The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الرابع والأربعون كتاب الأخوة في الله تبارك وتعالى، والصحبة والمحبة للإخوان فيه، وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين:

 

 


الفصل الرابع والأربعون كتاب الأخوة في الله تبارك وتعالى، والصحبة والمحبة للإخوان فيه، وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين:

ذكر الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين نعمته عليهم في الدين، إذ ألف بين قلوبهم بعد أن كانوا متفرقين، فأصبحوا بنعمته إخواناً بالألفة متفقين، وعلى البرّ والتقوى مضطجعين، ثم ضم التذكرة بالنعمة عليهم إلى تقواه، وأمر بالاعتصام بحبله وهداه، ونهى عن التفرق إذ جمعتهم الدار، وقرن ذلك بالمنة منه عليهم، إذا أنقذهم من شفا حفرة النار، وقد جعل ذلك كله من آياته الدالة عليه سبحانه وتعالى وسيله الواصلة بالهداية إليه، فقال في جمل ما شرحناه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران: 102 (ولا تفرقوا) (ولعلكم تهتدون) آل عمران103 وقد كانت المؤاخاة في الله تعالى والصحبة لأجله والمحبة له في الحضر والسفر طرائق للعاملين، في كل طريق فريق، لما في ذلك من الفضل، ولما جاء فيه من الأمر والندب، إذ كان الحبّ في الله عزّ وجلّ من أوثق عرى الإيمان، وكانت الألفة والصحبة لأجله والمحبة والتزاور من أحسن أسباب المتّقين، وقد كثرت الأخبار في تفضيل ذلك والحث عليه، وليس قصدنا الجمع لما روي لميلنا إلى الإيجاز في كل فن، ولكن نذكر الأفعال المستحسنة وما تعلّق بها مما لا بد منه، على أنّ رأي التابعين قد اختلف في التعريف، فمنهم من كان يقول أقلل من المعارف، فإنه أسلم لدينك وأقل غدا لفضيحتك، وأخف لسقوط الحقوق عنك، لأنه يقال: كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق، وكلما طالت الصحبة توكدت المراعاة، وقال بعضهم: هل رأيت شرّاً إلا ممن تعرف، فكلما نقص من هذا فهو خير، وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف، وممن مال إلى هذا الرأي: سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي والفضيل بن عياض، وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي وبشر الحافي، وقال أكثر التابعين باستحباب كثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ، بالتأليف والتحبب إلى المؤمنين، لأن ذلك زين في الرخاء، وعون في الشدائد، وتعاون على البرّ والتقوى، وألفة في الدين، وقال بعضهم: استكثر من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك، وكانوا يأمرون بالأخوة ويتحاضون على الألفة، ويقال: إذا غفر للعبد شفع في إخوانه، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً غريباً في تفسير قوله تعالى: (وَيَسْتَجيبُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى: 26، قال: يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم، وممن مال إلى هذا الطريق: ابن المسيب والشعبي، وابن أبي ليلى وهشام بن عروة، وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد الله، وابن عيينة وابن المبارك، والشافعي وأحمد بن حنبل، ومن وافقهم، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون.

وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن مألوف ولا خير فيمن يألف ولا يؤلف، وقد قيل: أول ما يرفع من هذه الأمة، الخشوع ثم الورع ثم الأمانة ثم الألفة، وفي الخبر: من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً، إنْ نسي ذكره وإنْ ذكر أعانه، وروينا في خبر مثل الأخوين: إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان إلاّ أفاد الله عزّ وجلّ أحدهما من صاحبه خيراً، وروينا في خبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من آخى أخاً في الله عزّ وجلّ، رفعه الله عزّ وجلّ درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله، ويقال إنّ الأخوين في الله عزّ وجلّ إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر، رفع الآخر معه إلى مقامه، وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض، لأن الأخوة عمل كالولادة، وقد قال الله سبحانه بعد قوله: (أَلَحقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَمَا ألتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) الطور: 21، أي وما نقصناهم، وقال تعالى مخبراً عمن لا صديق له حميم تنفعه شفاعته: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعينَ وَلاَ صَديقٍ حَمِيمٍ) الشعراء: 100 - 101 ومعنى حميم أي هميم، أبدلت الحاء هاء لتقاربهما، مأخوذ من الاهتمام أي مهتم بأمره، ففيه دليل أنّ الصديق لك هو المهتم بك، وإنّ الاهتمام حقيقة الصداقة، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن كثير بأخيه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أعطى عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، وقال أيضاً: إذا رأى أحدكم ودّاً من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك، وقد قال بعض الحكماء في معناه كلاماً منظوماً شعراً:

ما نالت النفس على بغية ... ألذّ من ودّ صديق أمين

مَنْ فاتَه ودّ أخ صالح ... فذلك المقطوع منه الوتين

وقد يروي هذا المصراع الثاني فذلك المغبون حقّاً يقين، وروينا في الأخبار السابقة إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظان وارتد لنفسك إخواناً، وكل خدن وصاحب لا يوازرك على مسرتي فهو لك عدو، وفي خبر غيره عن داود عليه السلام أنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحداناً، قال: إلهي قليت الخلق من أجلك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا داود كن يقظان مرتاداً لنفسك إخواناً، فكل خذن لا يوافقك على مسرّتي فلا تصحبه، فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كونوا مؤلفين ولا تكونوا منفرين، وفي الحديث: إنّ أحبكم إلى الله عزّ وجلّ الذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إلى الله عزّ وجلّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، وفي أخبار داود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يا ربّ كيف لي أنْ يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك، قال: خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك، وفي بعضها: خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا، وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة، قال الشعبي عن صعصعة بن صوجان أنه قال لابن أخيه زيد: أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من ابني، خصلتان أوصيك بهما فاحفظهما: خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن وأنه لحق عليك أنْ تخالص المؤمن، وقد قال أبو الدرداء قبله: إنّا لنشكر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم، فمعنى هذا على الثقة والمداراة ليدفع بذلك شره وأذاه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (إدْفَعْ بالتي هِيَ أَحْسَنُ) فصلت: 34، قيل السلام: (فَإذَا الَّذي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداَوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ) فصلت: 34 وكان ابن عباس يقول في معنى قوله عزّ وجلّ: (وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22، قال: يدفعون الفحش والأذى وهو السيّئة بالسلام، والمداراة وهو الحسنة، وقد كان أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومنه قوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) البقرة: 251، قيل بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة، وكذلك معنى قولهم: خالص المؤمن وخالق الفاجر فالمخالصة بالقلوب من المودة واعتقاد المؤاخاة في الله عزّ وجلّ، والمخالفة المخالطة في المعاملة والمبايعة، وعند اللقاء، وكذلك جاء مفسراً: خالطوا الناس بأعمالهم وزايلوهم في القلوب، وقد قال محمد بن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً، حتى يجعل الله عزّ وجلّ له منه فرجاً، فمعاملة غير تقي ومكالمته من أحوال الإضطرار، ومعاشرة التقي ومصافاته من حسن الاختيار.

وفي أخبار موسى عليه السلام فيما أوحى الله عزّ وجلّ إليه، إنْ أطعتني فما أكثر إخوانك من المؤمنين، المعنى: إنْ واسيت الناس وأشفقت عليهم وسلم قلبك لهم ولم تحسدهم، كثر إخوانك، ويقال إنّ أحد الأخوين في الله عزّ وجلّ إذا مات قبل صاحبه.

وقيل له: ادخل الجنة سأل عن منزل أخيه، فإن كان دونه لم يدخل الجنة حتى يعطي أخوه مثل منازله، قال: ولا يزال يسأل له من كذا وكذا، فيقال إنه لم يكن يعمل مثل عملك فيقول: إني كنت أعمل لي وله، قال: فيعطي جميع ما سأل له ويرفع أخوه إلى درجته معه، فقد كانوا يتواخون ويتعارفون المنافع الآخرة الباقية، لا لمرافقة الدنيا الفانية وأفضل الأخوة، كما قال بعض العلماء: المحبة الدائمة والألفة اللازمة من قبل، أنّ الأخوة والمحبة عمل، وكل عمل يحتاج إلى حسن خاتمة به ليتم العمل، فيكمل أجره، فإن لم يختم له بالآخرة ولم يحسن عاقبة الصحبة والمحبة، فقد أدركه سوء الخاتمة، بطل عنه ما كان قبل ذلك، فقد يصطحب الاثنان ويتواخى الرجلان عشرين سنة، ثم لا يختم لهما بحسن الأخوة فيحبط بذلك ما سلف من الصحبة، فلذلك شرط العالم المحبة الدائمة والألفة اللازمة إلى الوفاة ليختم له به، ويقال: ما حسد العدو ومتعاونين على برّ حسده، متواخيين في الله عزّ وجلّ ومتحابين فيه، فإنه يجهد نفسه ويحث قبيله على إفساد ما بينهما، وقد قال الصادق عزّ وجلّ: (وقل لعبادي يقولوا: التي هي أحسن إنّ الشيطان يَنْزَغُ بينهم) الإسراء: 53 يعني يقولون الكلمة الحسنة بعد نزغ الشيطان، وقال عزّ وجلّ مخبراً عن يوسف عليه السلام من: (بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْني وَبَيْنَ إخْوتي) يوسف: 100 وقد يقال: ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ ففرق بينهما، إلاّ بذنب يرتكبه أحدهما، فقال بشر: إذا قصر العبد في طاعة الله تبارك وتعالى، سلبه الله عزّ وجلّ من يؤنسه، ويقال للعدو شيطان، قد وكله بالتفريق بين المتواخيين، ليس له عمل إلاّ ذلك، قد تفرغ له، ومن علامة التقى حسن المقال عند التفرق، وجميل البشر عند التقاطع، أنشدنا بعض العلماء الحكماء في معناه:

إنّ الكريم إذا تقضى وده ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا

وترى اللئيم إذا تصرم حبله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا

فوصف الكريم في هذا المعنى التخلق بخلق الربوبية، ألم تسمع إلى الدعاء المأثور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوله: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، فكذلك صفات المؤمنين على معاني أخلاق المؤمن الأعلى، وقد كان أبو الدرداء يقول: معاتبة الصديق خير من فقده، ومن لك بأخيك كله هن لأخيك، ولن له ولا تطع الشيطان في أمره، غداً يوافيه الموت فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله، وقد روينا عن عليّ عليه السلام: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أنْ يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما، وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معناه: لا يكن حبك كلفاً وبغضك تلفاً، قال: اسلم، قلت: وكيف ذاك، قال: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أنْ يتلف صاحبك ويهلك، وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي رويناها عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكمافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يحبك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك من القوم إلاّ الأمين، ولا أمين إلاّ من خشي الله عزّ وجلّ، ولا تصحب الفاجر فتعلم فجوره، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تبارك وتعالى، وحدثونا عن إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا يحيى بن أكثم قال: حدثت المأمون أمير المؤمنين فقلت له: حدثني سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن أبجر قال: لما حضرت علقمة العطاردي الوفاة دعا بابنه فقال: يا بني، إنْ عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإنْ قعدت بك مؤونة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدّها، وإنْ رأى منك حسنة عدّها، وإنْ رأى منك سيئّة سدّها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإنْ سكت ابتداك، وإنْ نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإذا حاولت أمراً أمرك، وإنْ تنازعتما آثرك، قال ابن أكثم: فقال المأمون: وأين هذا؟، وقيل للأحنف بن قيس: أي إخوانك أحبّ إليك فقال: من يسد خللي، ويستر زللي، ويقبل عللي، وحدثونا عن الأصمعي قال: حدثنا العلاء بن جرير عن أبيه قال: قال الأحنف: من حقّ الصديق أنْ يحتمل له ثلاث: أنْ يجاوز عن ظلم الغضب وظلم الهفوة وظلم الدالة، وقال: الإخاء جوهرة رقيقة، فهي ما لم توق عليها وتحرسها كانت معرضة للآفات، فارض الإخاء بالذلة حتى تصل إلى فوقه، وبالكظم حتى تعتذر إلى مَنْ ظلمك، وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير، ويقال: مَنْ لم يظلم نفسه للناس ويتظالم لهم ويتغافل عنهم، لم يسلم منهم، وكان أسماء بن خارجة الفزاري يقول: ما سئمت أحداً قط لأنه إنما يسأمني أحد رجلين: كريم كانت منه زلة وهفوة، فأنا أحق من غفرها وآخذ عليها بالفضل فيها، أو لئيم فلم أكن أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل شعراً:

واغفر عوراء الكريم اصطناعه ... وأعرض عن ذات اللئيم تكرما

وأنشدونا لمحمد بن عامر في الإخوان شعراً:

فلا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم

ولا تفحش وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم

ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم

ولكن داو عورته برقع ... كما قد يرقع الخلق القديم

ولا تجزع لريب الدهر واصبر ... فإن الصبر في العقبى سليم

وأنشدونا في معناه عن أحمد بن يحيى بن ثعلب، قال: أنشدني عبد الله بن شبيب: إخاء الناس ممتزج ... وأكثر فعلهم سمج

فإنّ بدهتك مقطعة ... فليس وراءهم فرج

فقوّمهم بوصلهم ... فإن لم يوصلوا اعتوجوا

صروف الدهر دائبة ... تقطع دونها المهج

وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق، وعن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: خذ العفو وأمر بالعرف، قال: خذ من أخلاق الناس ومن أعمالهم ما ظهر من غير تحسس، وقد أنشدنا بعض الحكماء في ذلك:

خذ من خليلك ما صفا ... وذر الذي فيه الكدر

فالعمر أقصر من معا ... تبة الخليل على الغير

ومن عرف فضل الإخوة في الله عزّ وجلّ، وعلم درجة المحبة لله تعالى، صبر لأخيه وشكر له وحلم عنه وإحتمل له، لينال ما أمله من مؤمله فيه ويبلغ ما طلبه من طالبه به، فإنّ الصبر يحتاج إليه ليتمْ العمل والشكر، لا بدّ له منه لدوام النعمة، ومن طلب نفيساً خاطر بنفيس ومن رغب في رغبة بذل لها مرغوباً، والله عزّ وجلّ الموفق من يحب لما يحب، وروينا في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المتحابون في الله عزّ وجلّ على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة، مشرفون على أهل الجنة، يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، عليهم ثياب سندس خضر، مكتوب على جباههم: هؤلاء المتحابون في الله عزّ وجلّ، وروينا في حديث معاذ، وقد قال له أبو إدريس الخولاني: إني لأحبك في الله عزّ وجلّ، فقال له: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله عزّ وجلّ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من هؤلاء يا رسول الله، قال: هم المتحابون في الله عزّ وجلّ، ورواه أبو هريرة فقال فيه: إنّ حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، فقالوا: يا رسول الله حلّهم لنا، فقال: هم المتحابون في الله عزّ وجلّ، والمتجالسون في الله تعالى، والمتزاورون في الله تعالى.

وروينا في حديث عبادة بن الصامت، يقول الله عزّ وجلّ: حقّت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ والمتباذلين والمتصادقين فيّ، وكان ابن مسعود يقول في قوله عزّ وجلّ: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأرض جمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلِكنَّ الله ألف بَيْنَهُمْ) الأنفال: 63، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله عزّ وجلّ، وأبو بشر عن مجاهد قال: المتحابون في الله عزّ وجلّ إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض، تتحات عنهم الخطايا كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبعة يظلهم الله عزّ وجلّ في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، منهم كذا، واثنان تواخيا في الله عزّ وجلّ، اجتمعا على ذلك وتفرّقا، وكان الفضيل بن عياض وغيره يقول: نظر الأخ إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة، فلا تصح المحبة في الله عزّ وجلّ إلاّ بما شرط فيها من الرحمة في الاجتماع، والخلطة عند الافتراق بظهور النصيحة، واجتناب الغيبة، وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء، وإرتفاع الوحشة، ووجد الانبساط، وزوال الاحتشام، وكان الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة، ارتفعت الأخوة وقال الجنيد: ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلاّ لعلّة في أحدهما، ومن ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تحاب اثنان في الله عزّ وجلّ إلاّ كان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ أشدهما حبَّا لصاحبه، وفي خبر: كان أفضلهما وفي الخبر الآخر أحب الإخوان إلى الله عزّ وجله أرفقهما بصاحبه.

وفي الخبر المشهور: لا يذوق العبد طعم الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وقال ابن عباس في وصيته لمجاهد: ولا تذكر أخاك إذا تغيب عنك إلاّ بمثل ما تحب أنْ تذكر به إذا غبت، وأعفه بما تحب أنْ تعفى به، وكان بعضهم يقول: ما ذكر أخي عندي في غيب إلاّ تمثلته جالساً، فقلت فيه ما يحب أنْ يسمع في حضوره، وقال آخر: ما ذكر أخ لي في غيبة إلاّ تصورت نفسي في صورته، فقلت فيه ما أحب أنْ يقال فيّ، فهذا حقيقة في صدق الإسلام، لا يكون مسلماً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، وقال بعض الأدباء: من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضون منه ظلمهم، ومن اقتضى منهم ما يقتضون منه فقد أتعبهم، ومن لم يقتضهم فقد تفضل عليهم، وبمعناه روينا عن بعض الحكماء: من جعل نفسه فوق قدره عند الإخوان أثم وأثموا، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا، فلذلك عزز الناس الأخوة في الله عزّ وجلّ قديماً، لأن هذا حقيقتها، فروى في الأخبار، إثنان عزيزان ولا يزدادان، إلاّ عزة درهم من حلال وأخ تسكن إليه، وقيل تأنس به، وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: ثلاثة عزيزة في وقتنا هذا، ذكر منها حسن الإخاء مع الوفاء، يعني بالوفاء أنْ يكون له في غيبته، ومن حيث لا يعلم ولا يبلغه، مثل ما كان له في شهوده ومعاشرته، ويكون له بعد موته ولأهلّه من بعده كما كان له في حياته، فهذا هو الوفاء، وهو الذي شرطه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤاخاة في قوله: اجتمعا على ذلك أو تفرّقا، وجعل جزاءه أظلال العرش يوم القيامة.

وكذلك قال بعض الأدباء: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، وكذلك كان السلف فيما ذكره الحسن وغيره، قالوا: كان أحدهم يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة، لا يفقدون إلاّ وجهه، ويقال إنّ مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهولا يعلم، وذهب خيثمة فقضي دين مسروق سرّاً وهو لا يعلم، فمن حقيقة المؤاخاة في الله عزّ وجلّ إخلاص المودة له بالغيب، والشهادة واستواء القلب مع اللسان، واعتدال السرّ مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة، وإنْ اختلف ذلك ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، ولا يكون ذلك مع حقيقة الإيمان، وقد سأل أبو رزين العقيلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشرط له أشياء منها: أنْ يحب غير ذي نسب لا يحبه إلاّ لله عزّ وجلّ، ومن شرط المحبة في الله تعالى أنْ لا يكون لرحم يصلها أو لنعمة يربها، كما جاء في الأثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ رجلاً زار أخاً في الله تعالى في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد، قال: أردت أخاً لي في هذه القرية، قال: هل بينك وبينه رحم تصلها أو له عليك نعمة تربها، قال: لا، إلاّ أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك، إنّ الله تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه.

وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابنه عبد الله رضي اللهّ عنهما: لو أن رجلاً صام النهار لا يفطر، وقام الليل وجاهد، ولم يحب في الله عزّ وجلّ ويبغض في الله ما نفعه ذلك شيئاً، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأنه قال لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الصلاة، قال: حسنة وليس به، قالوا: الحج والجهاد، قال حسنة وليس به، قالوا: فأخبرنا يا رسول الله، قال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله تعالى، والبغض فيه، وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ بحب أخاه في الله عزّ وجلّ، ثم ينقلب الآخر عمّا كان عليه ويتغير، هل يبغضه بعد ذلك أم لا؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عمّا كان عليه وتغير، فأبغضه من حيث أحببته، وروينا عن أبي الدرداء أنّ شاباً غلب على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأنّ الشاب وقع في كبيرة من الكبائر، فجاؤوا إلى أبي الدرداء فحدثوه، وقالوا له: لو أبعدته، قال: سبحان الله لا نترك صاحبنا لشيء من الأشياء، وروينا عن بعض التابعين وعن الصحابة في مثل ذلك، وقد قيل له فيه، فقال: إنما أبغض عمله وإلاّ فهو أخي، وكذلك قال الله عزّ وجلّ لنبيّه في عشيرته: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة كلحمة النسب، وقيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقاً، وكان الحسن يقول: كم من أخ لك لم تلده أمك، ولذلك قيل: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة، وفي حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شتم القوم الرجل الذي أتى فاحشة فقال: مه وزبرهم لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، وفي أثر عن بعض العلماء في مثل زلات الإخوان، قال: ودّ الشيطان أنْ يلقي على أخيكم مثل هذا حتى تقطعوه وتهجروه، فماذا بغيتم من محبة عدوّكم؟ وقد كان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عمّا كان، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داوِ أخاك ولا تطع فيه حاسداً، فتكون مثله وقال الحسن: أي الرجال المهذب وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب، فإنه يركبه اليوم ويتركه غداً، وقال أيضاً: لا تحدثوا الناس بزلة العالم، فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها، وفي الخبر: اتّقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء الغيب، وقال سعيد بن المسيب إني لأكره أنْ أفرق بين المتألفين وقال مرة بين المتحابين.

وفي حديث عمر، وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه، فقال: ذاك أخو الشيطان قال: مه قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر فقال: إذا أردت الخروج فأذني قال: فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله، فلما قرأ الكتاب قال: صدق الله ونصح لي عمر قال: فتاب ورجع، ومن أفضل فضيلة الحب في الله تعالى أنه جعل علماً لوجود الإيمان، وقرن بحب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الخبر: لا يؤمن عبدي حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ثم جاء مثله: لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لله عزّ وجلّ، فمن مقتضى الحب في الله تعالى ما ذكرناه آنفاً من التزاور والتباذل والتصافي لله عزّ وجلّ، وفي حديث عبادة بن الصمامت وقال موسى بن عقبة: كنت ألقى الأخ من إخواني مرّة فأقيم عاقلاً بلقائه أياماً، وقال جعفر بن سليمان: كمن إذا وجدت في نفسي فترة، نظرت، إلى محمد بن واسع، فأعمل على ذلك جمعة، وكان محمد بن واسع يقول: ما بقي في الدنيا شيء ألذه إلاّ ثلاث: الصلاة في جماعة، والتهجد من الليل، ولقاء الإخوان، وكان بعضهم يقول: لقاء الإخوان مسلاة للهمّ ومذهبة للأحزان، وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا، لأن أهلينا يذكرونا الدنيا وأخواننا يذكرونا الآخرة، وقال أحدهما: لأن الأهل والولد من الدنيا والإخوان في الله عزّ وجلّ من آلة الآخرة، وقيل لسفيان بن عيينة: أي الأشياء ألذّ فقال: مجالسة الإخوان والانقلاب إلى كفاية، وفي الخبر: ما زار رجل أخاه في الله عزّ وجلّ شوقاً إليه ورغبة في لقائه، إلاّ ناداه ملك من خلفه: طبت وطابت لك الجنة، وقال الحسن: من شيّع أخاً له في الله عزّ وجلّ بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة، وعن عطاء قال: كان يقول: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإنْ كانوا نسوا فذكروهم، وكان الشعبي يقول: في الرجل يجالس الرجل فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه ذلك معرفة التوكل.

وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه رأى عمر يلتفت يميناً وشمالاً فسأله، فقال: يا رسول الله أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه، فقال: يا أبا عبد الله إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه، وعن منزله فإن كان مريضاًً عدته، وإنْ كان مشغولاً أعنته، وعن الضحاك عن ابن عباس قيل له: من أحب الناس إليك، قال: جليسي، وكان يقول: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة تكون له إليّ، فعلمت مكافأته من الدنيا.

وكان سعيد بن العاص يقول: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحبت به وإذا حدث أقبلت عليه وإذا جلس أوسعت له، وقال الأحنف بن قيس: الإنصاف يثبت المودة، ومع كرم العشرة تطول الصحبة، وكان يقول: ثلاث خلال تجلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة والانطواء على المودة، وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني، تقاربوا في المودة ولا تتكلوا على القرابة، وقد قيل لأبي حازم: ما القرابة، قال: المودة، فأول ما تصح له المحبة في الله عزّ وجلّ أنْ لا يكون لضد ذلك من صحبة لأجل معصية، ولا على حظ من دنياه، ولا لسبب موافقته على هواه، ولا لأجل ارتفاقه به اليوم لمنافعه ومصالحه في أحواله، ولا يكون ذلك مكافأة على إحسان أحسن به إليه، ولا لنعمة ويد يجزيه عليها، فهذه ليس فيها طريق إلى الله عزّ وجلّ ولا للآخرة، لأنها طرقات الدينا ولأسباب الهوى، فإذا سلم من هذه المعاني، فهذه أول المحبة لله عزّ وجلّ، ولا يقدح في الأخوة لله تبارك وتعالى لأن هذه شبهة ثانية فيه مثل أنْ يحبه لحسن خلقه، وفضل أدبه، وحسن حلمه، وكمال عقله، وكثرة احتماله وصبره، أو لوجود الأنس به وارتفاع الوحشة منه، أو للألفة التي جعل الله بينه وبينه، وإنما يخرجه عن حقيقة الحب في الله عزّ وجلّ، أنْ يحبه لما يكون دخلا في الدين ووليجة في طرائق المؤمنين، ولما انفصل عنه ولم يكن متصلاً به، مثل الأنعام والأفضال ووجود الارتفاق، فهذا الحب لا يمنع القلب وجده، لما جبل الطبع عليه، ولبغض من كان بضده، ممن أساء إليه وليس يأثم ولا يعصى بوجود هذه المحبة لأجل هذه الأسباب المعروقة، كما أنه إذا أساء إليه ووجد بغضه لا يأثم ما لم يخرجه البغض إلى مجاوزة حد بإيجاب حكم، إلاّ أنْ هذه محبة النفس بالطبع، وإنما يفضل المرء بمحبة القلب لأجل الله عزّ وجلّ، والبغض فيه شيء، وإنْ كان مباحاً لأنها تحول وتزول، وكل محبة تكون عن عوض، إذا ذهب العوض زالت المحبة، وصحة الحب في الله عزّ وجلّ والبغض فيه لا ينقلب لسبب حب جعل في الطبع لمنافع الدنيا، ولا لأجل بغض في النفس لمضارها، وحقيقة الحب في الله عزّ وجلّ أنْ لا يحسده عى دين ولا دنيا، كما لا يحسد نفسه عليهما، وأن يؤثره بالدين والدنيا إذا كان محتاجاً إليهما كنفسه، وهذا شرطا الحب في الله عزّ وجلّ اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر: 9، ثم وصف محبتهم، إذ كان يصف حقًّا ويمدح محقًّا، فقال: (ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاَجةً مِمّا أُوتُوا) الحشر: 9، يعين: من دين ودنيا، والحاجة في هذا الموضع: الحسد، أي كما لا يجدون في صدورهم حاجة لأنفسهم حسداً، ثم قال عزّ وجلّ في الشرط الثاني: (وَيُؤثِرُون على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر: 9، فهذا فصل الخطاب، وجملة نعت الأحباب، فينبغي أنْ يؤثر أخاه بنفسه وماله إنْ إحتاج إلى ذلك، فإن لم يكن في هذه المنزلة وهو مقام الصدّيقين فيساويه في حاله، وهذا من مقام الصادقين، وهذا أقل منازل الأخوة، وهو من أخلاق المؤمنين، وإنما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبين الغني والفقير ليساوي الغني الفقير فيعتدلان، وينبغي أنْ يقدمه على أهله وولده، وأنْ يحبه فوق محبتهم لأن محبة أولئك من الدنيا والنفس والهوى، ومحبة الإخوان من الآخرة ولله تبارك وتعالى، وفي الدين وأمور الدين والآخرة مقدم عند المتّقين، وكان عبد الله بن الحسن البصري يصرف إخوان الحسن إذا جاؤوه، لطول لبثهم عنده ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملّوا الشيخ، فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع، فإنهم أحب إلي منكم، فؤلاء يحبوني لله عزّ وجلّ وأنتم تريدوني للدنيا، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك قال كلهم يرى الفضل لي عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه، وكان الأعمش يقول: من أخفى عنا بدعته لم يخف عنا ألفته، أي ينظر إلى إخوانه الذين يألفهم، فيستدل عليه بهم، وقد روى الأصمعي عن مجاهد عن الشعبي قال: قال عليّ بن أبي طالب: كرم الله وجهه لرجل وكره له صحبة رجل رهق فقال شعراً:

لا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه

يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هوّ ما شاه

وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه

وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه

وأنشد محمد بن جامع الفقيه شعراً: تذلل لمن إن تذللت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله

وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له

وأنشدنا لبعض الأدباء:

كم من صديق عرفته بصديق ... صار حظي من الصديق العتيق

ورفيق رأيته في طريق ... صار عندي محض الصديق الحقيقي

وروينا عن الحسن بن عليّ عليهما السلام في وصف الأخ كلاماً رجزاً جامعاً مختصراً:

إن أخاك الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك

ولا تصحّ مؤاخاة مبتدع في الله تعالى، ولا محبة فاسق يصحب على فسوقه، ولا محبة فقير أحب غنياًِ لأجل دنياه، ولا ما يناله من عاجل مهناه، وقد تصح المحبة بين الغني والفقي، وتوجد الأخوة إنْ لم يقم الغني بحقوق أخيه، إذا آثره أخوه بما يحب أنْ يؤثره به، فلم يفتضه، وقد تصح الأخوة بين العالم والجاهل، وبين الصالح والطالح لأجل التدين من أحدهما، والتقربة إلى الله عزّ وجلّ، ويكون من الأعلى منهما لنيات تكون له فيها لحسن خلقه، أو لجميل معاملته، أو لمعان محمودة تكون فيه، لأن لكل مؤمن سديداً من عمله يرجى له به، والمؤمن لا يهلك كله، ولا يذهب جملة واحدة، أو لإشفاقه عليه أو لتواضع العالم والصالح في نفسه، فيراه في كل حال فوقه، أو لأجل الستر عليه لئلا يلحقه النقص والشين من الغير، فهذه طرقات الإخوان، فيها حسن نيات، وينبغي على ذلك أنْ تعلمه ما جهل مما هو به أعلم، فيعينه بعلمه كما يعينه بماله، فإنّ فقر الجهل أشد من فقر المال، وإنّ الحاجة إلى العلم ليست بدون الحاجة إلى المال وكان الفضيل يقول: إنما سمّي الصديق لتصدقه والرقيق لترفقه، فإن كنت أغنى منه فأرفقه بمالك، وإنْ كنت أعلم منه فأرفقه بعلمك، وينبغي أنْ ينصح له فيما بينه وبينه، ولا يوبخه بين الملأ ولايطلع على غيبه أحداً، فقد قيل: إنّ نصائح المؤمنين في آذانهم، وقال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره، فإن كان أخوه الذي نصح له صادقاً في حاله، أحبه على نصحه، فإن لم يحبه وكره ذلك منه دلّ على كذب الحال، قال الله سبحانه وتعالى في وصف الكاذبين: (وَلكنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ) الأعراف: 79 وقد كان بعض الصالحين يقول: أحب الناس إلي من أهدى عيوبي، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ويأمر الإخوان بذلك رحم الله امرءًا اهتدى إلى أخيه عيوب نفسه، ولكن قد قيل لمسعر بن كدام: تحب من يخبرك بعيوبك، فقال: إنْ نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإنْ قرعني في الملأ فلا، ومن أخلاق السلف قال: كان الرجل إذا كره من أخيه خلقاً عاتبه فيما بينه وبينه أو كاتبه في صحيفة، وهذا لعمري فرق بين النصيحة والفضيحة فما كان في السر فهو نصيحة، وما كان على العلانية فهو فضيحة، وقلما تصح فيه النية لوجه الله تعالى، لأن فيه شناعة، وكذلك الفرق بين العتاب والتوبيخ، فالعتاب ما كان في خلوة، والتوبيخ لا يكون إلاّ في جماعة، ولذلك يعاتب الله عزّ وجلّ رجلاً من المؤمنين يوم القيامة تحت كنفه، ويسبل عليه ستره فيوقفه على ذنوبه سرّاً، ومنهم من يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفرون به إلى الجنة، فإذا قاربوا دخول الجنة، دفعوا إليهم الكتب مختومة فيقرؤونها، وأما أهل التوبيخ فينادون على رؤوس الأشهاد، فلا يخفى على أهل الموقف فضيحتهم، فيزداد ذلك في عذابهم، وكذلك الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداراة ما أردت به وجه الله تعالى وطريق الآخرة، من دفع عن دين وقصدت به سلامة أخيك من الإثم وصلاح قلبه لله تبارك وتعالى، والمداهنة ما اجتلبت به دنيا وأردت به حظ نفسك، وكذلك الفرق بين الغبطة والحسد، إن الغبطة أنْ تحب لنفسك ما رأيته من أخيك، ولا تحب زواله عنه بل تبقيته له وإتمامه عليه والحسد ما أردت أنْ يكون ذلك منه لك، وأحببت زواله عنه وكرهت تبقيته عليه، فهذا مكروه، فإن سعيت في ذلك بقول أو فعل فهو البغي زيادة على الحسد، وهو من كبائر المعاصي، وكذلك الفرق بين الفراسة وسوء الظن إنْ الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك أو شاهد يبدو منه أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه ولا تنطق به إنْ كان سوءاً، ولا تظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم، وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم، وهو غيبة القلب وذلك محرم لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الله تعالى حرم من المؤمن دمه وماله وعرضه، وإنْ تظن به ظن السوء وقوله عليه السلام: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، فهذه خمس معان وأضدادها بينها فرق عند العلماء، فاعرف ذلك، وينبغي أنْ ينصر أخاه ويعينه بماله ولسانه وقلبه وأفعاله، فإن

النصرة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله. رة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله.

ويقال: ما من الناس أحد إلاّ له محاسن ومساوٍ، فمن ظهرت محاسنه فغلبت مساوئه فهو المؤمن المقتصد، فالأخ الشفيق الكريم يذكر أحسن ما يعلم في أخيه، والمنافق اللئيم يذكر أسوأ ما يعلم فيه، ومن هذا جاء في الخبر: أستعيذ بالله من جار السوء الذي إن رأى خيراً ستره، وإنْ رأى شرّاً أظهره، وهذا المعنى هو سبب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإنْ من البيان سحراً، إذ لكل حديث يروي آخره سبب يكون أوله خرج الحديث عليه، وهو أنّ رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كان الغد ذمه وعابه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه، فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، إنه أرضاني بالأمس، فقلت أحسن ما أعلم فيه وأغضبني اليوم مفقلت أسوأ ما أعلم فيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَعند ذلك: إنّ من البيان سحراً كأنه كره ذلك إنْ شبهه بالسحر، لأن السحر حرام، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الآخر البذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي الحديث الآخر أنّ الله تعالى كره لكم البيان، كل البيان، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله في وصف العدالة قولاً استحسنه العلماء، وحدثنا عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: ما أحد من المسلمين يطيع الله عزّ وجلّ حتى لايعصيه، ولا أحد يعصي الله عزّ وجلّ حتى لا يطيعه، فمن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فهو العدل، قال ابن عبد الحكم: وهذا كلام الحذاق، وقال أيضاً قولاً فصلاً في التوسط بين الانقباض والانبساط، حدثنا عنه قال: الانقباض عن الناس مكسبة لعداوتهم، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين الانقباض والانبساط، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بالصبر والرحمة في قوله عزّ وجلّ: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ) البلد: 17، ونعتهم الذلة في قوله تعالى: (أذِلَّةٍ على المُؤْمِنينَ أَعِزَّةِ على الكافرينَ) المائدة: 54، وقال تعالى: (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الفتح: 29، وهذا كله داخل في الاهتمام به، وهو حقيقة صدقه في الصداقة له كما قال، ولا صديق حميم أي هميم من الاهتمام به، وقد قال عيسى عليه السلام لأصحابه: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً فكشفت الريح عنه ثوبه، قالوا: نستره ونغطيه فقال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله من يفعل هذا، فقال: أحدكم يسمع في أخيه بالكلمة فيزيد عليه ويشيعها بأعظم منها، وهذا مخرجه من الحسد الكائن في النفس والغل المستكن في القلب، أنْ يزيد الرجل على الشيء مما يسمع أو يتبعه بمثله، فيظهر هذا غله، وهذا الذي استعاذ منه المؤمنون في قولهم: (ولا تَجْعَلْ في قُلُوبنا غِلاًّ) الحشر: 10 الآية، وينبغي أنْ لا يخالفه في شيء ولا يعترض عليه في مراد، قال بعض العلماء: إذا قال الأخ لأخيه قم بنا، فقال: إلى أين، فلا تصحبه وقال الآخر: إذا قال: أعطني من مالك، فقال: كم تريد أو ماذا تصنع به لم يقم بحق الإخاء، قال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق، فكنت أجيئه في النوائب فأقول: أعطني من مالك شيئاً فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شي، فقال: كم تريد فخرج حلاوة أخاه من قلبي، وعن ابن عمر وأبي هريرة: لم يكن أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله بحسب المرء من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم، وفي حديث عليّ عليه السلام عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته وحرمت غيبته، وفي حديث أبي أسامة الباهلي: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نتمارى فغضب ثم قال: ذروا المراء لقلّة خبره، ذروا المراء فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان، وقال بعض السلف: من لاص الإخوان وما رآهم، قلت: وذهبت كرامته، وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومعاداة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم، وقال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيدك لطف الحقد إلاّ وحشة منه.

وقد روينا في الحقد على الإخوان لفظة شديدة، وهو ما حدثونا عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: كنت باليمن، وكان لي جار يهودي يخبرني عن التوراة، فقدم علينا يهودي من سفر فقلت: إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث فينا نبيًّا، فدعا إلى السلام فأسلمنا، وقد نزل علينا مصدقاً للتوراة فقال اليهودي: صدقت، ولكنكم لا تستطيعون أنْ تقوموا بما جاءكم به، إنّا نجد نعته ونعت أمته أنه لا يحل لامرئ يعلم منهم أنّ يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم، وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر منهم، وقال الحسن: لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل، وقال عمر بن عبد العزيز: إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك، فإذا قضيت حاجته انقضت مودته، ومن أخلاف السلف قال: لم يكن أحد منا يقول في رحله: هذا لي وهذا لك، بل كان كل من احتاج إلى شيء استعمله عن غير مؤامرة، وقد وصف الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذا في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمّ يُنْفِقُونَ) الشورى: 38، معنى أمرهم أي أمورهم ذكر جماعها كالشيء الواحد بينهم شورى أي مشاع غير مقسوم، ولا يستبد به واحدهم فيه سواء، ومما رزقناهم ينفقون، أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله من بعض أي شركاء، وجاء عتبة الغلام إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ ألفين فأعرض عنه وقال: آثرت الدنيا على الله عزّ وجلّ، أما استحيت أنْ تدعي الأخوة في الله عزّ وجلّ وتقول هذا، وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه فأخذ من كيسه حاجته، فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته فقال: إنْ كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله تعالى سروراً بما فعل.

وروي أنّ ابن أبي شبرمة قضى لبعض إخوانه حاجة كبيرة، فجاءه الرجل بهدية جليلة، فقال: ما هذا فقال: ما أسديت إلي، فقال: خذ مالك، عافاك الله إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى، وعلى ذلك قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك الحاجة فلم يقضها لله فذكّره ثانية، فلعله يكون قد نسي، فإن لم يقضها فعاوده ثالثة فقد يكون شغل عنها بعذر، فإن لم يقضها فكبره عليه واقرأ عليه هذه الآية: (والموتْىَ يَبْعَثُهُمْ اللهُ) الأنعام: 36، وقال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخ أهل القبور، وجاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أنْ أؤاخيك في الله عزّ وجلّ، فقال: أتدري ما حق الإخاء قال: عرفني، قال: لا تكون بدرهمك ودينارك أحقّ مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: فاذهب عني، وقال عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: الرجل هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه، فيأخد منه ما يريد من غير إذن قال: لا، قال: فلستم بإخوان، ودخل قوم على الحسن فقالوا له: أصلّيت يا أبا سعيد، قال: نعم قالوا: فإن أهل السوق لم يصلّوا بعد، فقال: ومن يأخذ دينه عن أهل السوق، بلغني أنّ أحدهم يمنع أخاه الدرهم، وقال محمد بن نصر: جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم وهو يريد بيت المقدس فقال له: إني أريد أنْ أرافقك فقال له إبراهيم: على أنْ أكون أملك بشيئك منك قال: لا، قال: فأعجبني صدقك، وقال موسى بن طريف: كان إبراهيم بن أدهم إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلاّ من يوافقه، وبلغني أنّ رجلاً شراًّ كأصحبه في سفر فأهدى إلى إبراهيم قصعة من ثريد في بعض المنازل، فأراد أنْ يرد القصعة فأخذ جراب رفيقه ففتحه، وأخذ حزمة من شرك فجعله في القصعة، ثم دفعها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشرك؟ قال: تلك القصعة الثريد التي أكلتها أي شيء كانت، قال: فكنت تعطيه شراكين ثلاثة قال: اسمح يسمح لك، وبلغني أنه أعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه لرجل رآه راجلاً، فلماء جاء رفيقه سكت فلم يكره ذلك، وقد روي عن عون بن عبد الله قال: قال ابن مسعود: لا تسأل امرءاً عن ودّه إياك، ولكن انظر ما في قلبك فإن في قلبه لك مثل ذلك، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: مروءة الحضر الإدمان إلى المساجد وكثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ، ومروءة السفر بذل الزاد وقلّة الخلاف على إخوانك وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق أهل البيت قال: ثلاثة من المروءة في الحضر: تلاوة كتاب الله عزّ وجلّ، وعمارة مساجد، واتّخاذ الإخوان في الله تعالى، فمن فضل المؤاخاة في الله تعالى أنه قرنها بتلاوة كتابه وعمارة بيوته، وقد جعل الاختلاف إلى المسجد سبب اجتلاب الإخاء، وفي حديث ابن عباس والحسن بن عليّ: من أدمن الاختلاف إلى المسجد، أصاب إحدى خمس خصال أخاً مستفاداً في الله عزّ وجلّ.

وقال أبو عيينة وقد أنشد هذا البيت:

وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الإخوان هينة الخطب

فقال: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة، ما تخيل لي أنّ حسرتهم ذهبت من قلبي، وقال بعضهم ما هدني شيء ما هدني موت الأقران، ويقال: إذا مات صديق الرجل فَقَدْ فَقَدَ عضواً من أعضائه وأنشدونا عن العتبي:

ولقد بلوت الناس ثم خبرتهم ... ووصلت ما قطعوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب

وبلغني أنّ أخوين ابتلى أحدهما بهوى، فأظهر عليه أخاه وقال: إني قد اعتللت بالهوى، فإن شئت أنْ لا تعتقد عليّ محبتي لله تعالى فافعل فقال: ما كنت لأحلّ عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبدًا، قال ثم عقد أخوه بينه وبين الله عزّ وجلّ أنْ لا يأكل ولا يشرب حتى يعافي الله عزّ وجلّ أخاه من هواه، قال فطوى أربعين يوماً في كلها يسأله عن هواه: كيف أنت منه فكان يقول: القلب مقيم على حاله قال: وما زال أخوه الآخر ينحل ويسقم من الغمّ عليه، ومن تركه الطعام والشراب قال: فأزال الله الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين، فأخبره بذلك، فأكل وشرب بعد أنْ كاد يتلف هزلاً وضرًّا، وبمعناه حدثت عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخية التقي: ألا تقطعه وتهجره فقال: هو أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته، أنْ آخذ بيده، وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه، وفيما رويناه من الإسرائيليات أنّ أخوين عابدين في جبل، نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم، فبصر ببغي عند اللحام، فهويها فواقعها، ثم أقام عندها ثلاثاً واستحى أنْ يرجع إلى أخيه من جنايته، قال: فافتقده أخوه واهتم بشأنه، فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه، فدخل عليه وهو جالس مع البغي، فاعتنقه وجعل يقلبه ويلزمه، وأنكر الآخر أنه يعرفه لفرط استحيائه منه، فقال: قم يا أخي فقد علمت بشأنك وقصتك، وما كنت أعزّ علي وأحبّ منك في يومك هذا وساعتك هذه، فلما رأى ذلك لا يسقطه عنده، قام فانصرف معه، فهذا من أحسن النيات وهو طريق العارفين من ذوي الآداب والمروءات، فإن أحب هذا الأخ أنْ يؤثر أخاه بما آثره به، ولا يقتضيه حق إخائه، فحسن، قد فعل ذلك عبد الرحمن بن عوف لما آثره سعد بن الربيع بالمال والنفس، فقال: بارك الله لك فيهما، فآثره بما به آثره، فكأنه أستأنف هبته له لأنه قد كان ملكه إياه لسخاوة نفسه، وحقيقة زهده، وصدق مودته، فكانت المساواة لسعد، والإيثار لعبد الرحمن، فزاد عليه، وهذا من فضل المهاجرين على الأنصار إذ كانت المساواة دون الإيثار، وقد كان مضر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحبّ رجلاً ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه، وكان أبو سليمان الداراني يقول: هو صادق في حبه مفرط في حقّه، ثم قال: لو أنّ الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له، وقال: إني لألقم الأخ من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي، وأعلم أنّ إطعام الطعام والإنفاق على الإخوان مضاعف على الصدقات وعلى العطاء للأجانب، بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات.

وروي عن عليّ عليه السلام: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله عزّ وجلّ أحّب إلي من أنْ أتصدق بمائة درهم على المساكين، وقال أيضاً: لأن أصنع من طعام وأجمع عليه إخواني في الله عزّ وجلّ أحبّ إلى من أنْ أعتق رقبة، وأوصى بعض الحكماء ابنه فقال: يا بني ادخل بين الأعداء ولا تدخلن بين الأصدقاء، قال: وكيف ذلك قال: الدخول بين الأعداء يكسب الصداقة والدخول بين الأصدقاء يورث العداوة، ولا ينبغي للأخ أنْ يخون أخاه في غيبه بما يكره إنْ كان ذلك في شيء مباح إذا كرهه، ولا ينكر عليه ما لا يقوم في علمه إذا فعله إنْ كان أخوه أعلم منه، أو كان له وجه يخرج عليه، ولا ينبغي أنْ يكذبه في أمره ولا يفشين له سرّاً، ولا يعرضنه لغيبة ولا نميمة، ولا يحوجه إلى مداراة، ولا يلجأ إلى اعتذار، ولا يتكلفن له ما يشق عليه أو ما لا يحبه هو منه، وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقدمك على الأشياخ ويقربك دونهم فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سرّاً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذبة، وفي بعض الروايات: ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، قال: فقلت للشعبي وقد رواه: كل كلمة خير من ألف قال: كل كلمة خير من عشرة آلاف، وأفشى بعضهم إلى أخيه سرًّا ثم قال له: حفظت قال: بل نسيت وقيل لبعض الأدباء كيف حفظك السرّ قال: أنا قبره وقيل لآخر كيف تحفظ السرّ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، ومن أحسن ما سمعت في حفظ السر ما حدثني بعض أشياخنا عن إخوان له، دخلوا على عبد الله بن المعتز فاستنشدوه شيئاً من شعره في حفظ السرّ، فأنشدهم على البديهة:

ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأود عته صدري فصار له قبرا

قال فخرجنا من عنده، فاستقبلنا محمد بن داود الأصبهاني فسألنا من أين جئنا فأخبرناه بما أنشدنا ابن المعتز في السرّ، فاستوقفنا ثم أطرق مليًّا ثم قال سمعوا قولي:

وما السرّ في صدري كثاوٍ بقبره ... لأني أرى المقبور ينتظر النشرا

ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أحط ساعة خبرا

ولو جاز كتم السرّ بيني وبينه ... عن السرّ والأحشا لم يعلم السرّا

وقال عليّ عليه السلام: شر الأصدقاء من أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار، وقال أيضاً: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له ما لا يفعله كل واحد منهما في منزله، فيحشمه ذلك من الرجوع إليه، وروينا عن عائشة رضي الله عنها: المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحشمه، وروينا في الانبساط إلى الإخوان شيئاً استظرفته ولولا أنه جاء عن إمام ما ذكرته، حدثنا الحرث بن محمد عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: أهدي لهشام فرو كثير الثمن فقال: اذهب بها إلى سعيد الجوهري فقل له: هذه فرو جاء به هشيم اشترها له قال: فذهب بها إليه فاشتراها، ثم بعت بها إلى هشيم فصارت له ودراهمها، وقال عليّ بن المديني: قال أحمد بن حنبل: إني أحبّ أن أصحبك إلى مكة وما يمنعني من ذلك إلاّ أني أخاف أنْ أملك أو تملني، لأنه يقال إنّ ملل الإخوان ليس من أخلاق الكرام وقال مكحول: قلت للحسن إني أريد الخروج إلى مكة فقال: لا تصحبن رجلاً يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: يستحسن الصبر عن كل شيء إلاّ عن الصديق، وقال: أستحب للمتواخين في الله عزّ وجلّّ أنْ يلتقيا في كل يوم مرتين وقال أنس بن مالك: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتماشون، فإذا استقبلهم صخرة أو أكمة فرقت بينهم فالتقوا من ورائها، سلم بعضهم على بعض، وقال الحسن وأبو قلابة: ليس من المروءة أنْ يريح الرجل على صديقه، وقال ابن سيرين لا تكرم أخاك بما يشق عليه.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره، وخرج ابن المبارك في سفر، فصحبه قوم فقال لهم: إنْ أنكر أحد منكم شيئاً فليخبرني، فلما أرادوا أنْ يتفرقوا قال لهم: هل أنكرتم مني شيئاً فقال شاب منهم: أنا قال: وما أنكرت قال: لم أرك تستاك فقال: ويحك وهل يستاك الرجل بين يدي صديقه، وكان بشر بن الحارث يقول: لا تخالط من الناس إلاّ حسن الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بخير، ولا تخالط سئّ الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بشر، وقال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان، وقال عمرو بن دينار: زهدك في راغب فيك نقص حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس، وكان ابن سيرين يقول: يحتمل الرجل لأخيه إلى سبعين زلة ويطلب له المعاذير، فإن أغناه ذلك وإلاّ قال: لعل لأخي عذراً غاب عني، وقال الثوري: إذا أردت أنْ تؤاخي رجلا ًفأغضبه ثم دسّ عليه من يسأله عنك، فإن قال خيراً فاصحبه وقال غيره: لا تؤاخين أحداً حتى تبلوه وتفشي إليه سرّاً، ثم إجفه واستغضبه وانظر، فإن أفشاه عليك فأجتنبه، وقيل لأبي يزيد: من أصحب من الناس قال: من يعلم منك ما يعلم الله عزّ وجلّ، ويستر عليك ما يستر الله تعالى، وكان ذو النون يقول: لا خير لك في صحبة من لا يحب أنْ يراك إلاّ معصوماً، وقيل لبعض العلماء: من يصحب من الناس قال: من يرفع عنك ثقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مؤونة التحفظ، وقد كان جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يقول: أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي، يريدون بهذا كله أنّ من لم يكن على هذه الأوصاف دخل عليه التصنع والتزين، فأخرجاه إلى الرياء والتكلف، فذهبت بركة الصحبة وبطلت منفعة الأخوة، وقال بعض الصوفية: لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببرّ ولا تنقص بإثم، ومن يتوب عنك إذا أذنبت، ويعتذر إليك إذا أسأت، ويحمل عنك مؤونة نفسه ويكفيك مؤونة نفسك، وهذه من أعز الأوصاف في هذا الوقت، كما قال رجل للجنيد: قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى قال: فسكت عنه، ثم عاد ذلك فقال له الجنيد: إذا أردت أخاً في الله عزّ وجلّ يكفيك مؤونتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإنْ أردت أخاً في الله تتحمل أنت مؤونته وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلك عليهم إنْ أحببت، فهذا لعمري يكون محبّاً لنفسه إذا أقتضى هذا من أخيه لا محبّاً لأخ في الله تعالى، وليس الإخاء كف الأذى لأن هذا واجب، ولكن الإخاء الصبر على الأذى، وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلاّ على استواء أربع معان، لا يترجح بعضها على بعض، ولا يكون فيها اعتراض من بعض إنْ أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه صم، وإنْ صلّى الليل أجمع لم يقل له أحد نم بعضه، وتستوي حالاه عنده، فلا مزيد لأجل صيامه وقيامه، ولا نقصان لأجل إفطاره ونومه، فإذا كان عنده يزيد بالعمل وينتقص بترك العمل، فالفرقة أسلم للدين وأبعد من المراءاة من قبل إنّ النفس مجبولة على حب المدح وكراهة الذم، ومبتلاة بأن ترب حالها التي عرفت به، وأنْ تظهر أحسن ما يحسن عند الناس منها، فإن صحب من يعمل معه هذا فليس ذلك بطريق الصادقين ولا بغية المخلصين، فمجانبة هؤلاء الناس أصلح للقلب وأخلص للعمل، وفي معاشرتهم وصحبة أمثالهم فساد القلوب ونقصان الحال، لأن هذه أسباب الرياء، وفي الرياء حبط الأعمال وحسن رأس المال، والسقوط من عين ذي الجلال نعوذ به سبحانه وتعالى من ذلك، وكان الثوري رحمه الله تعالى يقول: من عاشر الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وكان بعض الناس يقول: لا تؤاخِ من الناس إلاّ من لا يتغير عليك في أربع: عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه، لأن هذه المعاني تتغير لها الطباع لدخول الضرر منها على النفس وفقد الانتفاع، وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلاّ من كان على هذا الوصف: يكتم سرّك وينشر برّك ويطوي عيبك ويكون في النوائب معك وفي الرغائب يؤثر، فإن لم تجده فلا تصحب إلاّ نفسك، وقد أنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء في معنى هذه الأوصاف:

وندمان أخي ثقة ... كان حديثه خبره

يسرك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره

فساعد خله كرما ... وفي أخلاقه أثره

ويطوى سوءَة أبداً ... وحسناً إن طوى نشره

ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره

وقال بعض العلماء: لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجلاً تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك، أو رجلاً تعلمه شيئاً من دينه فيقبل منك، والثالث هرب منه، وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجل ترتفق به في دنياك، أو رجل تزيد معه وتنتفع به في آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير.

وكان المأمون يقول: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه فالعبد مبتلي بهذا الثالث وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع عنده، والأول نعمة من اللهّ سبحانه وتعالى على العبد، فيه أُلفة وأنس ومعه غنيمة ونفع.

وكان أبو ذر يقول: الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وقال بشر بن الحارث: يكون للرجل ثلاثة إخوان: أخ لآخرته، وأخ لدنياه، وأخ يأنس به، فأخبر أنّ أخ المؤانسة قد لا يكون متقرّباً عابداً، وأنّ الأنس مخصوص يقال: لا يوجد إلاّ في كريم، وكان يوسف بن أسباط يعزز من فيه أنس من الإخوان، فكان يقول ما في المصيصة ثلاثة يؤنس بهم، واعلم أنّ الأنس لايوجد في كل عالم، ولا في كل عاقل، ولا في كل عابد زاهد، ويحتاج الأنس ألى وجود معان تكون في الولي، فإذا اجتمعت فيه كمل فيه الأنس، وارتفعت عنه الوحشة والحشمة، ومن لم تكن فيه لم يوجد فيه أنس، ومن لم تكمل فيه وجد فيه بعض الأنس، وإذا حصل الأنس ففيه الروح من الكروب والاستراحة من الغمّ والسكون وطمأنينة القلب، فكذلك عزّ من يوجد فيه الأنس لعزة خصاله وهي سبع: علم وعقل وأدب وحسن خلق وسخاء نفس وسلامة قلب وتواضع، فإن فقد بعضها لم يجد خلاً يأنس بكماله، من قبل أن أضّدادها وحشة كلها لأن الجاهل لا أنس فيه، والأحمق لا أنس به، والبخيل سئ الخلق لا أنس عنده، والخبيث والمتكبر لا أنس معه فاعرف هذا.

وروينا عن الأصمعي أنه ذكر عن بعض الحكماء قال: عاملوا أحرار الناس بمحض المودة، وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة، وسوسوا السفلة بالمخافة، ومثل جملة الناس كمثل جملة الشجر، منهم من له ظل ليس فيه ثمر وهذا الذي فيه نفع من الدنيا ولا ثمرة له في العقبى، ويحتاج إليه في وقت، ومنهم من فيه ثمر وليس له ظل وهذا يصلح للآخرة ولا يصلح للدنيا، ومنهم من فيه ظل وثمر، فهذا الذي يصلح للدين والدنيا وهو أعزها، ومنهم من لا ظل له ولا ثمر وهذا هو الذي لا يحتاج إليه، فمثله في الشجر مثل شجر الغضا وهو شوك البرية التي تسميه العامة أم غيلان، تمزق الثياب لا طعام فيه ولا شراب، فهؤلاء من الناس من يضرّ ولا ينفع ويكثر ولا يدفع، مثله كما قال الله تبارك وتعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبْئِس المَوْلى وَلَبِئسَ العشيرُ) الحج: 13، ومثله في الدواب مثل الفأرة والعقرب، وقد قيل في وصفهم:

الناس شيء إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر

ذارب ظلّ وهذا عنده ثمر ... وذاك ليس له ظل ولا ثمر

وقد أنشدنا في مثل وصف هذا لبعض الأدباء:

إذا كنت لا ترجى لدفع مهمة ... ولم تك يوم الحشر ممن يشفع

ولا أنت ذا مال يجود بماله ... فعود خلال من إخائك أنفع

قال بعض السلف: إذا ولى أخوك ولاية فثبت على نصف مودتك فكثير، وحدثنا محمد بن القاسم القرشي عن الربيع بن سليمان، عن الإمام الشافعي رحمه الله، أنه آخى رجلاً ببغداد ثم إنّ أخاه ولي السيبين فتغير للشافعي كما كان يعهده منه فكتب إليه الشافعي رضي الله عنه هذه الأبيات:

اذهب فودك من ودادي طالق ... مني وليس طلاق ذات البين

فإن ارعويت فإنها تطليقة ... ويدوم ودك لي على ثنتين

وإذا امتنعت شفتها بمثالها ... فتكون تطليقتين في حيضين

فإذا الثلاث أتتك مني بتة ... لم تغنِ عنك ولاية السيبين

فذكر هذا الكلام لبعض الفقهاء فاستحسنه وقال: هذا الطلاق فقهي، إلاّ أنه طلق قبل النكاح، وقد كان الشافعي عليه السلام آخى محمد بن عبد الحكم المصري وكان يحبه ويقربه، ويقول: ما يقيمني بمصر غيره، واعتل محمد فعاده الشافعي، فحدثني القرشي عن الربيع قال: سمعت الشافعي ينشد وقد عاد محمدّاً: مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه

وأتى الحبيب يعودني ... فبرأت من نظري إليه

وما شك أهل مصر أنّ الشافعي يفوض أمر حلقته إليه، وأنه يستخلفه بعد موته ويأمر الناس بالحضور عنده، حتى سئل عن ذلك في علّته فقيل له: يا أبا عبد الله إلى من نجلس بعدك، ومن يكون صاحب الحلقة، وهم يظنون أنه يشير إلى محمد فاستشرف لذلك محمد وتطاول لها، وكان جالساً عند رأسه فقال: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد ووجد في نفسه ومال أصحابه إلى أبي يعقوب البويطي، وقد كان محمد حمل علم الشافعي ومذهبه وفارق مذهب مالك، إلا أنّ البويطي كان أزهد وأورع، فحمل الشافعي نصحه للدين والنصيحة للمسلمين، ولم يداهن في ذلك بأن وجه الأمر إلى أبي يعقوب، وآثره لأنه كان أولى، فلما قبض الشافعي رضي الله عنه إنتقل محمد ابن عبد الحكم مذهبه، وفارق أصحابه ورجع إلى مالك، وروى كتب أبيه عن مالك، وتفقه فيها، فهو اليوم من كبار أصحاب مالك رضى الله عنه، وأخمل البويطي رحمه الله نفسه واعتزل عن الناس بالبويطة من سواد مصر، وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع ابن سليمان ويعرف به، وإنما هو جمع البويطي لم يذكر نفسه فيه، وأخرجه إلى الربيع فزاد فيه، وأظهره وسمعه منه وقد كان البويطي حمل في المحلة ورفع من مصر إلى السلطان، وحبس في شأن القرآن، فحدثنا عن الربيع قال: كتب إليّ البويطي من السجن يحثني على المجالس، ويأمرني بالمواظبة على العلم والرفق بالمتعلمين والإقبال عليهم، وأنْ أتواضع لهم وقال: كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يقول:

أهين لهم نفس لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها

وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا تصحب من الناس إلاّ من إنْ افترقت قرب منك، وإذا استغنيت لم يطمع فيك، وإنْ علت مرتبته لم يرتفع عليك، إنْ تذللت له صانك، وإنْ احتجت له مانك، وإنْ اجتمعت معه زانك، فإن لم تجد هذا فلا تصحبن أحداً، ومن حق الأخوّة في الله عزّ وجلّ ما نقل إلينا من سيرة السلف قال: كان الرجل يجيء إلى منزل أخيه من حيث لا يعلم، فيقول لأهله: هل عندكم دقيق، ألكم زيت تحتاجون إلى كذا، فإن قالوا ليس عندنا اشترى لهم مصالحهم، قال: ولم يكن الأخ يفرق بين عياله وعيال أخيه، يقاسمهم المؤونة قال: ويلقى أخاه فلا يعلمه بشيء من ذلك، وأما سعيد بن أبي عروبة، فكان يعلق كل ثوب عنده على الحبل، ويظهر كل صنف من طعام فيصفه، وربما اشترى المسلوخ فيعلقه، ويفتح بابه ويدخل عليه إخوانه في الله عزّ وجلّ، فكان من أراد طعاماً أكل، ومن اشتهى لحماً قطع وشوى أو طبخ، ومن احتاج إلى ثوب لبس من غير إذن ولا مؤامرة، قد عرفوا ذلك من أخلاقه، وكان مثله جماعة متخلّقين بهذه الأخلاق، وقد جعل الله تبارك وتعالى الألفة بين المؤمنين من آياته، وتمدح بوصفها ولم يكلها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عزّ وجلّ: (وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولو أنْفَقْتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفْتَ بين قُلُوبهِمْ وَلِكنَّ الله ألَّف بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌٌ) الأنفال: 63، أي عزيز لا يؤلف غيره ما فرق، ولا يفرق سواه ما ألف، حكيم تفرد بالحكم في التأليف، كما توحد بالتوحيد بالتعريف، ومعنى آخر: عزيز عزز الألفة وعظمها عند المؤمنين، حكيم جعلها في الحكمة مع الحكماء من الصالحين، ونظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان، فوقف أحدهما يحك جسده فوقف الآخر فبكى أبو الدرداء فقال له: هكذا الإخوان في الله عزّ وجلّ، يعملان لله تبارك وتعالى ويتعاونان على أمر الله، فإذا وقف أحدهما وقف الآخر لوقوفه، وكان أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر، وكان يقول: إني لأدعو لأربعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم.

وقد جاء في الحديث: دعاء الأخ لأخيه بالغيب لا يرد، ويقول الملك: ولك مثل هذا، وفي لفظ آخر يقول الله تبارك وتعالى: بك أبدأ، والحديث المشهور: يستجاب للمرء في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه، فمن واجب الأخوة تخصيصه وإفراده بالدعاء، والاستغفار له في الغيب، فلو لم يكن من بركة الأخوة إلاّ هذا كان كثير، وكان محمد بن يوسف الأصبهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح، أهلك يقتسمون ميراثك وهو منفرد بحسرتك، مهتم بما قدمت، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى، فقد أشبه الأخ الصالح الملائكة: لأنه جاء في الخبر: إذا مات العبد قال الناس: ما خلف وقالت الملائكة: ما قدم، يفرحون بما قدم من خير ويشفقون عليه، وقال بعض العلماء: لو لم يكن في اتخاذ الإخوان إلاّ أنّ أحدهم يبلغه موت أخيه فيترحم عليه ويدعو له، فلعله يغفر له بحسن نيته له ويقال: مَنْ بلغه موت أخيه فترحم عليه واستغفر له، كأنه شهد جنازته وصلّى عليه، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء، ينتظر دعوة من ولد أو والد أو أخ، وإنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء، من الأنوار أمثال الجبال ويقال: الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء في الدنيا، قال: فيدخل الملك على الميت معه طبق من نور، عليه منديل من نور فيقول: هذه هدية من عند أخيك فلان، من عند قرينك فلان قال: فيفرح بذلك، كما يفرح الحي بالهدية، فقد كان الإخوان يوصون إخوانهم بعدهم بدوام الدعاء لهم، ويرغبون في ذلك لحسن يقينهم وصدق نياتهم، وإن أعظم الحسرة من خرج من الدنيا ولم يؤاخ أخاً في الله عزّ وجلّ، فيدرك بذلك فضائل المؤاخاة وينال به منازل المحبين عند الله تعالى، ومن أشد الناس وحشة في الدنيا من لم يكن له خليل يأنس به وصديق صدق يسكن إليه، كما قال عليّ عليه السلام: وغريب من لم يكن له حبيب ولا يوحشنك من صديق سوء ظن، وأنشد بعض الشيوخ لبعضهم:

وليس غريبًا من تناءت دياره ... ولكن من يجفي فذاك غريب

ومن كان ذا عهد قديم وذا وفا ... فلو جاوز السدين فهو قريب

وقيل لسفيان الثوري: بمن تأنس فقال: بقيس بن الربيع، وما رأيته منذ سنتين، وكان بعضهم يقول: أنا بمودة من غاب عني من بعض إخواني أوثق مني بمودة من يغدو علي ويروح في كل يوم مرتين، وقال محمد بن داود: قرب القلوب على بعد المزار خير من قرب الديار من الديار، وليتّقِ أنْ يعاشر أخاه بخمس خصال، فليست من الأدب ولا المروءة: أولها أنْ لا يلزمه بما يكره مما يشق عليه، والثانية أن لا يسمع فيه بلاغة ولا يصدق عليه مقالة، والثالثة أن لا يكثر مسألته من أين تجيء وإلى أين تذهب، وأنْ لا يتجسس عليه ولا يتحسس عنه، والفرق بينهما أنّ التجسس يكون في قفو الآثار، والتحسس يكون في تطلع الأخبار، فقد روينا كراهة هذه الخمس في سيرة السلف، وقال محمد بن سيرين: لا تلزم أخاك بما يشق عليه، وقال مجاهد إذا رأيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين تذهب فلعله أنْ يصدقك في ذلك أو يكذبك، فتكون قد حملته على الكذب، وروينا أنّ حكيماً جاء إلى حكيم فقال: جئتك خاطباً إليك مودتك فقال: إنْ جعلت مهرهاً ثلاثاً فعلت قال: وما هن قال: لا تخالفني في أمر، ولا تقبل عليّ بلاغة، ولا تعطين فيّ رشوة فقال: قد فعلت قال: قد آخيتك، وأما التجسس والتحسس فقد نهى الله ورسوله عنهما، وجعلهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط الأخوة مع ترك التدابر والتقاطع، فقد روينا في الخبر السائر: لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المقاطعة في الشهادة أن تقطع مواصلته، وتنحرف عن جريان عادته، والتدابر في الغيب مأخوذ منه إذا ولاك الدبر أي لا تدابره إلاّ بما يحب، كما تكون له في المقابلة كما أخذت الغيبة من الغيب أي لا تخلفه في غيبه بما يكره، وقد كان الإخوان يتبايتون على العلوم والأعمال، وعلى التلاوة والأذكار وبهذه المعاني تحسن الصحبة، وتحق المحبة، وكانوا يجدون من المزيد من ذلك والنفع به في العاجل والآجل، ما لا يجدونه في التخلي والانفراد من تحسين الأخلاق، وتلقيح العقول، ومذاكرة العلوم، وهذا لا يصح إلاّ لأهله، وهم أهل سلامة الصدور والرضا بالميسور مع وجود الرحمة، وفقد الحسد، ووجد التناصر، وعدم التظاهر، وسقوط التكلف، ودوام التآلف، فإذا عدمت هذه الخصال ففي وجود أضدادها تقل المباينة، وقد قيل: من سقطت كلفته دامت صحبته وألفته، ومن قلّت مؤونته دامت مودته، وقال علي عليه السلام: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال يونس النبي عليه السلام لما زاره إخوانه، فقدم إليهم خبز شعير وجزلهم من بقل كان زرعه وقال: لولا أنّ الله تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم.

وروينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف، فجملة التكلف هو عمل ما لا نية للعبد فيه، ودخول العبد فيما لا يعنيه وتعاطيه ما قد كفيه، ومع وجود الحسد وكمون الغل، وهو ثبوت الحقد تكون المباينة، وفي التطاول والتظاهر تقع المجانية، ومع الخبث والمكر تكون المنافرة، وهذا كله يذهب الألفة وينقص المحبة ويبطل فضيلة الأخوة، وقال بعض أهل البيت: أثقل إخواني عليّ من أحتشمه ويحتشمني، وقال بعض السلف: كانوا لا يغتنمون ولا يحتشمون، وسئل الحسن عن الصديق الذي أكل ماله بغير إذن منه فقال: من استراحت إليه النفس وسكن إليه القلب، فإذا كان كذلك فلا إذن له في ماله، وسئل ذو النون عن الأنس فقال: أنْ تأنس بكل وجه صبيح وكل صوت فصيح، والله تبارك وتعالى فيما بينك وبين ذلك، وإذا علمت أنّ أخاك يسر بأخذك من رحله وملكه، أو علمت أنه لا يكره ذلك إنْ فعلته، حل لك أنْ تأخذ، وإنْ كان لم يأذن لك لأن علمك يقوم مقام إذنه، وعلامة هذا منك انشراح صدرك بذلك، وخفته على قلبك، فذلك دليل على سروره به، وعلى قياسه من علمت من الناس أنه يكره تناولك من ماله شيئاً، أو عرفته يبخل ضنانة بما في يديه، فإني أكره لك أنْ تأكل من ماله شيئاً وإنْ أذن لك بعد أنْ تعلم أنّ الأحب إليه أنْ لا تأخذ، ففي الورع وإنْ أعطاك أنْ لا تقبل فإن بذله مع علمك بأمره لغو لا حقيقة له، ودليل ذلك ضيق صدرك به، ووجود الحشمة والوحشة في القلب، فقد جاء في الأثر الإثم حواز القلب، وجاء الإثم ما حاك في صدرك، والبر حسن الخلق، والبر ما سكنت إليه النفس واطمأن به القلب، فقد جاءت هذه الألفاظ في أحاديث متفرقة، وعلى ما ذكرناه أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل من لحم بريرة تصدق به عليها وكانت غائبة لما علم أنه يسرها، فلم ينتظر إذنها فعلى ضد ذلك في القياس ما ذكرناه، ونظر هاشم الأوقص إلى الحسن وهو يأكل من جون لبقال، من هذه بسرة ومن هذه تينة، فقال له: يا أبا سعيد، تأكل من مال الرجل بغير إذنه فقال: يا لكع، اتل عليّ آية الأكل، ثم قرأ الحسن (ولا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُم) النور: 61 إلى قوله تعالى: (أوْ صَدِيِقِكُمْ) النور: 61، وقد كان أصحاب محمد بن واسع وفرقد السنجي يدخلون منزله فيأكلون من غير أنْ يؤذن لهم ويقول: ذكرتموني أخلاق قوم مضوا هكذا كنا، قال: وكنا ندخل على أبي سليمان الداراني، فيقدم إلينا الطيّبات ولا يأكل معنا ويقول: إنما خبأته لكم فقلنا: تطعمنا الشهوات ولا تأكلها فقال: لا آكلها لأني قد تركت أكلها، وأقدمها إليكم لأني أعلم أنكم تشتهونها وقال: كنا نبايت إبراهيم بن أدهم في المصيصة.

وفي قرى السواحل، فكان يكسر لنا الصنوبر والبندق واللوز ليله أجمع ويقول: كلوا فقلنا: لو أقبلت على صلاتك وتركت هذا فيقول: هذا أفضل، وكان بعض الناس يفجؤه الضيف، فلا يكون عنده ما يقدمه إليه، فيذهب إلى منزل أخيه، فيأخذ خبزاً وقدراً قد كان طبخها، فيحمله إلى ضيفه، فيلقاه أخوه بعد ذلك فيستحسنه منه ويأمره بفعل مثل ذلك في كل نائبة، وقال بعض العلماء: إذا عمل الرجل في منزل أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده، ودخل الخلاء ونام وصلّى، فذكرت هذه الحكاية لبعض أشياخنا فقال: صدق، بقيت خصلة قلت: ما هي قال: معها وجامع فإذا فعل هذا فقد تم أنسه به، لأن هذه الخمس لأجلها يتخذ البيوت، ويقع الاستخفاء لما فيها من التبذل والعورة، ولولاها كانت بيوت الله سبحانه أروح وأطيب، ففي الأنس بالأخ وارتفاع الحشمة من هذه الخمس، مثال حال الأنس في الوحدة بالنفس من غير عيب من عائب ولا ضد لكن من اتفاق جنس، وهذا لعمري نهاية الأنس ذاتاً، فأما الخامسة، وهو قول شيخنا وجامع، فعلى ذلك يصلح أنْ يستدل له بقول العرب في تسليمهم وترحيبهم: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أي لك عندنا مرحب، وهو السعة في القلب والمكان، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة منا، وسهلاً أي لك عندنا سهولة، ذلك يسهل علينا ولا يشتد فهو سهولة اللقاء وسهولته من الأخلاق في الالتقاء، واعلم أنّ للناس في التعارف سبع مقامات بعضها فوق بعض، فأوّل ذلك المعرفة عن الرؤية أو السمع فقط، فلهذا حرمة الإسلام وحق العامة، ثم المجاورة وله حق الجوار، وهو ثاني حقوق الإسلام، وهذا هو الجار الجنب، ثم المرافقة في طريق أو سفر وهذا هو الصاحب بالجنب في أحد الوجهين من الآية، فلهذا ثلاثة حقوق لأنه قد جمع حرمة الإسلام وحرمة الجوار وزاد عليها بأنه ابن سبيل، ثم الصحبة وهي الملازمة والاتباع، فهذا فوق ذلك، ثم الصداقة وهي حقيقة الأخوة، ومعها تكون المعاشرة وهو اسم تكون معه المخالطة، وتوجد فيه المؤانسة، وهو يحكم بالمزاورة والمبايتة والمؤاكلة وهذا جملة العشرة، فالمعاشرة مأخوذة من العشير، وهو الخليط المقارب، ولذلك سمي الزوج عشيراً في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويكفرن العشير، وقد قال الله عزّ وجلّ في تسمية المعاشر وفي قربه: (لَبِئسَ الَوْلى وَلًَبِئسَ العَشيرُ) الحج: 13، يعني ابن العم المختلط به، فقيل منه معاشرة على زنة مفاعلة لأنه شيء يقع بين اثنين لا محالة، كان كل واحد قد فعل مثله أي يفعل هذا مثل ما يفعل هذا، مثل المضاربة والمقاتلة والمشاتمة، إذا فعل كل واحد بصاحبه كفعله به، ثم الأخوة فوق الصداقة، وهذا لا يكاد يكون إلاّ بين النظراء في الحال، والمتقاربين في الحسن، والمعاني بأن يوجد في أحدهما من القلب والهمة والعلم والخلق، ما يوجد في الآخر وإنْ تفاوتا كما قال تبارك وتعالى: (إنَّ المُبذِّرينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّيَاطينَ) الأسراء: 27، وليسوا من جنسهم ولا على وصفهم في الخلقة، ولكن لما تشابهت قلوبهم وأحوالهم آخى بينهم، فهذه أخوة الحال وهي حقيقة الصداقة، ثم المحبة وهي خاصية الأخوة، وهذا يجعله الله تبارك وتعالى من الألفة ويوجده من الأنس في القلوب، يتولاه بصنعه ولا يوليه غيره، وهذا ارتياح القلوب وانشراح الصدور ووجد السرور، وفقد الوحشة، وزوال الحشمة، ثم الخليل وهذا فوق الحبيب، ولا يكون هذا إلاّ في عاقلين عالمين عارفين على معيار واحد، وطريق واحد، وهذا أعز موجود وأغرب معهود، والخلة مأخوذة من تخلل الأسرار، ومعها تكون حقيقة الحب والإيثار، فكل خليل حبيب، وليس كل حبيب خليلاً، لأن الخلة تحتاج إلى فضل عقل، ومزيد علم، وقوّة تمكين، وقد لا يوجد ذلك في كل محبوب، فلذلك عزّ طلبه وجلّ وصفه، وقد رفع الله عزّ وجلّ نبيه محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام المحبة، فأعطاه الخلة ليلحقه بمقام إبراهيم، فكانت الخلة مزيد المحبة، ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت متخذاً من الخلق خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله عزّ وجلّ، فلما أتخذه خليلاً لم يصلح أنْ يشرك في خلة الخالق خلة الخلق، ثم قال: ولكن أخوّة الإسلام فأوقفه مع الأخوّة، لأن فيها مشاركة في الحال كما فعل بعليّ عليه السلام، وعدل به عن النبوّة كما عدل بأبي بكر عن الخلة.

وفي الحديث الآخر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد المنبر فرحاً مستبشراً فقال: ألا إنّ الله تبارك وتعالى، قد اتخذني خليلاً كما أتخذ إبراهيم خليلاً، فأنا حبيب الله عزّ وجلّ، وأنا خليل الله، وليس قبل المعرفة اسم يوجب حكماً إلاّ ظاهر الإسلام، ولا بعد الخليل وصف يعرف إلاّ نعت محب، ثم تتزايد الحرمات في الأخوات ما بين المعرفة والخلة، وتعظم الحقوق بطول الصحبة وجميل العشرة، ويقال صحبة سنة أخوة ومعرفة عشر سنين قرابة، قد ضم الله عزّ وجلّ الصديق إلى الأهل ووصله بهم، ثم رفع الأخ وقدمه على الصديق، وهو قوله عزّ وجلّ: (أو مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور: 61، كان الأخ يدفع مفاتح خزائنه إلى أخيه، ويتصرف في الحضر ويتقلب في السفر، ويقول لأخيه: حكمك فيما أملك كحكمي، وملكي له كملكك، فكان أخوه يتضايق ويتحرج فيقتر على نفسه لأجل غيبة أخيه، ويقول: لو كان حاضراً لاتّسعت وأكلت رغداً للورع الذي فيه، والنصح والإيثار لأخيه فرحم الله عزّ وجلّ تضايقهم وشكر تورعهم، فأطلق لهم الإذن ووسع عليهم في الأكل فقال عزّ وجلّ: (ولا على أَنْفُسِكُمْ) النور: 61، أي لا إثم ولا ضيق أن ْ تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، ثم نسق الأقارب على ترتيب الأحكام، وضمّ إليهم الأخ لما وصفه بتمليكه مفاتحه أخاه، فأقام ذلك مقام ملك أخيه، لأنه أقام أخاه مقامه فقال تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور: 61، ثم أخر الصديق بعده إذ لم يكن بحقيقة وصفه، ثم قال عزّ وجلّ: (لَيْسَ عَليْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَأكُلُوا جَمِيعاً) النور: 61، بحضرة الإخوان أو أشتاتاً في حال تفرقهم، فسوى بين غيبتهم وشهودهم لتسوية إخوانهم بينهم وبين أملاكهم، واستواء قلوبهم مع ألسنتهم في البذل والمحبة، لتناول المبذول وهذا تحقيق وصفه عزّ وجلّ لهم في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى: 38، وقال بعض الأدباء: إذا ائتلف الإخوان جماعة، ثم اجتمع بعضهم على لذّة وفقد البعض نقص من اللذة بمقدار من نقص منهم، وهذا يكون بوجود الأنس بهم ومواصلة الذكر، وروينا أنّ مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت السرير فجعل يأكل، فدخل الحسن فقال: هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض واعلم أنه ليس بين الأخوين والصاحبين رياء في أعمالهما، وإنْ تراءى برأي العين أعمالهم لهم ثواب السرّ والخلوة، لأنهما كالأهل في الحضر وكالصحابة في السفر، وليس بين الرجل وأهل بيته ولا بين المسافر ورفقائه رياء ولا سمعة، ولا عليه منهم اختفاء ولا خلوة، فإن صحبه أخوه هذا في سفر كانت حرمته عليه ألزم وحقه أوجب، فينبغي أنْ لا يخالفه ولا يعترض عليه إنْ أحب النزول في منزل لم يكره أخوه ذلك، وإنْ اختار أحدهما الرحيل لم يحب الآخر المقام، وإنْ سار أحدهما لم يقف صاحبه، وإنْ استراح الآخر وقف له رفيقه، وإنْ اشترى شيئاً لم ينهه عنه، ولا يستأثر بمطعوم ولا مشروب بل يؤثره بذينك، وفي الخبر: ما اصطحب اثنان قط إلاّ كان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه.

وروينا أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دخل غيضة مع بعض أصحابه، فاجتنى منها سواكين من أراك، أحدهما معوج والآخر مستقيم، فحبس المعوج لنفسه ودفع المستقيم إلى صاحبه فقال: يار سول الله أنت كنت أحق بالمستقيم فقال: ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من نهار، إلاّ سأله الله عن صحبته هل أقام فيه حق الله تعالى أو أضاعه، ومن كان ناظراً في أخوة أخيه أو في صحبته إلى كثرة أعماله، أو واقفاً مع أكمل أحواله، دل على جهله بهذا الطريق الذي ينفذ إلى التحقيق لأنها تحول، وإنّما المعول على حقائق القلوب وسلامة العقول لأن إليها الأمر مردود، فإن اقترن إلى جهله نقص معرفة الآخر دل علىه التزين له والتصنع عنده لتعلو منزلته ويحسن عنده أثره فيدخله ذلك في الشرك ويخرجه الشرك عن حقيقة التوحيد، فتزل قدم بعد ثبوتها ويسقط من عين مولاه، فلا يتولاه لأن النفس مبتلاة بحب الثناء والمدح وإثبات المنزلة بإظهار الوصف، فيكون هذا الصاحب حينئذ من أشأم الناس عليه وأضرّهم له، ويصير أحدهما بلاء على صاحبه، فليفارقه حينئذ لأنّه جاهل ولا يصحبه، فإنه يجد النقصان وتدخل عليه الآفات بمقارنته، فلينفرد بنفسه فيصدق في حاله عالية كانت أو دنيئة، وضيعة كانت أم رفيعة، من غير مقارنة أحد ولا مباينة فهو خير له وأحمد عاقبة، وهذا باب لطيف قد هلك فيه خلق كثير على ضربين منهم، من صاحب وآخى وبايت على هذه العلل فساكنها، ومن هذه الآفات فقارنها الضعف يقينه وقوة هواه، وكبر الناس في عينه وعظم قدر الدنيا مما يناله منهم في قلبه، فهلك بالتزين والتصنع وأهلك أخاه بنحو ذلك، والضرب الثاني من المتعبدين المعروفين بالستر والصلاح، خافوا ولم يحبوا أن يظهروا على حالهم كراهة الذم وخيفة النقص لهم، فلم يحبوا أنْ يختبروا بالمباينة ولا ينكشفوا في المصاحبة، ولا تعرف أحوالهم بطول الممارسة، وأحبوا مع ذلك أنْ يشار إليهم من بعيد ويتوهم فيهم العبادة من غير طول ملاقاة، فأظهروا التفرد والعزلة، وتركوا المباينة والصحبة، وأنكروا هذا وعابوه، يريدون أنْ يبينوا بذلك عن نظرائهم وينفردوا به عن جملة الخلق بدعوى الحال، ليختصوا بغيرها عندهم من غير حال، ولا انقطاع إلى الله سبحانه، ولا اشتغال، ولقلة معرفة العامة بأحوال الصادقين، فهلك أيضاً بالمباينة وغربة الحال وترك السنة من إجابة الدعوى، ومخالطة الأمة كبراً وتطاولاً على العامة، وتمويهاً منهم على من لا يعرف سيرة الأمة، وأوهم بذلك أنه مشغول عنه بسلوك الطريق، لعلمه أنهم لا يعرفون محجة التحقيق، ولعلّه مشغول بهم وأنهم وساوس قلبه، وهو في ذلك منكشف للصادقين ظاهر جلي للعارفين، وقد جاء في مخالطة المسلمين، وفي الأكل مع الإخوان والاختلاط بالعامة، والمشي في الأسواق واشتراء الحوائج، وحملها للتواضع ما يكثر رسمه ويطول وصفه وكذلك كان سيرة الصحابة وشيمة التابعين بإحسان منهم، عمر رضي الله عنه، كان يحمل القربة على ظهره لأهله، وعليّ رضي الله عنه كان يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول:

لا ينقص الكامل من كماله ... ما جرّ من نفع إلى عياله

ومنهم أبي وابن مسعود وحذيفة وأبو هريرة، كانوا يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم وظهورهم، وسيد المرسلين وإمام المتّقين، ورسول رب العالمين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشتري الشيء فيحمله بنفسه، فيقول له صاحبه: أعطني أحمله عنك فيقول: صاحب الشيء أحقّ بحمله، وكان الحسن بن علي عليهما السلام يمر على السؤال في الطريق، وبين أيديهن كسر ملقاة في الأرض، فيسلم عليهم فيقولون: هلمّ الغداء يا بن بنت رسول الله، فيثني رجله عن بغلته وينزل، فيقعد معهم على الأرض ويأكل، ثم يركب ويقول: إنْ الله تبارك وتعالى لا يحب المستكبرين ثم يدعوهم بعد ذلك إلى منزله فيقول للخادم: هلمي ما كنت تدخرين فيأكلون معه، وروينا في الإسرائيليات أنْ حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصنفاً في الحكمة، حتى ظن أنه نال منزلة عند الله تعالى، فأوحى الله إلى نبيه: قل لفلان أنك قد ملأت الأرض نفاقاً، وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً، قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: قد بلغت محبة ربي فأوحى الله عزّ وجلّ إلى النبي، قل له إنك لم تبلغ رضاي قال: فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم، وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم، فأوحى الله تبارك وتعالى الآن حين بلغت رضاي، فلو أيقن اليائس المتصنع للخلق، الأسير في أيديهم، الرهين لنظرهم، أنّ الخلق لا ينقصون من رزق، ولا يزيدون في عمر، ولا يرفعون عند الله، ولا يضعون لديه، وأنّ هذا كله بيد الله عزّ وجلّ، لا يملكه سواه، ولو سمع خطاب المولى لاستراح من جهد البلاء، إذ يقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله) الأعراف: 194، لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، مع قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون الله عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194 فلو عقل ذلك لطرح، الخلق عن قلبه اشتغالاً بمقلبه، ولأعرض عن الناس بهمه نظراً منه إلى مهمه، وأظهر حاله وكشف أمره تقوياً بربه وغنية بعلمه، فلم يبال أنْ يراه الناس على كل حال يراه فيه مولاه، إذا كان لا يعبد إلاّ إياه ولا يضره ولا ينفعه سواه، فعمل ما يصلحه وإنْ كان عند الناس يضعه، وسعى فيما يحتاج إليه وإنْ كان عند المولى يزري عليه، ولكن ضعف يقينه فقوى إلى الخلق نظره، وأحب أنْ يستر عنهم خبره لإثبات المنزلة عندهم، ولاستخراج الجاه لنفسه، فيفخر بالخيلاء والعجب، فموه بحال على من لا حال له، ووهم بمقام عند من ليس له مقام، واعتقدوا فضله بذلك لنقصهم، وتوهموا به علمه لجهلهم، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم، حدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: والله ما أقول لك إلاّ نصحاً، أنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما يصلحك فافعله، وحدثونا عن الثوري قال: رضا الناس غاية لا تدرك، فأحمق الناس من طلب من لا يدرك وقد قال بعض الحكماء في معناه قولاً منظوماً:

من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجسور

ونظر أبو محمد سهل إلى رجل من الفقراء فقال له: اعمل كذا وكذا فقال: يا أستاذ لا أقدر على هذا لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه فقال: لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد يسقط الناس عن عينه فلا يرى في الدار إلاّ هو وخالقه، وأنّ أحد لا يقدر أنْ يضره ولاينفعه، أو عبد أسقط الناس عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه، وحدثونا عن إمام الأئمة الحسن بن يسار البصري رحمه الله أنَّ رجلاً قال له: يا أبا سعيد إنّ قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم الفائدة منك، ولا الأخذ عنك، إنما همهم تتبع سقط كلامك وتعنتك في السؤال ليعيبوك بذلك، فتبسم الحسن ثم قال: هوّن عليك يا ابن أخي فإني حدثت نفسي بسكنى الحنان، فطمعت وحدثت نفسي بمعانقة الحور الحسان، فطمعت وحدثت نفسي بمجاورة الرحمن، فطمعت وما حدثت نفسي قط بالسلامة من الناس، لأني قد علمت أنّ خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم، فكيف أحدث نفسي بالسلامة منهم، وبمعناه ما روي عن موسىصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يا ربّ احبس عني ألسنة الناس، فقال اللّّه تبارك وتعالى: يا موسى هذا شيء لم أفعله لنفسي، فكيف أفعله بك، وفي لفظ آخر: لو خصصت بهذا أحداً لخصصت به نفسي، وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: ما من يوم أصبح فيه حيًّا وأمسي ولا يرميني فيه الناس بداهية إلاّ عددته نعمة من الله تعالى عليّ وأنشد:

وإن امرًءا يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلاّ ما جنا لسعيد

وأوحى الله عزّ وجلّ إلى عزير: إنْ لم تطب نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين، ومثله روينا عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول يا معشر الحواريين، إنْ أردتم أنْ تكونوا إخواناً فوطنوا نفوسكم عند العداوة والبغضاء من الناس، وقد جعل الله تبارك وتعالى في المخالطة للمؤمنين من البركة، ما لو لم يجيء فيه الأثر إلا هذا، كان فيه كفاية، وروينا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طاف بالبيت عدل إلى زمزم ليشرب منها، فإذا التمر المنقع في الحياض الآدم قد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه يشربون فاستسقى منه فقال: اسقوني فقال العباس: يا رسول الله إنّ هذا النبيذ شراب قد مغث وحيض بالأيدي، أفلا آتيك أنظف من هذا في جرّ مخمر في البيت فقال: لا اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، ألتمس بركة أيدي المسلمين فشرب، وروينا في خبر آخر قيل: يا رسول الله، الوضوء من جرّ مخمر أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس فقال: بل من هذه المطاهر إلتماس بركة أيدي المسلمين، وروينا في الخبر: إذا التقى المسلمان فتصافحا، فتبسم أحدهما إلى صاحبه تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر، وفي لفظ الحديث الآخر: قسمت بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون لآنسهما بصاحبه وأحسنهما بشرًا، وروينا في الخبر: خير الأصحاب عند الله عزّ وجلّ أرفقهم بصاحبه، وخير الجيران أرفقهم بجاره، وإياك أنْ تصحب جاهلاً فتجهل بصحبته، أو غافلاً عن مولاه متبعاً لهواه فيصدك عن سبيله فتردى، كما قال سبحانه وتعالى: (فاسْتَقيما ولا تَتَّبِعَانِّ سَبيلَ الَّذينَ لا يَعْلَمُونَ) يونس: 89، فأول الاستقامة صحبة العلماء بالله عزّ وجلّ وقال تعالى: (ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرنَا وَاتَّبَعَ هَواهُ) الكهف: 28، وقال تعالى: (فلا يَصُدَّنَّك عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بها واتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) طه: 16، أي فتكون ردياً وقيل فتهلك وقال تعالى: (فأعْرِضَ عَمَنْ تَوَلّى عنْ ذِكْرِنا) النجم: 29، ففي دليله الإقبال بالصحبة على من أقبل إلى ذكره تعالى، والإعراض عمن أعرض عن وجهه، فلا تصحبن إلاّ مقبلاً عليه كما قال الله عزّ وجلّ: (واتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أنابَ إِليَّ) لقمان: 15، وإياك أنْ تصحب من الناس خمسة: المبتدع والفاسق والجاهل والحريص على الدنيا والكثير الغيبة للناس، فإن هؤلاء مفسدة للقلوب مذهبة للأحوال، مضرة في الحال والمآل.

وقد كان سفيان الثوري رحمه اللهّ يقول: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة وقال سعيد بن المسيب: لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة، ولكن قد كان صعصعة بن صوحان يقول: إذا لقيت المؤمن فخالطه مخالطة، وإذا لقيت المنافق فخالفه مخالفة، وقد قال: أحسن الواصفين في وصف أوليائه المتّقين، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً أي سلامة، الألف بدل من الهاء لازدواج الكلم، والمعنى، أي سلمنا من إثمكم وسلمتم من شرنا، وقد كان أبو الدرداء يقول في زمانه: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه، إنْ ناقدتهم ناقدوك، وإنْ تركتهم لم يتركوك، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك، وكان يقول: كل يوم أصبح لا يرميني الناس فيه بداهية أعده نعمة من الله تعالى عليّ، وقال حكيم الحكماء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من خالط الناس وصبر على أذاهم، أفضل ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم، وقال العلام ذو الجلال والإكرام: (أُولَئِكَ يُؤْتْونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسنَةِ السَّيئةِ) القصص: 45، إي يدفعون بالكلام الحسن السيء وقال عزّ وجلّ في الكلام المفسر: (ادْفَعْ بالتي هي أَحْسَنُ) فصلت: 34، يعني بالكلمة الحسنى: (فإذا الَّذي بَيْنكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليُّ حَميمٌ) فصلت: 34 ثم قال عزّ وجلّ وما يلقاها يعني الكلمة: (إلاّ الَّذينَ صبَرُوا) فصلت: 35، أي على أمر الله تعالى وعلى الغيظ، وعن الغضب: (وما يُلَقّاها إلاَّ ذُو حظٍّ عَظيمٍ) فصلت: 35، أي من الحلم والعلم وقيل ذو حظ عظيم عند الله عزّ وجلّ من النصيب والجزاء وقد قال لقمان الحكيم قولاً متوسطاً: يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مرّاً فتلفظ، المعنى: لا تمكن الناس من نفسك ولا تتابعهم في كل شيء فلا يبقوا عليك وينبسطوا إليك، ولا تنافرهم وتخالفهم في كل شيء فيجانبوك ويرفضوك فيقعوا فيك، وقال بعض السلف: لا تصحب إلاّ مريداً، وكل خليل لا يريد ما تريد فانبذ عنك صحبته، وقال بعض علماء العرب: الصاحب كالرقعة في الثوب إنْ لم تكن من جنسه شانته، وقال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أنّ كل طير مع جنسه، وقد كان مالك بن دينار يقول مثل هذا، وقد لا يتفق اثنان في عشرة ودوام صحبة، إلاّ وفي أحدهما وصف من الآخر وإنّ أشكال الناس كأجناس الطير، قال ورأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك وقال: كيف اتفقا وليسا من شكل قال: ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا ويقال: إذا اصطحب اثنان برهة من الزمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بدّ أنْ يفترقا، وقد أنشدنا بعض العرب لبعض الحكماء في معناه:

وقائل لما تفرقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف

لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وآلاف

وقد روينا في حديث أنّ الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، تلتقي فتشام في الهواء، قيل معناه في المذهب والخلق، وفي هذا الخبر زيادة ولو أنّ مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق وفيه مؤمن واحد، لجاء حتى يجلس إليه، ولوأنّ منافقاً دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن وفيه منافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه، وقد ذكر لهذا الحديث سبب على ما ذكرناه، وهو أنّ امرأة عطّارة كانت بالمدينة من أحد فقدمت امرأة من مكة عطّارة وكانت مزاحة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على من نزلت قيل: على فلانة فقال: الأرواح جنود مجندة، وبعض العلماء يقول: إنّ الله خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً، وقدر بعضها قدراً، ثم أطافها حول عرشه، فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا ههنا في الدنيا وترافقا، وأي روحين من قدرتين أو فلقة وقدرة أختلفا ثم وتناكرا هناك فاختلفا في الجولان، فإن هذين إذا ظهرا اليوم تباينا وتنافرا، فهذا تأويل الخبر عنده، فما تعارف منها أي في الطواف فتقابلا تعارفا ههنا وترافقا ائتلفا، وما تناكرا ثم في الجولان فتدابرا تناكرا ههنا اليوم في الخلق والحال لما ظهرا فاختلفا، وليس الائتلاف يقع بنفس الاجتماع ووقت الاتفاق، فإنما الائتلاف يكون بمجانسة الحال ومشاكلة الأخلاق، لأنهم شبهوا أجناس الناس بأجناس الطير، وقد يتفق الطيران من جنسين ويتجامعان في مكان، فلا يكون ذلك ائتلافاً في الحقيقة ولا اتفاقاً في الخليقة لتباينهما في التشاكل، ولا يتبين ذلك في الاجتماع وإنما يتبين في الطيران إذا طارا معاً، فأما إذا ارتفع أحدهما ووقع الآخر وعلا أحدهما وقصر الآخر، فلا بدّ من افتراق حينئذ لفقد التشاكل، ولا بدّ من مباينة لعدم التجانس عند الطيران، فهذا مثال ما ذكرناه من الافتراق لعدم حقيقة تشاكل الحال والوصف بعد الاتفاق، واعلم أنّ الائتلاف والاختلاف يقع بين اثنين إذا اشتركا وافترقا في أربعة معان، إذا استويا في العقود، واشتركا في الحال، وتقاربا في العلم واتفقا في الأخلاق، فإن اجتمعا في هذه الأربع فهي: التشاكل والتجانس ومعه يكون الائتلاف والاتفاق، وإن اختلفا في جميعها فهو التباعد والتضاد وعنده يكون التباين والإفتراق، وإنْ اتفقا في بعضها واختلفا في البعض كان بعض الاتفاق وبعض الاختلاف فيوجد من الائتلاف بمقدار ما وجد من التعارف، ويوجد من الإختلاف نحو ما فقد من الاتفاق، وهذا هو تناكر الأرواح لتباعد نشأتها وتشامها في الهواء، وذلك الأو ل هو تعارف الأرواح بقرب التشام باجتماع الأوصاف.

حدثت عن يعقوب ابن أخي معروف رحمهما الله قال: جاء الأسود بن سالم إلى عمي معروف، وكان مؤاخياً له فقال: إنّ بشر بن الحارث رحمه الله يحب مؤاخاتك، وهو يستحي أنْ يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أنْ تعقد له فيما بينك وبينه أخوّة يحتسبها ويعتد بها، إلاّ أنه يشترط فيها شروطاً لا يحب أنْ يشتهر بذلك، ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فإنه يكره كثرة الالتقاء، فقال معروف رحمه الله: أما أنا، فلو أحببت واحداً لم أحب أنْ أفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولزرته في كل وقت ولآثرته على نفسي في كل حال، ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في الله عزّ وجلّ أحاديث كثيرة، ثم قال فيها وقد آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين عليّ عليه السلام، فشاركه في العلم وقاسمه في البدن وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه، وخصه بذلك لمؤاخاته: وإني أشهدك أني قد عقدت له أخوّ ة بيني وبينه وأعتقده أخاً في الله عزّ وجلّ لرسالته ولمسألتك، على أنْ لا يزورني إنْ كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها، وآمره أنْ لا يخفي علي شيئاً من شأنه، وأنْ يطلعني على جميع أحواله، قال: فأنصرف بذلك أسود بن سالم فأخبر به بشراً، فرضي بذلك وسرّبه، فهذا أسود بن سالم أحد عقلاء الناس وفضلائهم، فكان فيه اتساع للأصحاب وصبر عليهم، وهو الذي أشار معروف به على الرجل الذي سأله مستشيراً فقال: يا أبا محفوظ، هذان الرجلان إماما هذا البلد، فأشر علي أيهما أصحب، فإني أريد أنْ أتأدب به أحمد بن حنبل أو بشر بن الحارث رضي الله عنهما قال له معروف: لا تصحب أحدهما، فإن أحمد صاحب حديث، وفي الحديث: اشتغال بالناس فإن صحبته ذهب ما تجد في قلبك من حلاوة الذكر وحب الخلوة، وأما بشر فلا يتفرغ لك ولا يقبل عليك شغلاً بحاله، ولكن اصحب أسود بن سالم، فإنه يصلح لك ويقبل عليك، ففعل الرجل ذلك فانتفع به وإنما ضمه معروف رضي الله عنه إلى الأسود دونهما، لأنه كان أليق بحاله وأشبه بوصفه، وكذلك روينا في حديث المؤاخاة الذي آخى فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصحابه، فآخى بين إثنين شكلين في العلم والحال آخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وهما نظيران، وآخى بين سلمان وأبي الدرداء وهما شكلان في العلم والزهد، وآخى بين عمار وسعد وكانا نظيرين، وآخى بين عليّ وبينه رضي الله عنهم أجمعين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وهذا من أعلى فضائله لأن علمه من علمه، وحاله من وصفه، ثم آخى بين الغني والفقير ليعتدلا في الحال، وليعود الغني على أخيه الفقير بالمال، قال أبوسليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: إذا آخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على أمر تكرهه منه، فإنك لا تأمن أنْ يعنيك بشر من الأمر الأول، قال أحمد: فجربته فوجدته كما قال، وقال بعض العلماء: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، ومعاتبته خير من القطيعة، والقطيعة أحسن من الوقيعة، وقال بعضهم: كدر الجماعة خير من صفو الفرقة، ومثل الأخوة مثل الزجاجة الرقيقة ما لم تحفظها وتوقها كانت معرضة للآفات، واستتمام الإخاء إلى خير الوفاة أشد من ابتدائها في حال الحياة، وقال بعض الأدباء: الناس أربعة: فواحد حلو كله فهذا لا يشبع منه، وآخر كله مر وهذا لا يؤكل منه، واحد فيه حموضة فخذ من هذا قبل أنْ يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه إذ احتجت إليه، وقال بعض الأئمة: الناس أربعة فاصحب ثلاثة ولا تصحب واحداً، رجل يدري ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهذا نائم فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا منافق فاجتنبوه، ومثل هذا الرابع قول سهل: ما عصي الله عزّ وجلّ بمعصية شر من الجهل، وأعظم من الجهل الجهل بالجهل، وقال بعض الأدباء: الناس ثلاثة: فاصحب رجلين وأهرب من الثالث: رجل أعلم منك فاصحبه تتعلم منه، ورجل أنت أعلم منه يقبل منك فاصحبه تعلمه، ورجل معجب بنفسه لا علم عنده ولا تعلم فاهرب من هذا، وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل الله له منه فرجًا، فمعاملته عني يتقي ومخالطته إخوان الأضطرار ومعاشرة التقي ومصافاته من أحس الإحسان، وكان أبو مهران

يقول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع. قول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع.

روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ رجلاً صحبه في طريق فدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيضة، فاجتنى سواكين من أراك أحدهما معوج والآخر مستقيم، فأخذ المعوج وأعطى صاحبه المستقيم، فقال الرجل: أنت أحق بالمستقيم مني، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من صاحب يصحب رجلاً ولو ساعة من نهار إلاّ سأله الله عن صحبته، هل أدّى فيها حق الله عزّ وجلّ أم لا، فكرهت أنْ يكون لك علي حق لم أرده، واعلم أنّ الأخوة في الله عزّ وجلّ، والمحبة في الله تعالى وحسن الصحبة كانت طرائق السلف الصالح، قد درست اليوم محاجها وعفت آثارها، فمن عمل بها فقد أحياها، ومن أحياها كان له مثل أجر من عمل بها، فمن رزقه الله أخاً صالحاً تطمئن به نفسه، ويصلح معه قلبه فهي نعمة من الله عزّ وجلّ مضافة إلى محاسن نعمه، والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!