The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الخامس والثلاثون ذكر اتصال الإيمان بالإسلام في المعنى والحكم وافتراقهما في التفصيل والاسم

 

 


الفصل الخامس والثلاثون ذكر اتصال الإيمان بالإسلام في المعنى والحكم وافتراقهما في التفصيل والاسم

وأنّ كل مؤمن مسلم، وتحقيق القول بالعمل، وإبطال مذهب الجهمية والكرامية والحرورية، وبيان مذهب أهل السنّة والجماعة، وفقنا الله تعالى لذلك، قال قائلون: الإيمان هو الإسلام وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات، وهذا يقرب من مذهب المرجئة وقال آخرون: إنّ الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير وهذا قريب من قول الإباضية، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة التوحيد؛ فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى؛ فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحّ إسلامه، ولا بدّ للمسلم من إيمان به يحقّ إيمانه، من حيث اشترط الله سبحانه وتعالى للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) الأنبياء: 94، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: (وَمَنْ يَأتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى) طه: 75، ومن كان ظاهره أعمال الإسلام لا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملّة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب لا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام؛ فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمناً بالغيب مما أخبر به الرسول عن الله سبحانه عاملاً بما أمر به فهو مؤمن مسلم، ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز أن لا يسمى مسلماً، ولجاز أن لا يسمّى كل مسلم مؤمناً بالله تعالى ورسله وكتبه، ومثل الإيمان من الأعمال كمثل القلب من الجسم، لا ينفك أحدهما من الآخر، لا يكون ذو جسم حيّ لا قلب له، ولا ذو قلب لا جسم له؛ فهما سببان منفردان، وفي المعنى والحكم متصلان، ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة لا يقال حبتان لتقارب وصفيهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإيمان، الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو أعمال القلوب.

روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام علانية والإيمان سرّ، وفي لفظ آخر: والإيمان في القلب، فالإسلام أعمال الإيمان والإيمان، عقود الإسلام، فلا إيمان إلاّ بعمل ولا عمل إلاّ بعقد، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن؛ أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ومثله قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية؛ أي لا عمل إلاّ بعقد وقصد، لأنّ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وأعمال القلوب من النيات، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصحّ الكلام إلاّ بهما، لأنّ الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، كذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك عدد الله تعالى في نعمته على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) البلد: 8 - 9، المعنى: ألم نجعله ناظراً متكلّماً؟ فعبّر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له، وذكره الشفتين لأنّ الكلام الذي جرت النعمة به لا يتمّ إلاّ بهما، ومثل الإيمان والإسلام أيضاً كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر متجاف وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في باطن الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلاّ به، فقد احتاج الفسطاط إليهما، إذ لا استقامة له ولا قوة إلاّ بهما، كذلك الإسلام من أعمال الجوارح، ولا قوام له إلاّ بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلاّ بالإسلام؛ وهو صالح الأعمال، وقد عبّر الله تعالى عن الإيمان بالإسلام، فلولا أنهما كشيء واحد ما عبّر عن أحدهما بالآخر، فقال سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ) الذاريات: 35 - 36، ولم يكونا بيتين إنما هم أهل بيت واحد لوط وبناته، وقال عزّ وجلّ في مثله: (إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: 84 فعطف بقوله: إن كنتم مسلمين على قوله: إن كنتم آمنتم، فدلّ على أنهما اسمان بمعنى واحد؛ وهذا كقوله تعالى فيما عبر عن الأيام بالليالي، لأن اليوم مرتبط بالليلة وأنت تعلم أنهما شيئان، فقال في قصة واحدة: (قَالَ آيَتُكَ أَلاًَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) آل عمران: 41 وقال أيضاً سبحانه: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) مريم: 1،، وأيضاً فإن الله تعالى قد جعل ضدّ الإسلام والإيمان واحد، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعنى ما كان ضدهما واحد، فقال سبحانه: (كَيْفَ يَهدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) آل عمران: 86، وقال: (يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 8،، فجعل ضدهما الكفر، وعلى مثل هذا خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام بوصف واحد، فقال في حديث ابن عمر: بني الإسلام على خمس: شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، صوم رمضان، وحجّ البيت، وفي حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف فدلّ بذلك أنه لا إيمان باطن إلاّ بإسلام ظاهر، ولا إسلام على نية إلاّ بالإيمان سرّاً، وأنّ الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بغير صاحبه، ولا يصحّ أحدهما إلاّ بالآخر، كما لا يصحان ولا يوجدان معاً إلاّ بنفي ضدهما وهو الكفر، كما روي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكفر أحد إلا بجحود ما أقرّ به، وأظهر من حديث ابن عباس آنفاً أنّ في نفس حديث ابن عمر ذكر الإيمان أيضاً بدلاً من لفظ الإسلام.

ورواه جرير عن سالم بن أبي الجعد عن عطية مولى بني عامر عن يزيد بن بشر قال: أتيت ابن عمر فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله بن عمر ما لك تحجّ وتعتمر وقد تركت الغزو؟ قال: ويلك إن الإيمان بني على خمس تعبد الله تعالى، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، كذلك حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد اشترط الله تعالى للإيمان العمل الصالح، ونفى النفع بالإيمان إلاّ بوجود العمل، كما شرط للإيمان الإسلام فقال تعالى: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأوُلئِكَ يُبَدِّلُ الله سيّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان: 7،، إجماع من أهل التفسير؛ إلاّ من تاب من الشرك كقوله تعالى: (فَإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة: 5، بعد قوله وخذوهم واحصروهم، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بِالتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً) سبأ: 37، وقال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس: 63، كما قال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا بِآيَاتِنا وَكَانُوا مُسْلِمينَ) الزخرف: 69، فاشترط للإيمان الأعمال والتقوى، كما اشترط للأعمال الصالحة الإيمان، فكما لو عمل العبد بالصالحات كلها لم تنفعه إلاّ بالإيمان، كذلك لو آمن من الإيمان كله لم ينفعه إلاّ بالأعمال، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني كما لا يصلح الزرع إلاّ بالماء والتراب فكذلك لا يصلح الإيمان إلاّ بالعمل والعلم، فأما تفرقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل عليه السلام لما سأله ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبهِ ورسله بالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره، ثم قال: ما الإسلام؟ فذكر الخصال الخمس؛ فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها، أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، فيما توجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، إلاّ أنّ ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضادّ، وليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، إذ قد يجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف ظاهر جسمه، والدليل على ذلك أنه جعل وصف الاسمين معنى واحداً في حديث ابن عمرو في حديث وفد عبد القيس الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس، وقد روى ذلك مفصّلاً في حديث عليّ رضي الله تعالى عنه: الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان، فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وأيضاً فإن الأمة مجمعة أنّ العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح لا يسمّى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً.

وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وليس فيه دليل على أنّ الإسلام غير الإيمان، أو أنّ المسلمين سويّ المؤمنين، أو أنّ الإيمان ضدّ الإسلام، والوجه الثاني من تأويل الخبر أنّ معنى قوله أو مسلم يعني به أو مستسلم، فإذا جمع بين عقود القلب وبين أعمال الجوارح كان مسلماً مؤمناً، ومن لم يقل بهذا الذي ذكرناه فقد كفّر أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهله في قتال أهل الردة وادّعى عليه أنه قتل المؤمنين، لأن القوم جاؤوا بعقود الإيمان ولم يجحدوا التوحيد ولا أكثر الأعمال وإنما أنكروا الزكاة فاستحلّ قتلهم، وواطأه الصحابة على ذلك حتى استتاب من رجع منهم.

وأما الحديث الآخر الذي جاء ظاهره أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرّق بين المؤمن والمسلم في أنه أعطى رجلاً ولم يعط الآخر، فقال له سعد: يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن فقال: أو مسلم؟ فأعاد عليه، فأعاده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلم؟ فإنما في هذا دليل على تفرقة الإيمان والإسلام في التفاضل والمقامات؛ أي ليس هو من خصوص المؤمنين ولا أفاضلهم، فكشف مقامه الذي خفي على سعد كما كشف مقام حارثة عن حقيقة إيمانه، إذ كان خاملاً لا يؤبه له فقال: كيف أصبحت؟ فنطق بوجده عن مشاهدته، فقال: عرفت فالزم؛ فهذا دليل لنا في تفضيل مقام الإيمان على مقام الإسلام، وأنّ المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وإن تساووا في أعمال الجوارح من الإسلام، وأنّ الإيمان لا حدّ له وإن كانت صحته بمحدود الإسلام، فآثر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي آمن طوعاً على المكره، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يعطي من المؤلفة الرؤساء، ومن لا يؤمن عاديته، وجمعه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحريضه المشركين كما أكرم الرجل بعد أنّ تكلم فيه فقيل له في ذلك، فقال: هذا أحمق مطاع، أو من يكثر عشيرته وأتباعه فيكون ظهيراً على المؤمنين، أو من فيه غنى للمسليمن ومنفعة وعزة للمسلمين، فأما الأتباع والسفلة من المؤلفة فلم يكن يؤثرهم بالعطاء، بل كان يؤثر المؤمنين، يقدّمهم على أراذل المؤلفة وضعفائهم، كما فعل بالقسم الذي قسمه بين المؤمنين فأعطاهم، إلا رجلاً من الغزاة له سجادة محلوق الرأس فإنه لم يعطه وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، والله ما عدل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لم أعدل فمن يعدل؟ وكان ذلك أول قرن نبغ من الخوارج، أفلا تراه لم يعط هذا شيئاً ولم يستمله لأنه لم يكن من خصوص المؤمنين، ولا ممن يتقي بأسه أو يظهر في الإسلام غناه فيتألف بالعطاء؛ وهذا مثل قول فرعون حين ألجمه الله الغرق فاضطره إلى الإسلام بقوله: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين، أجمع أهل التفسير أنّ معناه من المستسلمين فإن قيل، فقد روي في آخر هذا الخبر في بعض الروايات ما يدل على ضدّ هذا التأويل، وأنّ الرجل كان فاضلاً لا أنه كان مستسلماً، وهو أنّ في الحديث أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني لأعطي قوماً وأمنع آخرين أكلهم إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من الإيمان: منهم فلان، قيل: إنّ هذا كلام مستأنف من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفاده القائل لأنه بعث بجوامع الكلم، وكان يسأل عن الشيء فيخبر به ويزيد عليه للبيان والهداية الذي أعطي فكأنه أراد أن يخبر بتنويع عطائه وبضروب المعطين من الناس؛ هذا للحاجة، وهذا للفضل، وهذا للتآلف؛ لأن الذي منعه كان أفضل من الذي أعطاه، إذ لو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان الإسلام أفضل من الإيمان، ولكان المسلمون أفضل من المؤمنين، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، إلاّ أنّ الإيمان خاص فيه التفاوت والمقامات؛ فهو يشتمل على الإسلام، والإسلام داخل فيه، والمؤمنين هم خصوص المسلمين، منهم المقربون والصديقون والشهداء، والإسلام عام محدود يوصف به عموم المؤمنين، ويدخل فيه أهل الكبائر والإجرام، ولا يخرج منه من فارق الكفر ووقع عليه اسم الإيمان، كما قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِب) آل عمران: 94 وأخبر عنه بالفسوق، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إَِلَى الإِسْلاَمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمً الظَّالِمينَ) الصف: 7، فعلى إجماعهم أنّ الإيمان أعلى اسقاط وهم من توهّم أنّ الرجل كان أفضل، كيف وقد روينا تخصيص الإيمان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصّاً أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإسلام، قيل: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، فجعل الإيمان مقاماً في الإسلام، ففي هذا الحديث أيضاً تخصيص للإيمان على الإسلام لا تفرقة بينهما، بمعنى قوله في وصف الرجل أو مسلم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الرجل: أو مسلم، فدلّ على بطلان ما ناوله القائل لأن هذه اللفظة بألف الإستفهام لا تستعمل في عرف الكلام إلاّ في الوصف الأنقص والحال الأدنى فافهم.

وأما قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) الحجرات: 14، فإن هذا أيضاً من هذا النوع معناه: قولوا: استسلمنا حذر القتل؛ وهؤلاء ضعفاء المؤلفة وأراذلهم كانوا ينقمون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيثاره وتقديمه المؤمنين بالعطاء عليهم، وإرجاءه إياهم فقالوا: لم لا يعطينا كما يعطي المؤمنين؟ فإنّا مؤمنون كهم، فأخبر الله تعالى بذلك عنهم وأكذبهم في دعواهم وهم الذين قصّ الله تعالى أخبارهم في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقاَتِ فَإِنْ أُعطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُون) التوبة: 58، ففي هذه الآية دليل على أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعطي هذا الضرب من المؤلفة، وليس في الآية تفرقة بين الإيمان والإسلام بدليل قوله تعالى في الآية التي بعدها: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمَانِ) الجرات: 17، فسمّى إسلامهم إيماناً لأنه عطف ببعض الكلام على بعض، وردّ أوله إلى آخره، وإنما أسقط المنة به على رسوله، وأثبت المنّ عليهم بنفسه، وعطف بآخر الإسم على أوله، وغاير بين اللفظين، فلم يرد أحدهما على الآخر، فيقول: أن هداكم للإسلام لاتساع لسان العرب وليفيدنا فضل بيان، وإنّ الإسلام والإيمان اسمان بمعنى واحد، كما قال تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ) فاطر: 3، ولم يقل: يخلقكم، ليبيّن أنّ الرازق هو الخالق وليفيد وصفاً ثانياً وصف به نفسه تعالى فهو كقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فيهَا مِنَ المٌُؤْمِنينَ ففَمَا وَجَدْنَا فيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمينَ) الذاريات: 35 - 36، وهكذا قراءتها في مصحف ابن مسعود قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المسلمين، فلولا أنهما بمعنى لم يجز أن يقرأا بخلاف المعنى، فأما ما روي عن أبي جعفر بن عليّ: الإيمان مقصور في الإسلام؛ فمعناه هو باطنه، قال: وأدار دائرة كبيرة فقال: هذا الإسلام، ثم، أدار في وسطها دارة صغيرة فقال: وهذا الإيمان في الإسلام، فإذا فعل وفعل خرج من الإيمان وصار في الإسلام، يريد أنه خرج من حقيقة الإيمان وكماله ولم يكن من الموصوفين الممدوحين بالخوف والورع من المؤمنين، لأنه خرج من الإسم والمعنى حتى لا يكون مؤمناً بالله مصدقاً برسله وكتبه، ألا ترى إلى الدارة الصغيرة غير خارجة من الدارة الكبيرة التي أدارها حولها فجعلها فيها وضرب المثل بها، لكنها خالصها وليها ومخصومة فيها، ولو أراد أنه يخرج من الإيمان لجعلها دائرتين منفردتين ولم يجعل إحداهما جوف الأخرى، وكذلك جاء الخبر: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخر وهو مؤمن، معناه كامل الإيمان أو مؤمن حقّاً، لأن حقيقة الإيمان وكماله بالخوف والورع، إذ الأمة مجمعة أنّ أهل الكبائر ليسوا بكافرين، وإذا فسق بالزنا وشرب الخمر خرج من حقيقة الإيمان، هو الخوف والورع، ولم يخرج من اسمه ومعناه؛ وهو التصديق والتزام الشريعة، وفيه معنى لطيف كأنه يرتفع عنه إيمان الحياء، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحياء من الإيمان، والمستحي لا يكشف عورته على حرام، ويبقى إيمان الإسلام والتوحيد وإيجاب الأحكام، وقد روينا عن الحسن بيان ذلك أنه قال: الإيمان حقيقة الإسلام، وقيل لحذيفة: من المنافق؟ فقال: الذي يتكلّم بالإسلام ولا يعمل به فسمِي علم الإيمان إسلاماً وقرن القول، بالعمل وقال الثوري رحمه الله: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في حدودهم، وفرائضهم، وفي النكاح، وفي المواريث، وفي الصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، لا يحاسب الأحياء ولا يقضي على الأموات، ونكل ما لم نعلم من سرائرهم إلى الله تعالى، ونسمع بالتشديد فنخافه ونسمع اللين فنرجوه لأهل القبلة، ونتهم رأينا لرأي السلف قبلنا، وما ذكرناه من أنّ الإسلام والإيمان قرينان لا يفترقان؛ هذا مذهب فقهاء أصحاب الحديث وطريقة أئمة السلف رضي الله عنهم أجمعين.

باب ذكر تفضيل بيان ما نقل عن المحدثين من التفرقة بينهما وما جاء في معناه

فأما ما حكي عن بعض أصحاب الحديث، أنه فرّق بين الإيمان والإسلام فقال الزهري: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، وقال عبد الرحمن بن مهدي وقد سئل عن الإيمان والإسلام فقال: هما شيئان، وقال حمّاد بن زيد: الإسلام عام، والإيمان خاص، فإن قول هؤلاء على جملة قولنا، وهو دليل له وشاهد عليه، وأنهم لم يفرّقوا بين الإيمان والإسلام تفرقة اختلاف ولا تضادّ، ولم يريدوا أنّ أحدهما يوجد ويصحّ بعدم الآخر ليواطئوا مذهب المرجئة، لأنهم أبعد شيء منهم، إذ هم أصحاب أثر وتوقيف، وإنما فرّقوا بينهما تفريق تفاوت وتخصيص؛ أي أنّ الإيمان أخصّ وأعلى، لأن الزيادة والنقصان فيه، والفضائل والمقامات عنه، والإستثناء واجب فيه، وأنّ الاسلام عام لا يخرج منه إلاّ الكافرون، إذ ليس وراءه شيء، وعند جماعة من العلماء أنّ الإستثناء غير واجب في الإسلام، لأنه محدود معلوم، فهذا كان قصد من فرّق بين الإسلام والإيمان، وهي طريقة بعض السلف، وعبارة القدماء؛ وهو على نحو ما فصلناه وبمعنى ما بيناه، وإن كنا نحن أظهر تفصيلاً وأبين ترتيباً، وهذا مثل الخبر الذي روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أي الإيمان أفضل؟ قال: الإسلام قيل: فأي الإسلام خير؟ قال الإيمان، فلم يفّرق بينهما، ولكنه خصّص فجعل الإيمان حقيقة الإسلام وخالصه لأنه أخبر أنه منه فهذا من قوله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، أي من تحقّقه بالإسلام ومن أعلى إسلامه؛ هذا الوصف، وهذا هو نعت المؤمن الموقن الزاهد وهذا يشبه ما مثله أبو جعفر محمد بن علي في أنه أدار دائرة كبيرة وأدار فيها دارة صغيرة تخصيصاً، وجميع ما شرحناه وذكرناه عن السلف يبطل قول المرجئة والكرامية الإباضية ويدحض دعواهم، في أنّ الإيمان قول أو معرفة وعقد بلا عمل، وهو أيضاً ردّ على المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، الذين يقولون: مؤمن، وفاسق، وكافر؛ فلا يجعلون الفاسق مؤمناً وهو ردّ على الحشبية والجرمية والقطعية والحرورية، أصناف من الخوارج يقولون: من أتى كبيرة خرج من الإيمان، وأن أهل الكبائر كفّار يحلّ قتلهم، ويقولون إنّ أهل البغي من الأئمة كفرة يجب على الرعية قتالهم، ومنهم من يقول: إنّ من بغى على الإمام فقد كفر بخلاف قول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات: 9، فأمر بقتال أهل البغي بتسميته إياهم مؤمنين ولم يجعل لهم منزلة ثالثة، وقد ابتلينا بطائقتين مبتدعتين متضادتين في المقالة المرجئة والمعتزلة، قال المرجئة: إنّ الموحدين لا يدخلون النار، وإن عملوا بالكبائر والفسوق كله لأن ذلك لا ينقص إيمانهم، وقالت المعتزلة: إن ليس الفاسق بمؤمن وإن مات على صغيرة من الصغائر من غير توبة دخل النار لا محالة ولم يخرج منها خالداً من الكفار، والصواب من ذلك أنّ الفاسق مؤمن لا يخرجه فسقه من اسم الاسمان وحكمه، ولكن لا يدخله في المؤمنين حقّاً من الصديقين والشهداء، وأنّ أهل الكبائر قد استوجبوا الوعيد ودخول النار، وجائز أن يعفو الله تعالى عنهم بكرمه ويسمح لهم بجوده، كما روينا عن عليّ أنه قال: عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه الغالي ويرتفع عنه القالي.

وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف علماء السنة ومدحهم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ فالغالون هم المجاوزون للسنن والآثار، والمبطلون هم المدعون بالرأي والقياس، والجاهلون هم الشاطحون من المتصوّفة الضلال، وعدول كل خلق من اتبّع سنّة صالح من سلف، ولم يبتدع في الدين، ولا اتخد وليجة دون طريق المؤمنين؛ وهم رواة الأخبار وجملة الآثار من المحدثين وفقهاء المسلمين، ويوضح قولنا ويصححه قول الله تعالى: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة: 3، إجماعاً من المسلمين، وأنها نزلت بعد نزول الفرائض وإتمام الشرائع وفي حجة الوداع؛ وهي آخر حجة حجّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول فرض الحج، لأنّ سورة المائدة مدنية بإجماع من القراء، وهي من آخر ما نزل من القرآن باتفاق من الفقهاء، ولم يلبث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية إلاّ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام اتفق عليه أهل التاريخ، لأنها نزلت يوم التاسع من ذي الحجة من آخر يوم عرفة وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاثنتي عشرة خلون من ربيع الأول، فقال الله تعالى بعد نزول الأحكام وأحكام الحلال والحرام: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة: 3، والإكمال هو إتمام الشيء الذي بعضه متعلق ببعض، فلا يقال أكمل لما كان بعضه قبل بعض، فإذا وجد جميعه قيل: قد أكمل وتمّم؛ هذا هو حقيقة هذه الكلمة، فلما كان الإيمان قد تقدم بمكة، وأنزل الله تعالى الفرائض والدين شيئاً بعد شيء، وكان الإكمال من الدين دلّ أنّ بعضه متعلّق ببعض إلى أكمله، فصارت الأعمال متعلقة بالإيمان؛ وهما الدين المكمل.

وقال بعض السلف: من لم يقل من المرجئة أن إبليس مؤمن لأنه قد أقرّ بالإيمان وقال به انكسر عليه مذهبه، ولعمري أنّ إبليس لعنه الله موحد لله تعالى عارف به إلاّ أنه لم يعمل بالتوحيد ولم يطع من عرفه وآمن به فكفر، فأما تعلقهم بقول الله تعال: (فَأَثَابَهُمْ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار) المائدة: 85، فإنه شرط القول للجنات أو علق الجنات بالقول فإنما ذلك إثبات منه تعالى لتحقيق القول، وأنه قول إيمان ويقين، وأنهم غير متعوّذين بالقول، ولا متخّذوه جنة كالمنافقين، إذ المنافقون قد قالوا كقولهم إلاّ أنه أخبر عن سرائرهم بضده فقال: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) آل عمران: 761، فأراد سبحانه بأنّ قول هؤلاء قول المؤمنين، وأنّ قولهم إيمان من أعمالهم لأنهم منفردون بالقول دون العمل وفيه أيضاً دليل أنّ القول بالحقّ من الإيمان، وأنه يستحق عليه ثواباً، لأنه من أعمال البرّ بمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأما أن يكون فيه دليل أنّ القول حسب هو الإيمان كله وأنّ الإيمان يكون قولاً لا يحتاج إلى عمل، فهذا باطل بالأدلة التي قدمنا ذكرها من الآي التي شرط الله تعالى فيها الأعمال، ومن قوله في الكفار: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا بالزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة: 5 وأيضاً فإن في نفس هذه الأية بطلان دعوى المرجئة لأن الله تعالى لم يقل فلم يثبهم الله إلاّ بما قالوا جنات وإنما قال عزّ وجلّ: (فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ) المائة: 85، فأخبر أنه أجرهم على قولهم بالحق، كما قال فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا، ثم أحكام ذلك وقيده بقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) البينة: 5، ولكن هؤلاء كما قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْويِلهِ) آل عمران: 7، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن فهم الذين عنى الله تعالى فاحذروهم؛ وذلك أنّ الله تعالى قرن الأعمال بالإيمان في كل المواضع، فلم تقف المرجئة مع شيء من هذا البيان والأحكام، فلما أجمل القول في موضع واحد لما ذكرناه من السبب تعلقوا به ووقفوا معه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صنفان لا نصيب لهما في الإسلام، وفي لفظ آخر: لا تنالهم شفاعتي: القدرية والمرجئة، وفي الحديث الغربي: طائفتان لا يدخلون الجنة: من قال أنّ الإيمان كلام، ورواه حذيفة فقال: إني لأعلم أهل دينين في النار قوم شرار بلا علم، وقوم في آخر الزمان يقولون كانوا ألوفاً ضلالاً، نسأل الله تعالى أنّ لا يصرفنا عن فهم آياته ولا يبلونا بالكبر، وإن يرينا سبيل الرشد ويوفقنا لاتخاذه سبيلاً، وإن يرينا سبيل الغيّ ويعصمنا من اتخاذه سبيلاً، كما أخبر بذلك عمن بلاه به فقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الَحقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) الأعراف: 146 الآية.

ذكر الاستثناء في الإيمان والإشفاق من النفاق وطريقة السلف في ذلك

فأما الاستثناء في الإيمان فإنه سنة ماضية وفعل الأئمة الراضية، على معنى الخوف والتقصير، وكراهية التزكية للنفس، لا على وجه الارتياب في اليقين، ولا بمعنى الشك في التصديق، إذ الإيمان مقامات والمؤمنون فيه درجات، ولذلك قال الله تعالى لقوم موصوفين بأعيانهم: (أُولئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حقَّاً) الأنفال: 4، فهذا وصفهم بالكمال ومدحهم بخصال الأعمال، ففي دليل خطابه أنّ ثم مؤمنين غير حق كيف وقد قال تعالى: (وأنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين) الأنفال: 5 - 6، وقال سبحانه وتعالى في وصف آخرين: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلونَ) الصف: 2، وقال في نعت الصادقين: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبيلِ الله أولئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) الحجرات: 51، وقال في مثل وصفهم: (وَلكِنَّ البرَّ مَنْ آمَنَ بالله والْيَومِ الآخر وَالمَلائِكَةِ) البقرة: 177، الآية، فذكر عشرين وصفاً إلى قوله: (أُولئِكَ الّذينَ صَدّقوا وَأولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) البقرة: 177، منها الإيثار بالمال على حبه، والوفاء بالعهد، والصبر في الأمراض والجوع والشدائد، فبعد ذلك شهد لهم بالصدق والتقوى وقال في وصف المحبوبين من الموقنين: (إنَّ الله اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ) التوبة: 111، وقال في نعت عموم المؤمنين: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسأَلكُمْ أَمْوَالَكُمْ إنْ يَسْأَلَكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخِْرجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد: 36 - 37، فشتان بين من وصف بالمجاهدة والصدق وبين من نعت بالخلف وعرض للمقت، وبين من وصف بالحقّ وبين من يجادل في الحق، وكم بين من قبل منه المال والنفس وبين من ردّ عليه المال ولم يسأله لما علم منه من البخل والضغن، واسم الإيمان يجمعهم ومعناه يجتمع عليهم، إلاّ أنّ مقامات الإيمان ترفع بعضهم على بعض وتفاوت بين بعضهم وبعض، كما قال تعالى: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ) المجادلة: 11، وكقوله: (لاَ يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجةً منَ الَّذين أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنى) الحديد: 1،، يعني الجنة على تفاوت الدرجات فيها، فجمع بينهم في الدار كما جمع بينهم في اسم الإيمان، ورفعهم في الدرجات علوّاً في المقامات، كما قال تعالى: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَالله بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) آل عمران: 163، وقد روينا في خبر: الإيمان عريان ولباسه التقوى وحليته الورع وثمرته العلم، ففيه دليل أنّ من لا تقوى له فلا لبس لإيمانه ومن لا ورع له فلا زينة لإيمانه ومن لا علم له فلا ثمرة لإيمانه فإن اتفق فاسق ظالم جاهل كان بالمنافقين أشبه منه بالمؤمنين وكان إيمانه إلى النفاق أقرب ويقينه إلى الشك أميل ولم يخرجه من اسم الإيمان إلا أنّ إيمانه عريان لا لبسة له، معطّل لا كسب له، كما قال: (أَوْ كَسبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْراً) الأنعام: 158، والنفاق مقامات قيل سبعون باباً والشرك مثل ذلك فيها طبقات.

وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع من كنّ فيه فهو منافق خالص، وإن صام وصلّى وزعم أنه مؤمن؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وفي بعض هذا الحديث: وإذا عاهد غدر؛ فصارت خمساً، فإن كانت فيه واحدة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدّها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ آخر: أيهما غلبت عليه ذهب به، وفي الخبر: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أنّ لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ففي تبعيض أخلاق الإيمان وفي وجود دقائق الشرك وشعب النفاق ما يوجب الاستثناء في كمال الإيمان لجواز اجتماع الإيمان والنفاق في القلب ولوجود شعب النفاق وعدم بعض شعب الإيمان من القلب، كيف وقد جاء في الخبر: أكثر منافقي أمتي قراؤها، والحديث الآخر: الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا، وقال حذيفة: كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصير بها منافقاً إلى أن يموت: إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات، وفي حديث عليّ كرّم الله وجهه: أنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء؛ فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله، وأنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهكت الحرمات نمت وزادت حتى يسوّد القلب فيطبع عليه؛ فذلك الختم، ثم قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين: 41؛ فهذا كله موجب للاستثناء في الإيمان خشية خفايا الشرك ووجود دقائق النفاق وخوفاً من الدعوى للحقيقة والكمال، لأن من قال: إني مؤمن حقّاً فقد زكى نفسه وعصى ربه، لأن الله تعالى نهى عن الزكية للنفس، وعرض المزكي نفسه للكذاب في قوله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) النجم: 32، وبقوله: (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكّي مَنْ يَشَاءُ) النساء: 49، ثم قال تعالى: (اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكَذِبَ) النساء: 5،، وقد قال إبراهيم عليه السلام في تفسير أحد الوجهين من قوله تعالى: (وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً) الأنعام: 8،، ومثله قال شعيب: وما يكون لنا أن نعود فيها، يعني ملة الكفر، إلاّ إن يشاء الله ربنا، ثم علّلا جميعاً بسعة العلم وسبق المشيئة به فلم يأمنا أن يكونا في سعة علم الله عزّ وجلّ وفي خفيّ مشيئته؛ وهذا هو خوف المكر، وحقيقة المكر معنيان؛ أحدهما أن يظهر شيئاً ويخفي ضده، والثاني أن يكشف ما كان ستره ويفشي ما كان أسره بعد الطمأنينة والعزة، والأنبياء مع فضلهم ومكانهم يستثنون في الكفر خيفة المكر، ولا يستثني الضعيف الجاهل في الإيمان ويغترّ بظاهر أمره، بل ينبغي أن يستثني في الإسلام أيضاً وفي جميع أعمال البرّ، لأن القبول غير العمل والسابقة غير ما ظهر من المعاملة، ولا ينبغي أن يدع الاستثناء في شيء من الأحوال.

وقال بعض العلماء في معنى قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ) ق: 19، قال: بالسابقة، وقال بعض السلف: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وكان أبو الدرداء يحلف بالله عزّ وجلّ: ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلاّ سلبه، ويقال: من الذنوب ذنوب تؤخر عقوبتها إلى سوء الخاتمة؛ وهذا من أخوف ما خافه العاملون من قوله تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون: 63، وقيل: من الذنوب ذنوب لا عقوبة لها إلاّ سلب التوحيد في آخر نفس نعوذ بالله تعالى من ذلك، وقيل: هذا يكون عقوبة الدعوى للولاية والكرامات للافتراء على الله تعالى، وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: من علامة الأولياء أنهم يستثنون في كل شيء، وقال من قال: أفعل كذا، ولم يقل إن شاء الله تعالى، سئل عن هذا القول يوم القيامة فإن شاء عذبه وإنْ شاء غفر له، وقد نهى الله تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يقول شيئاً حتى يستثني، وأمره بالاستثناء إذا نسي فقال تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لشَيءٍ إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله) الكهف: 23 - 24، ثم قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف: 24، أي الاستثناء، أي فاستثن إذا ذكرت فتأدب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أحسن الأدب فكان يستثني في الشيء يقع لا محالة،.

فروي أنه دخل المقابر فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، وقال سبحانه معلماً لعباده الاستثناء ورادّهم إليه بمشيئته؛ وهو أصدق القائلين وأعلم العالمين: (لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنّ شَاءَ الله آمِنينَ) الفتح: 27، والاستثناء أصل يرد إليه من عرفه ولم ينكر الاستثناء، والأصل هو أن يزيد وينقص فأما زيادته فقد ثبت بنص الكتاب من قوله تعالى: (وَيَزيدُ الله الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدْىً) مريم: 76، ومن قوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إيمَاناً) آل عمران: 173، إلى نظائرها وما يزيد فهو ينقص لأن معناه موجود في الكتاب بدليل الخطاب من قوله تعالى: (وَلاَ يَزيدُ الظَّالِمينَ إلاَّ خَسَاراً) الإسراء: 82، وقوله: (وَلَيَزَيدّنَ كَثيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) المائدة: 64، ومن قوله تعالى: (وَفي آذَانِهِمْ وَقْراً) الأنعام: 25، وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ) التوبة: 125، فما يزيد الظالمين إلا خساراً ينقصهم رجحاناً وربحاً، وما يزيدهم إلاّ كفراً ينقصهم إيماناً، وما يكون عليهم عمى ينقصهم بصيرة، وما يكون لهم رجساً يكون لهم من الطهارة نقصاً، من قبل أنّ مزيد الشرّ نقصان الخير، كما أنّ مزيد الخير نقصان الشرّ،، فإذا ثبت أنّ الإيمان يزيد بالصالحات وينقص بالسيّئات وجب الاستثناء فيه، لأن الصالحات درجات يعلو فيها المؤمنون بحسن الولايات والمجاهدات، قال الله تعالى في المجمل من الخطاب: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) آل عمران: 139، وقال: (وَالله وَلِيُّ المُؤْمِنينَ) آل عمران: 68، وقال في المفسّر: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأحقاف: 19، وقال في مثله: (وَهُوَ وَليُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام: 127، وقال: (لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولى الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ في سَبيلِ الله) إلى قوله: (وَفَضَّلَ الله المُجَاهِدينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْراًعَظيماً) النساء: 95.

وروينا في حديث وائلة بن الأسقع: الإيمان يزيد وينقص، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة ومن لا يحصى من التابعين، وقيل لأحمد بن حنبل رضي الله عنهما: ما معنى الاستثناء في الإيمان؟ قال: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قيل: نعم، قال: فالتصديق بالقول والاستثناء بالعمل، وقال بعض العلماء: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه منه بريء، وقال مرة: آمنهم له، وقال عمر مولى عفرة: أقرب الناس إلى النفاق الذي إذا زكّى بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وأبعد الناس منه من يتخوّف أنه لا ينجيه حقيقة ما هو فيه، وقال بشر بن الحرث: سكون القلب إلى قبول المدح أضرّ عليه من المعاصي، وكان سهل يقول: غفلة العالم السكون إلى الشيء، وغفلة الجاهل الافتخار بالشيء، والسكون عندهم من الدعوى، والدعوى من المعاصي، وقال حذيفة اليوم المنافقون أكثر منهم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه، وقيل للحسن: إنّ قوماً يقولون لانفاق اليوم، فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرقات، وعنه وعن غيره: لو نبت للمنافقين أذناب ما قدرنا أنّ نطأ على الأرض، وسمع ابن عمر رجلاً يطعن على الحجاج فقال: أرأيت لو كان حاضراً بين يديك أكنت تتكلم فيه بما تكلمت الآن؟ قال: لا، قال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل له لسانان من نار في الآخرة، وفي خبر آخر: شرّ الناس ذو الوجهين يأتي هولاء بوجه وهؤلاء بوجه، وقيل للحسن إنّ قوماً يقولون: لا نخاف النفاق، فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من تلاع الأرض ذهباً، وقال الحسن: إنّ من النفاق اختلاف اللسان والقلب والسرّ والعلانية والمدخل والمخرج، وقال رجل لحذيفة: إني أخاف أنْ أكون منافقاً، فقال: لو كنت منافقاً ما خفت أن تكون منافقاً، إنّ المنافق قد أمن النفاق لأن النفاق على ضربين؛ نفاق ينقل عن الملة وهو الشك في دين الله تعالى والردّ لشرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونفاق لا ينقل عن الملة ولا يخرج عن الإسلام، ولكنه ينقص الإيمان ويذهب حقيقته، ويطفئ أنواره، ويحرم مزيده، ويحبط الأعمال، ويوجب المقت والإعراض؛ وهو الرياء والمداهنة والتصنّع للخلق والتزيّن بالحق وائتلاف الألسنة واختلاف القلوب وتفاوت القول والعمل ومخالفة الأمر إلى ما ينهي عنه واختلاف السرّ والعلانية وزيادة الظواهر على السرائر، وهذا المعنى من النفاق الذي خالفه السلف وكانوا منه على إشفاق، وكان سهل يقول: المرائي حقّاً الذي يحسن ظاهره، حتى لا تنكر العامة والعلماء من ظاهره شيئاً وباطنه خراب، وقد كان الحسن وأصحابه يسمون أهل البدع منافقين، وكان ابن سيرين وأصحابه يسمونهم خوارج، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين ومائة، وفي رواية خمسمائة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقال مرة: ما منهم أحد يقول أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام.

وقد روينا عن عليّ وأبي سعيد قال: الأرجاء بدعة وقال أبو أيوب: أنا أكبر من الأرجاء، أول من أحدث الأرجاء رجل من أهل المدينة ذكره، وقال قتادة: لعن الله ديناً أنا أكبر منه، وإنما ظهر الأرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث يعني في ولاية الحجاج، وقال سفيان الثوري: من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقّاً فهو بدعة، قيل: فما يقول؟ قال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبْرَاهِيمَ) البقرة: 136 الآية، فقيل للحسن: أمؤمن أنت؟ قال إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أنْ أقول نعم فيقول الله تعالى: كذبت يا حسن فيحق علي الكلمة، وكان يقول ما يؤمنني أن يكون الله عزّ وجلّ قد اطلع عليّ في بعض ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا قبلت لك عملاً أبداً فأنا أعمل في غير معمل، وكان جماعة من أهل العلم يرون السؤال عن قوله أمؤمن أنت؟ بدعة، ويقول بعضهم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وكتبه ورسله، وقال إبراهيم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: ما أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة.

وروينا عن الثوري عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم النخعي: إذا سئلت أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلاّ الله، ومنصور عن إبراهيم قال: سئل علقمة فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو ذاك إن شاء الله، وكان الثوري يقول: نحن مؤمنون بالله وملائكته ورسله وما ندري ما نحن عند الله، وقال بعض العلماء: أنا مؤمن بالإيمان غير شاكّ فيه ولا أدري أناممن قال الله سبحانه أولئك هم المؤمنون حقّاً أم لا.

وقال بعض العارفين: لو عرضت عليّ الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة، قيل: ولِمَ؟ قال: لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغير عن التوحيد من باب الحجرة إلى باب الدار، وقال أبو سليمان الداراني: سمعت فلاناً - يعني بعض الأمراء - يتكلم على المنبر بكلام أردت أن أقوم فأنكر عليه فخشيت أن يأمر بقتلي، فلم يكن بي أن أموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق بأني أمرت بالمعروف على الإمام وقتلت في الله عزّ وجلّ عند خروج روحي فكففت عن ذلك.

وقال بعض العارفين: لو عرفت أحداً على التوحيد خمسين سنة ثم حالت بيني وبينه سارية ثم مات، لم أحكم أنه مات على التوحيد لعلمي بسرعة تقليب القلوب، وقال منصور بن زاد: إن كان الرجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقال أبو وائل: قال رجل لابن مسعود: لقيت ركباً فقالوا: نحن المؤمنون فقال: ألا قالوا نحن من أهل الجنة؟ وقال بعض أصحاب عبد الله لرجل: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فذكر ذلك لابن مسعود فقال: سلوه أمن أهل الجنة أنت؟ فقال: أرجو، فقال: ألا رجيت الأولى كما رجيت الثانية، ونقش ابن لبعض التابعين على خاتمه: فلان لا يشرك بالله تعالى شيئاً فقال أبوه: هذا أقبح من الشرك.

وقال بعض السلف: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه أبعدهم منه عند نفسه، وفي الخبر: أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً ومدحوه وأحسنوا الثناء عليه، فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الرجل يقطر وجهه ماء من أثر الوضوء قد علق نعليه بيديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هذا هو الرجل الذي وصفنا لك آنفاً، فلما نظر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرى على وجهه سفعة من الشيطان، يعني ظلمة، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟ فقال: اللهم نعم، في الحديث: من قال إني مؤمن فهو كافر، ومن قال إني عالم فهو جاهل، ومن قال إني في الجنة فهو في النار، وعلّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله تعالى دعاء قال: قل فيه: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، وجاء في الخبر: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا، وكان من دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أستغفرك لما علمت وما لم أعلم، فقيل له: أتخاف يا رسول الله؟ قال: وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقال اللّّه تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر: 74، قيل: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات، فلما كان عند الحساب والميزان وجدوها سيّئات، وقيل كانت هذه الآية مبكاة العابدين، وقيل في معنى قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) الأنعام: 115، وقيل: صِدْقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك كقوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) يونس: 96 - 97، وقال سبحانه: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذِلكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون: 63، وقال: (يَنَالُهُمْ نَصيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ) الأعراف: 37، وقال: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) هود: 9، 1، وقال: (وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) الحج: 41، وقال: (لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلاَّ للهُ) النمل: 65، فالاستثناء في الإيمان هو من الإيمان، والاستثناء في كل شيء من علامة الأولياء، والإشفاق من الشرك والنفاق، هو من مزيد الإيمان لئلا يسكن العبد إلى شيء ولا يزكي نفسه بشيء، وقال سري السقطي: لو أنّ رجلاً دخل إلى بستان فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الأطيار فخاطبه كل طير منها بلغة فقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في أيديها.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !