The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الثاني والأربعون كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار

 

 


الفصل الثاني والأربعون كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار

فإن سنح لهذا المريد سفر ففي الحديث: البلاد بلاد الله عزّ وجلّ والخلق عباده، فحيث ما وجدت رزقاً فأقم واحمد الله عزّ وجلّ، والخبر المشهور: سافروا تغنموا، فغنيمة أبناء الآخرة ريح تجارة الآخرة، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (أَلمْ تَكُنَ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء: 97، وقال عزّ وجلّ: (قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فَانْظَرُوا) العنكبوت: 20 وقال تعالى: (وَفي الأرْضِ آيَاتٌ للمُوقِنينَ) الذاريات: 20 وقال جلّ وعلا: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21، فمن جعلت آياته في نفسه تبصر ففطن، ومن جعلت له الآيات في الآفاق سرب وسري، وكذلك قال الله عزّ وجلّ: (وَإنَّكُمْ لَتَمُروُّنَ عَلَيْهِمْ مُصبْحِينَ وَبالَّليْلِ أَفلا تَعْقِلُونَ) الصافات: 137 - 138 ومثله: (وَكأَيِّنْ مِنْ آيَة فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعرِضُونَ) يوسف: 105 فمن سار فكانت له بصيرة اعتبر وعقل، ومن مرّ على الآيات فنظر إليها منها تذكر وأقبل، ومن أمر الله عزّ وجلّ بالمشي في مناكب بساطه والأكل من رزقه بعد إظهار نعمته بتذليل مهاده فقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الملك: 15، قيل: في أسواقها، وقيل: قراها، وقيل: جبالها، وهو أحبّ إلى أحداب الأرض قراها ومناكبها جبالها لأنها أعاليها، وكان بشر الحافي يقول: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا كثر مقامه في موضع تغيّر، وقيل: إنما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق النفس، وأيضاً يسفر عن آيات الله سبحانه وقدره وحكمه في أرضه، فإذا عزم على السفر فليصلّ ركعتي الاستخارة وليعقد التوكّل على الله عزّ وجلّ، فكفى ناظراً وساكناً إليه تبارك وتعالى واثقاً به ومعتمداً عليه مستوراً حاله راضياً عنه عزّ وجلّ في تقلّبه ومثواه، ولينو في سفره الاعتبار بالآثار والنظر إلى الآيات بالاستبصار والابتغاء من فضل الله سبحانه فيما ندبه إليه من الأسباب، ويقال: إنّ الله تبارك وتعالى وكّل بالمسافرين ملائكة ينظرون إلى مقاصدهم فيعطي كل واحد على نحو نيته، فمن كانت نيته طلب الدنيا أعطي منها ونقص من آخرته أضعافه وفرق عليه همه وكثر بالحرص والرغبة شغله، ومن كانت نيته طلب الآخرة وأهلها أعطي من البصيرة والفطنة، وفتح له من التذكرة والعبرة بقدر نيته، وجمع له همه وملك من الدنيا بالقناعة والزهد شغله، ودعت له الملائكة واستغفرت له، فلتكن نية هذا المسافر استصلاح قلبه ورياضة نفسه واستكشاف حاله وامتحان أوصافه، لأنّ النفس إنما أظهرت الإذعان والانقياد في الحضر، وربما استكانت وأجابت في السفر، فإذا وقعت علها أثقال الأسفار ولزمتها حقائق الاستخبار خرجت عن معتاد ذلك المعيار فأسفرت حقيقتها وانكشفت دواعيها، فيكون المسافر في علوم وبصائر يعرف بها خفايا نفسه ومكامنها، ويكون هذا من خبء الأرض الذي يخرجه الله عزّ وجلّ لمحبيه متى شاء، كما قال جلّ وعلا: (يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ) النمل: 25، فإن خرج سائحاً في طلب العلم فقد جاء ذلك في تفسير قوله عزّ وجلّ السائحون قيل: في طلب العلم، وقيل: هم طلبة العلم، وقد كان سعيد بن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد، وقال الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدل على هدى، ما رأيت أنّ سفره كان ضائعاً، ورحل جابر بن عبد الله من المدينة وغيره من الصحابة إلى مصر فساروا شهراً في حديث بلغه عن عبد الله بن أنيس الأنصاري يحدثه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعوه، ومن سافر في طلب العلم من عهد الصحابة إلى يومنا هذا أكثر من أنْ يحصى، وفي الخبر: من خرج من بيته في طلب العلم، فهو في سبيل الله عزّ وجلّ حتى يرجع.

وفي خبر آخر: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله عزّ وجلّ له طريقاً إلى الجنة، ويقال: إنّ النفقة في العلم كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة، وإن سافر في لقاء الصالحين فقد جاء في الأثر: كانوا يحجون للقاء، والحجّ من أفضل الأسفار فجعلوه سبباً للقاء الأخيار، فإن نوى القرب من الأمصار طمعاً في سلامة دينه وبعداً من تعلّق النفس بما في الحضر من حظّ دنياه فحسن، وربما خرج طلباً للخمول والذلة، خشية الفتنة بالشهرة، ورجاء صلاح قلبه، واستقامة حاله في البعد من الناس، ورياضة بالتفرق والتوحّد إلى أن يقوّي يقينه ويطمئن قلبه، فيستوي عنده الحضر والسفر، ويعتدل عنده وجود الخلق وعدمهم بإسقاط الاهتمام بهم، وقد قال الثوري: هذا زمان سوء لايؤمن فيه على الخامل فكيف بالمشهورين، وهذا زمان رجل ينتقل من بلد إلى بلد كلما عرف في موضع تحول إلى غيره، وقال أبو نعيم: رأيت الثوي وقد علق قلّته بيده، ووضع جرابه على ظهره، فقلت له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: قد بلغني عن قرية فيها رخص، فأنا أريد أن أقيم بها، فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد الله؟ قال: نعم إذا بلغك عن قرية فيها رخص فأقم بها، فإنه أسلم لدينك، وأقلّ لهمّك، وقد كان سري السقطي يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار، ومن أفضل الأسفار ما خرج له في سبيل الله عزّ وجلّ من الجهاد والحجّ والرباط وزيارة قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم زيارة أصحابه، محتسباً بذلك ما عند الله عزّ وجلّ، والسفر في زيارة الأخ في اللهّ عزّ وجلّ مستحبّ مندوب إليه، روينا في خبر عن بعض أهل البيت عليهم السلام وقيل: مكتوب في التوراة سرْ ميلاً عد مريضاً، سرْ ميلين شيّع جنازة، سرْ ثلاثة أميال أجب دعوة، سرْ أربعة أميال زر أخاً في الله تعالى، وفي الخبر: أنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله عزّ وجلّ على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد؟ فقال: أخاً لي في هذه القرية أزوره، قال: أبينك وبينه رحم تصلها؟ قال: لا، قال: فله عليك نعمة تردها، قال: لا إلا ّ أني أحببته في الله عزّ وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك يبشرك بالجنة ويخبرك أنه قد غفر لك بزيارة أخيك، وإن سافر إلى بعض الثغور ناوياً رباط أربعين يوماً أو ثلاثة أيام فحسن، وإن قصد عبادان فرابط فيها ثلاثاً فقد أسابها ثلاثمائة من العلماء والعباد للرباط فيها ما يجله وصفه.

روي عن عليّ عليه السلام أنه سأل رجلاً بالبصرة أن يرابط بعبادان ثلاثاًِ ويشركه في صحبته، وقال بعض العارفين: كوشفت بالأمصار فرأيت الثغور كلها تسجد لعبادان، ومن قصد في سفره أحد المساجد الثلاث المندوب إليها لشدّ الرحال فهو أفضل، أولاها المسجد الحرام، ومسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسجد بيت المقدس، فيقال: من جمع الصلاة في هذه المساجد الثلاث من سنته غفرت له ذنوبه كلها، ومن أهل بحج أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخرج ابن عمر من المدينة قاصداً إلى بيت المقدس حتى صلّى فيه الصلوا ت الخمس، ثم كرّ راجعاً من الغد إلى المدينة، وسأل سليمان عليه السلام ربه تعالى: إنّ من قصد هذا المسجد لا يهمه إلاّ الصلاة فيه أن لا تصرف نظرك عنه ما دام مقيماً فيه حتى يخرج منه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه فأعطاه الله تعالى ذلك، وأما فضائل المسجدين في الحرمين حرم الله عزّ وجلّ وحرم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكثر من أن نذكرها، وإن سافر طلباً للحلال وهويأمن طعمة الحرام فذانك له قربتان، وقد فعله صالحو السلف في كل زمان، وليكن العبد في سفره مراعياً لهمه، حافطاً لقلبه من التشتّت والطمع في الخلق، والتعرّض للمسألة، فإن لم يكن ذا معلوم معهود كان معلومه العلام الودود، وكان طريقه إليه صدق التوكّل، وزاده في طريقه حسن التقوى له بصحة الأياس من الناس، وعليه حينئذ الصبر على بلائه، والرضا بتصريفه في قضائه، ولاشكر على لطائف نعمائه من منع أو عطاء أو شدة أو رخاء، لأنه في يد الوكيل يقلبه كيف يشاء، والتوكّل عند المتوكّلين هو في الصبر للصبور وتسليم الحكم للحاكم، ومنه قوله تعالى: (الَّذينَ صبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 59 وقوله: (إنْ الحُكْمُ إلاَّ لله علَيْهِ تَوَكَّلتُ) يوسف: 67.

وقال رجل لبشر بن الحارث: إني أريد سفراً ولكني منعني أنه ليس عندي شيء، فقال: لا يمنعك العدم من سفرك واخرج لقصدك، فإن لم يعطك ما لغيرك لم يمنعك ما لك، وكان إبراهيم الخواص يقول: كفّ فارغ وقلب طيب ومرّ حيث شئت، ومن طرقته فاقة أو رهقته حاجة لم يخرجه من التوكّل أن يسأل إذا عدم القوة والصبر، لأنه حينئذ يسأل لربه لا لنفسه، يحركه العلم لا الهوى لإقامة فرضه وحفظ عقله الذي هو مكان تكليفه، وفي الأثر: من جاع فلم يسأل فمات دخل النار، لأن ّ ترك السؤال عند خوف رهق الموت، ومع عدم الصبر سبب التلف، إن كان الجوع أحد الحنوف القاتلة، وقد تأوّل بعض متأخّري الصوفية قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده قال: المسألة عند الفاقة وأنا بريء من عهدة هذا التأويل، وقد كان جعفر الخلدي يحكي هذا عن شيخ من الصوفية وكان هو يستحسنه، ولكن قد كان أبو سعيد الخراز يمدّ يده عند الفاقة ويقول: ثم شيء لله.

وحدثونا عن أبي جعفر الحداد، وكان شيخاً للجنيد، له علم في التوكلّ وحال من الزهد، كان يقتات بخروجه بين العشاءين فيسأل من باب أو بابين، فيكون ذلك معلومة إلى بعض حاجاته من يوم أو يومين، ولم يعب هذا عليه أحد من الخصوص، وقد رأى بعض الناس رجلاً من الصوفية دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتاً في يده بعد عشاء الآخرة فعاتبه على ذلك وقال: دفع إليك شيء أخرجته كله، فلو تركت منه لعشائك شيئاً؟ فقال: ما ظننت أني أعيش إلى المساء، ولو علمت ذلك فعلت، وكان هذا زاهد قصير الأمل إلاّ أنّ السؤال للمتوكّل عند الخواص يخرجه من التوكّل، وقد كان سهل يقول: المتوكّل لا يسأل ولا يردّ ولا يحتكر، وليس يخرجه عندي من التوكّل المسألة عند الفاقة، بل عدم الصبر والقوة، ففقد ذينك وجود الإذن من الله له في السؤال إذا كان ناظراً إلى تصريف والوكيل في كل حال، ولأنّ الوليّ الحميد يقلب وليّه في جميع الأحوال، ألم ترَ إلى إمامي أهل الظاهر والكتاب وأهل الباطن والقلوب، استطعما أهلها، لأن المسلم يستحقّ على إخوانه سدّ جوعته لحرمة الإسلام، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليلة الضيف واجبة، وقال عليه الصلاة والسلام: الضيافة حقّ، وفي الخبر: ولك أن تأخذ من ماله مقدار ليلة، وفي الحديث: أيما أهل عرضة أو قرية بات فيهم رجل من المسليمين جائعاً فقد برئت منهم الذمة، وكان الثوري يسأل في البوادي من الحجاز إلى صنعاء اليمن، فقال: كنت أذكرهم حديث عبد الله هذا في الضيافة، قال: فيخرجون إليّ طعاماً فآكل شبعي وأترك ما بقي، والمسافر هو ابن السبيل الذي أوجب الله حقه في الأموال، لأن السبيل هو الطريق، وراكبها ابنها، لأنه صاحب طريق وسالكه، وليس عليه أيضاً في الثواء عن أخيه المسلم ثلاثة أيام شيء، لأنه مقيم على ما أبيح له.

وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضيافة ثلاثة، فما زاد فهو صدقة، فلا يقيمنّ فوق ثلاث، فقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: ولايقم فوق ثلاث فيحوجه أن يضيق عليه، وتأويل قوله عندي فما زاد فهو صدقة، أي مروه لامندوب إليه، ولا مأمور به، فإن اختار الصدقة ولم ينزّه نفسه عنها فهو أعلم، أي وما كان في الثلاث فهو حقّ له وواجب على مضيفه، فإن سألوه الأقامة فوق ثلاث أو علم أنهم يحبون الإقامة فلا بأس بذلك، وقد تأول بعض الصوفية قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما زاد فوق ثلاث فهوصدقة، إنه صدقة على أصحاب المنزل من الضيف، تصدّق عليهم لإقامته، لأنه مثوبة لهم، ولا يعجبني هذا التأويل، وليحافظ على صلاته في أوقاتها بحسن طهارة وجميل أداء، وليحفظ قلبه أن يتشتت، فإن السفر قد يشتّت همّ المريد، ويجمع همّ العارفين، ويشغل قلوب الضعفاء، ويروح قلوب الأقوياء، وهو محنة وكشف لأخلاق العبد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجل الذي زكّى عنده رجلاً لما سأله عنه ليقبل شهادته فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا، قال: ما أراك تعرفه، وعن بعض السلف: إذا أثنى على الرجل معاملوه في الحضر ورفقاؤه في السفر فلا تشكّوا في صلاحه إذ ذاك، لأنّ السفر يسيء الأخلاق، ويكثر الضحر، ويخرج مكامن النفس من الشحّ والشره، وكل من صلحت صحبته في السفر صلحت صحبته في الحضر، وليس كل من صحب في الحضر صلح أن يصحب في السفر، وقال بعض السلف: ثلاثة لا يلامون على الضجر، الصائم، والمريض والمسافر، ولا ينبغي أن يفارقه من الأسباب أربعة، الركوة، والحبل، والإبرة بخيوطها والمقراض، وكان الخواص من المتوكلين، ولم تكن هذه الأربعة تفارقه، وكان يقول: ليست من الدنيا، وبعض الصوفية كان يقول: إذا لم يكن مع الفقير ركوة وحبل دلّ ذلك على نقصان دينه، وكان جماعة من أرباب القلوب وأهل المعاينة بالأحوال إذا استوطنت نفوسهم مصر أو سكنت إلى موضع عملوا في الغربة لرفع العادة وإيثاراً للقلة والذلة، وقالوا: لا يخلو المؤمن من قلّة أو علّة أو ذلّة، وكانوا إذا خافوا الاستشراف إلى الخلق خرجوا في الأسفار لقطع ذلك وحسمه من الأذكار، وقد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يوماً ويرى إنّ ذلك علّة في توكله فيعمل في اختبار نفسه وكشف حاله.

وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: لبثت في البرية أحد عشر يوماً لم أطعم شيئاً،، وتطّلعت نفسي أن تعرّج على حشيش البرية، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي فهربت منه، فلما ولّيت عنه هارباً التفتّ إليه، فإذا هو قد رجع عني، فانظروا إلى وليّ الله عزّ وجلّ كيف لم يفسد على توكلّي، فقيل له: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوّفت نفسي أن يقيتني، وعلى المسافر من أهل القلوب أن يفرّق بين سكون القلب إلى الوطن والسفر، وبين سكون النفس إليهما، فإنّ ذلك قد يلتبس فيحسب من لا بصيرة له، ولا تفتيش لحاله، ولا صدق في أحواله، أنّ سكون النفس هو سكون القلب فينقص بذلك ولا يفطن لنقصانه، فإن كان قلبه يسكن إلى أحدهما وفيه صلاح دينه وعمارة آخرته ومحبة ربه، فهذا سكون القلب لأنه يسكن إلى أخلاق الإيمان وماورد العلم به وإن كانت نفسه تسكن إلى أحدهما مما فيه عاجل حظوظ وعمارة دنياه وموافقة هواه، فهذا سكون نفس، لأنها تسكن إلى معاني الهوى، فليتحوّل من الوطن إلى الغربة، وليرجع من الغربة إلى المصر، ومن كان في سفر على غير هذا النعت من التفقد لحاله وحسن القيام بأحكامه فهو على هوى وفتنة، وسفره بلاء عليه ومحنة، وفصل الخطاب أنّ من لم يكن له في سفره حال يشغله، وهمّ يجمعه، ووقت يحبسه، ومأوى يظلّه، ومسكن يؤنسه، وزاد من باطنه، وعلم من عالمه، فإنّ الحضر أرفق لحاله، وأصلح لقلبه، وأسكن لنفسه من السفر، لأنه يكون في السفر مشتّت السرّ، مفرق الهمّ، تارة بوجود معلوم يخاف عليه، ومرة بفقد معتاد يحنّ إليه، مرة باستشراف إلى خلق يطمع فيه، فمرة يضعف قلبه مع العدم، وتارة يقوى بالاستطلاع إلى البشر، ومرة يفزع بفقد ما عنده قد حضر، فمثل هذا يكون في السفر نقصان ما ادعى، والسفر يجمع همّ الأقوياء، ويشتّت قلوب الضعفاء، ويذهب أحوال أهل الابتداء، ثم إن لم يصلح قلبه ولم يستقم حاله في الحضر فإنه لايصلح حاله ولا يستقيم قلبه في السفر، وأنشدوا لبعض السائحين في التغرّب:

ألفت التفرّد والغربه ... ففي كل يوم أطي تربه

فيوم مقيم على نعمه ... ويوم مطلّ على نكبه

ومما يطلب نفس الغري ... ب حبيب تطيب به الصحبه

وقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسافر الرجل وحده فقال: الثلاثة نفر، وقال: إذا كنتم في سفر ثلاثة فأمروا أحدكم، قال: فكانوا يفعلون ذلك، ويقولون ذاك أمير أمر رسو ل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك يستحبّ.

وقد جاء في الخبر: خير الأصحاب أربعة، والأسفار، والنزه لا تطيب إلاّ في جماعة، وأقل الجماعة اثنان، والثلاثة والأربعة أفضل، والسياحة لا تحسن إلا على الانفراد والوحدة، فإن اتفق ثلاثة في سياحة بقلب واحد، وهمّ واحد، على حال واحد، فهم كعبد واحد، فهو حسن وفيه معاونة على البرّ والتقوى، قال الله عزّ وجلّ فيمن منعه النصرة وحرمه منه الصحبة: (لاَ يَسْتَطيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبْونَ) الأنبياء: 43، فمن نصره الله على نفسه فقد صحبه، ومن لم يصحبه سلَّط عليه نفسه وسخّره لها، وجمله الأمر أنّ السفر عمل من الأعمال يحتاج إلى نية وإخلاص، فمنه فرض وهو ما هرب به من معصية، ومنه فضل وهو ما طلب به طاعة، ومنه مباح وهو ما ضرب به في تجارة، ومنه معصية وهو ما سعى به في فساد.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!