم يكونوا ينطقون به إلا عند أهله ويرون أن ذلك من حقه وأنه واجب عليهم كما وصفهم علي كرم الله وجهه في قوله حتى يودعوه أمثالهم ويزرعوه في قلوب أشكالهم وكذلك جاءت الآثار بذلك عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عيسى عليه السلام: لا تضيعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق الذي يضع الدواء في موضع الداء، وفي لفظ آخر: من وضع الحكمة في غيرأهلها جهل ومن منعها أهلها ظلم، إن للحكمة حقاًً وإن له أهلاً وإن لأهلها حقا فأعط كل ذي حق حقه وفي حديث عيسى صلاة الله وسلامه عليه لا تعلقوا الجوهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من الخنزير، وكان بعض هذه الطائفة يقول: نصف هذا العلم سكوت ونصفه تدري أين تضعه.

وقد قال بعض العارفين: من كلّم الناس بمبلغ علمه وبمقدار عقله ولم يخاطبهم بقدر حدودهم فقد بخسهم حقهم ولم يقم بحق الله عزّ وجلّ فيهم وكان يحيى بن معاذ يقول: اغرف لكل واحد من نهره واسقه بكأسه ونحن نقول بمعناه كل لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان علمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلاوقع الإنكار لتفاوت المعيار، وحدثني بعض أشياخنا من هذه الطائفة عن أبي عمران وهو المزين الكبير المكي قال سمعته يقول لأبي بكر الكتابي وكان سمحاً بهذا العلم بذولاً له لجميع الفقراء فجعل أبو عمران يعاتبه وينهاه عن بذله له وكثرة كلامه فيه إلى أن قال: أنا منذ عشرين سنة أسأل الله تعالى أن ينسيني هذا العلم قال: ولم؟ قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فسمعته يقول إن لكل شيء عن الله تعالى حرمة ومن أعظم الأشياء حرمة الحكمة، فمن وضعها في غير أهلها طالبه الله تعالى بحقها ومن طالبه خصمه وقد كان بعض السلف يقول: إذا استند الرجل إلى سارية أو أحب أن يسأل فلا تجلس إليه ولا ينبغي أن يسأل ولم ير في مجالس أهل هذا العلم فيما سلف ثلاثون رجلاً ولاعشرون إلا نادراً غير لزام ولا دوام إنما كانوا من الأربعة إلى العشرة وبضعة عشر، وقد كان يجتمع في مجالس القصاص والمذكرين والواعظين مئون من عهد الحسن إلى وقتنا هذا فهذا أيضاً من الفرق بينهما أن العلم مخصوص لقليل وأن القصص عام لكثير.

وقال بعض علمائنا: كان في البصرة مائة وعشرون متكلماً في الذكر والوعظ ولم يكن من يتكلم في علم المعرفة واليقين والمقامات والأحوال إلاستة منهم: أبو محمد سهل والصبيحي وعبد الرحيم، وقد قيل من لم ينتفع بسكوت العالم لم ينتفع بكلامه أي ينتغي أن يتأدب بصمته وخشوعه وورعه ويقتدي بيقينه في ذلك كما يتأدب بنطقه ويقتدى بكلامه على أنهم كانوا يقولون علم الظاهر من علم الملك وعلم الباطن من علم الملكوت يعنون أن ذلك من علم الدنيا لأنه يحتاج إليه في أمور الدنيا وهذا من علم الآخرة لأنه من زادها وهذا كما قالوه لأن اللسان ظاهر فهو من الملك وهو خزانة العلم الظاهر والقلب خزانة الملكوت وهو باب العلم الباطن فقد صار فضل العلم الباطن على الظاهر كفضل الملكوت على الملك وهو الملك الباطن الخفي وكفضل القلب على اللسان وهو الظاهر الجلي.

وقد كان بشر بن الحرث رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا باب من أبواب الدنيا، وقال مرة: الحديث ليس من زاد الآخرة، وحدثنا بعض أشياخنا عن بعض أصحابه قال: دفنا له بضعة عشر ما بين قمطر وقوصرة كتباً لم يحدث منها بشيء إلا ما سمع منه نادراً في الفرد وكان رحمه الله تعالى يقول: إني أشتهي أن أحدث ولو ذهب عني شهوة الحديث لحدثت ثم قال: أنا أجاهد نفسي منذ أربعين سنة، وقال إذا سمعت الرجل يقول حدثنا وأخبرنا فإنما يقول أوسعوا إليّ وكان زاهداً عالماً وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فلا تحدث وإذا لم تشته أن تحدث فحدث، وقد كانت رابعة العدوية رحمها الله تعالى قبله تقول للثوري رضي الله عنه: نعم الرجل سفيان لولا أنه يحب الحديث، وكانت تقول: فتنة الحديث أشد من فتنةالمال والولد وقالت مرة: لولا أنه يحب الدنيا يعني اجتماع الناس حوله للحديث، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشاً فقد ركن إلى الدنيا، وقال بعض هذه الطائفة: كل من أدرك العلوم غير العلم بالله عزّ وجلّ فقد استدرك والذي أدرك العلم بالله فقدتدورك ثم تلاقوله تعالى: (لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌمِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعراءِ) القلم: 49، أي تدورك بعلم المعرفة لطرح في بعد الهوى والعرا البعد وعلم المعقول بعد إلى جنب علم اليقين، وقال أيضاً في فهم قوله تعالى: (وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لقَدْكِدْتَ تَرْكنُ إليْهِمْ) الإسراء: 74 أي ثبتناك بالمعرفة لقد كدت تسكن إلى علوم العقل.

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: (واجْعِلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً) الإسراء: 80 قال لساناً ينطق عنك لاعن سواك وفضل العلم بالله عزّ وجلّ والعلم بالإيمان وعلم اليقين على العلم بالأحكام والقضايا كفضل المشاهدة على الخبر، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة، وفي لفظ آخر: ليس الخبر كالمعاين، وقد روى عياض بن غنم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في تفسير قوله عزّ وجلّ: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُر) (عِلْمَ الْيَقينِ) التكاثر: 1 - 5، كرأي العين، وفي هذا الخبر أن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سراً من خوف عذابه أقدامهم في الأرض وقلوبهم في السماء أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة يمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة، فالفتيا هي الأخبار والاستفتاء هو الاستخبار، ومنه قوله تعالى: (فاسْتفتِهِمْ) الصافات: 11 وقوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ) النساء: 127 أي يستخبرونك، فعلم الخبر قد يدخله الظن والشك والمشاهدة ترفع الظن وتزيل الشك كما قال تعالى: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى) النجم: 11 فأثبت الرؤية للقلب بالعين فرؤية القلب هو اليقين وذو القلب هو الموقن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى باليقين غنى ففي علم اليقين غنية عن جميع العلوم لأنه حقيقة العلم وخالصه وليس في جميع العلوم غنى عن علم اليقين ولأن الفقر بالشك والحاجة إلى اليقين في علم التوحيد وعلم الإيمان أشد من الفقر بالحاجة إلى علوم الفتيا وغيرها فلذلك صار الغني باليقين أعظم من الاستغناء بسائر العلوم ففي هذا العلم مثل من فاتحة الكتاب إلى سائر القرآن.

كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتحة الكتاب تجزي من كل القرآن وليس القرآن كله يجزي من فاتحة الكتاب، فكذلك مثل العلم بالله عزّ وجلّ إلى العلم بما سواه، ففي العلم بالله تعالى عوض من كل العلوم، وليس في سائر العلوم عوض من العلم بالله عزّ وجلّ من حيث كان في الله تعالى عوض به عن كل ما سواه، وكل علم موقوف على معلومه فعلم اليقين معلومه الله تعالى ففضله كفضل الله تعالى على ما سواه، وقد قال بعض الحكماء في معنى ما ذكرناه: من عرف الله تعالى فماذا جهل ومن جهل الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياء لأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياءلأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى والدعوة إليه والاقتداء بهم في أعمال القلوب، وقد قال الله تعالى: (ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعا إلى الله وَعَمِل صالحِاً) فصلت: 33، وكما قال تعالى: (أُدْعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بالْحِكْمَةِ) النحل: 125، وكما أمره بالدعاء وأشرك معه أتباعه في الدعاء إلى الله تعالى لا في البصيرة فقال تعالى: (قُلْ هذِهِ سبيلي أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ أنا وَمَنِ اتَّبعني) يوسف: 108، ويحشرون يوم القيامة مع الأنبياء كما قال تعالى: (فأُولئكَ مع الَّذينَ أنْعَمَ الله عليْهِمْ مِن النَّبِيّين) النساء: 69، وما قال تعالى: (وَجيء بالَّنبِيّينَ والشُّهداءِ) الزمر: 69، ثم فسره فقال بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء.

وقد روينا معناه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الأنبياء وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل وعلماء الدنيا يحشرون مع الولاة والسلاطين، وقد قال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين، وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي من علماء أهل الدنيا ومن سادة القضاة وعقلائهم وكان مؤاخياً لأبي الحسن بن أبي الورد، وكان هذا من أهل المعرفة فلما ولّى إسماعيل القضاء هجره ابن أبي الورد ثم إنه اضطر إلى أن دخل عليه في شهادة فضرب بن أبي الورد يده على كتف إسماعيل القاضي وقال: يا إسماعيل علم أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيرًا منه، فوضع إسماعيل رداءه على وجهه وجعل يبكي حتى بلّه، وعلماء الظاهر هم زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت وعلماء الظاهر أهل الخبر واللسان وعلماء الباطن أرباب القلوب والعيان.

وقال بعض العلماء: لما خلق الله تعالى اللسان قال هذا معقل خبري إن صدقني نجيته ولما خلق الله تعالى القلب قال هذا موضع نظري إن صفا لي صافيته، وقال بعض الخلف: الجاهل ينجو بالعلم والعالم ينجو بالحجة والعارف ينجو بالجاه، وقال بعض: العارفين: علم الظاهر حكم وعلم الباطن حاكم، والحكم موقوف حتى يجيء الحاكم يحكم فيه، وقد كان علماء الظاهر إذا أشكل عليهم العلم في مسألة لاختلاف الأدلة سألوا أهل العلم بالله لأنهم أقرب إلى التوفيق عندهم وأبعد من الهوى والمعصيةمنهم: الشافعي رحمه الله تعالى كان إذا اشتبهت عليه المسألة لاختلاف أقوال العلماء فيها وتكافؤ الاستدلال عليها رجع إ لى علماء أهل المعرفة فسألهم قال: وكان يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يجلس الصبي بين يدي المكتب ويسأله كيف يفعل في كذا وكيف يصنع في كذا فيقال له مثلك يا أبا عبد الله في علمك وفقهك تسأل هذا البدوي فيقول: إن هذا وفق لما علمناه، وكان الشافعي رحمه الله قد اعتلّ علة شديدة وكان يقول: اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه فكتب إليه المعافري من سواد مصر: يا أبا عبد الله لست وإياك من رجال البلاء فنسأل الرضا الأولى بنا أن نسأل الرفق والعافية، فرجع الشافعي رحمه الله عن قوله هذا، وقال: أشتغفر الله تعالى وأتوب إليه، فكان بعد ذلك رحمه الله يقول: اللهم اجعل خيرتي فيما أحب وقد كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رضي الله عنهما يختلفان إلى معروف بن فيروز الكرخي رحمهم الله ولم يكن يحسن من العلم والسنن ما يحسناته فكانا يسألانه، وقد روي في الخبر قيل: يا رسول الله كيف نصنع إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله فقال سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم ولا تقضوا فيه أمراً دونهم.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه: فإن جاءك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله قال: أقضي فيه بما قضى الصالحون فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، وفي بعضها اجتهد رأيي وحدثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي فقال: نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين، قال: فلما وليت سمعته يقول جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر، وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول هو كتب الحديث ومعرفة الآثار والسنن فإذا أنمت رددت إلى الأصل فقد انحططت عن مرتبة الناقدين ونزلت من درجة العارفين وفاتك مزيد اليقين والإيمان.

وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: كان الناس إذا طلبوا العلم عملوا فإذا عملوا أخلصوا فإذا أخلصوا هربوا وقال آخر: العالم إذا هرب من الناس فاطلبه وإذا طلب الناس فاهرب منه، وقال أبو محمد: سهل العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقال ذو النون: يقول اجلس إلى من تكلمك صفته ولا تجلس إلى من يكلمك لسانه، وقد كان الحسن قبله يقول: جالس من تكلمك أعماله ولا تجالس من يخاطبك مقاله، وقد كان طائفة يصحبون كثيراً من أهل المعرفة للتأدب بهم والنظر إلى هديهم وأخلاقهم إن لم يكونوا علماء لأن التأديب يكون بالأفعال والتعلّم يكون بالمقال، ومن أبلغ ما سمعت منهم في هذا المعنى ما قال بعض الحكماء: وعظ واحد لألف بفعل أنجح فيهم وأوقع من وعظ ألف لواحد بقول، وكان سهل يقول: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل هباء إلا الإخلاص، وقال مرة: الناس موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين، والعاملون مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يختم له به ولم يكن العالم عند العلماء من كان عالماً بعلم غيره ولا حافظاً لفقه سواه، هذا كان اسمه راوية وواعياً وحاملاً وناقلاً.

وقد كان أبو حازم الزاهد يقول: ذهب العلماء وبقيت علوم في أوعية سود، وقد كان الزهري يقول: كان فلان وعاء للعلم وحدثني فلان وكان من أوعية العلم ولا يقول كان عالماً، وكذلك جاء الخبر: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وكانوا يقولون حماد الراوية يعنون أنه كان راوياً ودخول الهاء في الاسم للمبالغة في الوصف كما يقال علاّمة ونسّابة، وإنما كان العالم عندهم الغني بعلمه لا بعلم غيره وكان الفقيه فيهم هو الفقيه بفقه علمه وقلبه لا بحديث سواه، كما جاء في الأثر: أي الناس أغنى؟ قال: العالم الغني بعلمه إن احتيج إليه نفع وإلا اكتفى عن الناس بعلمه لأن كل عالم بعلم غيره فإنما صار عالماً بمجموعه، فمجموعه هم العلماء وكل فاضل بوصف سواه فموصوفه هم الفضلاء، فإذا تركهم وانفرد سكت، فلم يرجع إلى علم لنفسه يختص به فصار في الحقيقة موصوفاً بالجهل واصفاً لطرائق أهل الفضل موسوماً بعلم السمع والنقل فمثل العالم بعلم غيره مثل الواصف لأحوال الصالحين العارف بمقامات الصديقين ولا حال له ولا مقام فليس يعود عليه من وصفه إلا الحجة بالعلم والكلام، وسبق العارفون بالله في الحجة بالأعمال والمقام، فمثله كما قال الله تعالى: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الأنبياء: 18، وكقوله عزّ وجلّ: (كُلَّما أضَاءَ لهُمْ مَشَوْا فيهِ وإذا أَظْلمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) البقرة: 20 لا يرجع إلى بصيرة فيه بما اشتبه من ظلمات الشبه عليه مما اختلف العلماء فيه ولا يتحقق بوجد منه فيه يجده عن حال ألبسها بوجده وإنما هو متواجد بوجد غيره فغيره هو الواجد وشاهد على شهادة سواه، فالسوي هو الشاهد، وقد كان الحسن يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يعبأ بصاحب رواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أيضاً: من لم يكن له عقل يسومه لم تنفعه كثرة مروياته للحديث وقد أنشدنا لبعض الحكماء في معنى ذلك:

العلم علمان فمصنوع ومطبوع ... ولا ينفع مجموع إذا لم يك مصنوع

كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع

وكان الجنيد رحمه الله كثيراً ينشد:

علم التصوّف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف

وليس يعرفه من ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف

لأن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس وانتحاء قوله والحكاية له في كل شيء والتفقه على مذهبه محدث لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرن الأول والثاني، وهذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين ومائة من التاريخ وبعد وفاة كل الصحابة وعلية التابعين، يقال إن أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف من التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس بمكة ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سنناً منثورة مبوّبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس رضي الله عنه في الفقه ثم جمع ابن عيينة كتاب الجوامع في السنن والأبواب وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن وجامع سفيان الثوري الكبير رضي الله عنه في الفقه والأحاديث، فهذه من أوّل ما صنف ووضع من الكتب بعد وفاة سعيد بن المسيب وخيار التابعين وبعد سنة عشرين أو أكثر ومائة من التاريخ فكان العلماء الذين هم أئمة هؤلاء العلماء من طبقات الصحابة الأربعة ومن بعد موت الطبقة الأولى من خيار التابعين هم الذين انقرضوا قبل تصنيف الكتب وكانوا يكرهون كتب الحديث ووضع الناس الكتب لئلا يشتغل بها عن القرآن وعن الذكر والفكر، وقالوا: احفظوا كما حفظنا ولئلا يشتغل الناس عن الله تعالى برسم ولا وسم كما كره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلية الصحابة تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وخشوا اشتغال الناس بالصحف واتكالهم على المصاحف فقالوا: نترك القرآن يتلقاه الناس بعضهم من بعض تلقناً بالتلقين والإقراء ليكون هو شغلهم وهمتهم وذكرهم حتى أشار عليه عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة أن يجمع القرآن في المصاحف لأنه أحفظ له وليرجع الناس إلى المصحف لما لا يؤمن من الاشتغال بأسباب الدنيا عنه فشرح الله تعالى صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في الصحف المتفرقة في المصحف الواحد، وكذلك كانوا يتلقون العلم بعضهم عن بعض ويحفظونه حفظاً هذا لطهارة القلوب من الريب وفراغها من أسباب الدنيا وصفائها من الهوى وعلوّ الهمة وقوّة العزيمة وحسن النية ثم ظهرت بعد سنة مائتين وبعد تقضي ثلاثة قرون في القرن الرابع المرفوض مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأي والمعقول والقياس وذهب علم المتقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى وإلهام الرشد واليقين فخلف من بعدهم خلف فلم نزل في الخلف إلى هذا الوقت ثم اختلط الأمر بعد هذا التفصيل في زماننا هذا، فصار المتكلمون يدعون علماء والقصاص يسمون عارفين والرواة والنقلة يقال علماء من غير فقه في دين ولا بصيرة في يقين.

وروينا عن ابن أبي عبلة قال: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني بعد الصبح فيتكلم علينا فاحتبس ذات غداة فتكلم رجل من المؤذنين لا بأس به بمثل ما كان يتكلم به عطاء فأنكر صوته رجاء بن أبي حيوة فقال: من هذا المتكلم؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت فإنه يكره أن يسمع العلم إلا من أهله، وكذلك كانوا يقولون أبى أهل العلم بالله تعالى أن يسمعوا هذا العلم إلا من أهله الزاهدين في الدنيا وكرهوا أن يسمعوه من أبناء الدنيا وزعموا أنه لا يليق بهم، واعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالف زيداً في الفقه وأبياً في القرءة.

وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ به ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال قالوا: ونقول ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف الفقهاء أي فيختار منها على علمه الأحوط للدين والأقوى باليقين، فلو كانوا يستحبون أن يفتى العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، ومن ثم قيل: إن العبد يسأل غداً فيقال ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له فيما علم غيرك.

وقد قال الله تعالى: (وقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْم والإيمانَ) الروم: 56 ففرق بينهما يدل به أن من أوتي إيماناً أوتي علماً كما أن من أوتى علماً نافعاً أوتي إيماناً وهذا أحد الوجوه في معنى قوله سبحانه: (كتبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدهَهُمْ بِروُحٍ مِنْه) المجادلة: 22 أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه وتكون الهاء عائدة إلى الإيمان وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنّة فإنه أداة الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة، فأما الجاهل والعامي الغافل فله أن يقلد العلماء ولعالم عموم أيضاً أن يقلد عالم خصوص وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه ممن جعل على علم باطن من أهل القلوب لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ من علم الألسنة والفتيا إلى علم القلوب ولم يرد أهل القلوب في علمهم الذين يختصون به إلى المفتين لأنهم يأخذون من المفتين فتياهم ثم يجدون في قلوبهم حيكاً وحزازة فيلزمهم فتيا القلب لقوله: استفتِ قلبك بعد قوله وإن أفتاك المفتون مع قوله الإثم حزاز القلوب إلى قوله ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك وأفتوك ثم درس معرفة هذا فجهل فصار كل من نطق بكلام وصنعه غرب على السامعين لا يعرف حقه من باطله سمي عالماً وكل كلام مستحسن زخرف رونقه لا أصل له يسمّى عالماً لجهل العامة بالعلم أي شيء هو ولقلة معرفة السامع بوصف من سلف من العلماء كيف كانوا فصار كثير من متكلمي الزمان فتنة المفتون وصار كثير من الكلام والرأي والمعقول الذي حقيقته جهل كأنه علم عند الجاهلين فلا يفرقون بين المتكلمين والعلماء ولا يميزون بين العلم والكلام، وقد قلنا: إن خصوص الجهال يشبهون بالعلماء فيشتبهون على مجالسيهم في الحال، فأعلم الناس في زمانك هذا أعرفهم بسيرة المتقدمين وأعلمهم بطرائق السالفين ثم أعلمهم بالعلم أي شيء هو وبالعالم من هو من المتعلم والمتعالم وهذا كالفرض على طالبي العلم أن يعرفوه لأنه لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة وجب عليهم أن يعرفوا أي شيء هو العلم حتى يطلبوه إذ لا يصح طلب ما لا يعرف ثم وجب عليهم من هذا أن يعرفوا العالم من هو ليطلبوا عنده العلم إذ العلم عرض ولا يقوم إلا بجسم فلا يوجد إلا عند أهله كما قيل لعلي كرم الله وجهه وقيل له إنك خالفت فلاناً في كذا فقال خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكما قيل لسعد أن ابن المسيب يقرأ ما ننسخ من آية أو ننسأها فقال: إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب ولا على أبيه ثم قرأ أو ننسها فأعلم الناس في هذا الوقت وأقربهم من التوفيق والرشد أتبعهم لمن سلف وأشبههم بشمائل صالحيّ الخلف، كيف وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل من أعلم الناس؟ فقال: أعرفهم بالحق إذا اشتبهت الأمور.

وقال بعض السلف: أعلم الناس أعرفهم باختلاف الناس، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: محدثان أحدثا في الإسلام، رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار اعرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم أن رجلاً أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعو إلى دنياه وصاحب هوى يدعو إلى هواه قد عصمه الله تعالى منهما يجيء إلى السف الصالح يسأل عن فعالهم ويقتص آثارهم لتعرض لأجر عظيم فكذلك فكونوا وكما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وقد جاء مسنداً إنما هما اثنان الكلام والهدى فأحسن الكلام كلام الله تعالى وأحسن الهدى هدى محمد لله ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ألا كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، وفي خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رويناها عن أبان عن أنس: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة وجانب أهل الذل والمعصية، طوبى لمن ذلّ في نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة، وقال بعض الأدباء كلاماً منظوماً في وصف زماننا هذا كأنه شاهده:

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر

وبقيت في خلف يزكي بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور

أبنيّ إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر فطناً بكل مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر

فسل الفقيه تكن فقيهاً مثله ... من يسعَ في أمر بفقه يظفر

وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل، وقال في وصف زمانه باليقين وفي وصف زماننا بالشك فقال: إنكم في زمان خيركم في المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف يعني لكثرة الشبهات، وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا قال إن معروفكم هذا منكر زمان قد مضى، وإن منكركم معروف زمان قد يأتي وإنكم لن تزالوا بخير ما عرفتم الحق، وكان العالم فيكم غير مستخف وكان يقول أيضاً: يأتي في آخر الزمان قوم يكون العالم فيهم بمنزلة الحمار الميت لا يلتفتون إليه يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم المؤمن فيهم أذل من الأمة، وفي حديث علي كرّم الله وجهه يأتي على الناس زمان ينكر الحق تسعة أعشارهم لا ينجو منهم يومئذ إلا كل مؤمن نومة يعني صموتاً متغافلاً أولئك مصابيح العلم وأئمة الهدى وليسوا بالمذاييع البذر يعني المتكلمين كثيراً المتظاهرين بالكلام افتخاراً، وفي خبر: يأتي على الناس زمان من عرف فيه الحق نجا قيل فأين العمل؟ قال: لا عمل يومئذ لا ينجو فيه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا وفي بعضها بعشر ما يعلم، وعن بعض الصحابة أنتم اليوم في زمان من ترك منكم عشر ما يعلم هلك ويأتي عيلكم زمان من علم فيه بعشر ما يعلم نجا، وقال بعض الخلفاء: يأتي عليكم زمان يكون أفضل العلم الصمت وأفضل العمل النوم يعني لكثرة المنافقين بالشبهات فصار الصمت للجاهل علماً ولكثرة العاملين بالشهوات فصار النوم عبادة البطال ولعمري إن الصمت والنوم أدنى أحوال العالم وهما أعلى أحوال الجاهل وكان يونس بن عبيد يقول أصبح اليوم من يعرف السنة غريباً وأغرب منه من يعرفه يعني طريقة السلف، يقول: فمن يعرفه عرف طريق من مضى وهو غريب أيضاً لأنه قد عرف غريباً، وقال حذيفة المرعشي: كتب إلى يوسف بن أسباط ذهب الطاعة ومن يعرفها وكان أيضاً يقول ما بقي من يؤنس به.

وقال: ما ظنك بزمان مذاكرة العلم فيه معصية قيل ولم ذلك؟ قال: لأنه لا يجد أهله وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إنكم لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وقيل فيكم الحق فعرف ويل لكم إذا كان العالم فيكم كالشاة النطيح، وقد كان للمتقدمين علوم يجتمعون عليها ويتفاوضونها بينهم قد درست في زماننا وكان للصالحين معان وطرائق يسلكونها ويسألون عنها قد ذهبت في وقتنا وكان لليقين والمعرفة مقامات وأحوال يتذاكرها أهلها ويطلبون أربابها قد عفت آثارها عندنا لقلة الطالبين لها ولعدم الراغبين فيها وفقد العلماء بها وذهاب السالكين في طرقها منها طلب الحلال وعلم الورع في المكاسب والمعاملات وعلم الإخلاص وعلم آفات النفوس وفساد الأعمال وعلم نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق القلب ونفاق النفس وبين إظهار النفس شهوتها واخفائها ذلك والفرق بين سكون القلب بالله وسكون النفس بالأسباب والفرق بين خواطر الروح والنفس وبين خاطر الإيمان واليقين والعقل وعلم خلائق الأحوال وأحوال طرائق العمال وتفاوت مشاهدات العارفين وتلوينات الشواهد على المريدين وعلم القبض والبسط والتحقيق بصفات العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية وتباين مقامات العلماء إلى غير ذلك ممّا لا نذكره من علم التوحيد ومعرفة معاني الصفات وعلوم المكاشفة بتجلي الذات وإظهار الأفعال الدالة على معاني الصفات الباطنة وظهور المعاني الدالة على النظر والإعراض والتقريب والإبعاد والنقص والمزيد والمثوبة والعقوبة والاختباء والاختيار، وقد ذكرنا من جميع هذه المعاني فصولاً ورسمنا جملاً وأصولاً تنبه على فروعها وندل على أشكالها لمن وفق لتدبرها وأريد بتذكرها وجعل له نصيب منها.

وقال بعض علمائنا: أعرف للمتقدمين سبعين علماً كانوا يتحاورونها ويتعارفونها في هذا العلم لم يبق منها اليوم علم واحد يعرف، قال: وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من الأباطيل والدعاوى والغرور، وقد ظهرت وسميت علوماً لم تكن فيما مضى تعرف فهذا كالشراب الذي وصفه الله تعالى فقال: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) النور: 39، وكان الجنيد رحمه الله تعالى من قبله يقول: علمنا هذا الذي نتكلم فيه قد طوي بساطه منذ عشرين سنة وإنما نتكلم في حواشيه وكان يقول أيضاً قد كنت أجالس قوماً سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي وما بليت بالإنكار قط كنت أتقبلها وأحبها من غير أن أعرفها وكان أيضاً يقول كنا نتجارى مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما تعرف في وقتنا هذا ولا سألني عنها أحد، وهذا باب قد أغلق وردم، ولما صنف شيخنا أبو سعيد بن الأعرابي كتاب طبقات النساك ووصف أوّل من تكلم في هذا العلم وأظهره ثم من بعده من البصريين والشاميين وأهل خراسان إلى أن كان آخرهم البغداديين، وقال آخر: من تكلم في هذا صاحبنا جنيد القواريري وكانت له بصيرة فيه وحقيقة وحسن عبارة وما بقي بعده إلا من مجالسته غيظ، وقال مرة أخرى: ما بقي بعد جنيد إلا من يستحي من ذكره وقد كان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق ويتزينون بالكلام لتكون مواجيدهم لباسهم وحليتهم كلامهم ومعبودهم بطونهم، وقد كان حذيفة رضي الله عنه إذا سئل أي الفتن أشد فقال: إن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تأخذ لكثرة الشبهات كما كان سهل يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يصح لأحد توبة لأنه يفسد خبزهم وهم لا يصبرون عن الخبز يعني أن أول التوبة أكل الحلال وقد روينا في خبر يأتي على الناس زمان يضلون فيه دينهم فلا يعرفونه يصبح الرجل على دين ويمسي على دين يضل أمره على غير يقين وتسلب عقول أكثر أهل ذلك الزمان وأوّل ما يرفع عنهم الخشوع ثم الإجابة ثم الورع ويقال: أوّل ما يرفع من الناس الأُلْفة.

ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف

كان الناس قديماً إذا التقوا يقول أحدهم: لصاحبه ما خبرك وما حالك؟ يعنون بذلك ما خبر نفسك في مجاهدتها وصبرها وما حال قلبك من مزيد الإيمان وعلم اليقين ويريدون أيضاً ما خبرك في المعاملة لمولاك وما حالك في أمور الدنيا والآخرة هل ازددت أم انتقصت فيتذاكرون أحوال قلوبهم ويصفون أعمال علومهم ويذكرون ما وهب الله تعالى لهم من حسن المعاملة وما فتح لهم من غرائب الفهوم فكان هذا من تعديد نعم الله تعالى عليهم ومن جميل شكرهم ويكون مزيداً لهم في المعرفة والمعاملة، وقد كان بعضهم يقول: أكثر علومنا ومواجيدنا ما يعرفه بعضنا من بعض وما يخبر به أحدنا أخاه إذا التقينا فقد جهل هذا اليوم فترك، فهم إذا تساءلوا عن الخبر والحال إنما يريدون به أمور الدنيا وأسباب الهوى ثم يشكو كل واحد مولاه الجليل سبحانه وتعالى إلى عبده الذليل ويتسخط أحكامه ويتبرأ بقضائه وينسى نفسه وما قدمت يداه فمثله كما قال تعالى: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها وَنسِيَ ما قَدَّمَتْ يداهُ) الكهف: 57، وكما قال تعالى: (إنّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود) العاديات: 6 قيل كفور بنعمته يعدد المصائب وينسى النعم كل ذلك جهالة بالله تعالى وغفلة عنه، ومنه قولهم: الآن كيف أصبحت وكيف أمسيت؟ هذا محدث، إنما كانوا إذا التقوا قالوا: السلام عليكم ورحمة الله.

وفي الخبر: من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه وإنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يدعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع، كان الرجل يلقى أخاه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون ويلقاه عشية فيقول كيف أمسيت منه لأن أحدهم كان إذا أصبح لم يمسِ وإذا أمسى لم يصبح، فبقي هذا إلى اليوم ونسي سببه وكان من عرف حدوثه من المتقدمين يكرهه، حدثونا عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال رجل لأبي بكر بن عياش: كيف أصبحت أو كيف أمسيت فلم يكلمه، وقال: دعونا من هذه البدعة قال: وقلت لبعض السلف: كيف أصبحت فأعرض عني وقال ما كيف أصبحت قل بالسلام.

وروى أبو معشر عن الحسن رضي الله عنه إنما كانوا يقولون السلام عليكم سلمت والله القلوب، فأما اليوم كيف أصبحت أصلحك الله كيف أمسيت عافاك الله، فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة ألا ولا كرامة فإن شاؤوا غضبوا علينا ومن ذلك ابتداء الرجل في عنوان الكتاب باسم المكتوب إليه وإنما السنة أن يبتدئ بنفسه فيكتب من فلان إلى فلان، قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: غبت غيبة فكتبت إلى أبي فابتدأت باسمه فكتبت إليّ يا بني إذا كتبت إليّ فابدأ بأسمك في الكتاب فإن ابتدأت بإسمي قبل اسمك لا قرأت لك كتاباً ولا رددت إليك جواباً، وكتب العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بنفسه وكتب من العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويقال أوّل من أحدثه زياد فعابه العلماء عليه وعدّوه من إحداث بن أمية، وقد بقي سنة هذا في كتب الخلفاء والأمراء إلى اليوم على نحو ما مضى فهم يقدمون أسماءهم في كتبهم ومن الأحداث قول الرجل إذا جاء منزل أخيه يا غلام يا جارية فيه مخالفة لأمر الله عزّ وجلّ وأمر رسوله عليه السلام، قال الله عزّ وجلّ: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ بُيُوتِكُمْ حتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسَلِّمُوا على أهْلِها) النور: 27قال أهل التفسير: الاستئناس الدق أو التنحنح أو الحركة حتى يؤذن بذلك أن وراءها إنساناً وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جاء أحدكم منزل أخيه فليسلم ثلاثاً فإن أذن له فليدخل وإلا فليرجع وكان السلف يقرع أحدهم باب أخيه ثم يسلم ثلاثاً يقف بعد كل تسليمة هنيهة فإن أذن له دخل وقد لا يحب صاحب المنزل أن تدخل عليه في ذلك الوقت لسبب عذر له فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله ارجع عافاك الله فإني على شغل فيرجع عنه غير كاره لرجوعه ولا يؤثر ذلك عليه في نفسه، وقد يكون قوله ارجع أحب إليه لأنه أفضل له رجاء الإجابة والتزكية لقوله تعالى: (وإِنْ قيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) النور: 28، فربما رجع في اليوم مرتين أو ثلاثاً بعد رد صاحبه له وهو يعود لأن ذلك لم يؤثر في قلبه شيئاً وهذا لو فعل ببعض الناس من أهل عصرنا هذا لكرهه، ولعل أن لا يعود يومه ذلك فأمّا العلماء فقد كان بعض الناس لا يستأذن عليهم إلا لمهم لا بدّ منه بل كانوا يقعدون على أبوابهم وفي مساجدهم ينتظرون خروجهم لأوقات الصلاة إجلالاً للعلم وهيبة للعلماء.

وحدثونا عن أبي عبيد قال: ما قرعت على عالم قط بابه كنت أجيء إلى منزله فأقعد على بابه انتظر خروجه من قبل نفسه أتأوّل قول الله عزّ وجلّ: (وَلَوْ أنَّهُمْ صبَرُوا حتّى تَخْرُجَ إليْهِمْ لكانَ خيْراً لَهمْ) الحجرات: 5، وقد روينا مثل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في موضعه من العلم والشرف أن المار كان يمرّ به وهو قائم على باب منزل الرجل من الأنصار تسفي عليها الرياح فيقول: ما يجلسك ههنا يا ابن عم رسول الله؟ فيقول: انتظر خروج صاحب المنزل، فيخرج الرجل فيقول ابن عم رسول الله: لو أرسلت إليّ لجئتك فيقول: لا أنا كنت أحق أن آتيك، فيسأله عما يريد من حديث بلغه أنه يرويه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن هو سمعه منه، ومن ذلك استقصاء الرجل في المسألة عن حال أخيه وخبره، وقد كره ذلك، تزوّج سلمان الفارسي رضي الله عنه فلما دخل على أهله خرج إلى الناس من الغد فقال له رجل: كيف أنت يا أبا عبد الله قال بخير أحمد الله تعالى قال: كيف حالك وكيف بت البارحة.

وفي لفظ آخر كيف وجدت أهلك فغضب سلمان وقال: لم يسأل أحدكم فيخفي المسألة وليسأل عما وراء البيوت يكفي أحدكم أن يسأل عن ظاهر الأمر وأما سليمان بن مهران الأعمش فإن رجلاً قال له في منزله: كيف أنت يا أبا محمد؟ قال: بخير قال: كيف حالك؟ قال في عافية، قال: كيف بت البارحة؟ فصاح: يا جارية انزلي بالفراش والمخاد فأنزلت بذلك فقال: افشي واضطجعي حتى أضطجع إلى جنبك لنرى أخانا كيف بت البارحة وكان يقول يلقى أحدهم أخاه فيسأله عن كل شيء حتى عن الدجاج في البيت ولو سأله درهماً ما أعطاه وكان من مضى من السلف إذا لقي أخاه لا يزيد على قولّ: كيف أنتم أو حياكم الله بالسلام، ولو سأله شطر ماله قاسمه، ومن ذلك قول الرجل لأخيه إذا لقيه ذاهباً في الطريق إلى أين تريد أو من أين جئت فقد كره هذا وليس من السنة ولا الأدب وهو داخل في التجسس والتحسس لأن التحسس في الآثار والتجسس في الأخبار وهذا السؤال عن ذلك يجمعهما وقد لا يحب الرجل أن يعلم صاحبه أين يذهب ولا من أين جاء.

وقد كره ذلك مجاهد وعطاء قالا: إذا لقيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين يذهب فلعله أن يصدقك فتكره ذلك ولعله أن يكذبك فتكون قدحملته عليه وقد كانوا يكرهون بيع المصاحف وشراءها وكان بعضهم لبيعها أكره منه لشرائها، وقد ابتدع الناس علوماً لم تكن تعرف فيما سلف منها: علم الكلام والجدل وعلوم المقايس والنظر والإستدلال على سنن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدلة الرأي والمعقول ومنها إيثار علم العقل والرأي والقياس على ظواهر القرآن وعلى الأخبار ومنها: إظهار الإشارات بالمواجيد من غير علومها ولا بيان تفصيلها، وفي ذلك تحيير للسامعين وإضلال للعاملين وإنما كان العلماء بهذا العلم يظهرون علوم المواجيد ويخفون الإشارة بالوجد فيظهرون للناس ما ينفع ويخفون ما يضر ولأن المواجيد أحوال قلوبهم فكتمها أفضل وعلومها أنصبة المريدين والعاملين فإظهارها هو البغية لهم فأظهروه وأخفوا وجدهم لأنه سرّ لهم فسلموا من التصنع والدعوى وأعطوا السامعين نصيبهم ومنعوهم ما ليس لهم فعدلوا في الوصفين معاً ففضلوا في الحالين جميعاً فجهل هذا الآن فأظهر ضده وكان إلى الضرر أقرب ومن السلامة أبعد، فمن لم يحسن التفصيل ولم يرزق العبارة فإنه يحسن الصمت فهو واسع إن من لم يتكلم بعلم على سنة فسكوته أقرب له إلى الله تعالى فمثله في ذلك كما قال الله عزّ وجلّ: (ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاّ ما آتاها) الطلاق: 7، ومما ظهر إظهار علوم المعرفة بمعاني الرغبة ليتميزوا عن الفقراء تكبراً منهم فلا يجعلون مجعلهم فليصرف إليهم من الأسباب على قدر أنسهم وأحوالهم، وهذا من أكبر أبواب الدنيا وأضره على مريدي الآخرة وألطفه تمويهاً في الدين ومنها الكلام في التوحيد بمخالفة علم الشرع وأن الحقيقة تخالف العلم والحقيقة هي علم وهي أحد طرقات الشريعة وعلم الشرع عنها فكيف تنافيها وهي التي أوجبته وإنما هي عزيمة وضيقة وعلم الظاهر هو الرخصة والسعة فمن تكلم في علم الباطن على غير قواعد العلم الظاهر وأصوله فذلك من الإلحاد في الشريعة والوليجة بين الكتاب والسنة.

وقد قال بعض العارفين: نظرت إلى هؤلاء الشاطحين فما وجدت إلا جاهلاً مغروراً أو خاسئاً حبوراً أو مستظهراً بلا شيء، ومنها الكلام في الدين بالوساوس والخطرات عن غير ردّ مواجيدها إلى الكتاب والسنّة والواجب معرفة تفصيلها، ونفى ما لم يشهد له الكتاب والسنّة منها، إذ في المواجيد ضلال وغرور وفي المشاهدات باطل وزور، مع دعواهم المحبة وإنكارهم الصفة التي جاءت بها السنّة وعن غير شهادة موصوف وادعائهم المعرفة من غير تعرف معروف وممّا أحدثوا السجع في الدعاء والتغريب فيه ولم يرد الكتاب به ولا نقل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة بل كانوا ينهون عن الاعتداء في الدعاء ويجتنبون محاوزة ما أخبر الله تعالى عن أوليائه من الأدعية الجامعة المختصرة المعروفة.

وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إياكم والسجع في الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وفي الخبر سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور، وسمع عبد الله بن مغفل ابنه يدعو بدعاء يغمق فيه فقال: يا بني إياك والحدث والاعتداء في الدعاء، وفي قوله عز وجلّ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتدينَ) الأعراف: 55، قيل في الدعاء: فالاعتداء في الدعاء هو ترك ما أخبر الله عزّ وجلّ عن أوليائه الصالحين من الدعاء بالمغفرة والرحمة والتوبة ومعنى ذلك من الدعاء المعروف والقول المشهور إلى التنطع والتعميق والتغريب والتدقيق، ويقال إن العلماء والأبدال لا يزيد أحدهم على سبع كلمات في الدعاء ووجدت تصديق ذلك في الكتاب إن الله تعالى ما أخبر عن عباده في الدعاء في مكان واحد أكثر من سبع دعوات، وهي التي في أخر سورة البقرة، وإلا إنما يخبر عنهم بالدعوتين والثلاث والأربع إلى الخمس في مواضع من الكتاب متفرقة.

ومرّ بعض السلف بقاصّ يدعو يسجع في دعائه ويتعمق فقال له: ويلك على الله تبالغ، أشهد لقد رأيت حبيباً العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفّقنا للخير، قال: والناس يبكون من كل ناحية وكنا نتعرف إجابة دعائه وبركته، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: سله بلسان الحاجة لا بلسان الحكمة، وقال الحسن: ادع بلسان الاستكانة والافتقار لا بالفصاحة والانطلاق، ومما أحدثوه أخذ القرآن بالإدارة وتنازع الاثنين الآية أو تلقي الرجلين للآيتين في مكان واحد بمنزلة الاختلاس والنهبة من غير خشوع للقرآن ولا هيبة، وقراءة القرآن تحتاج إلى حزن وسكون وخشوع، ومن ذلك أخذ المقرئ على الاثنين وليته قام بقراءة الواحد لسهو القلب كما قيل لإبراهيم الحربي إن فلاناً يأخذ على الاثنين فقال هاه يحتاج اثنان أن يأخذا على واحد، ومن البدع التلحين في القراءة حتى لا تفهم التلاوة وحتى يجاوز إعراب الكلمة بمدّ المقصور وقصد الممدود وإدغام المظهر وإظهار المدغم ليستوي بذلك التلاحن ولا يبالي باعوجاج الكم وإحالته عن حقيقته فهو بدعة ومكروه استماعه، قال بشر بن الحرث: سألت ابن داود الحربي أمر بالرجل يقرأ فأجلس إليه قال: يقول يطرب قلت: نعم، قال: لا هذا قد أظهر بدعته، ومن ذلك التلحين في الأذان وهو من البغي والاعتداء فيه، قال رجل من المؤذنين لابن عمر رضي الله عنهما: إني لأحبك في الله تعالى فقال له: لكني أبغضك في الله تعالى قال: يا أبا عبد الرحمن لم: قال لأنك تبغي في أذانك وتأخذ عليه أجراً، وكان أبو بكر الآجري رحمه الله يقول: خرجت من بغداد وما يحل لي المقام بها قد ابتدعوا في كل شيء حتى في قراء ةالقرآن وفي الأذان وكان يعني بذلك قراءة الإدارة والتلحين وقدم علينا مكة في سنة ثلاثين ومن جمل ما أحدث الخلف فخالفوا به سنن السلف أنهم شدّدوا في أشياء كان السلف يسهلون فيها وسهّلوا أشياء كان السلف يشدّدون فيها، فمثلهم في ذلك كالخوارج شدّدوا في الصغائر من الذنوب وسهّلوا في الآثار والسنّة وفي ترك مذهب الجماعة حتى فارقوهم فممّا شدّد فيه الخلف مما كان السلف يسهّلونه كتب الأحاديث من أنواع طرقها وتتبع الغرائب من طرقاتها وتحري الألفاظ فيها.

وقد قال ابن عون: أدركت ثلاثة يرخصون في المعاني: إبراهيم، والشعبي، والحسن رحمهم الله تعالى، وعن جماعة من علماء السلف والصحابة التوسعة في معاني الأحاديث وإن لم يؤد ألفاظها ومن ذلك تجريد الحروف وتحرّي المقرئ الواحد في جميع اختياره حتى كأنه فرض عليه، ومن ذلك التدقيق في القياس والنظر والتبحّر في علوم النحو والعربية، كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أعربنا في الكلام فلم نلحن ولحنّا في الأعمال فيا ليتنا لحنّا في الكلام وأعربنا في الأعمال.

وذكرت العربية عند القاسم بن المخيمرة فقال: أوّلها كبر وآخرها بغي، وقد قال بعض السلف: النحو يذهب الخشوع من القلب، وقال آخر: من أحب أن يزدري الناس كلهم فليتعلّم العربية وشدّدوا في الطهارة بالماء وتنظيف الثياب وكثرة غسلها من عرق الجنب ولبس الحائض ومن أرواث ما يؤكل لحمه وأبواله وغسل اليسير من الدم ونحو ذلك وكان السلف يرخصون في هذا كله ومما سهّلوه مما كان السلف يشددون فيه أمر المكاسب وترك التحرّي فيها والكلام فيما لا يعني والخوض في الباطل والغيبة وا لنميمة والاستماع إليهما والعقد على البلاغات وسوء الظن لأجلها، وهو اشتراك في الغيبة والنميمة، وكل بلاغة تزيد وتنقص إن كان شراً ازددت فيه وإن كان خيراً نقصت منه وسهلوا في النظر إلى الزور واللهو ومجالسة البطالين والمشي في أسباب الهوى والتعصب وشدة الحرص في الدنيا، وهذا كله كان السلف يشدّدون فيه ومما أحدثوا دخول النساء الحمام من غير ضرورة ودخول الرجل بغير مئزر وهو فسق، وسئل إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى عمن يشرب النبيذ ولا يسكر أيصلّى خلفه؟ قال: نعم، قيل: فمن دخل الحمام بغير مئزر فقال لا يُصلي خلفه، هذا لأن شرب النبيذ يختلف فيه إذا لم يسكر ودخول الحمام بغير مئزر محرم بإجماع، وكان بعض العلماء يقول: يحتاج داخل الحمام إلى مئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته وإلا لم يسلم في دخوله، وكان ابن عمر يقول: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، ومن المنكر في الحمام تولي القيم لعورة الرجل المسلم في الأطلاء بالنورة، وقد كان من هدي العلماء في قعودهم أن يجتمع أحدهم في جلسته فينصب ركبتيه ومنهم من يقعد على قدميه ويضع مرفقيه على ركبتيه كذلك كان شمائل كل من تكلم في هذا العلم خاصة من عهد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن زمن الحسن البصري وهو أوّل من أظهر هذا العلم وفتق الألسن به إلى وقت أبي القاسم الجنيد قبل أن تظهر الكراسي، وكذلك روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقعد القرفصاء ويحتبي بيديه، وفي رواية أخرى: أنه كان يقعد على قدميه ويجعل مرفقيه على ركبتيه وأوّل من قعد على كرسي من أهل هذا العلم: يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى بمصر، وتبعه أبو حمزة ببغداد، فعاب الأشياخ عليهما ذلك، ولم يكن ذلك من سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة واليقين إنما كان يجلس متربعاً، النحويون واللغويون وأبناء الدنيا من العلماء المفتين وهي جلسة المتكبرين، ومن التواضع الاجتماع في الجلسة.

ذكر تفصيل العلوم

ومعروفها وقديمها ومحدثها ومنكرها

اعلم أن العلوم تسعة: أربعة منها سنّة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف، فأما الأربعة المعروفة فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم السنن والآثار، وعلم الفتاوى والأحكام، وأما الخمسة المحدثة، فالنحو والعروض، وعلم المقاييس، الجدل وفي الفقه، وعلم المعقول بالنظر، وعلم علل الحديث وتطريق الطرقات فيه وتعليل الضعفاء وتضعيف النقلة للآثار فهذا العلم من المحدث إلا أنه علم لأهله فيسمعه أصحابه منهم، وقد كانوا يرون القصص بدعة وينهون عنه ويكرهون مجالسة القصّاص، وقال بعض العلماء نعم الرجل فلان لولا أنه يقصّ، وقال بعض هذه الطائفة: مثل أصحاب الحكايات في أهل المعرفة مثل القصّاص في الفقهاء، وقال آخر: مثل القصّاص في العلماء مثل أهل السواد في أهل المدن، فأما أكل الدنيا بالدين وأخذها على الصلاح وبيع العلم بالدنيا والتصنع والتزين للعموم فمن قبيح ما أحدث، وهو أظهر من أن يدل على فساده عند من عرف ظاهر العلم، وقد سمّى هؤلاء في زماننا هذا الجاهلون بالعلم علماء وجعلهم الناقصون عن الفضل فضلاء لقلة معرفتهم بطريق المتقدمين وعدم بصيرتهم بحقيقة علم الدين، وأعلم أن الكلام ينقسم عندنا سبعة أقسام: العلم منه قسم واحد، وسائر الستة لغو مطرح يلتقطه من لا يعرفه ولا يفرق بين العلم والجهل، والعرب تقول: لكل ساقطة لاقطة ولكل قائلة ناقلة، فالستة إفك وسفه وخطأ وظنّ وزخرف ووسوسة، فهذه أسماؤها عند العلماء يفصلون ذلك بما فصل الله تعالى لهم من بيانه واستحفظهم من كتابه وجعلهم شهداء على دينه وعباده، فالقسم السابع من الكلام هو ما عدا هذه الستة، ولم يقع عليه اسم منها مذموم، فهو علم وهو نصّ القرآن والسنة أو ما دلاّ عليه، واستنبط منهما أو وجد فيهما اسمه ومعناه من قول وفعل، والتأويل إذا لم يخرج عن الإجماع داخل في العلم والاستنباط إذا كان مستودعاً في الكتاب يشهد له المجمل ولا ينافيه النصّ فهو علم، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعاً للهوى.

وقد جمع الله تعالى بين رونق العقل ومتعة الدنيا بتسمية الزخرف فقال تعالى: (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَىْها يتّكئون) الزخرف: 34 وزخرفاً وكما قال زخرفاً من القول غروراً فذهاب الجاهل بالاستحسان لزخرف القول من المموّه من غلّ الدنيا كمتعة الجاهل من أبناء الدنيا بزخرف الذهب ذاهباً عن حقيقة الأمر والزخرف ما يموّه على الذهب، فيشبه به يحسبه الجاهل والصبي عين الذهب، كذلك الزخرف من القول: ما يموّه ويشبه على العلم يحسبه المستمع من الجهّال علماً، فكذلك جمع بينهما في التسمية الزخرف، وقد قيل إن الزخرف هو الذهب فعلى هذا شبّه قول الغرور بالذهب الذي يذهب بقاؤه وتقلّ حقيقته عند الربانيين وأهل الحقيقة الزاهدين إذ شبهه الأنبياء والصديقون كالحجر والمدر، وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: تركوا العلم وأقبلوا على الغراس، ما أقل العلم فيهم والله المستعان، وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال في أكثر الأمور أدركتهم يقولون مستحب ومكروه، وكان مالك كثير التوقف في الأجوبة إذا سئل ويكثر أن يقول لا أدري سل غيري وقال رجل لعبد الرحمن بن مهدي ألا ترى إلى قول فلان في العلم حلال وحرام وقطعه في الأمور بعلمه يعني رجلاً من أهل الرأي وإلى قول مالك: إذا سئل أحسب، فقال عبد الرحمن: ويلك قول مالك أحسب أحسب أحبّ إليّ من قول فلان: أشهد أشهد، وكان هشام بن عروة يقول: لا تسألوهم اليوم عمّا أحدثوا فإنهم قد أعدوا له جواباً، ولكن اسألوهم عن السنن فإنهم لا يعرفونها، وكان الشعبي رحمه الله تعالى إذا نظر إلى ما أحدث الناس من الرأي والهوى يقول: لقد كان القعود في هذا المسجد أحبّ إليّ مما يعدل به فمذ صار فيه هؤلاء المراؤون فقد بغضوا إلي الجلوس فيه ولأن أقعد على مزبلة أحب إليّ من أن أجلس فيه وكان يقول ما حدثوك عن السنن والآثار فخذ به وما حدثوك عما أحدثوا من رأيهم فامخط عليه، وقد قال مرة: فبل عليه، وقد كان السلف يستحبون العي والبله عن علوم المعقول، وقد جعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الإيمان إذ قرنه بالحياء فقال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق.

وقال عليه السلام: أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ البليغ الذي يتخلل الكلام بلسانه كما يتخلل الباقر الخلا بلسانها يعني الحشيش الرطب، وقال في حديث آخر: العيّ عن اللسان لا عيّ القلب، وقال: إن الله عزّ وجلّ كره لكم البيان كل البيان فصار الفقه إنما هو فقه القلب عن الرب سبحانه وتعالى وصار فقه اللسان بالبيان إنما هو عيّ القلب عن الشهادة والإيقان وعيّ اللسان وطول الصمت الذي كان يستحبه السلف هو اليوم عيب، ومن المتكلمين من لا يعرف من كلام البدع وعلم المنافقين الذي ذمه القدماء هو اليوم سنّة وأهل النطق به هم العلماء اليوم، ولقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً وصار السنّة بدعة والبدعة سنّة، وكذلك جاءت به الأخبار في وصف علماء آخر الزمان، وفي الخبر المشهور: إن الله تعالى يبغض الثرثارين المتشدقين، فمن غلب عليه هذا الوصف فكان متشدقاً بليغاً في علم الرأي والمعقول عيي القلب عن مشاهدة اليقين وعلم الإيمان كان إلى النفاق أقرب، ومن حقيقة الإيمان أبعد، وقد كان أبو سليمان الداراني يقول: لا ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخيرات أن يعمله حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه.

وقال بعض العارفين: ما قبلت خاطراً من قلبي حتى يقيم لي شاهدي عدل من كتاب وسنة وكان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله تعالى يقول: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنّة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي من الظاهر، والباطن والصبر على ذلك حتى الممات، وقد كانوا يعيبون على من تكلم بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بغير ذكر الله تعالى وكانوا يخرجون المتحدثين من المساجد فلا يبقى فيه إلا مصلٍّ أو ذاكر لله تعالى، وقد كان السلف يستعظمون يسير الحديث في الدين ودقائق البدع في الإسلام لعظم الإيمان والسنّة في قلوبهم ولمعرفتهم بحقيقة المعروف، قال عبد الله بن مغفل لابنه وقد سمعه يقرأ خلف الإمام: يا بني إياك والحدث إياك والحدث، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر وقد سمعه يسجع في كلامه: هذا الذي يبغضك إليّ لا قضيت حاجتك أبداً، وكان قد جاءه يسأله حاجة له، وقال عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتي امرؤ شراً من طلاقة في لسانه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن رواحة حين سجع سمعه فوالى بين ثلاث وقال: إياك والسجع يا ابن رواحة، فكان السجع ما زاد على كلمتين، وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي أمره بديّة الجنين، لما قال كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل هذا بطل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسجع كسجع الأعراب.

وروينا أن مروان لما أحدث المنبر في صلاة العيد عند المصلّى قام إليه أبو سعيد الخدري فقال: يا مروان ما هذه البدعة فقال: إنها ليست بدعة هي خير مما تعلم، إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت، قال أبو سعيد رضي الله عنه: ولا تأتون بخير مما أعلم أبداً والله لاصليت وراءك اليوم، فانصرف ولم يصلِّ معه صلاة العيد، فالخطبة على منبر في صلاة العيد وخطبة الاستسقاء بدعة، وكان عليه السلام يخطب فيهما على الأرض متوكئاً على قوس أو عصا، وروي أن عمر رضي الله عنه أخّر صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة، وفعله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أيضاً فأعتق رقبة استناناً بعمر وهو جده لأمه.

وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخّر صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين وفي الخبر: لا تزال أمتي على مسكة من دينها ما لم يؤخروا صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم تشبهاً باليهودية ولم يؤخووا صلاة الصبح إلى افتراق النجوم تشبهاً بالنصرانية، وقال سفيان الثوري رحمه الله ويوسف بن أسباط: لا تقّلد دينك من لا دين له، وقال وكيع: لأن أزني أحبّ إليّ من أن أسأل مبتدعاً عن ديني، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قد أكثر عن عبيد الله بن موسى العبسي ثم بلغه عنه أدنى بدعة قيل إنه كان يقدم علياً على عثمان، وقيل: بل ذكر معاوية بسوء، فانصرف أحمد ومزّق جميع ما حمل عنه ولم يحدث عنه شيئاً، وقيل له مرة: يا أبا عبد الله أوكيع أشبه بالسلف أم عبيد الله فقال: وكيع وإن زنى، وحدثونا عن إبراهيم الحربي قال: كتبت عن علي بن المديني رضي الله عنه جملاً لله تعالى على أن لا أحدث عنه بحرف، قيل: ولم يا أبا إسحاق فذكرصلاته خلف مبتدع وكان رحمه الله تعالى يقول: صحبت الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل العربية واللغة سبعين سنة ما سمعت هذه المسائل التي أحدثت في هذا الوقت من أحد منهم قط يعني الاسم والمسّمى ونحو ذلك، وقال: وأخرج على من كان من أهل الكلام والجدل أن يحضر مجلسي أو يسألني عن شيء فإنه لا علم لي بالكلام ولا أنا أحسنه ولا أقول بأهله، ولو عرفت أحداً منهم ما كلمته ولا أجبته عن شيء، وهجر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أبا ثور صاحب الشافعي لما سئل عن معنى قول النبي: إن الله تعالى خلق آدم على صورته قال: إن الهاء عائدة على آدم فغضب وقال: ويله وأي صورة كانت لآدم يخلقه عليها؟ ويله يقول إن الله تعالى خلق على مثال فأي شيء يعمل في الحديث المفسر إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، فبلغ ذلك أبا ثور فجاءه واعتذر وحلف أنه ما قلت عن اعتقاد وإنما هو رأي رأيته والقول ما قلت وهو مذهبي، وهجر أيضاً حارثاً المحاسبي رحمه الله تعالى في رده على المبتدعة وكان من أهل السنة فقال: أين ترد عليهم وقد حكيت قولهم وأيضاً فإنك تحملهم على التفكر والرأي فيما قلت فيكون سبباً لردّ الحق بالباطل، وهجر أيضاً يحيى بن معين في كلمة تكلم بها وهو قوله: لو أعطاني الشيطان شيئاً أخذته، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: ليس من السنّة أن تجادل عن السنّة ولكن تخبر بها فإن قبل منك وإلا فاسكت، وقيل لعبد الرحمن بن مهدي رضي الله عنه: إن فلاناً يردّ على المبتدعة فقال: بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: لا بل بالمعقول قال بئسما صنع ردّ بدعة ببدعة.

وحدث زيد بن أحزم عن وهب بن جرير قال: سمعت شعبة رحمه الله تعالى يقول: أتيت الحرث العكلي فقلت: ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تبع أحدكم جنازة فلا يجلس حتى توضع قال: أرأيت إن جئنا ولم يحفر له ينبغي لنا أن نقوم قياماً فحيث قال لي: أرأيت تركته وروى محمود بن غيلان أيضاً عن وهب أيضاً عن شعبة قال: أتيت المنهال بن عمرو أسأله عن حديث فسمعت من منزله صوت طنبور فرجعت ولم أسأله ثم ندمت بعد ذلك فقلت: هلاّ سألته فعسى: كان لا يعلم به، ومما أحدثوا البيع والشراء على الطريق وكان الورعون لا يشترون شيئاً ممن قعد يبيعه على طريق وكذلك إخراج الرواشن من البيوت وتقديم العضايد بين يدي الحوانيت إلى الطريق مكروه، ومما كرهه أهل الورع البيع والشراء من الصبيان لأنهم لا يملكون وكلامهم غير مقبول، وحدثت عن أبي بكر المروزي أن شيخاً كان يجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ذا هيبة فكان أحمد يقبل عليه ويكرمه فبلغه عنه أنه طين حائط داره من خارج قال: فأعرض عنه في المجلس فاستنكر الشيخ ذلك فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك عني حدث أحدثته؟ قال: نعم طينت حائطك من خارج قال: ولا يجوز قال: لا لأنك قد أخذت من طريق المسلمين أنملة قال: فكيف أصنع؟ قال: إما أن تكشط ما طينته وإما أن تهدم الحائط وتواخره إلى وراء مقدار أصبع ثم تطينه من خارج قال: فهدم الرجل الحائط وأخّره أصبعاً ثم طينه من خارج قال: فأقبل عليه أبو عبد الله كما كان، ومما كرهه السلف طرح السنّور والدابة على المزابل في الطرقات فيتأذى المسلمون بروائح ذلك، وكان شريح وغيره إذا مات لهم سنّور دفنوها في دورهم ومثله إخراج الميازيب وصيها إلى الطرقات، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأهل الورع يجعلون ميازييهم إلى داخل دورهم، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان أحدهم يكذب مرتين ولا يشعر يقول: لا شيء إلا شيء ليس بشيء يعني قول الناس للشيء اليسير الذي لا يوصف بكثير لا شيء فاستعظم هذا ورآه كذباً مرتين.

وروينا عن عمر رضي الله عنه: إنه قال لعوانه: كنت أرثي لك من العمى فصرت الآن غبطك به قال وكيف؟ قال: صرت لا ترى أبا الصغري بعينيك مبتدع كان بالمدينة، وقيل لقتادة: تود لو أنك بصير؟ فقال: لا على من كنت أفتح عيني بل لو كان في وقت أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أنظر إليهم، وحدثونا عن الفضل بن مهران قال: قلت ليحيى بن معين: أخ لي يقعد إلى القصّاص فقال: انهه فقلت: لا يقبل قال عظه قلت: لا يقبل أأهجره؟ قال: نعم قال: فأتيت الإمام أحمد بن حنبل فذكرت له نحو ذلك فقال: قل له يقرأ في المصحف ويذكر الله تعالى في نفسه ويطلب حديث رسول الله لله قلت: فإن لم يفعل قال: بلى إن شاء الله تعالى فإن هذا الاجتماع محدث قلت: فإن لم يقبل أأهجره؟ فتبسم وسكت، وسأل رجل بشر بن الحارث رحمه الله تعالى عن مسألة من علم القلوب فتوقف ثم أجابه ثم سأله مسألة أخرى من علم المعاملات فسكت ونظر إليه ثم قال: من تجالس من الناس فقال: منصور بن عمار وابن السماك فقال: ألا تستحي تسألنا عن علم القلوب ثم تجالس القصّاص؟ قال: وأعرض عنه حتى قلنا له: يا أبا نصر إنه لا بأس به، إنه من أهل السنّة وقد كانوا يكرهون الصلاة في المقصورة ويرونها أنها أول بدعة أحدثت في المساجد ويكرهون تزويق المساجد وكذا القبلة بالزخرف وتحلية المصاحف وهذا من البدع، وفي الخبر: إذا ما زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم وقد كانوا يكرهون كثرة المساجد في المحلة الواحدة.

روي أن أنس بن مالك رضي الله عنهما لما دخل البصرة جعل كلما خطا خطوتين رأى مسجداً فقال: ما هذه البدعة؟ لما كثرت المساجد قلّ المصلون، أشهد لقد كانت القبيلة بأسرها ليس فيها إلا مسجد واحد، وكان أهل القبائل يتبانون المسجد الواحد في الحي من الأحياء واختلفوا في أيهما يصلّي إذا اتفق مسجدان في محلة، فمنهم من قال في أقدمهما وإليه ذهب أنس بن مالك وغيره من الصحابة، قال: وكانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى المساجد العتق، وكان الحسن يقول: يصلي في أقربهما منه ويقال: أول ما حدث من البدع أربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، وكانوا يكرهون أن تكون أواني البيت غير الخزف ولا يتوضأ أهل الورع في آنية الصفر والنحاس، قال الجنيد: قال لي سري السقطي: اجتهد أن لا تستعمل من آنية بيتك إلا جنسك يعني من الطين، ويقال: لا حساب عليه، ومما كرهه السلف تشييد البناء بالجص والآخر، يقال: أول من طبخ الطين هامان أمره به فرعون، ويقال: هو بناء الجبابرة، وكرهوا النقوش والتزويق في السقوف والأبواب، وكانوا يغضون من النظر إلى ذلك وغاب الأحنف بن قيس غيبة فرجع وقد خضّروا سقف بيته وصفّروه فلما نظر إليه خرج من منزله وحلف أن لا يدخله حتى يقلعوا ذلك منه ويعيدوه كما كان، وقال يحيى بن معاذ من أصحاب الثوري رحمه الله: كنت أمشي مع الثوري في طريق فمررنا بباب منقوش مزوّق فنظرت إليه فجذبني سفيان حتى جزت فقلت: ما تكره من النظر إلى هذا؟ فقال: إنما بنوه لينظر إليه ولو كان كل من مرّ به لا ينظر إليه ما بنوه، فكأنه خشي أن يكون بنظره إليه معاوناً له على بنائه، ومما أحدث الناس مما كانوا يكرهونه الثياب الرقاق مثل القصب ورقيق بز مصر للنساء والرجال وهو للنساء أكره وأغلظ وكانوا يقولون: الثياب الرقاق لباس الفساق ومن رق ثوبه رق دينه ويقولون أول النسك الزي.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب، وخطب بشر بن مروان وعليه ثوب رقيق فجعل رافع بن خديج رضي الله عنه يهزأ به ويقول: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفسّاق، ولما جاء عبد الله بن عامر بن ربيعة في بزته إلى أبي ذر رضي الله عنه وسأله عن الزهد وأخذ يتكلم فيه فجعل أبو ذر يضرط به في كفه ثم أعرض عنه ولم يكلمه، فغضب ابن عامر وكان قرشياً شريفاً وشكاه إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال له: أنت فعلت نفسك تأني أبا ذر في هذه الثياب وتسأله عن الزهد، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد وصف نساء يكن في آخر الزمان فقال: كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة البقر يعني المعاجر والأكوار لا يجدن رائحة الجنة، كان ابن عباس يفسر التبرّج أنه منه لبس ما رقّ من الثياب وقال في قوله تعالى: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولى) الأحزاب: 33، قال: كانت المرأة تلبس ثياباً قيمتها كذا وكذا لا توارى لها عورة مما لا يجوز فيه الصلاة لأنه يصف أو يشف فمكروه لبسه وإنما كانت ثياب السلف السنبلاني والقطواني وعصب اليمن ومعافري مصر والقباي مثل كسوة الكعبة والثياب السحولية اليمانية والكرابيس الحضرمية، وهذه كلها غلاظ كثيفة، وكانت الأثمان من خمسة دراهم إلى ثلاثين درهماً وما بين ذلك، ثم أحدث الناس الثياب الرقاق من كتان مصر وقطن خراسان، وكان طول مئزر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أذرع ونصفاً وثمنه إلى الأربعة والخمسة، وكانت أثمان ثيابهم القمص من الخمسة إلى العشرة فيما بينهما من الثمن، ولكن قد جاء في الخبر: لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وكان ابن عاس رضي الله عنهما يقول: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنّة وأحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن وتحيا البدع وإنما قيل منكر لأنه لا يعرف، فإذا خفي الحق فلم يعرف وقع عليه اسم منكر، وكذلك قيل معروف لأنه مشهور مألوف، فإذا فشا الباطل وكثر الجهل حتى ألف وعرف وقع عليه اسم المعروف، وكذلك قيل: يكثر الجور حتى يولد فيه من لا يعرف العدل.

وكان الشعبي رحمه الله يقول: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج وهذا قد أتى منذ زمان لأن الحجاج قد ابتدع أشياء أنكرها الناس عليه في زمانه هي اليوم سنن معروفة وأعمال مستحسنة يترحم الناس ويغبطن من أحدثها ويحسبون أنه مأجور عليها مشكور له سعيه فيها إلا أنهم لا يعرفون أنه أحدثها فهم وإن لم يفوهوا بالصلاة عليه قولاً فإن استعمالهم لما أحدث واستحسانهم لما ابتدع ترحم منهم عليه، والترحم هو الصلاة، وأيضاً فإنه ابتدع أشياء من الخير وداخله في أبواب الآخرة ثم ظهرت ولاة بعده أحدثوا احداثاً من الجور وابتدعوا بدعاً من الفسوق فصارت سنناً بعدهم فوجب بذلك الصلاة على الحجاج إلى جنب ما أظهر بعده فممّا أحدث هذه المحامل والقباب التي خالف بها هدي السلف بالتنعم والرفاهية وإنما كان الناس يخرجون على الرواحل والزوامل فيضحون للشمس وينصبون في سبيل الله تعالى ويشعثون ويغبرون ويقل أكلهم ونومهم وتكثر رفاهة الإبل وتقل المشقة والحمل عليها فيكون ذلك أثوب لهم وأزكى لحجهم وأدنى إلى السلامة لإبلهم، ويوافقون به سنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخرجهم من جميع ذلك بما أدخلهم فيه من بدعته فصاروا يخرجون في بيوت ظليلة مع الحمل على الإبل ما لا تطيق فيكون سبب تلفها فيشركونه فيه ويشركهم بسنته.

وابتدع أيضاً هذه الأخماس والعواشر ورؤوس الآي وحمر السواد وخضره وصفره فأدخل في المصحف ما ليس فيه من الزخرف وكان السلف يقولون: جرّدوا القرآن كما أنزله الله تعالى ولا تخلطوا به غيره، فأنكر العلماء ذلك عليه حتى قال أبو رزين: يأتي على الناس زمان ينشأ فيه نشء يحسبون أن ما أحدث الحجاج في المصاحف هكذا أنزله الله تعالى يذمه بذلك وحتى نقل الاختلاف وأن بعضهم كان لا يقرأ في مصحف منقوط بحمرة لأن بعضهم كان لا يرى القراءة في مصحف منقوط كما نقل أن بعضهم كان يرى شراء المصحف ويكره بيعه أي: وكذلك إذا لم تنقطه أنت فلا بأس أن تقرأ فيما نقطه غيرك، وقد كانوا يكرهون أخذ الأجر على تنقيط القرآن لأجل أنه مبتدع، وقال أبو بكر الهذلي: سألت الحسن رحمه الله عن تنقيط المصاحف بالأجر قال: وما تنقيطها قلت: يعربون الكلم بالعربية فقال: أما إعراب القرآن فلا بأس به، وقال خالد الحذاء: دخلت على ابن سيرين فرأيته يقرأ في مصحف منقوط وقد كان يكره النقط، وقال فراس بن يحيى: وجدت ورقاً منقوطاً بالنحو في سجن الحجاج فعجبت منه وكان أول نقط رأيته فأتيت به الشعبي فأخبرته فقال لي: اقرأ عليه ولا تنقطه أنت بيدك، ومنها أنه جمع من القراء ثلاثين رجلاً فكانوا يعدون حروف المصحف ويعدون كلمه شهراً، ولو رآهم عمر أو عثمان أو علي يصنعون هذا بالقرآن أي يعدون حروفه وكمله لأوجع رؤوسهم ضرباً وهذا الذي كرهته الصحابة ووصفوا به قراء آخر الزمان أنهم يحفظون حروفه ويضيعون حدوده وكان الحجاج أقرأ القراء وأحفظهم لحروف القرآن كان يختم القرآن في كل ثلاث وكان أضيع الناس لحدوده، ومنها أنه ابتدع إخراج الحصى والرمل من المساجد وفرشها بالبواري، كما روى أن قتادة سجد فدخلت في عينه قصبة وكان ضريراً فقال لعن الله الحجاج ابتدع هذه البواري يؤذي بها المصلين وقد كانوا يستحبون السجود على الأرض والتراب تواضعاً لله تعالى وتخشعاً وذلاً إلى غير ذلك من بدعه التي لم نقصد تعديدها عليه ولا جمعها فهي اليوم سنن معروفة وشرائع مألوفة مع ما أحدث غيره مما يكثر عدده منكر كله عند من عرف المعرو ف من سيرة المتقدمين وشمائل الصالحين.

وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: يظهر المنكر والبدع حتى إذا غيّر منها شيء قيل غيّرت السنّة وقال في آخر حديثه: أكيسهم في ذلك الزمان الذي يروغ بدينه روغان الثعالب، وقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة ثمانين وأيام الحجاج يقول: ما أعرف اليوم شيئاً كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد غيّر إلا شهادة أن لا إله إلا الله قيل: فالصلاة يا أبا حمزة قال: أوليس قد أحدثوا في الصلاة ما علمتم يعني تأخيرها والتثويب قبلها وتعين السلام حتى أنهم يضاهون به الإقامة فجعلوه كالسنّة، وكان يقول للقراء إذا دخلو عليه مثل يزيد الرقاشي وزيد النميري وفرقد السنجي: ما أشبهكم بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفرحون فيقول نعم رؤسكم ولحاكم فهذا كما قال المجنون:

أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائه

وعن جماعة من الصحابة: لو نشر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأوكم لما عرفوا شيئاً مما أنتم عليه الآن إلا الصلاة في جماعة، وفي لفظ آخر: إلا أنكم تصلّون جميعاً، وكان الحسن يقول: صحبت طوائف لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، وقال أبو حازم: أدركت القرّاء وهم القرّاء حقاً ولو كان حامل القرآن في مائة رجل لعرف بشدة تواضعه وحسن سمته وخشوعه وقد وقره القرآن في سمته وقد خضعه القرآن وأخشعه، فأما هؤلاء فو الله ما هم بالقرّاء ولكنهم الجراء، وقد قال بعضهم: كنا نشهد الجنازة فلا نعرف صاحب المصيبة ولا ندري من نعزي من شدة حزن القوم قال: وكان أحدهم يبقى بعد شهود الجنازة ثلاثاً لا ينتفع به، وكان الفضيل رحمه الله يحذّر من قرّاء زمانه فقال: إياك وصحبة هؤلاء القرّاء فإنك إن خالفتهم في شيء كفروك، وقال سفيان الثوري رحمه الله ما شيء أحبّ إليّ من صحبة فتى ولا شيء أبغض إليّ من صحبة قارئ، وكان كثيراً يقول: من لم يحسن يتغنّى لم يحسن يتقرّى، وكان بشر بن الحارث يقول: لأن أصحب فتى أحبّ إليّ من أن أصحب قارئاً فإياك وصحبة القرّاء فإنهم يذمّون غير مذموم وإن تركت الصلاة معهم في جماعة تشاهدوا عليك، كل ذلك لأنهم يجاوزون الحد في الشيء ويسرعون الإنكار إلى كل شيء لغلبة الجهل عليهم وقلة مجالستهم للعلماء ومعاناتهم للعلم وإنهم موصوفون بدقائق الرياء والتصنع للعامة فينكرون غير منكر ويتعصبون بالبغضة والهجر في الشيء اليسير الذي قد يغتفر مثله وهم غير موصوفين بمحاسن الأخلاق ولا موسومين بالبشاشة والانطلاق إذ فيهم كزازة وتغليظ على الناس ولزازة وحنق على الأغنياء حتى كأنهم يأكلون أرزاقهم وكأنهم يعملون العبادة لهم وفيهم كثرة مقت لأهل البشر والطلاقة، فلذلك قال بعضهم: الشريف إذا تقرّى تواضع والوضيع إن تقرّى تكبر، وقال آخر السفلة: إذا تقرّى أكثر الأمر بالمعروف واعترض على جيرانه في كل شيء يعني أكثر الأمر بالمعروف ليعرف به، فمن أجل ذلك رفضهم العلماء وذمّهم الحكماء لأن العلم يبسط ويوسع وتكون معه الأخلاق الحسنة والآداب والمروءات الواسعة والعالم يضع الأشياء في مواضعها من الناس ولا يجاوز بها ولا بهم المقادير ويستخرج لهم المعاذير، ومن صفة العلماء الانقباض في بسط خلق، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله الانقباض على الناس مكسبة لعداوتهم فكن بين المنقبض والمنبسط.

وفي الخبر: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم وجه طلق وخلق حسن، وفي لفظ آخر: وبشر وبشاشة وهذا كله معدوم من القرّاء ولا يعرفونه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً فمن تعدّى حدّ الشيء فقد أفسده، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي من كثير العمل وقليل الورع يكفي من كثير العلم، ومن أخلاق السلف مما تهاون به الخلف أنهم كانوا يعدّون من النفاق أن يتكلم الرجل فيمن يكلمه أو يكلم من تكلم فيه لأنهم كانوا إذا كلموا أحداً أو سلّموا عليه سلمت له قلوبهم ولم يتكلّموا فيه وإذا تكلّموا في أحد لبدعته أو ظهور فسقه لم يكلموه وكانوا إذا مدحوا أحداً بقول لم يذمّوه بفعل وإذا ذمّوا واحداً يفعل يمدحوه بقول لأن في ذلك لسانين واختلاف وجهين واختلاف سرّ وعلانيّة وكانوا يقولون معنى سلام عليك إذا لقيته أي سلمت مني أن أغتابك وأذمك فكان اختلاف هذا عندهم من أبواب النفاق.

وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه وفي حديث آخر: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل اللّّه له يوم القيامة لسانين من نار، وكان بعضهم يقول: ما ذكر عندي إنسان قط إلا مثلته جالساً فقلت في غيبته بما يجب أن يسمع، وقال آخر: ما ذكر عندي رجل إلا تصوّرت في نفسي مثاله فكل ما أحب أن يقال لي قلته له، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي عن كثير العمل وقليل الورع يكفي عن كثير العلم، فهذه كانت صفات المسلمين الذي يسلم الناس على أيديهم وقلوبهم، كان أحدهم إذا ذكر عنده غيره بسوء وقف وتفكّر في شأن نفسه فإن كان فيه مثل ذلك السوء قطعه الحياء عن الكلام في أخيه فسكت وإن لم يكن ذلك فيه حمد الله عزّ وجلّ ورحم أخاه فشغله الشكر لمولاه إذ عافاه، فهذه كانت سيرة السلف، ويقال في بعض كتب الله تعالى: عجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب، وأعجب من ذلك من أحبّ نفسه على اليقين وأبغض الناس على الشك، ومن طريقة السلف مما كانوا يشدّدون فيه حب المدح وطلب الحمد حتى قال بعضهم: من أحب المدح وكره الذم فهو منافق، وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقل، وكتب محمد بن كعب فانتسب فقال القرظي قيل له: قل الأنصاري قال أكره أن أمنّ على الله عزّ وجلّ بما لم أفعل، وقال الثوري رضي اللّّه عنه: إذا قيل لك بئس الرجل أنت تغضب فأنت بئس الرجل، وقال آخر: لا يزال فيك خير ما لم ترَ أن فيك خيراً، وسئل بعض العلماء: ما علامة النفاق؟ قال: الذي إذا مدح بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وكان سفيان رضي اللّّه عنه يقول: إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق فهذا داخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُم) النساء: 91، فينبغي لمن أمن في أهل السنة أن يخاف في أهل البدع وهذا مما دخل على القرّاء الذي ذمّهم العلماء مداخل الليل في النهار ولعل مغروراً جاهلاً يتأوّل الحديث الذي جاء إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه على غير تأويله ويحمله على غير محمله فإنما قال ربا الإيمان ولم يقل ربا المؤمن فربّو الإيمان زيادته وزيادته بالخوف والإشفاق من المكر به والاستدراج وفيه طريق للعارفين بأن يعلو الإيمان العلي إلى المومن الأعلى فيفرح بذلك لمولاه ويضيفه إلى سيده الذي به تولاّه فيردّ الصنعة إلى صانعها ويشهد في الفطرة فاطرها فيكون ذلك مدحاً للصانع ووصفاً للفاطر لا ينظر إلى نفسه لا يعجب بوصفه وهذه طرقات قد درست وانقطع سلاكها إلا من رحم ربك.

باب تفضيل علم الإيمان واليقين

على سائر العلوم والتحذير من الزلل فيه ووبيان ما ذكرناه:

اعلم أن كلّ علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق أو مبتدع أو مشرك إذا رغب فيه وحرص عليه لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل إلا علم الإيمان واليقين فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمن موقن من قبل أن ذلك تقرير مزيد الإيمان وحقيقة العلم والإيمان، فهو آيات الله تعالى وعهده عن مكاشفة قدرته وعظمته وآيات الله تعالى لا تكون للفاسقين وعهده لا ينال الظالمين وعظمته وقدرته لا تكون شهادة للزائغين ولا وجد للمبطلين إذ في ذلك توهين لآيات اللّّه وحججه وانتقاص لبراهينه وقدرته ودخول الشك في اليقين الذي هو محجة المخلصين والذين هم بقية الله من عباده واشتباه الباطل بالحق الذي هو وصف أهل الصدق الذين هم أدلته عليه من أهل وداده وهذا من أدل دليل على فضل علم المعرفة على غيره قال اللّّه عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَني إسْرَائيلَ) الشعراء: 197، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذين أُوتُوا الْعلِْمَ) العنكبوت: 49، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ) الحجر: 75، وقال: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون) ، البقرة: 118وقال عزّ وجل: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، الأنعام: 105 فهؤلاء العلماء بالله تعالى الناطقون عن اللّّه عزّ وجلّ جعل لهم أنصبة منه ومكاناً عنده، ولا يكون ذلك لمن ليس أهلاً له ولا حقيقاً به لأنهم آيات الله تعالى وبيناته وشهوده وبصائره كاشفو طريقه ومظهرو بيانه إذ يقول تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) القيامة: 19، ثم قال تعالى: (خلَقَ الإنسانَ) (عَلَّمَهُ الْبيانَ) الرحمن: 3 - 4 بعد قوله: (وكانَ حقَّاً عَلَيْنا نصْرُ الْمُؤْمنين) الروم: 47، مع قوله تعالى: (وكانُوا أحَقَّ بها وأَهْلها) الفتح: 26 فنصروه بما نصرهم به وتحققوا بما حققهم منه وشهدوا له ما شهد لهم عنه فكانوا للمتقين إماماً وإلى الهداية أعلاماً.

وقال بعض أهل المعرفة: من لم تكن له مشاهدة من هذا العلم لم يعر من شرك أو نفاق لأنه عار من علم اليقين ومن عري من اليقين وجد فيه دقائق الشك، وقال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له من هذا العلم شيء بدعة أو كبر، وقال طائفة من أهله: من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوى لم يتحقق به، وقال أبو محمد سهل: أقل عقوبة من أنكر هذا العلم أن لا يرزق منه شيء أبداً، واتفقوا على أنه علم الصديقين وأن من كان له منه نصيب فهو من المقربين وينال درجة أصحاب اليمين، وأعلم أن علم التوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف في سائر العلوم الظاهرة رحمة والاختلاف في علم التوحيد ضلال وبدعة والخطأ في علم الظاهر مغفور وربما كانت حسنة إذا اجتهد والخطأ في علم التوحيد وشهادة اليقين كفر من قبل أن العباد لم يكلفوا حقيقة العلم عند الله تعالى في طلب العلم الظاهر وعليهم واجب طلب موافقة الحقيقة عند الله في التوحيد ومن ابتدع شيئاً ردت عليه بدعته وكان مسؤولاً عنه ولم يكن حجة لله تعالى على عباده ولا غيثاً نافعاً في بلاده بل كان موصوفاً بالدنيا وفيها من الراغبين ولم يكن دليلاً على الله عزّ وجلّ ولا من دعاة الدين ولا إماماً للمتقين، وقد جاء في الخبر: العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، والخبر المشهور: من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ.

وقد روينا عن عيسى عليه السلام وقيل له: من أشد الناس فتنة فقال: زلة عالم إذا زلّ بزلته عالم، وقد روينا معناه عن نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن، وكان بعض السلف يقول: مثل العالم إذا زل مثل سفينة إذا غرقت غرق معها خلق كثير ومثل كسوف الشمس يصيح الناس يا غافلون الصلاة وإنها عند العامة آية يفزع منها.

ويروى في خبر غريب: من غشّ أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قيل: يا رسول وما غشّ أمتك؟ قال: أن يبتدع بدعة في الإسلام يحمل الناس عليها، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول ويل للعالم من الأتباع وويل للأتباع من العالم يزل العالم بزلة فيتبعه عليها فئام من الناس وتبلغ الآفاق وما أعلم أحداً أعظم جرماً ممن ابتدع في دين الله عزّ وجلّ فنطق في كتاب الله تعالى وفي علم المعرفة بما لم يأذن به الله ثم لم يعبأ بسنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو حجة الله تعالى على جميع خلقه وطريق مقربيه من عباده فأضل بذلك عباد الله عزّ وجلّ فإن مثل من ابتدع في الدين واتخذ وليجة دون الكتاب والسنّة وبين طريق المؤمنين إلى جنب من يكاثر في أمور الدنيا وارتكب فيها شهوات الأهواء كمثل من اجترح المظالم بين الناس في الأموال والدماء إلى جنب من ظلم نفسه بكسب الذنوب بينه وبين ربه، إن مظالم العباد أعظم وهو الديوان الذي لا يترك، كذلك التمويه في الدين أعظم لأنه مظالم الآخرة وقطع طرقات المؤمنين ومحو شريعة المرسلين، ومثله أيضاً مثل من أذنب وجحد ذنبه واحتج لنفسه إلى من أذنب واعترف بذنبه واعتذر من نفسه فهو أقرب للعفو وأرجى للرحمة من الآخر، كذلك من اعتلّ بالتقصير والتفريط في العمل ولم ينصح لنفسه إلا أنه أظهر حقيقة العلم ونصح لله تعالى ولرسوله ببيان كتابه وذكر سنته أقرب إلى حسن الإخلاص وأولى بالتدارك في العافية ممن شرع في دين الله تعالى وابتدع في الأمة ما يخالف به الكتاب والسنّة، هكذا كأنه قد قلب ملة وبدل شريعة، فهذا يولد النفاق في قلبه حتى يختم له به ومثل من ابتدع في الملة مخالفاً للسّنة إلى من أساء إلى نفسه بالذنوب مثل من عصى الملك في قلب دولته وتظاهر عليه في ملكه بالإزالة إلى جنب من عصى أمره وقصر في حقه من الرعية، وقد قال بعض الحكماء: ثلاث لا يحسن من الملك أن يغفرها، من قلب دولة من رعيته، أو عمل فيما يوهن الملك، أو أفسد حرمة من حرمه.

وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله تعالى ملكاً ينادي كل يوم من خالف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنله شفاعته، وقال علي كرّم الله وجهه: الهوى شريك العمى، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ الله) النساء: 87 قيلاً ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم، ثم قال تعالى: (أوْ قَالَ أُوحِيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إليْهِ شَيْءٌ ومنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزلَ الله) الأنعام: 93 فسوّى بين الكذاب في العزية على الله تعالى وبين المتشبه المضاهي للربوبية، وكذلك من أعظم المنكر بعد هذا إنكار الحق من أهله وردّه عليهم بالتكذيب، وقد سوّى تعالى أيضاً بين التكذيب بالحق وبين ابتداء الكذب على الخالق في قوله عزّ وجلّ: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على الله كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِالْحقِّ لَمَّا جَاءَهُ) العنكبوت: 68، وقال تعالى في مثله: (فَمَنْ أظْلمُ مِمَّنْ كذبَ على الله وكذَّبَ بِالصدْقِ إذْ جاءَهُ) الزمر: 32 كذلك أيضاً في ضده سوّى كما سوّى عزّ وجل بين الصادق بالصدق والمصدق به فقال تعالى: (والَّذي جاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بهِ أُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الزمر: 33

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العالم والمتعلم شريكان في العلم، وقال عيسى عليه السلام بمعناه: المستمع شريك القائل ولكن الله تعالى قد جعل هذه الطائفة من أهل العلم بالله تعالى ترد على جميع الطوائف من الشاطحين والمبتدعين أهل الجهالة بالدين والحيدة عن سبيل المؤمنين بما أراهم الله تعالى من علم اليقين وبما شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم والتعديل في قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالغالون هم الشاطحون لأنهم قد جاوزوا العلم ومحوا الرسم فأسقطوا الحكم، والمبطلون هم المدّعون المبتدعون لأنهم جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق وافتروا بالدعوى وابتدعوا بالرأي والهوى، والجاهلون هم المنكرون لغرائب العلم المفترون لما عرفوا من ظاهر العقل، كما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الإغترار بالله تعالى: ولا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً فإن الله عزّ وجلّ لم يحقره إذ أتاه وكل من تأول السنن بالرأي أو المعقول أو نطق بما لم يسبق إليه السلف من القول أو بمعناه فهو متكلف مبطل، فأهل العلم بالله تعالى يردّون علوم المعقول بعلم اليقين وعلم الرأي بعلم السنة يثبتون أهل الآثار ويؤيدون نقلة الأخبار بما يفصلون من أخبارهم ويفسرون من حديثهم مما لم يجعل للنقلة طريق إليه ولم يهتد الرواة إلى كشف منه بما أشهدهم الله عزّ وجلّ واستودعهم ونوّر به قلوبهم ونطقهم فهم ينطقون عن الله سبحانه وتعالى فيما يخبرون عنه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.

وقد قال بعض العلماء: ما تكلّم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف وقال آخر: الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز ومن وقف معه اكتفى وقال علي رضي الله عنه عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ويرتفع عنه القالي وهكذا سيرة السلف إنه لا يستمع إلى مبتدع لأنه منكر ولا يرد عليه بالجدال والنظر لأنه بدعة، ولكن يخبر بالسنن ويحتج بالأثر فإن قيل فهو أخوك في الله عزّ وجلّ ووجبت عليك موالاته وإن لم يرجع وأنكر نقض بإنكاره وعرف ببدعته وحقّت عداوته وهجر في الله تعالى، وهذا طريق لا يسلكه في وقتنا هذا إلا من عرف فضله وطريقه السلف فيه.

وحدثت عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة فرجعوا إليه محسورين فقال: ما شأنكم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء القوم ما نصيب منهم شيئاً قد أتعبونا فيقول: إنك لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فيهم فرجعوا إليه منكسرين منكوسين، فقال: ما شأنكم، قالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء القوم نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الخطايا فإذا كان من آخر النهار أخذوا في الاستغفار فتبدل سيئاتهم حسنات فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم سنّة نبيهم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقرّ أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون فتبدل حسناتهم سيئات قال: فجاء قوم بعد القرن الأول فبعث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلّوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون منها ولا يتوبون إلى الله قال فتسلطت عليهم الأعداء وقادتهم أين شاؤوا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: إن للضلالة حلاوة في قلوب أهلها.

وقد قال الله تعالى: (اتَّخذُوا ديَنَهُمْ لَعِباً وَلهْواً) الأنعام: 70، وقال تعالى: (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلهِ فَرَآهُ حَسَناً) فاطر: 8 كما قال تعالى: (أفمنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17 فالعلم رحمك الله هو الذي كان عليه السلف الصالح المقتفي آثارهم والخلف التابع المقتدي بهديهم وهم الصحابة أهل السكينة والرضا ثم التابعون لهم بإحسان من أهل الزهد والنهي والعالم هو الذي يدعو الناس إلى مثل حاله حتى يكونوا مثله فإذا نظروا إليه زهدوا في الدنيا لزهده فيها كما كان ذو النون رحمه الله يقول: جالس من يكلمك علمه لا من يكلمك لسانه، وقد قال الحسن رضي الله عنه قبله: عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك، وقال سهل رحمه الله: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقد روينا معنى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قيل له: أي جلسائنا خير فقال: من ذكركم بالله تعالى رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله، فأمّا الذي يطلب دنياهم حتى يكون مثلهم فإذا رأوه اعتبطوا بحالهم فهذا شر منهم لأنه يدعو إلى نفسه لا إلى مولاه ولأنه طامع فيهم وهم زاهدون فيه، فالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم الورعون في دين الله عزّ وجلّ، الزاهدون في فضول الدنيا الناطقون بعلم اليقين والقدرة لا علم الرأي والهوى، والصامتون عن الشبهات والآراء لا يختلف هذا إلى يوم القيامة عند العلماء الشهداء على الله تعالى برأي قائل ولا بقول مبطل جاهل.

كما روي عن عبد الله بن عمر وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل، وقال يوسف بن أسباط: كتب إلى حذيفة المرعشي ما ظنك بمن قد بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً وكانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله قلت ليوسف: يا أبا محمد وتعرفهم قال: لا يخفون علينا ويقال: إن الأبدال إنما انقطعوا في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء هذا الوقت ولا يصبرون على الاستماع لكلامهم لأنهم عندهم جهّال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء، فقد صاروا من أهل الجهل وأهل الجهل بالجهل على الوصف الذي قال سهل رحمه الله: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة أيسر عندهم لأنهم لا يعدمون ذلك حيث كانوا من أطراف الأمصار لأن العامة لا يموّهون في الدين ولا يغرون المؤمنين ولا يدّعون أنهم علماء لأنهم يتعلمون وبالجهل معترفون، فهم إلى الرحمة أقرب ومن المقت أبعد.

وكان أبو محمد أيضاً يقول: قسوة القلب بالجهل بالعلم أشد من القسوة بالمعاصي لأن الجاهل بالعلم تارك ومدّع والعاصي بالفعل مقرّ بالعلم، ويقول أيضاً: لأن العلم دواء به تصلح الأدواء فهو يزيل فساد الأعمال بالتدراك، والجهل داء يفسد الأعمال بعد صلاحها فهو يزيل الحسنات فيجعلها سيئات، فكم بين ما يصلح الفاسد وبين ما يفسد الصالحات، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُصْلِحُ عَملَ الْمُفْسِدينَ) يونس: 81، وقال تعالى: (إنَّا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ) الأعراف: 170 فهذا من أدل دليل على فضل العالم المقصر على العابد المجتهد، وأعلم أن العبد إذا باين الناس في كل شيء من أحوالهم انفرد عن جمعهم ولم يألف أحداً منهم وإن باينهم في أكثر أحوالهم اعتزل عن الأكثر منهم فإن فارقهم في بعض الأحوال ووافقهم في بعض حاله خالط أهل الخير وفارق أهل الشر.

باب تفضيل الأخبار وبيان طريق الأرشاد وذكر الرخصة والسعة في النقل والرواية

جميع ما ذكرناه في هذا الكتاب من الأخبار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عن الصحابة وعن التابعين وتابعيهم رسمناه حفظاً وسقناه على المعنى إلا يسيراً اتفق وجوده في أيدينا وقرب تناوله منا من أخبار فيها طول فإنا نقلناها من مواضعها وما بعد علينا فلم نفقه ولم نشغل همتنا به فما كان فيه من صواب وبيان وتثبت فمن الله تعالى بحسن توفيقه وقوّة تأييده، وما كان فيه من خطأ وعجلة وهوى فمنا بالسهو والغفلة ومن عمل الشيطان بالعجلة والنسيان، كذلك رويناعن ابن مسعود رضي الله عنه في قضيته التي قضاها برأيه وقولنا لرأيه تبع.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البيان والتثبت من الله عزّ وجلّ والعجلة والنسيان من الشيطان يعني بواسطته وبقلة التوفيق، ولم أعتبر ألفاظ الأخبار في أكثره ولم آل عن سياق المعنى في كله إذ ليس تحرير الألفاظ عندي واجباً إذا أتيت بالمعنى بعد أن تكون عالماً بتصريف الكلام وبتفاوت وجوه المعاني مجتنباً لما يكون به تحريف أو إحالة بين اللفظين وقد رخص في سوق الحديث على المعنى دون سياقه على اللفظ جماعة من الصحابة منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم منهم: إمام الأئمة الحسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة رضي الله عنهم نقلنا ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ، وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة المعنى واحد والألفاظ مختلفة، ولذلك اختلف الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنهم من يرويه تاماً ومنهم من يجيء به مختصراً ومنهم من يرويه على المعنى وبعضهم يغاير بين اللفظتين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى ولم يحل البغية وكلهم لا يتعمد الكذب وجميعهم يقصد الصدق ومعنى ما سمع ولا يحيل البغية فلذلك وسعهم وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمّده.

وقد روينا عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إنك تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً وأفصح به لساناً منا إذا حدثتنا به، فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك، وقد قال النضر بن شميل: كان هشام لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان النضر نحوياً ونحن قائلون في جميع ما رويناه أو كما قيل ونحوه وشبهه، وبمعناه كذلك قال ابن مسعود في حديثه: وكان سليمان التميمي يقوله في كل ما يحدث به وقد كان سفيان رحمه الله يقول: إذا رأيت الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى: يا هذا ليس في أيدينا أجلّ من كتاب الله تعالى، وقد رخص بالقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد، وفي بعض ما رويناه مراسيل ومقاطع ومنها ما في سنده مقال وربما كان المقطوع والمرسل أصحّ من بعض المسند إذ رواه الأئمة وجار لنا رسم ذلك لمعان أحدها أنا لسنا على يقين من باطلها والثاني أن معنا حجة بذلك وهو روايتنا له وأنا قد سمعنا فإن أخطأنا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنا، كما قال الأسباط: وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين في قولهم: إن ابنك سرق فأخطؤوا الحقيقة عند الله تعالى إلا أنهم كانوا معذورين لوجود الدليل وهو شهادتهم للصاع مستخرج من رحل أخيهم والثالث أن الأخبار الضعاف غير مخالفة الكتاب والسنّة لا يلزمنا ردّها بل فيهما ما يدل عليها والرابع أنّا متعبدون بحسن الظن منهيون عن كثير من الظن مذمومون بظن السوء والخامس أنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة ولا سبيل إليها فاضطررنا إلى التقليد والتصديق بحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا وتلين له أبشارنا ونرى أنه حق كما جاء في الخبر وأيضاً فإنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا ثم نحن لا نكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا على التابعين فكيف نظن بهم أن يكذبوا وهم فوقنا على أنه قد جاءت أحاديثاً ضعاف بأسانيد صحاح فكذلك يصلح أن نورد أحاديث صحاحاً بسند ضعيف لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح إذ لم نحطّ بجملة العلم أو لأن بعض من يضعفه أهل الحديث يقوّيه بعضهم وبعض من يجرحه ويذمه أحد يعدّ له ويمدحه آخر فصار مختلفاً فيه فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله أو لأن بعض ما يضعف به رواة الحديث وتعلل به أحاديثهم لا يكون تعليلاً ولا جرحاً عند الفقهاء ولا عند العلماء بالله تعالى مثل أن يكون الراوي مجهولاً لإيثاره الخمول، وقد ندب إليه أو لقلة الأتباع له إذ لم يقم لهم الأثرة عنه أو ينفرد بلفظ أو حديث حفظه أو خصّ به دون غيره من الثقات أو يكون غير سائق للحديث على لفظة أو لا يكون معتنياً بحفظ ودرسه وقد يتكلم بعض الحفاظ بالإقدام والجراءة فيجاوز الحدّ في الجرح ويتعدّى في اللفظ ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى: أعلى درجة فيعود الجرح على الجارح أو يكون رأى عليه لباساً أو سمع منه كلاماً يجرحه عند الفقهاء علّله به بعض القرّاء من الرواة وأن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة ومن أهل المعرفة بالله تعالى وله في الرواية والحديث مذاهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث فيعمل في روايته بمذهبه فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه إلا كان هو حجة عليهم إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث ممن ضعفه إذ رأى غير رأي مذهبه.

وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوّز فيه قبول شهادة واحد أي للضرورة كشهادة القابلة ونحوها، وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حبنل رضي لله عنه: والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنّة وإن لم يشهدا له إن لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة فإنه يوجب القبول والعمل بقولّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف وقد قيل: والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والحديث إذا تداوله عصران أو رواه القرون الثلاثة أو دار في العصر الواحد فلم ينكره علماؤه وكان مشهوراً لا ينكره الطبقة من المسلمين احتمل ووقع به حجة وإن كان في سنده قول إلا ما خالف الكتاب والسنن الصحيحة أو إجماع الأمة أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة، وقال وكيع بن الجراح: ما ينبغي لأحد أن يقول هذا الحديث باطل لأن الحديث أكثر من ذلك، وقال أبو داود: قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرين ألف عين تطرف، كل واحد قد روى عنه ولو حديثاً ولو كلمة أو رواية فحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من أن يحصى وذكر رجل عند الزهري حديثاً فقال: ما سمعنا بهذا فقال: أكل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعت؟ قال: لا، قال: فثلثاه؟ قال: لا، قال: فنصفه فسكت وقال: عدَّ هذا من النصف الذي لم تسمعه، وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان يزيد بن هارون يكتب عن الرجل وهو يعلم أنه ضعيف وكان له ذكاء وعلم بالحديث وقال إسحاق بن راهويه: قيل للإمام أحمد بن حنبل: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن نكتب الجيد منها، فقال: المنكر أبداً منكر قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليه في وقت كأنه لم يرَ بالكتابة عنهم بأساً.

وقال أبو بكر المروزي عنه: إن الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه ومما يدلك على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه الذي رويناه عن أشياخنا عن ابنه عبد الله عنه ولم يعتبر الصحيح منه وفيه أحاديث كثيرة يعلم الثقات أنها ضعيفة وهو أعلم بضعفها منهم ثم أدخلها في مسنده لأنه أراد تخريج المسند ولم يقصد تصحيح السند فاستجاز رواياتها كما سمعها وقد كان قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين وتوفي في سنة إحدى وأربعين فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابنه عبد الله وابن منيع جزءاً واحداً بشفاعة جده أحمد بن منيع، وحدثونا عنه أعني الإمام أحمد قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث ثم يخرج إلينا بعد وقت فيقول: هو صحيح قد وجدته، قال: وأما وكيع فلم ينكر ولكن يقول إذا سئل عنه لا أحفظه، وحدثونا عن ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: كان خالي قد خط على أحاديث ثم صحح عليها بعد ذلك وقرأتها عليه فقلت: قد كنت خططت عليها قال: نعم، ثم تفكرت فإذا إني إن ضعفتها أسقطت عدالة ناقليها فإن جاءتني بين يدي الله تعالى وقال: لم أسقطت عدالتي رأيتني سمعت كلامي لم يكن لي حجة، هذا كان مذهب الورعين من السلف، وقد كان بعضهم يقول: كنا نترك مجالسة شعبة لأنه كان يدخلنا في الغيبة وإنما كان كلامه في التضعيف وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك يعني أن أردت الله عزّ وجلّ والدين بذلك لم يكن لك ولا عليك فهذه الفصول الذي ذكرناها هي أصول في معرفة الحديث وهو علم لأهله وطريق هم سالكوه ثم حدثت قوم لم يكن لهم علم يختصون به ولا حال من علم يوصفون به ولا شغل من عبادة تقطعهم فجعلوا لنفوسهم علماً تشاغلوا به وشغلوا من استمع إليهم فصنفوا كتباً وأخذوا يتكلمون في نقلة الأخبار بالتعليل وتتبع العثار فطرقوا لأهل البدع إلى ردّ السنن وإيثار الرأي والمعقول عليها لما يرون من طعنهم فيها واغتبطوا بالقياس والنظر لما وجدوا من زهدهم في السنة والخبر سيما في زمانك هذا والأحاديث في الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والترهيب لوعد الله تعالى وفي فضائل الأعمال وتفضيل الأصحاب متقبلة محتملة على كل حال مقاطيعها ومراسيلها لا تعارض ولا ترد، وكذلك في أهوال القيامة ووصف زلازلها وعظائمها لا تنكر بعقل بل تتقبل بالتصديق والتسليم كذلك كان السلف يفعلون لأن العلم قد دلّ على ذلك والأصول قد وردت به، وقد روينا من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل به أعطاه الله ثواب ذلك وإن لم يكن ما قيل والخبر الآخر من روى عني حقاً فأنا أقوله وإن لم أكن قلته ومن روى باطلاً فإني لا أقول بالباطل، وفي كل ما رسمنا من هذا الكتاب نقول: الله أعلم وأحكم وعلمه المقدم وعنده حقائق العلوم وإليه ترجع الأمور وما شاء كان والله المستعان ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وهذا آخر كتاب العلم وتفصيل العلوم ووصف طريق السلف ونشر ما أحدث بعدهم الخلف.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!