موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل السابع والأربعون ذكر حكم المتسبب للمعاش وما يجب على التاجر من شروط العلم

 

 


الفصل السابع والأربعون ذكر حكم المتسبب للمعاش وما يجب على التاجر من شروط العلم

قال الله تعالى: (وَجَعَلْنا النَّهَارَ مَعَاشًا) النبأ: 11، فذكره فيما عدّد من آياته ونعمته، وقال عزّ وجلّ: (وجَعَلنا لَكُمْ فيها مَعَايِشَ قَليلاً ما تَشْكُرونَ) الأعراف: 1،، فجعل المعاش نعمة طالب بالشكر عليها، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل المرء من كسب يده وكل عمل مبرور، وفي لفظ آخر: أحلّ ما أكل العبد من كسب يد الصانع إذا نصح، وفي الخبر: التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصدّيقين والشهداء.

وقد جاء في الحديث: من طلب الدنيا حلالاً وتعفّفاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطّفاً على جاره لقي الله عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر، وقد روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ذات غداة جالسًا مع أصحابه فنظروا إلى شاب ذي جلدة وقوة وقد بكر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله عزّ وجلّ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان، وقال ابن مسعود: إني لأمقت الرجل أراه فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر، وكان التاجر أحبّ إليهم من البطالة، وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحبّ إليك أم المتفرغ للعبادة؟ قال: التاجر الصدوق أحب إليّ لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده وقد خالفه الحسن البصري رضي الله عنه في هذا، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موطن يأتيني فيه الموت أحبّ إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري في رحلي وقال أيوب قال لي أبو قلابة: إلزم السوق فإن الغني من العافية يعني الغني عن الناس والله أعلم والغني الذي يطاع الله تعالى به، وكان يقول بعض السلف: اتّجر وبعْ واشترِ ولو برأس المال يجعل لك من البركة مالاً يجعل لصاحب الزرع، وقال ابن محيريز وكان من عباد أهل الشام: ما من طعام أملأ به ما بين جنبي بعد غنيمة في سبيل الله من فيء المشركين أقيم بها حق الله عزّ وجلّ أحبّ إليّ من طعام تاجر صدوق، قال: وكانوا يعدون الكاسب على عياله كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ ويرون فضله على غيره، وروي فيه أثر أنّ الله عز وجلّ يحبّ المؤمن المحترف، وفي خبر آخر: أنّ الله يحبّ العبد يتخذ المهنة يستغني بها عن الناس.

وحدثني بعض إخواني عن أبي جعفر الفرغاني قال: كنا يوماً عند الجنيد فجرى ذكر ناس يجلسون في المساجد يتشبهون بالصوفية، ويقصرون عمّا يجب عليهم من حق الجلوس، ويعيبون من يدخل السوق، فقال الجنيد: كم ممن هو في السوق حكمه أن يدخل في المسجد فيأخذ بإذن بعض من هو فيه فيخرجه ويجلس مكانه، إني لأعرف رجلاً يدخل السوق وورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثون ألف تسبيحة، قال: فسبق، وهمّي أنه يعني نفسه، فإن كان العبد سوقيًّا فليبدأ فليتعلم علم البيع والشراء والأخذ والعطاء ومعاملة الناس في البيوع ومعرفة أبواب الربا، ليعلم ذلك قبل الوقوع فيه فيجتنب ذلك ويتّقيه، وليغدِ إلى المفتي فيسأله عن علم حاله كل يوم من وجوه معاملته، إن لم يكن قد تقدم علمه بذلك ولم يكن عالمًا به في وقت المعاملة، فليجعل بكوره إلى المفتي قبل غدوه إلى السوق، فإن لكل عمل علمًا، ولله في كل شيء حكم، فلا يغنيك كبير علم عن علم غيره، فإن لم تفعل ذلك دخل عليك الربا والبيوع الفاسدة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف في الأسواق ويضرب بعض التجار بالدرة ويقول: لا يبيع في سوقنا إلاّ من تفقه وإلاّ أكل الربا شاء أو أبى، ثم لينصرف بعد العلم فيما يدخل فيه فيما أبيح له من تجارة أو صناعة بصدق معاملة وصدق في مبايعة، ناويًا في ذلك إقامة سنّة وأمراً بمعروف، ونهياً عن منكر، وجهادًا في سبيل الله، لأنّ من أخذ الحق وأعطاه وعامل بصدق ونصح فهو معاون على البّر والتقوى وفي جهاد العدو والهوى سيما في زمان يكثر فيه الباطل لأنّ صلاح الدين بصلاح الدنيا وفساده بفسادها لتعلق أحدهما بالأخرى وحاجة كل واحد منهما بصاحبه.

وفي الخبر: لا يستقيم عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: (الَّذينَ آمَنوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئكَ لَهمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأنعام: 82، من هؤلاء؟ فقال: من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفّ فرجه وبطنه، ثم ليَنْو المتصرف في معاشه كفّ نفسه عن المسألة والاستغناء عن الناس وقطع الطمع فيهم، والتشرف إليهم، فذلك عبادة إذا نوى نزعه، ثم ليحتسب السعي على نفسه وأطعمة عياله فهو له صدقة وعليه الصدق في القول والنصح في معاملة إخوانه المسلمين لأجل الدين، ويعتقد سلامة الناس منه نصحًا لهم ورحمة بهم ويعمل في ذلك ويكون أبدًا مقدمًا للدين والتقوى في كل شيء، فإن انتظمت دنياه بعد ذلك حمد الله وكان ذلك ربحًا ورجحانًا، وإن تكدرت لذلك دنياه وتعذّرت لأجل الدين والتقوى أحواله في أمور الدنيا كان قد أحرز دينه وربحه، وحفظ رأس ماله من تقواه، وسلم له، فهو المعول عليه والحاصل له، إلاّ أنّ من ربح من الدنيا مثل المال وخسر عشر الدين فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله وهو عند الله من الخاسرين، وقال بعض السلف: أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل، وكذلك قال معاذ بن جبل: رضي الله عنه في وصيته أنه لا بدّ لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنه سيمّر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاماً ويزول معك حيثما زلت.

قد قال الله تعالى: (ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص: 77، لا تترك نصيبك في الدنيا من الدنيا للآخرة، لأنك من ههنا تكتسب الحسنات فتكون هناك في مقام المحسنين، ففي الخطاب مضمر لدليل الكلام عليه في قوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ الله إليْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ في الأرضِ) القصص: 77، وقد قال بعض العلماء: من دخل السوق ليشتري ويبيع فكان درهمه أحبّ إليه من درهم أخيه لم ينصح المسلمين في المعاملة، وقال عالم آخر: مَنْ باع أخاه شيئًا بدرهم وهو يصلح له بخمسة دوانيق فإنه لم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه حتى لا يبيع أخاه شيئاً بدرهم إلاّ وهو يصلح له اشتراؤه به، فينبغي لهذا المتصرف أن يستوي في قلبه درهمه ودرهم أخيه ورحله ورحل أخيه، ليعدل فيما يبيعه أو يشتري منه سواء بسواء، ويكون مراعيًا لموافقة حكم الله تعالى الذي ورد به الشرع في الشراء والبيع، مراعياً للسبب الذي يصل به الدرهم أن يكون السبب معروفاً في العلم، مباحاً في الحكم، فيكون متورّعاً في عين الدرهم المعتاض، لا يكون من خيانة أو سرقة أو فساد أو غصب أو غيلة أو حيلة، فهذه وجوه الحرام التي تحرم بها المكاسب المباحة، فإذا كان متجنباً لهذه المعاني لم يشهد أحدها بعينه أو لم يعلمه من عدل فكسبه حينئذ من شبهة، ولا يكون مع ذلك حلالاً لإمكان دخول أمر هذه الأسباب فيه، ولأنه على غير يقين معاينة منه لصحة أصله وأصل أصله لقلّة المتقين وذهاب الورعين إلاّ أنه شبهة الحلال.

وفي الخبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بلبن فقال: من أين لكم هذا؟ فقيل له: من شاة كذا، فقال: ومن أين لكم هذه الشاة؟ فقيل: من وضع كذا، فشرب منه ثم قال: إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلاّ طيّباً ولا نعمل إلاّ صالحاً، وقال الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طيِّبَاتِ ما رَزَقْناكُمْ) البقرة: 172، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أصل الشيء وأصل أصله ولم يسأل عمّا وراء ذلك، لأنه قد يتعذر ولا يوقف على حقيقته، ولأنّ أموال التجار والصناع قد اختلطت بأموال الأجناد، وهم يأخذون ذلك بغير استحاق، فكأنه من أكل المال بالباطل إذ قد أوقفوا نفوسهم، وارتبطوا دوابهم في سبيل الهوى، فصاروا يأخذون العطاء بغير حق، ولا يملكون ذلك، ثم ينتشر ذلك في أموال التجار واصناع وهم لا يميزون بين ذلك ولا يرغبون عنه لقلة التقوى وعدم الورع، فلذلك غلب الحرام لأنّ الحلال إنما هو فرع للتقوى والورع، إذا كثر المتّقون وظهر الورعون كثر الحلال وظهر، وإذا قلّوا فشاء الحرام وانتشر فصار الحلال مستهلكاً غامضاً في الحرام لغربة الورعين وخفية المتّقين، وإنما كان الحلال في القرن الأول موجوداً لوجود السلف الصالح، وكان الناس ورعين وكانوا لا يأخذون ما ليس لهم بحق فكانوا متّقين وكانوا يتركون بعض حقّهم خشية دخول الشبهة عليهم، فمن أجل ذلك كان الحلال كثيراً، وقد حكى عن بعض فقهاء العراق أعرف أنه قال: لا أقبل شهادة شحيح، قيل: ولِمَ؟ قال: الشحّ يحمله على استيفاء حقّه، وفي استيفاء حقّه أخذه ما ليس له، ثم قال: حدثني عطاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أته قال: ما استقصى كريم قط، وتلا قوله عزّ وجلّ: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَنْ بعْضِ) التحريم: 3، وفي الخبر: كما نترك سبعين باباً من الحلال مخافة باب واحد من الحرام، وقال الحسن: أدركت من مضي يعرض على أحدهم المال الحلال فيقول: لا حاجة لي به، أخاف أن يفسد على قلبي، قد كانت الأئمة عدولاً فكانت الجنود معاونين لهم على التقوى يأخذون عطاءهم بحق.

وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذكر الخيل: اختصرناه، قال: والخيل لرجل وزر، وهو الذي يربطها فخراً ورياء وسمعة ونواء على الإسلام، فما أكلت وشربت في أجوافها حتى أبوالها وأرواثها وآثارها أوزار في ميزانه يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: (احْشُروا الَّذينَ ظَلَمُوا وأَزْواجَهُمْ) الصافات: 22، يعني وأشباههم وأعوانهم، فقال الثوري رحمه الله: يقال يوم القيامة ليقم ولاة السوء وأعوانهم، قال: فمن لاق لهم دواة أو بَرى لهم قلماً أو حمل لهم لبداً أو أعانهم على أمر فهو معهم، وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال: إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط، وكان بعض العلماء قد جلس في ديوان بعض الأمراء فكتب الأمير كتاباً فقال: ناولني الطين أختم به الكتاب، فامتنع فقال: ناولني الكتاب الذي كتبته حتى أنظر فيه، فلم يناوله، وفعل مثل ذلك سفيان الثوري مع المهدي فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري فقال له: يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم، وكان بمكة أمير قد أمر رجلاً أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور قال: فوقع في نفسي من ذلك شيء، فسألت سفيان عن ذلك فقال: لا تفعلنّ ولا تكنّ عوناً لهم على قليل ولا كثير، فقلت: يا أبا عبد الله سور في سبيل الله تعالى للمسلمين فقال: نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحبّ بقاءهم ليوفونك أجرتك، فتكون قد أحببت من بغض الله عزّ وجلّ، وقد جاء في الخبر: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يعصي الله عزّ وجلّ.

وفي الحديث: أنّ الله ليغضب إذا مدح الفاسق، وفي خبر آخر: من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام، وليجتنب هذا السوقي البيوع الفاسدة مثل بيع الغرر والخطر والمجهول، ومثل بيعتين في بيعة، أحدهما مصارفة أو مشارطة، ولا يبيع ما ليس عنده ولا ما اشتراه حتى يقبضه، ولا يبيع الدين بالدين ولا يتبايعان الثمار حتى يبدو صلاحها ويؤمن عليها العاهة، ومن النخيل حتى تحمّر أو تصفرّ، ومن العنب حتى يلين أو يسود، ونهى، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النجش، وهو أن يعطي بسلعة شيئاً وهو لا يريد أن يشتريها بشئ ليغرّ غيره بها، ولا يبتاع شيئاً من ذهب وخرز مثل القلادة ونحوها حتى يفصل كل واحد على حدته، كذلك السنّة، ولا يتبايعان ما لم يظهر من الحيوان والثمار، ويجتنب القبالات مسانهة إلاّ شهراً بشهر أو سنة، فقد كره ذلك، وليتوقّ كل بيع وشراء أخبر العلم ببطلانه من دخول ربا فيه أو خروج من حكم العلم به، فإن ذلك كله منقصة للدين، مخبثة للكسب، فإن أشكل عليه شيء من هده الأمور لخفائها سأل أهل العلم والفتيا فيأخذ عنهم على مذهب الورعين ورأي المتّقين، وليحتط لدينه، ولينظر لنفسه ولا يغمض في أمر آخرته، فذلك خير له وأحسن توفيقاً، وليجتنب الصنائع المحدثة من غير المعروفة والمعايش المتبدعة في زماننا هذا، فإن ذلك بدعة ومكروه إذا لم يكن فيما مضى من السلف، وكلما كان سبباً للمعصية من آلة وأداة فهو معصية، فلا يصنعه ولا يبيعه، فإنه من المعاونة على الإثم والعدوان، وكلما أخذ من المال على عمل بدعة أو منكر فهو بدعة ومنكر، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته، وأخذ المال على جميع ذلك من أكل المال بالباطل، ومن أكل الحرام فقد قتل نفسه وقتل أخاه لأنه أطمعه إياه، قال الله تعالى: (ولا تأكُلُوا أَمْوالُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ) البقرة: 188، وقال تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) النساء: 29، وليس هذا من سبيل المؤمنين، وقد قال الله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلّهِ ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّّمَ) النساء: 115، ولا ينبغي للسوقي أن يشغله معاش الدنيا عن الآخرة، ولا تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة، ولا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، لأنه من الموقنين، وبيوت الله عزّ وجلّ في الأرض هي أسواق للآخرة، قال الله عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ) النور: 37، وقال الله عزّ وجلّ: (في بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّح لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ) النور: 36، رجال، فليجعل العبد طرفي النهار لخدمة سيده يذكره ويسبحه في بيته بحسن معاملته.

وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر التجار فيقول: اجعلوا أول نهاركم لله عزّ وجلّ وما سوى ذلك لنفوسكم، وفي أخبار السلف كانوا يجعلون أول النهار للآخرة وآخره لدنياهم، ويقال: إنّ الهريسة والرؤوس لم يكن يبيعها في الشتاء إلاّ الصبيان وأهل الذمة لأن الهراسين والرآسين يكونون في المساجد إلى طلوع الشمس، ويقال إنهم: كانوا يجتمعون في المساجد بعد العصر للذكر والتسبيح حتى يدخل الرجل فيقول: أصلّيتم العصر؟ يظن أنهم قعود للصلاة، وإنما كانوا يقعدون للتسبيح إلى غروب الشمس وهذا طريق قد درس، فمن عمل به فقد كشفه، وقال بعض العارفين: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الناجين، ورجل شغله معاشه عن معاده فهو حال الهالكين، وقال عالم فوقه: من أحبّ الله عاش ومن أحبّ الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا دخل السوق يقول: اللهم إني أعود بك من الكفر والفسوق ومن شرّ ما أحاطت به السوق، اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة، ولذكر الله عزّ وجلّ في السوق ما لا يجد في سواه فيلعتمد ذكر الله تعالى ساعات الغفلة وحين تزاحم الناس في البيع والشراء، وكان الحسن يقول ذاكراً لله في السوق: يجيء يوم القيامة وله ضوء كضوء القمر وبرهان كبرهان الشمس ومن استغفر الله في السوق غفر له بعدد أهله.

وفي الخبر العام: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل عن الفارين وكالحي بين الأموات، وفي الخبر الخاص: من دخل السوق فقال: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفي ألف حسنة، وكان ابن عمر ومحمد بن واسع رضي الله عنهم، يدخلان السوق قاصدين يذكران الله عزّ وجلّ طلباً للفضيلة، وفإن دخلت سوقاً أو كنت فيه فلا يفوتنّك التهليل والذكر فهو عمل وقتك، ولا تقعدن في السوق لغير ذكر الله أو غير معاش، فقد كره ذلك، وإذا سمعت التأذين للصلاة فلتأخذ في أمر الصلاة ولا تؤخرها عن الجماعة وإلاّ كان فاسقاً عند بعض العلماء، إلاّ أن يكون في الوقت سعة أو يكون ناوياً للصلاة في جماعة أخرى في مسجد آخر، فإدراكه لتكبيرة الإحرام في الجماعة أحبّ إليه من جميع ما يربح من الدنيا إلى أنْ يموت، وفوتها أشدّ عليه من جميع ما يخسر من الدنيا، هذا إن عقل وأبصر تبينّ له ذلك، وقد كان السلف من أهل الأسواق إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد يركعون إلى وقت الإقامة، وكانت الأسواق تخلو من التجار، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد، وهذه سنّة قد عفت من عمل بها فقد نعشها، وجاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزّكاةِ) النور: 36، قيل: كانوا حدادين وخرازين وكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الأشفا فسمع الأذان لم يخرج الأشفا من الغرزة ولم يرفع المطرقة رمى بها وقاموا إلى الصلاة.

وروينا عن وهب قال: قال مالك رضي الله عنه في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة: يفسخ ذلك البيع، قيل: عامل ترك القيام إليها وهو حر: قال: يستغفر ربه، وقال ربيعة: ظلم وأساء وقال مالك: يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة، وليجتنب الصانع عمل الزخرف من الأشياء وما يكون فيه لهو وزينة من التصاوير والنقوش وتخريم العاج ودقائق النقوش من العاج وتشييد الجص والتزويق بالأصباغ المشهاة، فإن عمل ذلك مكروه وأخذ الأجرة عليه شبهة، وقد كان بعض السلف يقول: تخيّروا لأولادكم الصنائع، وروي عن حذيفة: أنّ الله عزّ وجلّ خلق كل صانع وصنعته، وقد كانوا يكرهون بيع الطعام وبيع الدقيق، وقد روي في كراهة بيعها حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: أنّ الله عزّ وجلّ يحب العبد الحاذق في صنعته، وفي خبر آخر: أنّ الله عزّ وجلّ إذا عمل عبده عملاً أحبّ أنْ يحكمه، وفي لفظ آخر: أن يتقنه، وأوصى بعض العارفين رجلاً فقال: لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين، بيع الطعام وبيع الأكفان، فإنما يتمنى الغلاء ويتمنى موت الناس، والصنعتان أن يكون جزاراً فإنها صنعة تقسي القلب، أو صوّاغاً فإنه يزخرف الدنيا بالفضة والذهب.

وروى عثمان الشحام عن ابن سيرين أنه كره الدلالة، وسعيد عن قتادة أنه كره أجر الدلال، وكانت العرب تقول: بعْ الحيوان واشترِ الموتان كأنهم كرهوا ردّ الثمن في الحيوان لما يخافون من تفله واستحبوا شراء الموات وهو ما لا روح فيه، وقد كانوا يستحبون التجارة في البز، قال ابن المسيب: ما من تجارة أحبّ إليّ من البزاز إن لم يكن فيه إيمان، وقد روي خبراً آخر: لو اتّجر أهل الجنة لاتّجروا في البزّ، ولو اتّجر أهل النار لاتّجروا في الصرف، وقد كره الحسن وابن سيرين رضي الله عنهما التجارة في الصرف، وسئل الحسن عن الصيرفي فقال: الفاسق لا تستظلنّ بظله ولا تصلّين خلفه، والبستاني والحمّال والملاح وصاحب الحمام والخشاش والمزين وقد كانت هذه الصنائع العشر أعمال الأخيار والأبرار الخرز والتجارة والحمل والخياطة والحذو والقصارة وعمل الخفاف وعمل الحديد وعمل المغازل وصيد البر والبحر والوراقة.

وحدثونا عن عبد الوهاب الورّاق قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما صنعتك؟ فقلت: ورّاق، فقال: كسبك طيب وصنعتك طيبة ولو كنت صانعاً شيئاً بيدي لصنعت صنعتك، وقال لي: لا تكتب إلاّ مواصفة واستثن الحواش وظهور الأجزاء، وكان مالك بن دينار ورّاقاً وكان السلف يستطيعون كسبه وبفضلونه، وكل عمل يتقربّ به إلى الله عزّ وجلّ ويكون من أعمال الآخرة ومن البرّ المعروف، فأخذ الأجر مكروه عليه مثل تعليم القرآن، وتعليم العلم، أو مجالس الذكر والصلاة بالناس في رمضان، وغسل الموتى، وما كان في هذا المعنى، لأن هذه تجارات الآخرة، فلا تأخذ أجرها إلاّ من الآخرة، ومن أخذها من الدنيا فقد خسر خسراناً مبيناً إذا ربح المحتسبون فيها وأخذوا أجورهم التي صبروا عليها في دار الدنيا، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان بن أبي العاص: واتّخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً.

ورووي عنه في فضل الاحتكار: من جلب طعاماً ما فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به، وفي لفظ، آخر: فكأنما أعتق رقبة، ومن العلماء من كان يجعل الاحتكار في كل مأكول من الحبوب والأدام مثل العدس والباقلا والسمن والعسل والشيرج والجبن والتمر والزيت، ويكره احتكار جميع ذلك، وروي نحو هذا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بإلحَاد بِطُلْم نُذِقْهُ منْ عَذابِ أليمٍ) الحج: 25، قيل: الاحتكار من الظلم، وحدثونا عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: مع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، قال: فوافق السعر فيه سعة، قال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي.

وحدث شيخنا عابد الشط مظفر بن سهل قال: سمعت غيلان الخياط يقول: اشترى سري السقطي كرّ لوز بستين ديناراً وكتب في رونامجه ثلاثة دنانير ربحه، فصار اللوز بتسعين ديناراً، فأتاه الدلاّل فقال له: إنّ ذلك اللوز أريده، فقال: خذه، فقال: بكم؟ قال: بثلاثة وستين ديناراً، قال له الدلاّل: إنّ اللوز قد صار الكرّ بسبعين ديناراً، قال له السري: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله لست أبيعه إلاّ بثلاث وستين ديناراً، قال له الدلاّل: وأنا قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله، أن لا أغشّ مسلماً، لست آخذ منك إلاّ بسبعين ديناراً، قال: فلا الدلاّل اشترى منه ولا سري باعه، وحدثونا عن رجل من التابعين كان بالبصرة له غلام بالسوس فجهز إليه السكر فكتب إليه الغلام: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة فاشتر السكر قال: فاشترى سكّراً كثيراً، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً، قال: فانصرف بها إلى منزله فأفكر ليله في الربح فقال: ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى الرجل الذي كان اشترى منه السكر فدفع إليه الثلاثين ألفاً فقال: هذه لك بارك الله لك فيها، قال: ومن أين صارت؟ قال: لما اشتريت منك؛ السكر لم آتِ الأمر من وجهه، إنّ غلامي قد كان كتب إليّ أنّ قصب السكّر أصابته آفة فلم أعلمك ذلك ولعلك لو علمت لم تكن تبيعني، فقال: رحمك الله قد أعلمتني الآن، وقد طيبتها لك، قال: فرجع إلى منزله فبات تلك الليلة ساهراً أو جعل يتفكر في ذلك ويقول: لم آتِ الأمر من وجهه ولم أنصح مسلماً في بيعه لعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد فقال: عافاك الله خذ مالك فهو أصلح لقلبي، قال: فدفع إليه ثلاثين ألفاً، وقال سليمان التميمي: لقد ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم من شيء حاك في صدره، لم تختلف العلماء أن ليس به بأس.

ويقال: إنّ هذا كان سبب غلبة الدين عليه، ثم ليتّق البائع مدح السلعة وتنفيقها من خرف الكلام وليحذر المشتري ذمها وعيبها بما ليس فيها للخداع، وأما الإيمان على ذلك فهو معصية وممحقة للكسب، وقد كان السلف يشددون في ذلك، قال أبو ذر: كنا نتحدث أنّ من نفر لا ينظر الله إليهم، التاجر الفاجر، وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها، قال يونس بن عبيد: وكان خزازاً فجاءه رجل يطلب ثوب خز، فأمر غلامه أن يخرج رزمة الخز، فلما فتحها قال الغلام: أسأل الله الجنة، فقال شدّ الرزمة، ولم يبع منها شيئاً خشية أن يكون قد مدح، ويقال: إنه كانت عنده حلل على ضربين أثمان ضرب منها أربعمائة كل حلة، وأثمان الآخر مائتان، فذهب إلى الصلاة وخلف ابن أخيه ليبيع فجاءه أعرابي يطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها منه ومشى بها هي على يده ينظر إليها خارجاً من السوق فاستقبله يونس بن عبيد خارجاً من المسجد فعرف حلته فقال بكم أخذت هذه الحلة؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تسوي إنما قيمتها مائتان فقال: يا ذا الرجل إنّ هذه تساوي ببلدنا خمسمائة درهم، فقال له يونس: إنّ النصح في الدين خير من الدنيا كلها ثم أخذ بيده فرده إلى ابن أخيه فجعل يخاصمه ويقول: أما اتقيت الله؟ أما أستحيت أن تربح مثل الثمن وتترك النصح لعامة المسلمين؟ فقال: والله ما أخذه إلاّ عن تراضي، فقال: وإن رضي ألا رضيت له ما رضيت لنفسك، ثم ردّ على الأعرابي مائتي درهم، وقد فعل مثل ذلك محمد بن المنكدر وكانت عنده شقاق جنابية وبصرية أثمان بعضها خمسة خمسة، وأثمان بعضها عشرة عشرة، فخلفه غلامه في الحانوت فغلط فباع أعرابيّاً شقة من الخمسات بعشرة، فجاء ابن المنكدر فتفقد الشقاق فعرف غلطه فقال: ويلك أهلكتنا، اذهب فاطلب الأعرابي في الأسواق، فلم يزل يطلبه يومه أجمع حتى وجده، فقال له ابن المنكدر: يا هذا إنّ الغلام غلط فباعك ما يسوى خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت لنفسك فإنّا لا نرضى لك إلاّ ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال، إما أن تأخذ شقة من العشرات بدراهك وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد علينا شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، قال: فأعطاه من دراهمه خمسة فانصرف الأعرابي فجعل يسأل عنه فيقول: من هذا الشيخ؟ فقيل: هذا محمد بن المنكدر فقال: لا إلّ إلاّ الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا.

وقد سئل بعض العلماء عن الورع في المبايعة فقال: لا يصحّ الورع في البيع إلاّ بحقيقة النصح، قال: وكيف ذلك؟ قال: إذا بعته شيئاً بدرهم نظرت فإن صلح لك أن تشتريه بدرهم فقد نصحته في البيع، وإن كان يصلح لك بخمسة دوانيق وقد بعته بدرهم فإنك إن لم ترضَ له ما ترضى لنفسك فقد ذهب النصح قال: فإذا عدم النصح ذهب الورع.

ويقال: إنَّ البائع يوقف يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئاً وقفة ويحاسب عن كل واحد محاسبة حتى عدد مَنْ عامله ومَنْ اشترى منه في الدنيا، وذكر بعضهم قال: رأيت بعض التجار في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: نشر عليّ خمسين ألف صحيفة، فقلت: هذه كلّها ذنوب، فقال: هذه معاملات الناس عدد ما كنت عاملته في الدنيا لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بينك وبينه من أول معاملته إلى آخرها، فإن كان البائع ذا ميزان فليرجح في الوزن إذا باع وأعطاه ولينقص نفسه إذا أخذ سيما إذا كان ذا ميزانين كان الأمر عليه أشد.

وكان بعضهم يقول: ألا أشتري الويل من الله بحبة؟ فكان إذا أخذ نقص نفسه بحبة وإذا أعطى زاد غيره حبة، لقوله عزّ وجلّ: (وَيْلٌ للمُطَفِّفينَ) المطففين: 1، يعني الذين رضوا بالتطفيف بالحبة والحبتين فباعوا بذلك جنة عرضها السموات والأرض لجهلهم بأمر الله تعالى وقلة يقينهم بالآخرة إذا اشتروا الويل بطوبى، ويقال: إنّ هذه المظالم لا ترد أبداً ولا تصحّ التوبة منها لتعذر معرفة أصحابها.

وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اشترى شيئاً فلما وزن ثمنه قال للوزان: زن وأرجح، ونظر الفضيل بن عياض رحمه الله إلى ابنه عليّ وهو يغسل كحلاً من دينار أراد أن يصرفه فجعل ينقيه ويغسله من كحله، فقال له: يا بني فعلك هذا أفضل من عشرين حجة، وقال بعض أهل السلف: عجباً للتاجر والبائع كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل، وقال سليمان عليه السلام: كما تدخل الحية بين الحجرين كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين.

وحدثت أنّ بعض السلف صلّى على مخنث قد كان يجمع بين النساء والرجال وغير ذلك، فقيل له: إنه قد كان فاسقاً وكان كذا وكذا، فسكت، فأعاد عليه القائل فسكت، قال فمه كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يأخذ بأحدهما ويعطي بالأخرى، هذا على التغليظ والوعظ، أراد أنّ التطفيف مظالم بين الخلق وأنّ الفسق ظلم العبد لنفسه وبين مظالم العباد وظلم العبد لنفسه بون كبير من قبل أنّ الخلق فقراء جهلة نيام فيستوفون حقوقهم لحاجتهم إليها والله عزّ وجلّ عالم كريم غني فيسمح بحقه، ولا ينبغي للمشتري أن يسأل البائع الرجحان إلاّ الله عزّ وجلّ قال: (وَأَقيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ) الرحمن: 9، أي بالعدل، وهو السواء، وهو استواء اللسان في البكرة لا مائلاً إلى إحدى الكفتين، وفي قراءة عبد الله: ولا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط باللسان ولا تخسروا الميزان فهذا مفسر في هذا الحرف ومكروه المعاملة بالمزيفة، ولا يصلح بدرهم تكون الفضة فيه مجهولة أو مستهلكة ولا بما لا تعرف قيمته وما يختلط بالفضة من غيرها فلا تمتاز منه، فقد كان بعض السلف يشدد في ذلك ويحرمه منهم الثوري والفضيل بن عياض ووهب ابن الورد وابن المبارك وبشر بن الحارث والمعافى بن عمران رضي الله عنهم، ويقال: إنّ كل قطعة من المزيفة ينفقها صاحبها يجدها ملصقة في صحيفته بعينها وصورتها مكتوب تحتها ألف سيّئة، خمسة آلاف سّيئة على قدر وزنها، ووزن ذرة منها سيّئة، والذرة نقطة من هباء شعاع الشمس في الضوء.

حدثني بعض العلماء عن بعض الغزاة في سبيل الله عزّ وجلّ قال: حملت على فرسي لأتناول بعض العلوج فقصر فرسي فرجعت، ثم دنا مني العلج فحملت عليه ثانية لأتناوله فقصر فرسي، وحملت عليه ثالثة وقد قرب مني فنقر بي فرسي، ولم أكن أعتاد ذلك منه: فرجعت حزيناً، فجلست إلى جنب فسطاطي منكراً للذي فاتني من أخذ العلج، ولما اختلف عليّ من خلق فرسي قال: فوضعت رأسي على عمود الفسطاط فنمت وفرسي قائم بين يدي، فرأيت في النوم كأنّ الفرس يخاطبني ويقول لي: بالله عليك أردت أن تأخذ عليّ العلج ثلاث مرات، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً؟ لا يكون هذا أبداً، قال: فانتبهت فزعاً فذهبت إلى العلاّف فقلت له: أخرج إليّ الدراهم التي اشتريت بها منك بالأمس العلف، قال: فأخرجها إليّ، فأخذت منها الدرهم الزائف فقلت: إني كنت قد جوزت عليك هذا الدرهم بالأمس، قال: فأبدلته له وانصرفت، وقال عبد الوهاب: سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال: سألت المعافى عنها فقال سألت الثوري عنها فقال حرام.

وحدثنا عن أبي داود قال: سمعت أحمد أنكر التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة، وقد كان بعض علمائنا يقول: إنفاق درهم مزيف أشد من سرقة مائة درهم، قال: لأن سرقة مائة درهم معصية واحدة منقضية، وإنفاق دانق مزيف بدعة أحدثها في الدين، وإظهار سنّة سيّئة يعمل بها بعده، وإفساد لمال المسلمين، فيكون عليه وزره إلى مائة سنة، فأكثر ما بقي ذلك الدرهم يدور في أيدي المسلمين ويكون عليه، ثم أفسد ونقص من أموال المسلمين إلى آخر فنائه وانقراضه، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه بعده مائة سنة ومائتي سنة يعذّب بها في قبره، ويسأل عنها إلى آخر انقراضها، قال الله عزّ وجلّ: (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُم) يس: 12، ما قدموا ما عملوا، وآثارهم ما سنّوه بعدهم فعمل به وقال في وصفه: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر، قيل: بما قدم من عمل وما أخّر من سنّة عمل بها بعده، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سنّ سنّة سيّئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها، ومثل وزر من علم بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً، وإنفاق الدرهم الرديء على من يعرف النقد أشد وأعلظ، وهو على من لا يعرف أسهل، فيكون به أعذر لأن هذا لا يتعمد الغش والآخر يتعمده ويقصده، فإنما كان المسلمون يتعلمون جودة النقد لأجل إخوانهم المسلمين لئلا يغشوهم بالرديء، وإلاّ فإنّ تعلّم النقد بلاء وإثم على صاحبه لأنّه علم علمه ولم يعلمبه، فهو يسأل عن علمه، ومن ردّت عليه قطعة فلينفقها ولا يجوزها على بيع آخر، ويحتسب بذلك الثواب من الله عزّ وجلّ، فله بذلك من الأجر بوزن كل ذرة منها حسنة، وله في طرحها أعمال كثيرة من الصوم والصلاة، فإن كان في القطعة تجوّز نقد ينصرف مثلها فأراد أن يشتري بها شيئاً فليعلم البائع الثاني أنها قد ردّت عليه، فإن أخذها على بصيرة وعن سماحة فلا بأس، فإن لم يعلمه فإنه لم ينصحه وربما كان على غير بصيرة بالنقد، فقد روي عن عمر رضي الله عنه: من زافت عليه دراهمه فليضعها في كفه ولينادِ عليها في السوق من يبيعها سحق ثوب بدرهم زائف، وهذا إذا كانت زائفة على وجهها كالصفر والرصاص كان لها قيمة مثلها، وفي قول ابن عمر رضي الله عنه لنافع: لو حفظت عني كما يحفظ عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم لكان أحبّ إليّ من أن يكون لي درهم زائف، قيل له: أفلا جعلته جيداً؟ قال: كذلك كان في نفسي.

وروينا عن النخعي: إذا كان في الدرهم شيء من الفضة وإن قلّ فلا بأس به، وحدثت عن أبي داود قال: سألت إسحاق بن راهويه رحمهما الله عن إنفاق المزيفة قال: فلا بأس به، ففيه ترخيص بالإنفاق بالزائف إذا عرف ومن سمح في النقد، ويجوز في أخذ الرديء طلباً للآجر، فيما يحتسب، ثم إذا أخرج ذلك على المسلمين وجوزه عليهم بعد ذلك فقد أثم في سماحته وتشديده حينئذ، ونقصه في أخذ الجيد أفضل، وهذا من دقائق الأعمال وباطن الشر في ظاهر الخير، اللهم إلاّ أن يأخذ الرديء ثم يلقيه ولا يخرجه إلى أحد، فإن فعل هذا كان فاضلاً محتسباً محسناً في سماحته وله باحتسابه ذلك مثوبة وأجر، فينبغي للتاجر أن يكثر من الصدقة ليكون فيها كفّارة خطاياه وإيمانه وكذبه، فقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التاجر بالصدقة، لذلك فينبغي للتاجر والصانع أن يكونا مستعملين لهذه الخصال، فإنها جامعة له تشتمل على جمل أعمال البرّ، فليأخذوا أنفسهم بها فإنها من أخلاق المؤمنين وطرائق المتقدمين، وقد ندبوا إلى جميعها، منها أن يسمح إذا باع، ويسمح إذا اشترى، ويحسن إذا، قضى، ويحسن إذا اقتضى، وليمشِ الرجل بدين غريمه إليه ولا يحوجه إلى اقتضائه فيشق عليه، وليصبر صاحب الدين على أخيه ويحسن تقاضيه، ويحسن له النظرة ويؤخر حقه إلى ميسرته، وليغتنم دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم على ذلك فينافسوا في مدحه لمن فعل ذلك، فقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إسمح يسمح لك، وقال: خير الناس أحسنهم قضاء، وقال: خذ حقك في عفاف وافياً كان أو غير وافٍ يحاسبك الله حساباً يسيراً، وقال: رحم الله عبداً سمح البيع سمح الشراء حسن القضاء حسن الاقتضاء، وقال: من مشى إلى غريمه بحقه أظلته الملائكة، وقال: من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه الله حساباً يسيراً، وفي خبر آخر: أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر عليه السلام رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يجد له حسنة فقيل له: هل عملت خيراً قط؟ فقال: لا، إلاّ إني كنت رجلاً أداين الناس وأقول لغلماني سامحوا الموسر وانظروا المعسر، وفي لفظ آخر: وتجاوزوا عن المعسر، قال الله عزّ وجلّ: (نحن أحق بذلك منك فغفر له) وفي خبر آخر: من أقرض ديناً إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله فإذا حلّ الأجل فانظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة، وفي حديث: من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكّل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه، وكان جماعة من السلف يدانون وهم واجدون لأجل هذا الخبر، وكان جماعة لا يحبون أن يقضيهم غرماؤهم دينهم لأجل ذلك الخبر الأوّل إذ له بكل يوم تأخر قضاء صدقة.

وفي الحديث: رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، قيل: معناه لأن الصدقة تقع في يد محتاج وغيره، والقرض لا يقع إلاّ في يد محتاج مضطر إليه، ونظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل يلازم رجلاً بدين عليه فأومأ إلى صاحب الدين بيده: ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: قم فأعطِ، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أدان ديناً إلى أجل فجاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يتفق عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل الرجل يكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويشدد عليه الكلام فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واستحبّ أن تكون أكثر معاونة الإنسان بين البائعتين مع المشتري منهم، واستحب أيضاً أن يكون عونه بين المتداينين مع الذي له الدين، إلاّ أن يعتدي من له الدين أو يعتدي المشتري فيكون حينئذ على المشتري، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المستبان بالسّئة ربا والمستبان ما قالا، فعلى المعتدي منهما ما لم يعتد المظلوم، ويسير المغابنة في التجارات جائز، فإن موضوع التجارة على الغبن إذا كان عن تراضٍ، فإذا تفاوتت القيمة وعلم الغبن فمكروه، وقد يروى في حديث أنّ غبن المستغفل حرام، وفي حديث: فيه مقال المغبون لا محمود ولا مأجور، هذا والله أعلم إذا تغابن وهو يعلم فيخسر نفسه حقّه وحمل غيره على ظلمه، وكان إياس بن معاوية قاضي البصرة من علماء الزمان ومن عقلاء التابعين وكانت لأبيه صحبة كان يقول: لست بخب والخب لا يغبن يعني محمد بن سيرين، ولكن يغبن الحسين ومعاوية بن قرة، وكان الزبير بن عديّ يقول: أدركت ثمانية عشر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منهم رجل يحسن يشتري لحماً بدرهم.

وقد روي أنّ الحسن باع بغلاً له بأربعمائة درهم، فلما استوجب المال قال له المشتري: اسمح يا أبا سعيد، قال: قد أسقطت عنك مائة قال له المشتري: فأحسن يا أبا سعيد، قال: قد وهبت له مائة أخرى فنقص من حقه مائتي درهم، وفي رواية أخرى قال: أحسن، قال: وهبت لك مائتي درهم، فقيل له: يا أبا سعيد هذا نصف الثمن، فقال: هكذا يكون الإحسان وإلاّ فلا، وقد كان الحسن والحسين رضي الله عنهما وغيرهما من خيا رالسلف يستقصون في الاشتراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم: تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي، فقال قائلهم: إنّ الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله، وقال آخر: إنما أغبن وبصيرتي، أو قال: معرفتي، ولا أمكن الغابن من ذلك، وإذا وهبت فإنما أعطى لله عزّ وجلّ فلا استكثر له شيئاً والأخبار في هذه المعاني تكثر والفضائل فيها تطول، ولم نقصد جمع ذلك، فقد ذكرنا جملة وهذا كله داخل في البرّ والتقوى ومن العدل والإحسان، ومن تطوع الخير وفعل المعروف فقد أمر الله بذلك في مواضع من كتابه، وينبغي أن يستعمل النصح في البيع والشراء وفي الصنعة ويستوي عملهما في المبيع والمشترى والمصنوع ويفطن كل واحد منهما صاحبه بعيب إن كان في السلعة وينقص إن كان في الصنعةإن لم يفطن المشتري لذلك والمستعمل ليتكافأ العلمان ويثني كل واحد منهما على صاحبه بإحسان، وفي الخبر: البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما وإذا كذبا وكتما أنزعت بيعهما، وفي حديث آخر: يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، فإذا تخاونا رفع يده عنهما، ولما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جريراً، على الإسلام ذهب لينصرف جذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم، قال: فكان جرير إذا أقام السلعة ليبيعها بصر عيوبها ثم أخبر: فقال: إنّ شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقلنا له: رحمك الله، إنك إذا قلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنما بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصيحة لأهل الإسلام، وكان واثلة بن الأسقع واقفاً بالناس في الكوفة فباع رجل ناقة بثلاثمائة درهم وغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة فسعى وراءه وجعل يصوت به حتى رجع، وقال: يا هذا أَللحم اشتريت هذه الناقة أمْ للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: فإن بحقها نقناً قد رأيته وإنها لا تتابع السير عليه، قال: فردّها، فنقصه البائع مائة درهم، فقال لواثلة: رحمك الله أفسدت عليّ بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحلّ لأحد يبيع شيئاً إلاّ يبين ما فيه ولايحلّ لمن يعلم ذلك إلاّ يبينه، فانظر رحمك الله إلى النصح للمسلمين الذي يتعذر فعله علي كثير من المسلمين، إنما جعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط صحة الإسلام وكان يبايع عليه، إلاّ إنه جعله من فضائل الدين، ولا نهاية لقرب المتّقين، لأنه قال: الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثاً، ثم سوّى بين طبقات الناس فيه فقال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم.

وقد روي في خبر مشهور: لا تزال لا إله إلاّ الله تدفع عن الخلق سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم، وفي خبر آخر: ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم بسلامة دينهم، فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلاّ الله، قال الله سبحانه: كذبتم لستم بها صادقين وفي لفظ آخر: ردّت إليهم، في خبر: كأنه مفسر لحديث مجمل: من قال لا إله إلاّ اللهه مخلصاً دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحرزه عمّا يحرم الله، وخبر مشهور: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، وقد روينا عن بعض التابعين: لو دخلت هذا الجامع وهو غاص بأهله فقيل له: من خير هؤلاء؟ لقلت: نصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت: هو شرهم، والغش في البيوع والصنائع محرم على المسلمين، ومن كثر ذلك منه فهو فاسق، ومن الغش أن ينشر على المشتري أجود الطرفين من المبيع، أو يظهر من المبيع أجود الثوبين، أو يكشف من الصنعة أحسن الوجهين، روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ برجل يبيع طعاماً فأعجبه ظاهره فأدخل يده فرأى بللاً فقال: ما هذا؟ فقال: أصابته السماء، فقال: هلاّ جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس مني.

وفي حديث عبد الله بن أبي ربيعة: أنه مرّ على طعام مصير فارتاب منه فأدخل يده فإذا طعام ممطور، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا والله طعام واحد يا رسول الله، فقال: هلاّ جعلت هذا وحده حتى يأتوك فيشترون شيئاً يعرفونه مَنْ غشّنا فليس منا، وحدثني بعض إخواننا أنّ رجلاً حذاءً سأل: فكيف أسلم في بيع النعال؟ فقال: استجد الأوّل وليكونوا سواء واجعل الوجهين شيئاً واحداً لا يفضل اليمين وجود الحشو، وقارب بين الخرز ولا تطبق أحد النعلين على الأخرى، فينبغي للبائع والصانع أن يظهرا من البيع والمصنوع أردأ ما فيه وأرذله، ليقف المشتري والصانع على عيوبه، ويكونا على بصيرة من باطنه، وباع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري: أبرأ إليك من عيب فيها قال: وما هو: قال: تقلب العلف برجلها، وباع الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري إنها قد تنخمت مرة عندنا دماً، ويبين دقائق الإعلام والبيان في ذلك مما لا يعلمه المشتري أو المستعمل، فهو من النصح والصدق، وذلك يكون عن التقوى والورع في البياعات والإجارات ويكون الكسب عن ذلك أحلّ وأطيب فليجتنب المسلم محرم ذلك كله وكل مكروه، فهذه سيرة السلف وطريقة صالحي الخلف، وأستحب له أن يتوخى في الشراء والبيع، ويتحرى أهل التقوى والدين، ويسأل عمن يريد أن يبايعه ويشاريه وأكره له معاملة من لا يرغب عن الحرام أو من الغالب على ماله الشبهات.

وحدثت عن محمد بن شيبة أخت ابن المبارك قال: كتب غلام ابن المبارك إليه: أنّا نبايع أقوماً يبايعون السلطان، فكتب إليه ابن المبارك إذا كان الرجل يبايع السلطان وغيره فبايعه، وإذا قضاك شيئاً فاقبض منه إلاّ أن يقضيك شيئاً تعرفه بعينه حراماً فلا تأخذه وإذا كان لا يبايع إلاّ السلطان فلا تبايعه.

وحدثنا عن بعض الشيوخ عن شيخ له من الخلف الصالح قال: قال أتى على الناس زمان كان الرجل يأتي إلى مشيخة الأسواق فيقول: من ترون لي أن أعامل من الناس من أهل الصدق والوفاء؟ فيقال له: عامل من شئت، ثم أتى عليهم وقت آخر فكان الرجل يقول: ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال: عامل من شئت إلاّ فلاناً وفلاناً قال: ونحن في زمن إذا قيل لنا: من نعامل من الناس؟ فيقال: عامل فلان بن فلان وأخشى أن يأتي على الناس زمان يذهب فلان بن فلان أيضاً، ولا يحلف ولا يكذب ولا يخلف موعداً، فإنّ اليمين الكاذبة ممحقة للكسب، وقد قيل: ويل للتاجر من يقول: لا والله، وبلى والله، وويل للصانع من اليوم وغد وبعد غد، أبو عمرو الشيباني عن أبي هريرة قال: قال ر سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عبد متكبر ومنّان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه، ولا يمدح إذا باع أو صنع صنعة ولا يذم إذا اشترى أو استعمل صانعاً، فإنّ هذا لا يزيد في رزقه ولا ينقص منه تركه، وهذا من اليقين في الرزق في هذا الباب، وفعله يزيد في الذنوب فينقص من الدين، وعلى الصانع أنْ يبلغ غاية النصح في صنعته لمستعمله لأنه أعرف بصلاح صنعته وفسادها وبسرعة فناء الصنعة وكثرة بقائها، فينبغي أن يتقن نهاية علم الصانع بصلاح الصنعة وحسن بقائها مع نهاية بغية مستعمله من تجويدها وأحكامها، ويتّقي من فساد يسرع إلى فنائها ما لا يفطن له مستعمله، فإذا فعل الصانع والتاجر ذلك كانا قد عملا بعملهما وسلما من المطالبة والمساءلة عنه، وإلاّ فهما يسألان فيقال لهما: ماذا عملتم فيما علمتم؟ إذ كانوا على علم من التجارة والصناعة وبهذه الأشياء عمارة المملكة، فلا بدّ أن يُسألا عن ذلك كما يسأل من كان على علم من الدين والإيمان، لأن لهم في علوم العقل والتمييز من أبواب الدنيا أحوالاً أيضاً ومقامات من حيث كان عليهم في ذلك تكليف وعبادات، ويقال: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكّوا في صلاحه، وشهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة فقال: ائتني بمن يعرفك، فأتاه رجل فأثنى عليه خيراً.

فقال له عمر رضي الله عنه: أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه قال: لا قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يتبين به ورع الرجل قال: لا قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يصلي يخفض رأسه طوراً ويرفعه له زمرة بالقرآن قال: نعم، قال: اذهب فلست تعرفه فقال مرة: أنت القائل ما لا تعلم ثم قال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك، وقد كال من سيرة السوقة فيما سلف أنه كان للبائع دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهول، فيه أسماء من لا يعرفه من الفقراء الضعفاء، وذلك أنّ المسكين والضعيف كان يرى المأكول فيشتهيه أو يحتاج إليه ولا يمكنه أنْ يشتريه فيقول للبائع: أحتاج إلى خمسة أرطال من هذا أو عشرة وليس عندي ثمنه فيقول: خذ إلى ميسرة فإذا رزقت فاقضِ، ويكتب اسمه في الدفتر المجهول قال: ولم يكن من يفعل هذا من خيار المسلمين بل كان الخير من الباعة من لا يكتب اسمه في دفتره ولا يجعله ديناً حتماً عليه ولا مظلمة عنده، ولكن يقول: خذ حاجتك مما تريد فإن وجدت فاقضني وإن لم تجد فأنت في حل، لا تضيقن قلبك لذلك، وهذا طريق قد مات فمن قام به فقد أحياه فكان مثل هؤلاء في المتقدمين أكثر من أنْ يسعهم كتاب، وكان من ينصح دقائق النصح وشدد على نفسه غاية التشديد وسمح لإخوانه نهاية الجود أكثر من ذلك، وإنما ذكرنا هؤلاء لتنبيه الغافلين على أعمالهم ونكشف بعض ما عفا من طريقهم، ولم يكن هؤلاء المذكورون من السوقة من خيار الناس كلهم إنما كان الأخيار المسجدية العباد والنساك المنقطعون إلى الله الزهاد، فإذا حصلت كفاية السوقي في بعض يومه فليجعل بقيته لأخيه، فقد كان بعض السلف منهم من ينصرف من حانوته بعد صلاة الظهر ويجعل نصف يومه لربه، ومنهم من ينصرف بعد العصر فيكون آخر يومه لآخرته.

وكان بعضهم إذا حصلت كفايته في يومه وتأتي قوت عياله في أي وقت من نهاره غلق حانوته وانصرف إلى منزله أو مسجده يتعبد بقية يومه، وكان منهم من إذا ربح دانقاً أو قيراطاً انصرف قناعة وزهداً أو قلة حرص على الدنيا، وأعجب من ذلك ما سمعت عن حماد بن سلمة أنه كان يبيع اللحم في سفط بين يديه، فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف.

وقال إبراهيم بن يسار: قلت لإبراهيم بن أدهم أمر اليوم أعمل في الطين فقال: يا ابن يسار إنك طالب ومطلوب يطلبك ما لا تفوته وتطلب ما لا يفوتك، أما رأيت حريصاً محروماً وضعيفاً مرزوقاً؟ فقلت: إنّ لي دانقاً عند البقال فقال عزّ عليّ بك تملك دانقاً وتطلب العمل، وقد كان كثير من الصناع يعمل نصف يومه وثلثي يومه ثم يأخذ ما استحقه من كفايته وينصرف إلى مسجده، ومنهم من كان يعمل في الأسبوع يوماً أو يومين ويتعبد سائر الأسبوع في خدمة سيده، وقد كانوا يجعلون أول النهار وآخره للآخرة في تجارة المعاد والمرجع، ويجعلون وسط النهار لتجارة الدنيا، وفي الخبر: أنّ الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد من أول النهار ومن آخره فيها خير وذكر كفر الله عزّ وجلّ عنه ما بينهما من سيّئ العمل، وفي الخبر: يلتقي ملائكة الليل والنهار، عند طلوع الفجر تنفرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، وعند صلاة العصر فتنزل ملائكة الليل وتنفرج ملائكة النهار فيقول الله عزّ وجلّ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وجئناهم يصلّون فيقول الله سبحانه وتعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، وقد كان عليّ رضي الله عنه يمرّ في سوق الكوفة ومعه الدرة وهو يقول: يا معشر التجار، خذوا الحق وأعطوا الحق، تسلموا ولا تردوا قليل الربح فتحرموا أكثر ما منع من حق إلاّ ذهب أضعافه في باطل، وقيل لعبد الرحمن بن عوف: ما كان سبب يسارك؟ فقال: ثلاث، ما رددت ربحاً قط ولا طلب مني حيوان وأخرت بيعه ولا بعت بنسإ، ويقال إنه باع ألف ناقة فربح عقلها وباع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفي درهم، ألف أخذها وألف نفقة عليها في يومها، وقد كان الورعون يكرهون ركوب البحر للتجارة ويقال: من ركب البحر للتجارة فقد استقصى في طلب الرزق، وفي الخبر لا يركب البحر إلاّ حاجٍ أو غازٍ أو معتمر، وعن زيد بن وهب عن عمر رضي الله عنه كان يقول: ابتاعوا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وثمروها لهم بالأرباح، وإياكم والحيوان فإنه ربما هلك، وإياكم ولجج البحر اتجروا لهم فيها مالاً.

وكان عمرو بن العاص يقول: لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر خارج فإنّ بها باض الشيطان وفرخ، وروينا عن معاذ وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنّ إبليس قال لولده زلنبور: يا زلنبور سِرْ بكتابيك وأنت صاحب السوق زين الحلف والكذب والخديعة والمكر والخيانة والخلف، وكنْ مع أول داخل وآخر خارج منها.

وروينا عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهي أن يدخل السوق أوائل النهار وأن يخرج منها آخر أهلها، فإذا كان المتسبب في المعاش والمتصرف في الأسواق على هذه الأوصاف المحمودة بهذه الشروط الموصوفة قائماً بحكم حاله حافظاً لمقامه فإنه في سبيل من سبل الله عزّ وجلّ، أفعاله وآثاره حسنات وكل ما تسبب به إلى الآخرة، وكان عوناً له عليها وطريقاً له إليها فهو من الآخرة، وإذا خالف هذه الشروط ولم يستعمل العلم في أحواله وفارق التقوى في تصرفه، أو كان يسعى تكاثراً وحرصاً على الدنيا جزوعاً على ما فاته من الدنيا مستقلاً لما في يديه منها، لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت دنياه ولا يبالي من أين اكتسب وفيما أنفق، فهذا يتقلب في المعاصي والمكاره ظهر البطن متعرضاً للمقت من الله عزّ وجلّ، يعمل في البعد والهرب غير مستعد للموت ولا موقن بالحساب، أفعاله وآثاره سيّئات وترك التجارة على هذه الأوصاف المكروهة خير لهذا.

ذكر ما روينا من الآثار في البيوع والصنائع وطريقة الورعين من السلف

روينا عن علقمة رضي الله تعالى عنه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من جلب إلى مصر من أمصار المسلمين فباعه بسعر يومه كان له عند الله تعالى أجر شهيد، ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، وروينا عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الجنة صاحب مكس، وروينا عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أقال نادماً في بيع أقاله الله عزّ وجلّ يوم القيامة، روينا عن هشام بن عروة ذكر لمعاوية أنّ رجلاً من المعمرين من الجراهمة بالقرب منه فأحضره فقال: ممن الرجل؟ قال من جرهم قال: وكم تعد من السنين؟ قال: خمسين وثلاثمائة سنة قال: أخبرني أيّ المال أفضل؟ قال: عين خدارة في أرض خوارة تعول ولا تعال قال: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها بتبعها فرس قال: فقال: الإبل والغنم لا أراك تذكرها قال: إنها لا تصلح لمثلك تصلح لمن يباشرها بنفسه.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير مال المسلم سكة مأبورة أو مهرة مأمورة، قوله سكة مأبورة يعني النخيل التي قد أبرت فهي طريق كالسكك، وقوله مهرة مأمورة يعني الخيل النواتج مأمورة كثيرة.

ومن هذا قوله تعالى: (أمَرْنا مُتْرَفِيْهَاْ) الإسراء: 16 أي أكثرناهم، يقال: أمر القوم إذا كثروا، وحدثونا عن عبد الله بن أحمد قال: قدمت من عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار وليس بيدي منها إلاّ دقيق وغنم وأثاث، ففزعت من ذلك فلقيت كعب الأحبار فذكرت له ذلك فقال: أين أنت من النخل، فإنّا نجدها في كتاب الله تعالى المطعمات في المحل الراسخات في الوحل وخير المال النخل، بائعها ممحوق ومبتاعها مرزوق، مثل من باعها ثم لم يجعل ثمنها في مثلها كمثل رماد صفوان، اشتدت به الريح في يوم عاصف ففزعت إلى النخل فابتعتها قال: وقال مروان بن الحكم لوهب بن الأسود: ما المروءة؟ قال: برّ الوالدين وإصلاح المال، حدثت عن عبد القدوس بن عبد السلام قال: كتب إبراهيم ابن أدهم إلى عباد بن كثير: اجعل طوافك وسعيك وحجك كنومة غازٍ في سبيل الله عزّ وجلّ، فكتب عباد إلى إبراهيم: اجعل حرسك ورباطك وغزوك كنومة كاد على عياله من حله، وروينا عن العباس قال: سمعت أحمد بن ثور يقول: شيع رجل إبراهيم ابن أدهم إلى الصنوبر فقال: يا أبا إسحاق أوصيني قال: أكثر وأوجز قال: ما الحاج المعتمر ولا الغازي المرابط ولا الصائم والقائم بأفضل عندنا ممن أغنى نفسه عن الناس.

وروينا عن لقمان قال لابنه: يا بني، خذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها كل الرفض فتكون عيالاً على الناس.

وحدثون عن شاذان قال: سألت الحسن بن حيّ عن شيء من المكاسب فقال: إن نظرت في هذا حرم عليك ماء الفرات ثم قال: طلب الحلال أشد من لقاء الزحف.

وروينا عن الهيثم بن جميل قال: قال ابن المبارك: اركب البر والبحر واستغن عن الناس، قال الهيثم: ربما يبلغني عن الرجل يقع فّي فأذكر استغنائي عنه فيهون ذلك علي.

وروينا عن حماد بن زيد قال: قال أيوب: كسب فيه بعض الشيء أحب إليّ من الحاجة إلى الناس.

أنشدونا عن ابن أبي الدنيا قال: أنشدني عمر بن عبد الله:

لنقل الصخر من قلل الجبال ... أخف عليّ من منن الرجال

يقول الناس كسب فيه عار ... فقلت العار في ذل السؤال

حدثنا عن موسى بن طريف قال: ركب إبراهيم بن أدهم البحر فأخذتهم ريح عاصف أشرفوا على الهلكة فقالوا: يا أبا إسحاق، أما ترى ما نحن فيه من الشدة؟ قال وهذه شدة؟ قالوا فأي شيء الشدة؟ قال الحاجة إلى الناس، وأنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء:

لموت الفتى خير من البخل للغني ... وللبخل خير من سؤال بخيل

فلا تجعلن شيئاً لوجهك قيمة ... ولا تلق مخلوقاً بوجه ذليل

ولا تسألن من كان يسأل مرة ... فللفقر خير من سؤال سؤل

وأنشدنا بعض الأشياخ:

إذا عدت الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل

ولا خير في وعد إذا كان كاذباً ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل

وأنشدنا لبعضهم:

إذا كنت لا بدّ مستطعماً ... فمن غير من كان يستطعم

فإنّ الذي كان مستطعماً ... إذا ذكر الجوع لا يطعم وأنشدنا لبعضهم:

ما خلفت حواء أحمق لحية ... من سائل يرجو الغنى من سائل

وحدثونا عن زيد بن أسلم قال: كان محمد بن مسلمة في أرض يغرس النخل، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما تصنع يا محمد؟ قال: ما ترى قال: أصبت، استغنِ عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم كيف، قال صاحبكم لحيحة بن الحلاج:

فلن أزال عن الزوراء أعمرها ... إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال

روينا عن ابن مسعود قال: ما كس دون درهمك فإنّ المغبون لا محمود ولا مأجور، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا قلت لصاحبك أحسن فأحسن فهو صدقة، وحدثت عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: كان إبراهيم بن أدهم ورفقاؤه في المسجد في شهر رمضان، فلما سلم الإمام قام رجل فسأل، فلم يعط شيئاً ووضعوا عشاءهم فقالوا لإبراهيم: يا أبا إسحاق ندعوه؟ قال: لا تدعوه، فبات بغير عشاء فلما كان من الغد جاء رفيق لإبراهيم فقال له: يا أبا إسحاق، رأيت الذي سأل البارحة وعلى رأسه حزمة حطب فقال: تدرون لِمَ قلت لكم: لا تدعوه سبق إلى قلبي أنه لم يسأل قبلها فكرهت أنْ أدعوه فيتكل على عشائكم، قال عبد الله: وقال رجل لإبراهيم: كيف أصبحت؟ قال: بخير ما لم يتحمل مؤونتي غيري، وعن موسى بن طريف قال: كان إبراهيم بن أدهم لا يماكس إذا عمل مع أحد، حدثونا عن يوسف بن سعيد قال: سمعت إنساناً يسأل عليّ بن بكار: أيهما أفضل، اللقاط أو التكابة؟ فقال: اللقاط فيه معروف كثير، كان سليمان الخواص يلقط ههنا عندنا وكان إبراهيم بن أدهم يؤاجر نفسه وكان حذيفة يضرب اللبن، أبو عمرو بن العلاء قال: قال الحسن: الأسواق موائد الله تعالى فمن أتاها أصاب منها، الحسن بن دينار عن قتادة قال: مكتوب في التوراة اتّقِ توق وسل تعط وأطلبْ تجد، ومكتوب في الإنجيل: ابن آدم اصبر تصبر.

عن أبي خلدة عن أبي العالية قال: إذا اشتريت شيئاً فاشترِ أجوده.

أبو الطفيل قال: كنت عن أنس بن مالك فقيل له: خرج الدجال فقال: كذبة صباغ، حدثنا عن يحيى بن يمان عن بسام الصيرفي عن عكرمة قال: أشهد أنّ الصيارفة من أهل النار.

وروينا عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل قال: أقبلنا حجاجاً حتى إذا كنا بالصفاح توفي صاحب لنا فحفرنا له، وإذا أسود قد ملأ اللحد كله، ثم حفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد، فحفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد كله، فتركناه وأتيناك نسألك ما تأمرنا، قال: ذاك عمله الذي كان يعمل، وفي رواية أخرى: ذاك غله الذي كان يغل به، اذهبوا فادفنوه في بعضها فو الله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذاك، قال: فألقيناه في قبر منها، فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألنا عن عمله فقالت: كان رجلاً يبيع الطعام، فيأخذ قوت أهله كل يوم ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في الطعام مكان ما أخذ فيبيعه، عن حجاج عن أبي جعفر محمد ابن عليّ: أنَّ عليّاً رضي الله تعالى عنه كان يضمن القصار والصباغ والخياط ليحفظوا على الناس أمتعتهم، وروينا عن هشام بن عمار قال: سئل مالك بن أنس: في الرجل يسلم الثوب إلى الحائك بالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال: هذا شرط فاسد وله أجرة مثله إلاّ أن يخالف الشر فعليه العزم، وحدثنا عن أحمد بن الحسن المقري قال: سئل أبو بكر المروزي: وأنا أسمع الحائك ينسج الثوب على الخمسين ودرهمين وعلى الخمسين وثلاثة دراهم وأكثر قال: لا بأس إذا رضينا قلت: فالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال: لا بأس.

سئل أحمد بن حنبل عن هذه المسألة فقال: لا بأس، وحدثنا عن أبي داود قال: سمعت ابن حنبل سئل عن الثوب يعطي على الثلث أو الربع للحائك قال: لا بأس به، ثم قال هل هذا إلاّ مثل المضاربة ومثل قصة جبير، لعله أنْ يربح المضارب شيئاً ولا يخرج الأرض شيئاً، كلها عندي قريبة، وعن ابن وهب قال: قال مالك في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة قال: يفسخ ذلك البيع قيل: عامل وترك القيام إليها وهو حدّ قال: بئسما صنع، فليستغفر ربه عزّ وجلّ، وقال ربيعة: ظلم وإساء قال: وقال مالك: يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة.

حدثنا عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن حنبل غير مرة يكره التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة، قال أبو داود: سألت إسحاق بن راهويه عن إنفاق المزيفة فقال: لا بأس به، وقال عبد الوهاب الوراق: سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال: سألت المعافى عنها فقال: سألت سفيان الثوري عنها فقال حرام، حدثنا عن الحسن الخياط قال: سمعت بشر ابن الحارث وقال له رجل من جيرانه: أسلمت عمامة إلى الحائك الدقيق عليّ من قال على الحائك والخيوط لك، وحدثونا عن بشر عن الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد أنّ مريم عليها السلام مرت بحاكة قعود على ظهر طريق في طلب عيسى عليه السلام فقالت: كيف طريق موضع كذا وكذا؟ فأرشدوها إلى غير الطريق التي أرادت، فضلّت فدعت الله تبارك وتعالى عليهم فقالت: اللهم، إانزع البركة من كسبهم وأمتهم فقراء وحقرهم في أعين الناس، قال بشر: أحسب أنّ الله عزّ وجلّ استجاب دعاءها فيهم، وروينا عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من فرق بين الوالد وولده في البيع، فرق الله عزّ وجلّ بينه وبين أحبته يوم القيامة، سفيان عن منصور عن موسى بن عبد الله أنّ أباه بعث بغلام له بمال إلى أصبهان بأربعة آلاف، فبلغ المال ستة عشر ألفاً أو نحو ذلك فبلغه أنه مات، فذهب يأخذ ميراثه فبلغه أنه كان يقارف الربا فأخذ أربعة آلاف وترك البقية، وحدثونا عن أبي بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده قال: لا قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: الذي يتعامل بالربا يأخذ رأس ماله، وإن عرف أصحابه رده عليهم وإلا تصدق بالفضل، وروينا حديث ربيعة بن يزيد عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لابأس به حذراً لما به بأس، وروينا حديث عباس بن جليد قال أبو الدرداء: إنّ تمام التقوى أنْ يتّقي العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حجاباً بينه وبين الحرام، حدثنا عن أبي بكر المروزي قال: سألت أَبا عبد الله عن الرجل: يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم حرام لا يعرفه قال: لا يأكل منه شيئاً حتى يعرفه، واحتج أبو عبد الله بحديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر فقال: لا تأكل حتى تعلم أنّ كلبك قد قتله، وسألت أبا عبد الله عن الرجل: يدفع إليه الدراهم الصحاح بصوغها قال فيها: نهى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه وأنا أكره كسر الدراهم والقطعة قلت: فإن أعطيت ديناراً أصوغه كيف أصنع؟ قال: تشتري به دراهم ثم تشتري به ذهباً قلت: فإن كانت الدراهم من الفيء ويستهي صاحبها أن تكون بأعيانها قال: إذا أخذت بحذائها فهو مثلها.

وروى أبو عبد الله حديث علقمة بن عبد الله عن أبيه، أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس، قال أبو عبد الله: البأس أن يختلف في الدراهم فيقول الواحد: جيد ويقول الآخر: رديء فيكسره، لهذا المعنى قال: وسألت أبا عبد الله عن الرجل يكتسب بالأجر فيجلس في المسجد فقال: أما الخياط وأشباهه فما يعجبني إنما بنى المسجد ليذكر الله تعالى فيه وكره البيع والشراء فيه، قلت لأبي عبد الله: للرجل يعمل المغازل ويأتي المقابر فربما أصابه المطر فيدخل في بعض تلك القباب فيعمل فيها قال: المقابر إنما هي من الآخرة وكره ذلك قلت لأبي عبد الله: اشتري الدقيق فيزيد في مثل القفيز المكوك قال: هذا فاحش، هذا لا يتغابن الناس فيه قلت: فكيلجة أو دونها قال: هذا يتغابن الناس بمثله، قلت لأبي عبد الله: رفاء الوسائد والأنماط يرفوا للتجار وهم يبيعون ولا يخبرون بالرفو قال: يعمله العمل الذي يبتين لا يعمل الخفي الذي لايتبين إلاّ لمن يثق به، قلت لأبي عبد الله: الثوب ألبسه ترى أن أبيعه مرابحة قال: لاوإن بعته مساومة فبين أنك قد لبسته وإلاّ بعته في سوق الخلق، سألت أبا عبد الله عن إبريق فضة يباع قال: لا حتى يكسر ويقول: لا يباع الحرير.

أمية بن خلد قال: كان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع أهل إلى وكيله بالسوس أنّ أعلم من يشتري منه المتاع أنّ المتاع يطلب، وحدثنا عن المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر فكرهه وقال: يعطون يقسم عليهم يعني الصبيان قال: ودخلت على أبي عبد الله وقد حذق ابنه، وقد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال: هذه نهبة، وقال أبو عبد اللّّه وذكر مسائل ابن المبارك فقال: كان فيها مسألة دقيقة، سئل ابن المبارك عن رجل رمى طيراً فوقع في أرض قوم: لمن الصيد؟ قال: لا أدري، قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها؟ قال: هذه دقيقة ما أدري فيها، قلت لأبي عبد الله: إنّ عيسى بن عبد الفتاح قال: سألت بشر بن الحارث: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: فقال أبو عبد الله: هذا شديد، قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة قال: فقال أبو عبد الله: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر بن الحارث قد قال ما قال، ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم، ثم قال أبو عبد الله: إلاثم حواز القلوب، قال المروزي: أدخلت على أبي عبد الله رجلاً فقال: إنّ لي أخوة وكسبهم من الشبهة، فربما طبخت أمنا وتسألنا أن نجتمع ونأكل فقال له: هذا موضع بشر لو كان لك كان موضعاً، أسأل الله تعالى أنْ لا يمقتنا، ولكن تأتي أبا الحسن عبد الوهاب فتسأله فقال له الرجل: فتخبرني بما في العلم قال: قد روي عن الحسن إذا استأذن والدته في الجهاد فأذنت له، وعلم أنّ هواها في المقام فليقم، قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له والدة يستأذنها يرحل يطلب العلم فقال: إن كان جاهلاً لا يدري كيف يطهر ولا يصلّي فطلب العلم أوجب، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إليّ، قلت: فإن كان يرى المنكر فلا يقدر أن يغيره قال: يستأذنهما، فإن أذنا له خرج.

حدثنا عن أبي الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت له: يا أبا عبد الله، إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على المخنثين ونتسلق عليهم الحيطان فقال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى، ولكن ندخل عليهم كيلا يفروا، فأنكرذلك إنكاراًشديداً وعاب فعالنا، فقال رجل: من أدخل هذا؟ فقلت: إنما دخلت إلى الطبيب أخبره بدائي، فانتفض سفيان وقال: إنما هلكنا إذ نحن سقمى فسمّينا أطباء ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من فيه ثلاث خصال، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عالم بما ينهي، عالم بما يأمر عدل بما ينهي، حدثنا عن أحمد بن محمد بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله قلت: أمرّ في السوق فأرى الطبول تباع فأكسرها قال: إن قويت يا أبا بكر قلت: أدعي أغسل الميت فأسمع صوت الطبل قال: إن قدرت على كسره وإلاّ فاخرج، سألته عن كسر الطنبور قال: يكسر قلت: فإذا كان معطي؟ قال: إذا ستر عنك فلا قلت: فالطنبور الصغير يكون مع الغلام قال: تكسره أيضاً إذا كان مكشوفاً قلت لأبي عبد الله: رجل له قراح نرجس ترى أنْ يباع؟ فقال: إنهم يقولون الزئبق يعمل منه قلت: فإن كان لا يشتريه إلاّ أصحاب المسكر قال: يسأل عن ذا فإن كان هكذا إلاّ يباع، سمعت أبا عبد الله وسأله رجل فقال: إنّ أبي كان يبيع من جميع الناس وذكر من تكره معاملته فقال يدع من ذلك بقدر ما ربح فقال له: فإنه له ديناً وعليه دين قال: يقتضي ويقضي عنه قلت: وترى له بذلك؟ قال: فتدعه محتسباً بدينه، سألت أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته يسألني أن أشتري له ثوباً أو أسلم له غزلاً فقال: لا تعنه ولاتشترِ له إلاّ أن تأمرك والدتك، فإذا أمرتك فهو أسهل لعلها أن تغضب.

سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له أب مراب يرسله أن يتقاضى له: ترى له أن يفعل؟ قال: لا ولكن يقول: لا أذهب حتى تتوب، ذكرت لأبي عبد اللّّه رجلاً من المحدثين فقال: رحمه الله أي رجل كان لولا خلة واحدة؟ ثم قال: ليس كل الخلال يكملها الرجل فقلت له: أليس كان صاحب سنّة قال: أي لعمري وقد كتبت عنه ولكن خلة واحدة فقلت: مثل أيش؟ قال: كان لا يبالي ممن أخذ، سمعت أبا عبد الله وذكر بشر بن الحارث فقال رحمه الله: لقد كان فيه أنس، وذكر له شيء من الورع فقال يسأل عن مثل بشر: هذا موضع بشر وأنا لا ينبغي لي أن أتكلم في هذا.

ذكرت لأبي عبد الله رجلاً فقيراً في أطمار خلقان وقلت: ما أحوجه إلى علم؟ فقال لي: اسكت لصبره على فقره وعريه من العلم إني لأذكره وأنا في الفراش وقال: هؤلاء خير منا، قلت لأبي عبد اللّّه قيل لابن المبارك: كيف يعرف العالم الصادق؟ قال: يزهد في الدنيا ويقبل على أمر آخرته فقال أبو عبد الله: نعم، هكذا يريد أن يكون.

سألت أبا عبد الله عن امرأة كانت تجري على أخرى وتصلها وذكر المرأة ما أمرني به أبو عبد الله من شيء صرت إليه قال: أن تصدق به وتسأل.

سمعت أبا عبد الله وذكر ابن عون فقال: كان لا يكري دوره من المسلمين قلت: لأي علّة؟ قال: لئلا يروعهم ابن المبارك عن حكيم بن زريق عن أبيه عن سعيد بن المسيب في البر بالدقيق قال: هو ربا، قلت لأبي عبد الله: أخبرت أنّ بشر بن الحارث أرسل أخوه بتمر من الأيلة، فأبقت أمه تمرة من التمر الذي كانت تفرقه يعني على أهل بيته، فلما دخل بشر قالت له أمه: بحقي عليك لما أكلت هذه التمرة؟ فأكلها وصعد إلى فوق، وصعدت خلفه فإذا هو يتقيأ، وكان أخوه على شيء فقال أبو عبد الله وقد روي عن أبي بكر رضي اللّّه عنه نحو هذا، وسمعت أبا عبد الله وذكر وهيب بن الورد فقال: قد كلمه ابن المبارك فيما يجيء من مصر، وإنما أراد ابن المبارك أن يسهل عليه ولم يدرِ أنه يشدد عليه، وكان لا يأكل مما يجيء من مصر، إلاّ الزبيب، وقال أبو عبد الله: بشر بن الحارث كان يأكل من غلة بغداد قلت: لا هو كان ينكر على من يأكل فقال: إنما قدر بشر لأنه كان وحده لم يكن له عيال، ليس من كان معيلاً كمن كان وحده، لوكان إلى ما باليت ما أكلت، وذهب أبو عبد اللّّه إلى أن يأخذ من السواد القوت ويتصدق بالفضل ثم قال: لايعجبني أنْ أبيع شيئاً قلت لأبي عبد الله: ترى أن يشرب الرجل من السواد؟ قال: هذا الذي نحن فيه ميراث إنما آخذ الغلة على الاضطرار، قيل لأبي عبد الله: فيشتري الرجل فيه؟ فقال للسائل: إن كنت في كفاء فلا، ثم قال أكره أن يبيع الرجل داره ولا أرضى في شيء من السواد ولا يشتري إلاّ مقدار القوت، فإذا كان أكثر من قوته تصدق به وقال: أنا أذهب إلى أنّ السواد وقف على المسلمين، أما عمر رضي الله تعالى عنه، فترك السواد ولم يقسمه، وهكذا عثمان تركه، إلاّ أنه أقطع قوماً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود وسعداً وذكر غير واحد، وأما عليّ رضي الله تعالى عنه فأقره ولم يقسمه، قال أبو عبد الله: من ذهب إلى قول ابن المبارك فذاك البلاء يزعم أنّ السواد يقسم على من شهد الوقعة.

وقال ابن إدريس في دار ببغداد: يبيع أمرها حتى يردها إلى من فتحها بالسيف قلت: ومن أين تقدر على هذا؟ فتبسم وقال: يصير إلى المدينة مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسأل عنهم، قال أبو عبد الله: أهل المدينة على مذهب ابن إدريس يقولون: المدينة إذا فتحت عنوة قسمت على من شهدها، قلت لأبي عبد الله: فمن خالفهم؟ قال: عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي اللّّه عنهما أوقفاها على المسلمين، قلت لأبي عبد الله: فمن ورث داراً في القطيعة؟ قال: قال ابن إدريس يردها على من شهد القادسية قلت: وهذا هو عندك القول؟ قال: نعم، ما أحسن ما قال، ولكن مثل هذا الذي في أيدينا إنما هي قطائع لو أنّ وجلاً أراد أنْ يخرج مما في يديه كنا نأمره أنْ يوقفها لأنها فيء، سألت أبا عبد الله عن الكوفة والبصرة: أليس افتتحت؟ قال: لا، إنما جاؤوا فابتنوا فيها، وأدخلت على أبي عبد الله رجلاً فقال: إني ورثت عن أبي أرضين من السواد فقال له: أوقفها على قرابتك، فإن لم يكن فعلى جيرانك، وقيل له أيضاً: ورث رجل داراً في القطيعة فقال: يوقفها، ثم قال: السواد فيء للمسليمن رخص في الشراء، قلت لأبي عبد الله: كيف أشتري في السواد ولا أبيع؟ قال: الشراء عندي خلاف البيع، واحتج أنّ أصحاب رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها ابن عباس وجابر بن عبد الله، سئل أبو عبد الله: أيما أحبّ إليك؛ سكني القطيعة أو الربض؟ فقال: الربض، قلت لأبي عبد الله: إنّ القطيعة أرفق من سائر الأسواق فقال: أمرها معلوم تعرفها لمن كانت قلت فتكره العمل فيها قد وقع في قلبي منه شيء، فقال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب، قلت لأبي عبد الله: فرجل يريد الخروج إلى الثغر وله دار يريد أن يبيعها قال: لا قلت: فإن قال: إنما أبيع النقض، فتبسم وقال: إن رضي المشتري كأنه عنده حيلة ثم قال: قد ورث ابن سيرين أرضاً من أرض السواد قلت: فهي رخصة قال: هذا معروف عن ابن سيرين، قال أبو بكر: سمعت أبا عبد الله يقول: أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء وقال: ما أعدل بالفقر شيئاً وقال: هذه الغلة ما تكون قوتنا، فأخبرته أنّ رجلاً قال: لو أنّ عبد الله ترك هذه الغلة وكان يتصنع صديقاً له كان أعجب إلي فقال أبو عبد الله: هذه طعمة سوء أو قال: ردية من تعود هذا لم يصبر عنه ثم قال: هذا أعجب إليّ من غيره.

حدثنا عن عبد الله بن نوح السراج قال: قال لي بشر: ياسراج، أنت بعد في القطيعة قلت: نعم قال: أغناك الله عزّ وجلّ عن الدخول إليها، حدثت عن بعض أصحاب بشر قال: وصف لي شيء أتداوى به وقال: ليس تجده إلاّ في بستان بني كذا يعني القطيعة فقال: لو كان شفائي فيه ما أردته، محمد بن حاتم قال: سمعت ابن أبي بشر يقول: كنت مع بشر وقد خرجنا من باب حرب فقال لي: يا أبا يعقوب، فكرت في هذه القرية ومن كره الدخول إليها وأعلم أنّ الدباغ إذا كان في المدبغة لا يشم رائحتها إنما يشم رائحتها من ورد عليها، قال بعضهم: وسمعت بشراً يقول: من ذنوبي مقامي ببغداد، وقال شعيب بن حرب: أي رجال ببغداد كان لهم خير؟ وعن عبد الوهاب قال: خرج من ههنا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب قوم فكلموه في النزول ببغداد فأشار علهم أن لايرجعوا، فتركوا دورهم وأقام بعضهم ليستقي ماء بالمدائن، ولقد رأى شعيب بعضهم يستقي الماء فقال: لو رآك سفيان لفرح بك، قلت لأبي عبد الله: جاءنا كتاب من طرسوس فيه أنّ قوماً خرجوا من نيف الأسل فطحنوا لهم طعاماً على رحى، فتبينوا بعد أن الرحى فيه ما يكرهونه غصب، فتصدق بعضهم بنصيبه وأبى بعضهم وقال: لست آمر فيه شيء لا أرضى أكله لا أرضى أتصدق به فأي شيء تقول؟ فكان مذهب أبي عبد الله أنْ يتصدق به إذا كان شيئاً يكرهه، ورجل اشترى حطباً واكترى دواب وحمله، ثم تبين بعد أنه يكره ناحيتها، كيف يصنع بالحطب؟ ترى أنْ يرده إلى موضعه وكيف ترى أنْ يصنع به؟ فتبسم وقال: ما أدري، قلت إنّ رجلاً قال لأبي عبد اللّّه: ما تقول في نفاطة لمن تكره ناحيته ينقطع شسعي أستضيء به قال: لا.

وذكر أبو عبد الله عثمان بن زائدة أنّ غلامه أخذ له ناراًمن قوم يكرههم فأطفأها، فقال أبو عبد الله: النفاطة أشد، قلت لأبي عبد الله: تنور سجر بحطب أكرهه فخبز فيه، فجئت أنا بعد فسجرته بحطب آخر فيه قال لا، أليس أحمى بحطبهم وكرهه، قلت لأبي عبد الله: الخادم الخصي ينظر إلى شعر مولاته قال: لا، قلت: المرأة تكون بها الكسرة فيضع المجبر يده عليها قال: هذا ضرورة ولم ير به بأساً قلت: قال المجبر: لابد لي أن أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها، قال طلحة: يوجد، قلت لأبي عبد الله: فالكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء، هل هذه الخلوة منهي عنها؟ قال: أليس هو على ظهر الطريق؟ قيل: نعم قال: إنما الخلوة تكون في البيوت، قال أبو بكر: قلت لأبي عبد الله: إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً ما يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة قال: يأكل الميتة قد أحلت له، سألت أبا عبد الله عن الرجل يمر بالحائط أو النخل يأكل منه فقال: قد سهل فيه قوم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: فماذا تقول إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة؟ قال: يأكل ولا يحمل، قلت: الرجل يمر بالبستان قال: إذا كان عليه حائط لم يدخل، وإذا كان غيرمحوّط أكل ولا يحمل، سألت أبا عبد الله عن أجور بيوت مكة فقال: لا يعجبني، قلت لأبي عبد الله: فيكتري الرجل الدار ويخرج ولا يقضي الكراء قال: لايعجبني أن لايخرج الكراء، ثم قال: هذا بمنزلة الحجام لابدّ من أن يعطي، قلت لأبي عبد الله: فترى شراء دور مكة والبيع قال: لا، أما الدور الكبار فمثل دار فلان وفلان سماها فتفتح أبوابها حتى يضرب الحاج فيها فساطيطهم وينزلوها لا يمنع أحد من نزولها، قيل لأبي عبد الله: هذا عمر بن الخطاب قد اشترى السجن قال: لا هذا لا يشبه ما اشترى عمر إنما اشترى السجن للمسلمين، يحبس فيه السراق وغيرهم، سئل أبو عبد الله عن السقايات التي يعملها من تكره ناحيته، ترى أن يتوضأ منها؟ قال: لا إلاّ أن يخاف فوت الصلاة يعني يوم الجمعة، سئل أبو عبد الله عن السقايات التي تفتح إلى الطريق: ترى أن يشرب منها فقال: قد سئل الحسن فقال: قد شرب أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما من سقاية أم سعيد فمه، قلت لأبي عبد الله: حكي عن فصيل أنّ غلامه جاءه بدرهمين فقال: عملت في دار فلان فذكر من يكره ناحيته قال: فرمى بها بين الحجارة وقال: لايتقرّب إلى الله عزّ وجلّ إلاّ بالطيب، فعجب أبو عبد الله وقال: رحمه الله، وذهب أبو عبد الله إلى أن يتصدّق كأنه كان أحوط وقال: يعجبني أن يتصدّق به إذا تصدّق به فأي شيء بقي.

ذكر ما رأى أحمد بن حنبل الخروج منه، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى إلى الوليمة، من أي شيء يخرج؟ فقال: خرج أبو أيوب حين دعاه ابن عمر، فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فخرج، وإنما رأي شيئاً من زمي الأعاجم قلت: فإن لم يكن البيت مستوراً ورأى شيئاً من فضة فقال: ما كان يستعمل يعجبني أن يخرج، وسمعت أبا عبد الله: يقول دعانا رجل من أصحابنا قبل المحنة، وكنا نختلف إلى عفان فإذا فضة، فخرجت فأتبعني جماعة فنزل بصاحب البيت أمر عظيم، قلت لأبي عبد الله فالرجل يدعى فيرى المكحلة رأسها مفضض قال: هذا يستعمل فأخرج منه إنما رخص في الضبة أو نحوها فهو أسهل، سألت أبا عبد الله عن الكلة فكرهها قلت: فالقبة أو الحجلة فلم ير به بأساً، قلت لأبي عبد الله أنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره، فأعجب أبا عبد الله كسره، سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج: ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر؟ قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة، وقد روي عن ابن مسعود قلت: فترى أن يأمرهم؟ قال: نعم، فيقول: هذا لا يجوز، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون في بيت فيه ديباج فيدعو ابنه للشيء قال: لا يدخل عليه ولا يجلس معه، قلت لأبي عبد الله: الرجل يدعى فيرى الكلة فكره وقال: هو رياء، لا يرد من حرّ ولا من برد، قلت: الرجل يدعى فيرى تصاوير قال: لا ينظر إليه قلت: فقد نظرت إليه قال: إن أمكنك خلعه خلعته، أبو صالح الفراء عن يوسف بن أسباط قال: قلت: من أجيب؟ قال: لا تدخل على رجل، إذا دخلت عليه أفسد عليك قلبك، قد كان يكره الدخول على أهل البسط يعني الأغنياء، المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال: لا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره، قلت: فالرجل يكتري البيت يرى فيه التصاوير ترى أن يحكه قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: فإذا دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس قال: نعم.

ذكر الورع في أشياء ابن عبد الخالق، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله: ترى الرجل الوصيء تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة قال: إن كانت صورة فلا، وذكر فيه شيئاً قلت: أليس الصورة إذا كان يد أو رجل؟ فقال: عكرمة يقول: كل شيء له رأس فهو صورة، قال أبو عبد الله: وقد يصيرون لها صدراً وعيناً وأنفاً قلت: وأحبّ إليك أن تجتنب شراءها؟ قال: نعم، سألت أبا عبد الله عن قبلة اليد فلم يرَ بها بأساً إن كان على التدين، قال: قد قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وإن كان على طريق الدنيا، فلا رجل يخاف سيفه أو سوطه، قال لي أبو عبد الله: قال لي سعيد الحاجب ألا يقبل يد ولي عهد المسلمين فقلت: بيدي هكذا ولم أفعل، وروينا عن عليّ بن ثابت قال: سمعت حفيان يقول: لا بأس بها للإمام العادل وأكرهه على الدنيا يعني تقبيل اليد، قلت لأبي عبد الله: رجل يريد الخروج إلى الثغر وقد سألني أسألك، وهذا الطريق طريق الأنبار مخيف، فإن عرض له اللصوص ترى أن يقاتلهم قال: إن طلبوا أشياءه قاتلهم لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من قتل دون ما له فهو شهيد قلت: فإن عرضوا للرفقة، ترى أن يقاتلهم؟ قال: حتى إن يطلبوه هو ولم يرَ أن يقاتل عن الرفقة بالسيف، سئل أبو عبد الله عن الأسير: يفر؟ قال: نعم إذا قدر على ذلك، قلت لأبي عبد الله: ترى للرجل إذا جاءه الرجل يسأل ترى أن يسأله له قوماً قال: لا لكن يعرض كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم عليه القوم مجتابي النمار فقال: تصدق رجل بكذا، سمعت أبا عبد الله يقول: عبد الوهاب أطيب طعمة من غيره يريد الوراقة، سمعت أبا عبد الله يقول: كان يحيى بن يحيى أوصى إليّ بجبته، فجاءني ابنه فقال لي فقلت: رجل صالح قد أطاع الله تبارك وتعالى فيها أتبرك بها.

حدثت عن بعض العلماء أنّ يحيى بن يحيى قالت له إامرأته تشربه دواء: لو قمت فترددت في الدار فقال: ما أدري ما هذه المسألة، أنا أحاسب نفسي منذ أربعين سنة، حدثت عن موسى بن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما قبض عمي أغمي على أبي فلما أفاق قال: البساط نحوه أدرجوه لغلة الورثة، ابن أبي خالد قال: كنت مع أبي العباس الخطاب، وقد جاء يعزي رجلاً ماتت امرأته، وفي البيت بساط فقام أبو العباس على باب البيت فقال: أيها الرجل معك وارث غيرك قال: نعم قال: قعودك على ما لا تملك، فتنحى الرجل عن البساط، وحدثت عن ابن الضحاك صاحب بشر بن الحارث قال: كان يجيء إلى أخته حين مات زوجها فيبيت عندها، فيجيء معه بشيء يقعد عليه ولم يرَ أن يقعد على ما خلف من غلة الورثة، ابن عبد الخالق عن المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء أو الخشبة قال: يتصدق به، سألته عن الجص والآجر يفضل عن المسجد قال: يصير في مثله، قلت لأبي عبد الله: إني أكون في المسجد في شهر رمضان فيجاء بالعود من الموضع الذي يكره فقال: وهل يراد من العود إلاّ ريحه؟ إن خفت خروجك فأخرج، روينا عن أبي عوانة عن عبد الله بن راشد قال: أتيت عمر بن عبد العزيز بالطيب الذي كان في بيت المال فأمسك على أنفه وقال: إنما ينتفع بريحه عبد العزيز بن أبي سلمة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد قال: قدم عليّ عمر رضي الله عنه مسك من البحرين فقالت: والله لوددت إني أجد امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة بنت عمرو بن نفيل: إني جيدة الوزن فهلّم أزن لك قال: لا قلت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين عنقك فأصيب فضلاً عن المسلمين، وسليمان التيمي قال: حدثني نعيم عن العطارة قال: كان عمر يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين قال: فتبيعه امرأته، فباعتني طيباً فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسره بأسنانها فيعلق بأصبعها شيء منه فقالت به: هكذا بأصبعها ثم مسحت به خمارها فدخل عمر فقال: ما هذه الريح؟ فأخبرته بالذي كان فقال: طيب المسلمين تأخذينه أنت فتتطيبين به؟ فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرّاً من ماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه، ثم يصب عليه الماء ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ففعل ما شاء الله، قالت العطارة: ثم أتيتها مرة أخرى فلما علق بأصبعها منه شيء فعمدت فأدخلت أصبعها في فيها، ثم مسحت بإصبعها التراب.

أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: يحضر يوم الجمعة يوم بارد ترى أن يسخن الماء من الموضع الذي أكره؟ قال: لا ترك الغسل أحبّ إليّ من هذا، سمعت أبا عبد الله ينكر على أبي ثور قوله، وإذا أجمع الأطباء أنّ شفاء الرجل في الخمر أنه ليس به بأس فأنكر إنكاراً شديداً عليه وقال: لقد كرهت أن يداوي الدبر بالخمر فكيف بشربه؟ وتكلم بكلام غليظ.

حدثت عن شعيب بن حرب قال: لأن أرى ابني يسرق أو يزني أحبّ إليّ من أن يأتي عليه وقت لا يعرف الله تبارك وتعالى فيه، محمد بن أبي داود الأنباري قال: قلت لأبي أسامة: أجيب وليمة فيها نبيذ قال: لا قلت: أخاف الحديث الذي جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لم يجب فقد عصى فقال: مَنْ لم يجب اليوم فقد أطاع الله تعالى ورسوله، هارون بن معروف قال: جاءني فتى فقال: إنّ أبي حلف عليّ بالطلاق أن أشرب دواء مع مسكر، فذهبت به إلى أبي عبد الله فلم يرخص له وقال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل مسكر حرام وكل مسكر خمر.

المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن خياط الملحم فقال: ما كان للرجال فلا، وما كان للنساء فليس به بأس، وسألته: يخاط للنساء هذه الزيقات العراض فقال: إن كان شيء عرض فأكرهه هو محدث، وإن كان شيء وسطاً لم يرَ به بأساً، وكره أن يصير للمرأة مثل جيب الرجال، وقطع أبو عبد الله لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط: صير جيبها من قدام، وقطع أبو عبد الله لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط: صير زيقانها دقاقاً وكره أن يصير عريضاً، وقطعت لأبي عبد الله جبة وصيرت زيقها دقيقاً فقلت لأبي عبد الله: هل أدركت أحداً من المشايخ كان له زيق عريض؟ قال: لا، وكنت يوماً عند أبي عبد الله فمرت جارية عليها قباء فتكلم بشيء فقلت: تكرهه قال: كيف لا أكرهه جداً، لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبهات من النساء بالرجال، وروينا عن عبد الصمد قال: دعا يزيد ابن هارون خياطاً من النساك فقال: اقطع لهذه الجارية قباء فوضع الخياط المقراض من يده وقال: يا أبا خالد، قباء عمن فسكت يزيد المروزي، قال: ذكر لأبي عبد الله رجل من المحدثين فقال: إنما أنكرت عليه أن لبس زيه زي النساك، سألت أبا عبد الله عن الرجل يلبس النعل السبتي فقال: أما أنا فلا أستعملها، ولكن إذا كان للمخرج أو الطين فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا، ورأى نعلاً سندياً على باب المخرج فسألني: لمن هي؟ فأخبرته قال: يتشبه بأولاد لوط يعني صاحبها، سألت أبا عبد الله قلت: أمروني في المنزل أن أشتري نعلاً سندياً للصبية قال: لا تشتر قلت: تكرهه للصبيان والنساك قال: نعم أكرهه، زياد ابن أيوب قال: كنت عند سعيد بن عياض فأتاه صبي ابن ابنته وفي رجله نعل سندي فقال: من ألبسك هذا قال: أمي قال: اذهب إلى أمك تنزعها.

المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تلبس المقطوع الأحمر فكرهه كراهة شديدة وقال: أما أن تريد الزينة فلا يقال أول من لبس الثياب الحمر آل قارون، ثم خرج على قومه في زينته، قال في ثياب حمر، مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: مر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه، المروزي قال: رأى أبو عبد الله بطانة جنبي حمراء فقال: لِمَ صبغتها حمراء قلت: للرقاع التي فيها قال: وايش تبالي أن يكون فيها رقاع قلت: تكرهه قال: نعم، وأمرني أن أشتري له تِكّة فقال: لا يكون فيها حمرة قلت: تكرهه قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: الثوب الأحمر تغطى به الجنازة فكرهه قلت: ترى أن أجذبه قال: نعم، وأمروني في منزل أبي عبد الله أن أشتري لهم ثوباً عليه كتاب فقال: قل لهم: إن أردتم أن أشتريه وأقلع الكتاب قلت: هم إنما يريدون الكتاب قال: لاتشتره، وأخبرتني المرأة قالت: نهاني أبو عبد الله عن النقش في الخطاب وقال: أغمسي اليد كلها، وسمعت أبا عبد الله وذكر المختضبة فقال: قالت عائشة: أسليه وادعميه، سليمان التيمي عن أبي عثمان قال: أرسلت أم الفضل ابنة غيلان إلى أنس تسأله عن القلادة في عنق المرأة وعن الخضاب، فأرسل أنه يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها شيئاً في الصلاة ولو سيراً وقال في الخضاب: آمرها أن تغمس يدها كلها، المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجصص فقال: أما أرض البيوت فثوقيهم من التراب، وكره تجصيص الحيطان، وذكرت لأبي عبد الله مسجداً قد بني وأنفق عليه مالاً كثيراً، فاسترجع وأنكر ما قلت وقال: قد سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكحل المسجد فقال: لا عريش كعريش موسى، قال أبو عبد الله: إنما هو شيء من الكحل يطلي فلم يرخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله لا يبيع حاضر لباد كيف هو؟ فقال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، قال: والبادي الأعرابي وأنت حاضر ويجيء الأعرابي وهو لا يعرف السعر، فتقوم أنت وقد عرفت السعر فتبيع له بما تعرف فهو الذي نهى عنه، قلت لأبي عبد الله: فتشتري له إذا جاء لأنه لو ترك لأشتري منهم الغالي بمنزلته إذا جاء فباع منهم الرخيص فقال: ليس هذا لو كان هذا هكذا ما اشترى الناس ولا باعوا، إنما عليه لا يبيع له ولم يرَ بأساً أن يشتري له، قلت لأبي عبد الله: ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا شرطين في بيع قال: قول الرجل أبيعك أمتي هذه على أنك إذا بعتها فأنا أحق بها، سئل أبو عبد الله عن ربح ما لم يضمن قال: الرجل يبيع الطعام قبل أن يقبضه، قيل لأبي عبد الله في الرجل يشتري الطعام صبرة ترى له أن يبيعه قبل أنْ يكيله؟ فقال: لا، سئل عن بيع المباطح فقال: جنية يوم بيوم، قلت لأبي عبد الله: يكون في سقف البيت الذهب بجانب صاحبه قال: نعم هذا يكره وذهب، إلى أن يجفي، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون له القرابة سكران يجفي قال: أي شيء بقي إذا سكر؟ نعم يجفي أو يجانب، سألته عن المكره يراد على شرب الخمر فقال: يروى عن عمر رضي الله عنه في شرب الخمر، إلاّ أنه لا يفعل حتى ينال بعذاب، قلت: فإن أمر أن يقتل قال: أما القتل فلا يكون عند الله المقتول، قلت لأبي عبد الله: الرجل يبيع داره من نصراني قال: لا، أليس يكفر فيها وذكر المحاريب التي فيها، قال لي أبو عبد الله: أي شيء قال لك عبد الوهاب في خروجي إلى مكة؟ قلت: ما أرى لك أن تخرج أنت ههنا بالقرب ليس تسلم فكيف إن تباعدت؟ قال: أشار علي رجل صالح أن لا أخرج، أخبره أني قد قبلت ما أشرت به عليّ وقد كنا اشترينا بعض حوائجه، سألت أبا عبد الله عن رجل لبي بالحج وليس عنده شيء وعليه دين قال لا يجوز حتى يسأذن أصحاب الدين ثم قال: قد أوجب على نفسه الحج، سألت أبا عبد الله عن رجل له أم ضريرة وله مال يحج عنها فقال: يحج عنها إذا لم تقدر الركوب، وقال يعجبني أنْ لا يحج إلاّ عن قرابة، قلت لأبي عبد الله: إني دخلت أغسل رجلاً من أصحابنا فإذا قد دخل علينا رجل من أهل الخلاف قد سميته له فقال لي: قد وقفت حيث ثبت وغسلته، لو خرجت كنت لا تأمن أن يجيء برجل من أصحابنا فيتولاه، سألت أبا عبد الله عن رجل مات وترك كتباً وله ورثة قال: تدفن، فإن كانوا صبياناً صغاراً قال: يدفنها الوصي عليهم، سمعت أبا عبد الله يقول: حكم المخنثين أن ينفوا، سئل أبو عبد الله عن المرأة إذا كانت موسرة وزوجها غائب: هل تحج؟ قال: تكتب إليه فإن أذن وإلاّ خرجت مع ذي محرم، قيل فإن كان شاهداً يمنعها تخرج من غير علمه مع محرمها؟ قال: نعم، ليس له أن يمنعها قال: ولا تخرج مع غيره، فإن كان أخوها من الرضاعة خرجت، قيل لأبي عبد الله الرجل يستأجر الدار والحانوت فيؤاجره بأكثر مما استأجره قال: فيها اختلاف ولم يجب، قيل له: رجل له شجر في أرضه وأغصانها في أرض غيره قال: يقطع أغصانها، قيل فإن صالحه على أن تكون الغلة بينهم قال: لا أدري، سمعت أبا عبد الله يقول في المحرم إذا اضطر إلى الصيد قال: يأكل الميتة وقال: اذهب في الميتة إلى حديث ابن حكيم، أتانا كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته بشهر: لا تنتفعوا من الميتة بشيء، سألت أبا عبد الله عن محرم ذبح صيداً: يؤكل؟ قال: لا، هذا ليس بزكاة هذا لا يؤكل، قلت: فالرجل يقلع ضرسه ثم يرده إلى موضعه، فمكث ثلاثاً ثم يقلعه أيش تقول فيه؟ فإن الشافعي قال يعيد الصلاة لأنه صلّى في ميتة قال: لا تعجل عليّ، ثم سكت ساعة ثم قال: ما أبعد ما قال، بلى لو أخذ سن شاة مما يؤكل لحمه فوضعه لم يكن به بأس.

وذكر في هذا أحبّ إليّ أن يعيد ما صلّى، سألت أبا عبد الله: يباع الغزل في الفلكة ولعلها ميتة قال: إن علم فلا قلت: لقد يخصف به الخف أو النعل فقال: إذا كان من حمار فأكرهه قلت: فأي شيء ترى؟ قال: ما لا تعلم فلا تريد أن تبحث قلت له: تنور شوي فيه خنزير ترى أن يخبز فيه قال: لا حتى يغسل ويقلع ما فيه قلت: فيكسر قال: لا، سألته عن البرّ يداس بالحمير فيبال فيه ثم يطحن قبل أن يغسل قال: لا يؤكل، قلت لأبي عبد الله: إنّ رجلاً قال: من كان له امرأة يسكن إليها وخبز يأكله فهو من المتنعمين قال أبو عبد الله: صدق، سمعت أبا عبد الله وذكر المطاعم ففضل عمل اليدين قلت له: إنّ عبد الوهاب قال: قل لأبي عبد الله: يخاف عليّ من أمر الحديث إن امتنعت شيء قال: وأي شيء يمنعه من الحديث؟ قال: الكسب والمعاش قال: هذا أوجب عليه يعني الكسب، قال المروزي: سمعت بعض أصحابنا يقول: رأيت أبا عبد الله في الجمعة وسائل يسأل، فأعطى رجل لبس قطعة ليدفعها إلى السائل، فأخذها فدفعها إليه، قلت لأبي عبد الله: إذا كان لي جار أعلم أنه يجوع قال: تواسيه قلت: فإذا كان قوتي رغيفين قال: تطعمه شيئاً، الذي جاء في الحديث إنما هو في الجار، قلت لأبي عبد الله: إذا كان للرجل قميصان أو جبتان، تجب عليه المواساة؟ قال إذا كان يحتاج إليه في هذا البرد، إلاّ أنْ يكون يفضل، قلت: الأغنياء تجب عليهم المواساة؟ فقال إذا كان قوم يضعون شيئاً على شيء كيف لا يجب عليهم، قال المروزي: سمعت يحيى الجلاء وأبا طالب صاحبنا قالا: سمعنا يزيد بن هارون، وسئل عن أنفاق المكحلة قال: حرام لا نصلح، قيل له: فإن تراضيا أبا خالد قال: الزانيان يتراضيان أفحلال هو؟ قال: قال وسمعت عبد الوهاب يقول: قال أبو أسامة: تقطع الأيدي في المكحلة يعني الذي يعملها، قلت لأبي عبد الله: أقرضت رجلاً عشرة دراهم فردها على مكحلة فقبضت درهماً قال: لم تستوف حقك؟ قلت له: الرجل يدفع إليّ الدنانير فتكون مكحلة أحكها قال: حكها صلاح لصاحبها.

قال المروزي: سمعت يحيى الجلاء يذكر عن شعيب بن حرب قال: لأن أرى ابني يحك درهماً أحبّ إلي من أن أحمل على فرس في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: ودفع إلى أبو عبد اللّّه ديناراً فقال: صرفه بدراهم صحاح، فجئت بالدراهم فأعطيته فلما كان بعد ذاك اليوم خرج في تلك الدراهم درهم رديء قلت: فهات حتى أبدله فقال: قد اختلفوا فيه، وفيه أربعة أقاويل ثم قال: قال مالك: الصرف منتفض وأما الثوري فيقول: مانقص من الدراهم فتكون له حصته من الدنانير، وهذا قول ما أدري ماهو، قلت: إلى ما تذهب قال: أرجو أن لا يكون به بأس وأما ابن عمر فيقول: ليس له أن يرد، قال أبو عبد الله: وليس هو بذاك، رواه رجل مجهول، وأما قتادة فيقول: له أن يرده ثم قال: قول قتادة أوسع على الناس استخر الله عزّ وجلّ ورده، فدفعه إلي فأبدلته، عن المغيرة عن إبراهيم أنه كره أن يشتري الدراهم بدينار على أن كان فيها زيف رده، وعن وكيع عن سفيان عن رجل عن الحسن في الرجل يصرف الدينار فيعطي الدرهم الزيف قال: لا بأس أن يستبدله، قال سفيان: إذا كان ستوقاً رده ويكون شريكه في الدينار بحصته، وسئل محمد ابن جعفر عن رجل ابتاع دراهم بدنانير وشرط على صاحبها أنه ما ردّ فعليك بدله قال: أخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال: إن كان فيها زيف رده ولكن لا يشترطان، سئل أبوعبد الله عن الرجل يستأجر يكتب الورق المائة بعشرة دراهم فيدفع إليه ديناراً فقال ابن عمر: قد اكترى شيئاً فأعطاه دنانير وصارف ولم يرَ به بأساً، قال: ولا يعطي الدنانير من الدراهم إلاّ بسعر يومها ولا زيادة دانق، سألت أبا عبد الله عن حلق القفا فقال: هو من فعال المجوس قال: ودعي حذيفة إلى شيء فرأى شيئاً من زي الأعاجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم، وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه إلاّ في وقت الحجامة، قلت لأبي عبد الله: فما ترى في تحذيف الوجه قال: أما الوجه فالمقاريض تأتي عليه، وكره أن يؤخذ الشعر بالمنقاش من الوجه وقال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتنمصات، سألت أبا عبد الله عن المرأة تصل شعرها بقرامل فكره، وسمعت امرأة تقول: جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد الله فقالت: إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها فترى أن أحج مما كسبت قال: لا، وكره كسبه لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يكون من مال أطيب منه، قلت لأبي عبد الله: فالمرأة الكبيرة تصل رأسها بقرامل فلم يرخص لها وقال: إن كان صوفاً أبيض، وتبسم ودخلت على أبي عبد الله فرأيت امرأة تمشط صبية له فقلت للماشطة بعد أن وصلت رأسها بقرمل فقالت: لِمَ تتركي الصبية قالت: إن أبي نهاني وقالت يغضب.

وروينا عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير عن جابر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً، قال أبو بكر: سألت أبا عبد الله عن حلق الرأس فكرهه قلت: تكرهه قال: أشد الكراهية، ثم قال: كان معمر يكره الحلق واحتج أبو عبد الله بحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال لرجل لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، قال أبو بكر: رأيت رجلاً من أصحابنا صلّى إلى جانب أبي عبد الله، وقد كان استأصل شعره وظن أبو عبد الله أنه محلوق وكان رآه بالليل فقال لي: تعرفه قلت: نعم قال: أردت أن أغلظ له في حلق رأسه، سألت أبا عبد الله عن الحقنة فقال: إذا اضطر إليها فلا بأس، ورأيت أبا عبد الله ألقى لختان درهمين في الطست وسمعته يقول: الجوز إذا لعب به الصبيان ما يعجبني أن يؤكل، سألته عن مسوك السباع: تفترش؟ فقال: لا تفترش، نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ تفترش، ذكرت لأبي عبد الله أنّ رجلاً خلف متاعه عند غلامه فباع ثوباً ممن يكره ناحيته، فأخذ الدراهم فألقاها في كيسه فجاء الرجل فأخبره، فأخذ الكيس وانطلق به إلى يوسف بن أسباط فأخبره، فذكر له يوسف عن الثوري وابن المبارك: ما أجد قلبي يسكن إلاّ أنْ أتصدق بالكيس، فقال أبو عبد الله بارك الله فيه: سئل أبو عبد الله عن الرجل يكون محتاجاً فيجيئه الرجل من إخوانه بشيء يخاف عليه إن لم يقبله فقال: إن أتاه من غير مسألة ولا استشراف نفس، أخاف أن يضيق عليه إن لم يقبل، قال: وجئته بحمال دقيق فقال: أعطيته الكراء قلت: نعم، فأخرج رغيفاً فقال لي: أعطه، فدفعته إليه فقال: ويحك ما أعلم أني قبلت من أحد شيئاً ولكن لا أرد على أبي عبد الله، أتبرك به، وجئته به مرة أخرى فأخرج إليه رغيفاً فقال: إنّ نفسي استشرفت إليه، فتبسم أبو عبد الله وقال: لك أن ترد ونحن نحب أن تقبل فقبله، سألت أبا عبد الله عن بيع المراوح الرقاق، وربما باعوا المروحة بالدرهم أو أكثر فقال: هي بمنزلة الثياب الرقاق قلت: فأي شيء تقول فقال: إذا باعها من تاجر فلا بأس، قال: سألت أبا عبد الله عن مصحف قد بلي: ماترى في دفنه؟ قال يدفن، قلت: الرجل تدعوه أمه وهو في الصلاة.

قال: قد روي عن ابن المنكدر أنه قال: إذا كان في التطوّع فليجبها، قلت لأبي عبد الله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث وفوائد، فأخذتها أن أنسخها وأسمعها قال: لا إلاّ أن يأذن صاحبها، سألت أبا عبد الله عن شيء من أمر الورع، فأطرق رأسه إلى الأرض وسكت وكان ربما تغير وجهه، يقول في بعض ما أسأله: استغفر الله قلت: فأي شيء تقول يا أبا عبد الله؟ قال: أحبّ أن تعفيني قلت: فإذا أعفيتك فمن أسأل، لقد أصبح الأدلاء متحيرين قال: هذا أمر شديد، وسمعته يقول: أنا منذ أكثر من سبعين سنة في فقد وقال: ما قل من الدنيا كان أقل للحساب، قلت له: إنّ رجلاً قال: إنّ أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث ليس هما عندي زهاد، أحمد له خبز يأكله وبشر له دراهم تجيئه من خراسان، فتبسم أبو عبد الله ثم قال: من الزهاد أنا، وسمعته يقول: وقع للتيمي فضرب فيه فسطاطاً أو خباء عشرين سنة، وسمعته يقول: وذكر قوماً من المترفين فقال: الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة، قلت لأبي عبد الله: إنّ مولى ابن المبارك حدثني أنّ سعيد بن عبد الغفار قال لابن المبارك: ما تقول إذا نزل دار من تكره ناحيته بأجر قال: لا بأس بها، قلت لأبي عبد الله: فإذا أجاز الذي تكره ناحيته رجلاً فاشترى دار غلة ترى إن أنزلها بأجر قال: لا، قال أبو وهب: قال أبو عبد الله يعني المبارك في رجل يشتري جارية من رجل فإذا هي صافنة قال: يردها على الذي كانت له ولا يردها على الذي اشتراها منه وهي صافنة، وذكره عن سفيان عباس العنبري عن رجل قال: كنت مع عبد الرحمن بن مهدي بعبادان، وكنا نغسل أيدينا من ماء السيل وكان هو لا يفعل، يأمر غلامه فيجيء من ماء البحر عبد الصمد ابن مقاتل، قال: كانوا يكتبون الكتاب ولا يتربونه من دور السيل، يرسلون فيأخذون من طين البحر، قال: وكتب إلينا ابن حشرم وكتب في كتابه أنّ بشراً كان لا يشرب بعبادان من الحياض التي اتخذها الملوك، وكان يشرب من ماء البحر.

وروينا عن سعيد بن خيثم عن محمد بن خالد قال: مرّ إبراهيم النخعي على امرأة يقال لها أم بكر من مراد وهي تغزل فقال: يا أمّ بكر، أما آن لك أن تتركينه فقالت: يا أبا عمران كيف أتركه وقد سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنه من أطيب الكسب، قلت لأبي عبد الله: إنّ حسناً مولى ابن المبارك حكى عن سعيد بن عبد الغفار أنه قال لابن المبارك: ما تقول في رجلين دخلا على من تكره ناحيته فأجازهما، فقبل واحد ولم يقبل الآخر فخرج الذي قبل، فاشترى منه الذي لم يقبل، ما تقول؟ فسكت ابن المبارك فقال له ابن سعيد: ما يسكتك، لِمَ لا تجيبني فقال: لو علمت أنّ الجواب خير لي لأجبتك، قال سعيد: أليس أصلنا على الكراهة: قال ابن المبارك: نعم فقال أبو عبد الله: ومن يقوى على هذا؟ قال له: فما تقول في رجل أجازه فاشترى داراً؟ ترى أن أنزلها فسكت ابن المبارك فقال: لِمَ لا تجيبني فقال: هذا أضيق أكره أن أجيبك فقلت له: إنّ الثوري قال: ما في أيدي الحشم سحت فأنكر أبو عبد الله أنّ عبد الوهاب قال في الرجل: يجاز ثم يدفعها إلى الآخر إنّ المال عنده شيء واحد فقال: هذا شديد قلت: إذا أعطي تكرهه للأوّل، والثاني لا ترى به بأساً قال: إنما اكرهه للأوّل من طريق المحاباة، والثاني ليس هو مثل عطية الأوّل، قال: من أعطى هذا المال أو حوبي على أثره فليقبل وليفرق كما فعل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بعث عمر رضي الله عنه بمال إلى أبي عبيدة ففرق، وبعث مروان إلى أبي هريرة ففرق، وبعث إلى ابن عمر ففرق، وبعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ففرقت، قلت: فعلى أي وجه قبلها منهم ابن عمر؟ فإنّ قوماً يحتجون يقولون: لو لم يكن مباحاً لأخذ، فأنكر ذلك وقال: إنه لما رأى أنّ حوبي كره أن يرد إليهم وفرقه بالسوية قلت: فإنّ معاذاً يروى عنه أنه فضل عنده دينار، فطلبت منه امرأته فأعطاها فقال: كانت محتاجة إليه فقلت له: أنت تقول من بلى من هذا المال بشيء فليعدل في تفريقه، وعائشة رضي الله عنها لما شكا ابن المنكدر إليها قالت: لو أنّ عندي عشرة آلاف لأعنتك، فلما خرج أرسل إليها بعشرة آلاف فبعثت خلفه فأعطته فقالت: إنها كانت بليت بقولها، ومع هذا قد أخرجته وذكر من زهدها وورعها وقال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونها، مثل أبي موسى الأشعري وغيره ولم يكن في أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها وإنما كانت ابنة ثمانية عشرة سنة.

أبو يحيى الناقد قال: حدثنا أبو طالب قال: قلت: حدثوني عن عبد الله بن يحيى ابن أبي كثير عن أبيه عن رجل من الأنصار، أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن إذن القلب فقال: نعم هكذا قلت، ما هذا الحديث؟ قال: نهى عن أكل إذن القلب قال: لايؤكل، وعن عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي الغدة فقال: لا تؤكل، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرهها في حديث الأوزاعي عن واصل عن مجاهد، وروينا عن عبد الله بن يزيد عن أم سلمة سألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إذن القلب فقالت: ألقيته فقال: طاب قدرك، وهذا آخر كتاب المعاش وما اتصل به من الآثار في الورع والله تعالى أعلم.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!