The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الثامن والأربعون كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان:

 

 


الفصل الثامن والأربعون كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان:

روينا عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلاّ أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره يعني والله أعلم أنه يدخل عليه، وإن لم يعمل به من غير قصد له ولا اكتساب، كما يدخل الغبار في المشام للمجتاز لفشو الربا وانتشار مداخله مما لا يمكن التحرز منه، وفي الخبر: درهم من ربا أعظم عند الله عزّ وجلّ من ثلاثين زنية في الإسلام، وما تواعد الله عزّ وجلّ ولا تهدّد في معصية مثل ما تواعد في أكل الربا، فإنه عزّ وجلّ عظم شأنه بوصفين عظيمين إعظاماً له وترهيباً منه، فذكر في أوله المحاربة لله عزّ وجلّ ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي آخره الخلود في النار ينتظم ذلك في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) البقرة: 278 ثم اشترط للإيمان ترك الربا بقوله: إن، وهي للشرط والجزاء ثم قال: (فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) البقرة: 279 ثم أوجب التوبة منه بعد إعلامه الظلم منه فقال: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، ثم نص على تحريمه في قوله: (وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) البقرة: 275 ثم تواعد بالخلود بعد ذلك كله فقال: (ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ) البقرة: 275، وهذا من شديد الخطاب وعظيم العذاب.

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب الحلال فريضة بعد الفريضة، فسوّى بينه وبين العلم في الفرض فأوجب الطلب لهما، مثل فرض الحلال للأكل مثل طلب العلم للجاهل، والفرائض إذا شرعت ثبتت إلى يوم القيامة، فإذا أمر بطلبها دلّ على وجودها لأنه لا يؤمر بطلب مفترض علينا يكون معدوماً، فالحلال موجود من حيث افترض علينا وأمرنا بطلبه، ولكن طريقه ضيق ووجوهه غامضة والتسبب إليه فيه مشقة، والحاصل منه فيه خشونة وقلة، ومع ذلك فإنّ المعاون عليه قليل والطالب غريب وهذه أسباب تكرهها النفوس، وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم، ثم إنّ الفرائض لها علوم وأحكام؛ فمن لم يعرف علومها ولم يقم بأحكامها فكأنه لم يعلمها، وكان عمر رضي الله عنه يضرب أهل السوق بالدرة ويقول: لا يتّجر في سوقنا إلاّ من تفقّه وإلاّ أكل الربا: وكان بعض العلماء يقول: تفقّه ثم ادخل السوق فبعْ واشترِ، وتأول معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم قال: هو طلب علم الحلال والحرام والبيع والشراء، إذا أراد الإنسان أن يدخل فيه افترض عليه علمه، ففي الخبر: من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء، ويقال: إنّ أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه في مقام ذل في طلب الحلال، تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وكان بعض العلماء يقول لبعض المجاهدين: أين أنت من عمل الأبطال: كسب الحلال والنفقة على العيال؟ وقد كان شعيب بن حرب، وغيره يقول: لا تحقر دانقاً من حلال تكسبه تنفقه على نفسك وعيالك أو أخ من إخوانك، فلعله لا يصل إلى جوفك أو لا يصل إلى غيرك حتى يغفر لك، وفي الخبر: من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه، وفي بعض الروايات زهده الله في الدنيا ويقال: من أكل حلالاً وعمل في سنة فهو من أبدال هذه الأمة.

وقد كان سهل يقول: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يأكل الحلال بالورع.

وروينا عن إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض رضي الله عنهما: لم ينبل من نبل بالحج ولا بالجهاد ولا بالصوم ولا بالصلاة، وإنما ينبل عندنا من كان يعقل ما يدخل جوفه يعني الرغيف من حله، وقال يوسف بن أسباط لشعيب بن حرب: أشعرت أنّ الصلاة جماعة سنّة وأن كسب الحلال فريضة؟ قال: نعم، وسأل رجل إبراهيم بن أدهم قال: أنا رجل أتكسب في السوق، فإذا عملت فاتتني الصلاة في جماعة فأيما أحبّ إليك أصلّي في جماعة أو أكتسب فقال: اكتسب من حلال وأنت في جماعة، وقد كان إبراهيم بن أدهم يعمل هو وإخوانه في الحصاد في شهر رمضان، فكان يقول لهم: انصحوا في عملكم بالنهار حتى تأكلوا حلالاً ولا تصلّوا بالليل، وإنّ لكم ثواب الصلاة في جماعة وأجر المصلّين بالليل، وقال بعض السلف: أفضل الأشياء ثلاث؛ عمل في سنة ودرهم حلال وصلاة في جماعة.

وكان سهل رحمه الله يقول: لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يؤدي هذه الأربع؛ أداء الفرائض بالسنّة وأكل الحلال بالورع واجتناب النهي في الظاهر والباطن والصبر على ذلك إلى الممات، وقال: مَنْ لم يكن مطعمه من حلال لم يكشف الحجاب عن قلبه ولم ترفع العقوبة عن قلبه ولم يبالِ بصلاته وصيامه إلاّ أنْ يعفو الله عزّ وجلّ عنه، وقال: من اختار أن يرى خوف الله في قلبه ويكاشف بآيات الصدّيقين، لا يأكل إلاّ حلالاً ولا يعمل إلاّ في سنة أو ضرورة، وكان يقول: إنما حرموا مشاهدة الملكوت، وحجبوا عن الوصول بشيئين سوء الطعمة وأذى الخلق، وكان يقول: بعد سنة ثلاثمائة لا تصح لأحد توبة، قيل: ولِمَ قال: يفسد الخبز وهم لا يصبرون عنه، وقد روى مرة الطيّب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جسم غذي بحرام لا يدخل الجنة، النار أولى به، وفي الخبر: أنه أكل من كسب غلامه ثم سأله عنه فقال: رقيت لقوم فأعطوني، وفي لفظ آخر: تكهنت لهم فأدخل يده في فيه وجعل يقيء حتى استقاءَه عن آخر لقمة ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الإمعاء.

وقد روي أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك فقال: أو ما علمتم أنّ الصديق لا يدخل جوفه إلاّ طيّباً؟ وفي الخبر: أنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يجعله الله مستجاب الدعوة فقال: يا سعد، أطب طعمتك تستجب دعوتك، وقال العلماء: الدعاء محجوب عن السماء بفساد الطعمة، ويقال: إنه الله لا يستجيب دعاء عبد حتى يصلح طعمته ويرضى عمله، وقال جماعة من السلف: الجهاد عشرة أجزاء؛ تسعة في طلب الحلال، وقال عليّ بن فضيل لأبيه: يا أبَتِ، إنّ الحلال عزيز فقال: يا بني إنه وإن عزّ فقليله عند الله كثير، يقال: إنّ مَنْ صلّى وفي جوفه طعام حرام، أو على ظهره سلك من حرام لم تقبل صلاته، وقال بعض السلف: يا مسكين إذا صمت فانظر عند من تفطر وطعام من تأكل، فإنّ العبد ليأكل الأكلة فيتقلب قلبه وينغل كما نغل الأديم، فلا يعود إلى حاله أبداً وهذا أحد التأويلين في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، قال: هو الذي يصوم ويفطر على الحرام، وفي الخبر: من طلب الدنيا حلالاً مفاخراً مكاثراً ألقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان، وحدثونا من آثار السلف أنّ الواعظ والمذكر كان إذا جلس للناس ونصب نفسه سأل أهل العلم عن مجالسته فكانوا يقولون: تفقدوا منه ثلاثاً، انظروا إلى صحة اعتقاده وإلى غريزة عقله وإلى طعمته، فإن كان معتقد البدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيّء الطعمة فاعلموا أنه ينطق عن الهوى، وإن كان غير ممكن العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه، وهذا التفقد والبحث عن طريق قد مات فمن عمل به فقد أحياه.

وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحريص على الدنيا فذمه ثم قال: رب، أشعث أغبر مشرد في الآفاق، مطعمه حرام وملبسه حرام غذي بالحرام، يرفع يده في صلاته فيقول: يا ربّ يا ربّ، فأنّى يستجاب له ذلك، وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ لله عزّ وجلّ ملكاً على بيت المقدس ينادي في كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل، قيل الصرف النافلة والعدل الفريضة، وفي حديث أبي هريرة: المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق إليها بالصحة، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق إليها بالسقم، ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان؛ فإذا ثبت الأساس وقوي استقام البناء وارتفع، وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع، وقد قال الله: (أَحسَنَ الخَالِقينَ) الصافات: 125، أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيراً من أسس بنيانه على شفا حرف جرف هار فانهار به في نار جهنم.

وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اكتسب مالاً من حرام وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار، وقيل في معنى قول الله عزّ وجلّ: (وَلاَ تأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء: 29، قيل: من أكل حراماً فقد قتل نفسه لأنه كان سبب هلاكها وتعذيبها، وفي الأخبار المشهوة عن عليّ وغيره: أنّ الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب، وقال يوسف بن أسباط وسفيان الثوري رحمهما الله: لا طاعة للوالدين في الشبهة، وقال الفضيل بن عياض: من قام في موقف ذل في طلب الحلال حشره الله مع الصدّيقين ورفعه إلى الشهداء في موقف القيامة، وقال أبو سليمان أو غيره من العلماء: لا يفلح من استحيا من طلب الحلال، وفي بعض التفسير فإن له معيشة ضنكاً، قيل أكل الحرام كما قيل في قول: (فلنحيينه حياة طيبة) قال: نرزقه حلالاً وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة: 172، قيل: من الحلال كما قال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صَالِحاً) المؤمنون: 51، أي من الحلال، فأمر بأكل الحلال قبل العمل الصالح، وهكذا قال بعض العلماء: زكاة الأعمال بأكل الحلال، فكلما كانت الطعمة أحل كان العمل أزكى وأنفع، وكان بشر بن الحارث إذا ذكر أحمد بن حنبل يقول: قد فضل عليّ بثلاث؛ صبره على العيال وأنا أضيق عن ذلك وهو يطلب الحلال لنفسه ولغيره وكان يقول: ما أترك الطيبات زهداً فيها وإنما أتركها لأنه لا يصفو لي درهمها، ولو صح لي الدرهم الذي اشتريها به لأكلتها، وقد قال علماء الظاهر: إن الحلال من عشرة أوجه ومنهم من قال: يوجد من سبعة أشياء وأصل ذلك كله يرجع إلى ثلاثة أشياء: تجارة بصدق وصناعة بنصح وعطية بحكم، ثم تنقسم العطية أربعة أقسام؛ فيكون فيئاً أو ميراثاً أو هبة عن طيب نفس، أو صدقة مع وجود فقر، ومدار ذلك كله وقطبه أنّ الحلال مشتق من اسمه بمعنيين؛ ما انحلّ الظلم عنه أو حل العلم فيه، فما انحل الظلم عنه انحلت المطالبة عنه، وما حل في العلم حلت الإباحة والأمر به، والحلال عند العلماء ما لم يعصَ الله عزّ وجلّ في أخذه، قال بعض علماء الباطن: الحلال ما لم يعصَ الله عزّ وجلّ في أوله ولم ينسَ في آخره.

وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان سهل إذا سئل عن الحلال يقول: هو العلم، وقال: لو فتح العبد فمه إلى السماء وشرب القطر ثم تقوى بذلك على معصية أو لم يَطعْ الله عزّ وجلّ بتلك القوة لم يكن ذلك حلالاً، وقال طائفة من أهل العلم: إنّ المتصنع للناس والمتزين لهم يأكل حراماً، لأنه لم ينصح مولاه في عمله، وقال بعض الموحدين: لا يكون حلالاً حتى لا يشهد فيه سوى الله تعالى، وإنّ من أشرك في رزق الله العباد فذلك شبهة وإنْ حل من طريق الأحكام، واحتجوا بقول عيسى عليه السلام: يأكلون رزقه ويشركون فيه خلقه، ومن الأبدال من يقول الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الخلق ولم ينتقل إلى أملاكهم، وكان بعضهم لا يأكل إلاّ مما أنبتت الأرض التي هي غير مملوكة، وقوله عدل أنّ الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الظالمين، وما أخذ من أيدي المتّقين، وحدثت عن بعض الأبدال في قصة طويلة ذكرها، أنّ بعض العامة من السياحين دفع إليه شيئاً من الطعام فلم يأكله، فسأله عن امتناعه فقال: نحن لا نأكل إلاّ حلالاً، فلذلك تستقيم قلوبنا على الزهد في الدنيا وتدوم على حالة واحدة، ونكاشف بالملكوت ونشاهد الآخرة ثم قال: لو أكلت مما تأكلون ثلاثة أيام لما رجعنا إلى شيء مما نحن عليه من علم اليقين، ولذهب الخوف والمشاهدة من قلوبنا في كلام طويل، قال له الرجل في آخره: فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين ختمة فقال له البدل: هذه الشربة من اللبن التي رأيتني فد شربتها أحبّ إلي من ثلاثين ختمة في ثلاثمائة ركعة من أعمالك، وكانت شربة من لبن من أروى وحشية وهو الأنثى من الوعل، وقال بعض السائحين: قلت لبعض الأبدال وقد حدثه عن أكل الحلال بمثل هذا الحديث: أنتم تقدرون على الحلال ولا تطعمون إخوانكم من المسلمين فقال: لا يصلح لجملة الخلق ولم نؤمر بذلك، لأنهم لو أكلوا كلهم حلالاً لبطلت المملكة وتعطلت الأسواق وخربت الأمصار، ولكنه قليل في قليل من الخلق وخصوص في مخصوصين أو معنى هذا الكلام، وقال بعض العلماء: لا أعلم حلالاً لا شك فيه إلاّ ماء الغدران، وماأنبتت أرض غير مملوكة أوهدية من أخ صالح أو معاملة تقي بصدق ونصح، وكان يحيى ابن معين قد صحب أحمد بن حنبل رضي الله عنه في السفر سنين، ولم يكن أحمد يأكل معه لأجل كلمة بلغته عنه وهو أنه قال: أنا لا أسأل أحداً شيئاً، ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته، فهجره أحمد رضي الله عنه حتى اعتذر إليه يحيى وقال: إنما كنت أمزح قال: تمزح بالدين، أما علمت أنّ الأكل بالدين قدمه الله على العمل فقال: كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً، وقد كان كثير من الورعين يقول: منذ أربعين سنة ما دخل جوفي إلاّ ماء أعلم من أين هو، وبعضهم يقول: منذ ستين سنة ما أكلت إلاّ من حيث أعلم، وكان وهب بن الورد لا يأكل إلاّ من حيث يعلم أو يشهد عنده شاهدان بصحته، وقد كان بشر يقول: من فقر جاع، ومن تغافل شبع، وعند العلماء: إنّ من طلب الدنيا حلالاً فهو أزهد فيها ممن أكل الشبهات من غير طلب، وفي الخبر: من لم يبال من أين مطعمه لم يبالِ الله تعالى من أي أبواب النار أدخله، وقيل: ذلك في التوراة مكتوب.

ذكر تفصيل الحلال من الشبهة والأصل في ذلك حديث النعمان بن بشير الحلال بيِّن والحرام بيِّن والشبهات بين ذلك لا يعلمها كثير من الناس، من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وإنّ لكل مالك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه، يقال: إنّ هذا الحديث ثلث العلم، فالحلال ما ظهر وتبين وكنت على يقين منه واطمأن به قلب المؤمن العالم، والحرام أيضاً ما تبين وانكشف على يقين منه ولم يختلف أحد من المسلمين فيه، ونفر قلب المؤمن واشمأز منه وقد تطمئن بعض القلوب إلى شيء لقلة ورعها، وقد تنفر بعض القلوب من شيء لقصور علمها وليس يقع بمثل هذين القلبين اعتبار، وإنما الاعتبار بقلب المعيار الذي قد جعل كالمحك يختبر به معادن الملكوت وهو قلب المؤمن الموقن العالم، وهذا القلب في القلوب أعزّ من الذهب إلابريز في سائر المعادن.

وقد روينا عن بعض السلف عن تفسير قوله تعالى: (وَكَذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّاِلمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس جعل عليهم ولاة يشبهون أعمالهم، وقال بعض العلماء في معناه: إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم والشبهات على وجوه، أحدها ما أشبه الحلال من وجه وما اختلط أيضاً بها فاختلط ولم يتميز منهما، والشبهة أيضاً ما دل باطن العلم على تحليله فهو حلال الحكم وأظهر باطن الورع الوقوف عنه، والشبهة ما أباحه علم الظاهر وكرهه علماء الباطن لحبك القلوب وحوازها ولعدم الطمأنينة ومواجيد القلوب، كنحو ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على ما أسمع منه وهو يعلم خلافه، فمن قضيت له على أخيه فإن أقطع له قطعة من النار، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يحكم بظاهر الأمر وردهم إلى حقيقة علم العبد بما شهد وعرف من عيب نفسه المستتر عن الأبصار، والشبهة أيضاً ما اختلف فيه لخفاء أدلته ولتكافؤها بالسوية وما لم تره عينك فتقع على غيبه، والحلال والحرام ما أجمعواعليه وظهرت الأدلة عليه، والشبهة أيضاً ما حل سببه وصودف فيه حكمه إلاّ أنّ عينه مجهولة غير متيقن تحليلها، والشبهة أيضاً ما فقد منه بعض القيام بالأحكام أو ما اعتل سببه الذي يوصل العبد ويتطرق إليه من فضول جهل أو حدوث آفة من آفات النفوس، فهذه الأنواع كلها من الشبهات، ثم تختلف نفس الشبهات فيكون ذلك شبهة الحلال وتكون شبهة الحرام، شبهة كدرة، وتكون شبهة متقاربة لأنّ الحلال عند علماء الباطن على ثلاث مقامات، حلال كاف وهذا عموم وكأنه ما حل من طريق الحكم، وحلال صاف وهذا خصوص وكأنه ما ظهرت الأدلة فيه وحل سببه ووجدت السنّة فيه، وحلال شاف وهذا خصوص الخصوص، وكان ذلك ما علم أصله وأصل وجرى على أيدي المتقيّن ولم يخالطه جهل، فلذلك تفاوتت الشبهات لتفاوت حلال ضدها، فأما الحرام فطعمة الفاسقين، أكله فسوق وطلبه فسوق وإطعامه فسوق، والمعاونة عليه فسوق والمدمن عليه فاسق، وهو من الكبائر وليس من حاجة المسلمين ولا يغنيهم، والحلال هو ما أجلّه الكتاب والسنّة وحللته الأحكام والعلوم من سائر الأسباب والمعاني المطلقة والمباحة التصرف في العلم، وهو بغية المؤمنين وطعمة المتّقين ومقام الصالحين، فطلبه جهاد وإطعامه برّ والمعاونة عليه تقوى وأكله عبادة، والمدمن عليه مؤمن تقي، والشبهة ما اختلف العلماء فيه ولم يجمعوا عليه، أو ما التبس باطنه فاشتبه لغموض الأدلة أو خفاء الاستدلال فلم يكن بيّناً فلم يجمع أهل الظاهر.

والورع عليه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يعلمه كثير من الناس فهذه طعمة عموم المسلمين فإن ابتليت بهذا فخذ منها حاجتك وضرورتك من كل شيء، تكن بذلك فاضلاً ويصح لك مقام في الورع، والاستكثار منه والاقتناء مكروه، وتركه إذا أمكن أفضل لأن في الخبر: من تركه فقد استبرأ لدينه أي تنزه وتنظف وتفقد دينه واحتاط له، وقيل: إنّ الأيمان نزه نظيف فتنظفوا وتنزهوا، ومعنى التنزه التباعد من الدناءة والأوساخ، ومن ذلك قيل: خرجنا نتنزه، وخرج فلان في نزهة إذا تباعد عن المصر وفارق جملة الناس، ثم قال: وعرضه أي استبرأ لعرضه أن يتكلم الناس فيه بسوء وينسبوه إلى فحش، وقد جعلنا الشبهة طريقاً إلى الحرام وموقعة فيه لأن في الخبر: من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه أي يطلب الشبهة ويدمن عليها ويستكثر منها يسرع الوقوع في الحرام، أي تسرع إليه وتدخله فيه، وقال بعض العلماء: ما أخذ من يد تقي عدل بحكم جائز فهو حلال، وما أخذ من يد من لا يعرف بعدالة ولا جرح فهو شبهة، وما أخذ من يد ظالم أو فاجر فهو حرام وإن أخذ بحكم جائز وهذا القول يقرب من الحق، ومثله من المقال مثل ما قال بعض أهل العلم: إنّ من لم يعرف أنّ ماله خالطه خيانة ولا معاملة ظالم فذلك حلال، ومن خالط الظلمة واكتسب المال من خيانات فما في يده حرام وإن اختلط ماله فلم يتميز، وكان يعامل بعض الظلمة ويعامل أهل التقوى والإيمان فما في يده شبهة.

وقد جاء في الخبر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير طمأنينة وإنّ الشرّ ريبة، معناه دع ما تشك فيه إنه حلال إلى شيء آخر لا شك فيه، فإن الشرّ ريبة وليس بيقين، وفي لفظ آخر: الإثم حيك الصدور.

وقد جاء في الحديث: الإثم حواز القلوب أي ما حزّ في القلب وأثر فيه بنكث فهو إثم، لأن الله تعالى علق الإثم بالقلب وجعله من أوصافه في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) البقرة: 283، وفي الخبر: البرّ ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس فدعه لأنه قال: المؤمنون شهداء الله وقال: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عنداللهّ قبيح كما قال سبحانه: (فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرُسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) التوبة: 105 لأن كراهتك نظر الله إليك دليل على وجود الريبة فيك، وفصل الخطاب من ذلك أنه ليس على العبد أكثر من جهده وطاقته، وأن يعمل في دينه بمبلغ علمه وما يؤدي إليه اجتهاده ووسعه، وأنْ لا يخبأ لنفسه خبيئة ولا يرخص لنفسه بهواه رخصة، فإن قصر علمه استعان بعلم غيره، فما أخطأ حقيقته وراء ذلك فهو معفو الخطأ، وبعض الورعين يقول: الحلال ما لم يتناوله أيدي الظالمين، وقال بعضهم: ما لم تجرِ عليه يد ظالم، وقال بعض العلماء: لا يكون حلالاً حتى لا يتخالج في القلب منه شيء وحتى يسكن القلب إليه ويطمئن به، وقال آخر: الحلال ما عرض على أهل الظاهر والباطن، فإذا لم ينكروا منه شيئاً فذلك الحلال، وقد كان اجتمع جماعة من العلماء يتذاكرون أي الأعمال أشد فقال بعضهم: الجهاد وقال بعضهم: الصيام والصلاة وقال آخر: مخالفة الهوى وقال بعضهم: الورع، فأجمعوا على الورع ورجعوا إلى هذا القول، وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء عندي أسهل من الورع قيل: وكيف؟ قال: إذا حاك في صدري شيء تركته وهذا سهل على من ساعده القدر بالزهد وقواه على ذي النفس الشهوانية، كما أنّ الزهد سهل على من أمده الله بروح التأييد باليقين، وعزيز على من ابتلي بحبّ الدنيا، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال والذي نقيم به وجوهنا عن الله عزّوجلّ هو الورع، فقال له أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدقت، ولعمري أنّ اليقين إذا وجد والزهد إذا حصل سهل والورع والإخلاص وهما عمدة الأعمال.

وحكي عن يوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وغيرهم من عباد أهل الشام أنّ قائلهم يقول: منذ ثلاثين سنة ماحاك في صدري شيء إلاّ تركته، وبعضهم يقول: منذ أربعين سنة ما وقف قلبي عن شيء وتخالج فيه إلاّ تركته، وقال بعضهم: منذ ثلاثين سنة ما أبالي على أي حال رآني الناس إلاّ أن يكون حاجة الإنسان، وحكي أنّ بعض الورعين وقع منه دينار فانكبّ ليأخذه، فوجد دينارين فلم يعرف ديناره منها فتركهما معاً، وحكي أنّ امرأة من المتعبدّات من أهل القلوب سألت إبراهيم الخواص عن تغير وجدته في قلبها فقال: عليك بالتفقد فقالت: قد تفقدت فما وجدت شيئاً أعرفه، فأطرق ساعة ثم قال: ألاّ تذكرين ليلة المشعل فقالت: بلى فقال: هذا التغير من ذلك، فذكرت أنها كانت تغزل فوق سطح لها فانقطع خيطها، فمر مشعل السلطان فغزلت في ضوئه خيطاً وأدخلت في غزلها، ونسجت منه قميصاً فلبسته قال: فنزعت القميص وباعته وتصدقت بثمنه، فرجع قلبها إلى الصفا، قد حكي عن ذي النون المصري رحمه الله فوق ذلك أنه لما سجن لم يأكل طعاماً ولم يشرب أياماً، فوجهت إليه امرأة يعرفها من العابدات بطعام إلى السجن وقالت: هذا من حلال، فلم يأكله فقالت له بعد ذلك، فقال: ذلك الطعام من حلال إلاّ أنه جاءني في طريق حرام فلم آكله فقالت: وكيف ذلك قال: جاءني في يد السجان وهو ظالم فلذلك لم آكله وهذه خصال الورعين، والورع هو باب الزهد ومفتاح الخوف وحقيقة الصدق، فعموم الورع أول عموم الزهد وخصوصه أول خصوص الزهد.

فينبغي للعبد أن يبتدئ بطلب الحلال فيكون هو همه وقصده، فيجعل ما استطاب من المكاسب وأعلى ما قدر عليه مما يسلم فيه، فيجعل ذلك لحاجة نفسه فيما يطعم ويلبس، ويجعل مادخل عليه من الشبهات مما في نفسه منه جزازات في مؤونة عياله وفيما يرتقق به من مؤونة البيت مما لا يطعم ولا يلبس، مثل الحطب والبز وأجرة البيت وما أشبه ذلك، وسنذكر تمثيل ذلك بصور الألوان حتى تعرفه، وفي هذه رخصة وله فيه مجاهدة وحسن نية ومعاملة إذا أخذ نفسه به وصبر عليه، وكان ذلك من باله وهمه فاحتسب في ذلك ما عند الله عزّ وجلّ، وتحرى بذلك لدين الله عزّ وجلّ، فإنّ الله عزّ وجلّ يشكر له سعيه، ويجزل عليه أجره، وهذا طريق يوصل إلى الله عزّ وجل وهو محجة كثير من السلف، ولو أنّ عبداً شك في شيء فتحرز منه شكر الله له نيته، وإن كان قد أخطأ حقيقة الشيء عنده فكان الشيء حلالاً في علم الله عزّ وجلّ ولو أنه أقدم على شيء بقلّة مبالاة فلم يدعه، فتناول شيئاً على أنه حلال عنده كان مأزور السوء نيته وقلة ورعه، وإن كان أصاب الحقيقة عند الله فهو أفضل وله أجران: أجر العلم ومقام التوفيق، ومن قصد ترك العلم وأخطأ الحقيقة عند الله عزّ وجلّ فعليه وزران: وزر الجهل ونقص العصمة، ومن عمل بعلم فأخطأ الحقيقة فله أجر واحد، ومن عمل بجهل فأصاب الحقيقة فعليه إثم الجهل وهو معصوم في الفعل، وحكى وهب اليماني مما نقل من الزبور أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى داود عليه السلام: قل لبني إسرائيل: إني لا أنظر إلى صيامكم ولا إلى صلاتكم ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي، ذلك الذي أؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي، وقد كان بعض العلماء يقول لأهله: أرفقوا بدهن المصباح فإنما توقدون بلحمي ودمي، قيل: وكيف؟ قال لأنكم توقدون من كسبي، وكسبي من ديني وديني من لحمي ودمي، وقد كان يقال: من تفقد من أين يكسب الدرهم تبصر أين يضعه، ومن لم يبال من أين اكتسب لم يبال فيما أنفقه، وقد قال بعض العلماء لرجل رآه بطالاً وكان ذا عيال قال له: احترف فإنه إذا كان لك كسب أكل عيالك دنياك، وإن لم يكن لك كسب أكلوا دينك، وروي أنّ بعض الزهاد وقعت منه قطعة فجعل يطلبها عامة يومه فقيل له: أنت قد زهدت في الدنيا كلها وأنت تطلب هذه القطعة هذا الطلب فقال: إنّ طلبي هذه القطعة من زهدي في الدنيا لأني لا أعتاض منها غيرها، لأنها من حيث أعلم وأنا لا آكل إلاّ من حيث أعلم، وقد كان بشر يقول: المال إذا اجتمع من الشبهات لا ينفق إلاّ في الشهوات، وقال سري السقطي: لا يصبر على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات، وفي الخبر أنّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كسب الحجام فنهاه عنه فأعاد مسألته عنه فقال: إنّ لي غلاماً حجاماً فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ كان لا بدّ فأعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك، وفي الخبر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: لا تأكلوه، وفي خبر آخر: إن كان جامداً فألقوها، وإن كان ذائباً فاستصحبوا به، وعن جماعة من علماء الكوفة: لا بأس بشحوم الميتة تطلى بها السفن ويدبغ بها الجلود.

وقد روينا فيه حديثاً مسنداً، فهذا حجة فيما ذكرناه من أنّ حكم الشبهات أن ينفق منها فيما لايطعم ولا يلبس إلاّ إن يضطر إليها فيتناول منها مقدار الحاجة، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتى بلبن فسأل عن أصله فأخبر به، فسأل عن أصل أصله فأخبر به، فلما رضيه شرب منه، فهذا حكم الحلال أن تعرف عين الشيء ثم تعرف أصله، فإذا صح لك أصله وأصل أصله سقط عنك ما وراء ذلك، فإن لم تعلم رأى عين وأخبرك مسلم تقي أخباره لك مقام ذلك، وفي الخبر: لا تأكل إلاّ طعام تقي ولا يأكل طعامك إلاّتقي، لأن التقي قد استبرأ لدينه واجتهد بعلمه واحتاط لنفسه، فقد سقط عنك البحث والاجتهاد لأنه قد ناب عنك فيه وقام لك به، فكفاك كلفته فغنيت عن تكلفه، فلذلك جاءت الأحاديث على هذا المعنى: إذا دخل أحدكم إلى منزل أخيه فقدم إليه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأل ويشرب من شرابه ولا يسأل، لأنه قد كفى والسؤال عمّا قد كفى تكلف، والتكلف ليس مما يعني المسلم، وفي الخبر الآخر: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فلهذا سقط عنا السؤال من البحث ولذلك كان المتقدمون يستحبون أكل طعام العلماء والصالحين.

وأما من لا يحتاط لنفسه ولا يستبرئ لدينه ولا يتِقي في مكسبه حتى لا يبالي من أين أكل ولا من أين اكتسب ولا من أين جاءه الدرهم أبداً، فهذا غير تقي فحينئذ يلزمك أنت البحث لنفسك والاجتهاد والاحتياط لدينك إذا لم يقم به غيرك ولم يكلفه أخوك، ففي مثل هذا جاء الخبر: لا يأكل طعامك إلاّ تقي ولا تأكل إلاّ طعام تقي، والتقي هو الورع الدين المتّقي للحرام المجتنب للآثام، ففي دليل خطابه: لا تأكل طعام غير تقي فلا يصح التقوى من عبد يتصرف حتى يكون مستعملاً في تجارته وصناعته حكم الكتاب والسنّة، ويشهد له العلم بسلامته وبراءة دينه من الخيانة والمكر في المعاملة، من الكذب والغبن في التجارة والصنعة، بالصدق والنصح في جميع ذلك وحتى يحل السبب المعتاض منهما، وكل تجارة وصناعة يخالف العبد فيها حكم الكتاب والسنّة فليست بتجارة ولا صناعة حلال، وإن كان الاسم موجوداً لعدم المعنى الذي تصح به الأسماء في الحكم، لأن وجود الأسماء فارغة لا يغني مع عدم صحة المعاني لموافقته شيئاً، فإذا كان ما يسميه الجاهلون تجارة وصناعة وما يسميّه المستحلون بيعاً وشراء ومعاملة، وهو غير موافق للعلم، فليس ذلك بتجارة ولا صناعة ولا معاملة، ولا يستحل به أكل الحلال لأنه باطل واسمه عند العلماء خيانة وخلابة، أو غيلة أو حيلة أو محاتلة، وهذه أسماء محرمة للمكاسب لفساد معانيها وعدم حقائقها يتعلق عليها أحكام مذمومة،، لا يحل بها أخذ لأن التسمية إلى العلماء من قبل، أن إيجاب الأحكام منهم يسمون على صحة المعاني بوقوع الأحكام إذا كانوا هم الحكام، فقد اعتزل هذا التصرف، وإن وجد فيه الاسم المبيح لفقد المعنى الصحيح، وهو حكم الكتاب والسنّة، فإن وجد الاسم بحقيقة المعنى حتى تسميه العلماء تجارة وصناعة، إلاّ أنهما لم يصادفا حكم الله تعالى فيه بالسلامة من الربا واجتناب البيوع الفاسدة، فهذا حرام أيضاً لعدم حكم الله عزّ وجلّ فيه بالإطلاق، وإن كان الشراء مباحاً وصودف الأحكام فيه إلاّ أنّ عين المأخوذ المعتاض حرام رأي عين أو خبر من صدق، فهذا الكسب حرام أيضاً لأنّا على يقين من وجود الحرام فيه حتى يصفو العوض المشتبه من عين الحرام بأحد معنيين: إما بيقين أنه حلال الأصل وحلال أصل الأصل، بأن لانعلم في عينه حراماً رأيناه ولا أخبرناه، فيحل به حينئذاً أكل المال ونسميه مع ذلك شبهة، وهو شبهة الحلال إذ لسنا على يقين من حلاله، لا مكان دخول الحرام فيه لغلبة الأموال المأكلولة بالباطل وبالأسباب المكروهة من قبل الأجناد، ومن قلّة المتّقين واختلاط ذلك بالأملاك الصحيحة وبأموال التجار والصناع، فما كنا من حلاله على علم ظن سميّناه شبهة لفقد علم اليقين.

وفي الخبر: جاء عقبة بن الحرث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني تزوّجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة فقال: دعها فقلت: إنها كاذبة فقال: وكيف؟ وقد زعمت أنها قد أرضعتكما لا خير لك فيها دعها عنك، وفي لفظ آخر: كيف؟ وقد قيل، وفي حديث عبد الله بن زمعة أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضي بالولد له لأنه ولد على فراشه، وأبطل دعوى الرجل فيه وإن كان منه، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبهاً بيّناً قال لسودة: احتجبي عنه يا سودة وهي أخته ثم قال: الولد للفراش وكذلك يجب التقوى في الفراش للورع، وإنّ الأحكام على الظاهر تجيزها فيكون تركها مقاماً للورعين والحلال عند الورعين اسم ما انحلت عنه المطالبة وحل فيه العلم على حلال المقتبس في قوله عزّ وجلّ: (وَحَلاِئِلُ أَبْنَائِكُمْ) النساء: 23، وحلائل جمع حليلة وقيل: إنما سمّيت المرأة حليلة الرجل لأن يحل معها أين حلت، أي يوجد عندها ويقيم كأنها فعيلة من فعول أي حلول، والمعنى الآخر سمّيت حليلة، والرجل حليلها لأن الآثام قد انحلت بينهما، أي لأنها تحل له ويحل لها والحلال في العلم اسم لما أباحه الكتاب والسنّة بسبب جائز مباح، وكان الحلال هو ما وجد فيه ثلاث معان: سبب مباح في العلم وعلم بأصل الدرهم والمعتاض به وبأصل أصله أنه خالص من شبهة ومصادقة حكم الله عزّ وجلّ في المعاملة، فإذا فقد أحد هذه المعاني فهو شبهة إلى الحلال أقرب، وإذا فقد معنيان فهي شبهة الحرام، فإذا فقدت المعاني الثلاث حتى يكون السبب الذي وصل به الدرهم والمعتاض منه مكروهاً، أو يكون عين الدرهم مكروهاً مجهولاً ولم يصادف فيه حكم الشرع في البيع والشراء أو الهبة بطيب نفس، فهذا هو الحرام بعينه والحرام والحلال ضدان ظاهران، والشبهات أعني شبهة الحلال وشبهة الحرام مشتبهان، فهي تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه فمثل الحلال والحرام.

من أصول الألوان مثل: البياض والسواد، هما أصلان ليسا فرعين لشيء ولا متوالدين من شيء ومثل شبهة الحلال كمثل الصفرة لأنه لون متولد من البياض، ومثل شبهة الحرام كالخضرة لون متولد من السواد، فإن رأيت الصفرة فهي علامة شبهة الحلال رددتها إليه وحكمت عليها به، كما أنّ الخضرة أقرب إلى السواد، فإن اجتمع في لون صفرة وخضرة فهي الشبهات المخلطة في الشيء، فانظر إلى الأغلب منها الأكثر، فاحكم عليه، فإن كانت الصفرة هي الأكثر والأغلب، فهذا شبهة الحلال، تناول منه غير متسع فيه إذ ليس حلالاً صافياً وهذا مثل أموال التجار والصناع المختلطة بأرزاق الجند والمعاملات، وإنْ رأيت الخضرة أكثر وأغلب فهذا شبهة الحرام، خذ منه ضرورتك إذ ليس بشبهة صافية، وهذا مثلا أملاك أولياء السلطان، لالتباس ملك أيديهم في خدمتهم لأمرائهم حتى تري البياض المحض الذي هو علامة الحلال فخذ كيف شئت واتسع، لاجناح عليك على أنك لا تكون زاهداً بذلك، وهذا مثل لفيء المشركين والغنائم في سبيل الله، ومثل المواريث الطيبة وما أنبتت الأرض التي هي غير مغصوبة، ومثل ماء السماء والسيح في الأنهار وصيد البر والبحر، وإنْ رأيت السواد الغريب فهو علامة الحرام، فاجتنبه ولا تأخذ منه شيئاً، فإن فعلت كنت بذلك فاسقاً وأكل الحرام من الكبائر، وهذا مثل المغصوب والجنايات، وما أكل بأسباب المعاصي وما تملك من غير طيب نفس من الواهب، واعلم أنّ الحلال والحرام فرعان للتقوى والفجور والعلم والجه، والعلم والتقوي هما حلالان للمتقين العلماء، فإذا كثر المتّقون ووجد المؤمنون كان الحلال أظهر وأكثر، ووجود الحرام بظهوره وكثرته، بكثرته وجود الجهل والفجور وهما حالا الجاهلين الفجار، فإذا كثر الجاهلون وظهر الفاسقون كان الحرام أغلب وأكثر، وأصل وجود الحلال في الكافة عدل الأئمة واستقامة الولاة، وطاعة أوليائهم فيما لهم معهم في سبيل الله عزّ وجلّ لصلاح الدين وحيطة المسلمين، كما إنّ أصل ظهور الحلال وانتشاره هوالرعية، فإذا قل ذلك وكان الأمر على ضده غمض الحلال واختفى، فظهر الحرام وفشا، فكان الحلال قليلاً عزيزاً، وكان في خصوص من المسلمين يخص الله به من يشاء ويصرفه إلى من أحب، كيف أحب من طريق التوفيق والهداية وبمعنى العصمة والوقاية؟

وقد جاء في الخبر إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم، وقال بعض أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ: (وَكَذلكَ نُوَلِّي بَعضِ الظَالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس، جعل عليهم أئمة يشبهون أعمالهم، وقد روينا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رزق المؤمن، مثل قطر الحب، فهذا يحتمله معنيان، أحدهما الضيق والقلة والثاني في الصفاء، وهذا على معنى ما قال سهل رحمه الله: لو كانت الدنيا دماً غبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً، فهذا على معنيين، أحدهما أنّ المؤمن موفق معصوم قد عمل لله عزّ وجلّ بما علم، والله قد حفظه من حيث لا يعلم بأن يستخرج له الحلال من الحرام باختياره من عمله، كما يستخرج له العلم من الجهل، والتوحيد من الشرك بلطف قدرته، فمن تذكر به وتبصر به أقامه مقام التوحيد من الحكمة، والمعنى الثاني المؤمن عنده، لا يتناول شيئاً إلا فاقة أو ضرورة، فقد حلّت له وإنْ حرمت على غيره، وهذا هوالمؤمن الصديق وقد قيل لابن المبارك يظهر بعد المائتين عدل فقال: تذاكرنا ذلك عن حماد بن سلمة، فغضب وقال: إن استطعت أنْ تموت بعد المائتين فمت، فإنه يحدث في ذلك الزمان أمراء فجرة ووزراء ظلمة وأمناء خونة، وقراء فسقة حديثهم فيما بينهم، التلاوم يسمون عند الله الأنتان، وقال بعض السلف الصالح: إني لأستحي من الله عزّ وجلّ أنْ أسأله بعد المائتين أن يرزقني حلالاً، ولكني أسأله رزقاً لا يعذبني عليه، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما ترك لنا بنو فلان من الحلال شيئاً، يعني الملوك والأمراء، ويقال إن عليَّا ًرضي الله عنه، لم يأكل بعد قتل عثمان، ونهب الدار إلاّ طعاماً مختوماً عليه، وروي في الخبر العامل الذي أراد عليّ رضي الله عنه، أنْ يستعمله على صدقات قال: فدعا بطينة مختومة طننت أنّ فيها جوهراً أو تبراً ففض ختامها، فإذا فيها سويق شعير فنثره بين يدي وقال: كل من طعامنا، فقلت: أتختم عليه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم هذا شيء اصطفيته لنفسي، وأخاف أنْ يختلط فيه ما ليس منه، والحديث فيه طول فاختصرت هذا منه.

وروي أنّ جماعة من الصحابة ما شبعوا من الطعام منذ قتل عثمان رضي الله عنه لاختلاط أموال أهل المدينة بنهب الدار، منهم ابن عمر وسعد وأسامة بن زيد رضي اللّّه عنهم، وكان يوسف ووكيع بن الجراح يقولان: الدنيا عندنا على ثلاث منازل، حلال وحرام وشبهات، فحلالها حساب، وحرامها عقاب، وشبهاتها عتاب، فخذ من الدنيا ما لا بدَّ لك منه فإن كان ذلك حلالاً كنت زاهداً، وإن كان شبهة كنت ورعاً وكان في عتاب بسير، وقد روينا عنهما أنهما قالا: لو زهد أحد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء في الزهد ما سميناه زاهداً قيل: ولِمَ؟ قال: لأن الزهد عندنا إنما يكون في الحلال المحض، والحلال المحض لا يعرف اليوم، ومات يوسف ووكيع قبل المائتين، وقد كان وكيع بن الجراح أشبه العلماء بالسلف، وكان يشبه بعبد الله بن مسعود وقد كان يشدد في الطعمة فسئل عن الحلال، فجعل يعزره ويقول: أين الحلال؟ وكيف لي بالحلال؟ ثم قال: لوسألنا مسترشد عن علمنا في الحلال فقلنا له: كل أصول البردي وألقي ثوبك وادخل في الفرات قيل: وأنت يا أبا سفيان من أين تأكل؟ قال: آكل من رزق الله وأرجو عفو اللّّه، وقد كان بشر بن الحارث من المتقدمين، سئل عن الحلال قيل له: من أين تأكل يا أبا نصر؟ فقال: من حيث تأكلون، وليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهويضحك، وقال مرة أخرى في رواية عنه: ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وسأله رجل عمّا لا يسكر من النبيذ فقال: انظر في الدرهم الذي تشتري به التمر من أين هو؟ فإن كان حلالاً وإلاّ هلكت دع عنك ما لا يسكر، وقد كان سري السقطي يتحري في أكل الحلال ولم يكن يأكل إلاّ من حيث يعرف، وكان إذا ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه أثنى عليه وقال: تعنون ذلك الفتى المعروف بطيب الغذاء، وكان يقول: لا يقوى على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات، ويقال إنّ بشر بن الحارث كان يأكل من قبله، وذكر لنا أنّ سرياً السقطي وقف على بشر وهو يتكلم فاطلع في حلقته وقال: يا بشر، لعل يدا نقين تلبسها وتستريح من هذا الاسم: يعني قولهم بشر الحافي، فسكت بشر، فظن من كان من أصحاب سري عند بشر أنه قد وجد عليه فقالوا: يا أبا نصر، إنه لم يرد إلاّ خيراً فقال: سبحان الله، هو سري كما سري، وكان سري رحمه الله قد وجه إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه بمال فرده، فجاء سري فكلمه بكلام من هذا العلم فعرفه فيه ما يدق من آفة الرد فقبل منه ولم يكن بعد ذلك يرد عليه شيئاً.

وحدثونا عنه أنه قال: انتهيت ذات يوم في سفر إلى نبات من الأرض وعند غدير ماء، قال: وكنت جائعاً فأكلت من الحشيش، وشربت من ذلك الماء بكفي، ثم استندت على ظهري، ثم خطر ببالي أني إن كنت أكلت حلالاً فاليوم، فهتف بي هاتف يقول: يا سري زعمت أنك أكلت حلالاِ، فالقوّة التي بلغتك إلى ههنا من أين هي؟ قال: فاستغفرت الله تعالى مما كان وقع في قلبي، وكان شقيق البلخي رحمه اللّّه يقول: إنّ المكاسب اليوم قد فسدت، وإنّ التجارات والصناعات شبهات كلها، لا يحل الاستكثار والادخار منهما لوجود الغش وعدم النصح، قال: وإنما ينبغي للمسليمن أنْ يدخلوا فيها ضرورة، وقال: الناس كقتلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم أعانوا على إماتة السنن، ودرس طرق الأنبياء، ومن أبطل سنن نبي فكأنما قتله هذا بقوله في سنة سبعين ومائة، فإذا كان الأمر أيها المسلم الموقن بتوحيد الله ووعيده، على هذا عند العلماء من السلف والأخيار من الخلف، في ذلك الوقت، فكيف بوقتك هذا؟ وقد افترض عليك الزهد في الدنيا، وقد وجب عليك الأخذ بالبلغة، مما لابد منه من كل شيئ، فإن استكثرت أو جمعت من مثل هذه الأشياء كان ذلك معصية، وكل ما يظهره الله عزّ وجلّ لك من غير الأمور وبديهات المصائب، فإنما هو تزهد لك في الدنيا إنْ فطنت لذلك، وكل ما صرف عنك مثل هذا فهو خير، وإنْ كرهت، وفي الخبر: ما ملأ ابن آدم وعاء شرَّاً من بطن ولو كان من حلال، فإن كان لا بدّ فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فقد صار الأكل في ثلث البطن خير من الأكل ملأه لأنه شرّ، وما نقص من الشر فهو خير، وفي الخبر: ما شيء أبغض إلى الله من بطن مليء ولو من حلال.

وقد جاء في الخبر: لا يعذّب الله عبداً جعل رزقه في الدنيا قوتاً، وفي قوله تعالى: (وَرِزقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأبْقى) طه: 131 قيل: يوم بيوم، وقيل: القناعة، وقد كان المسلمون يتورّعون عن الشبهات في وقت العدل، ومع وجود الفضل، حدثونا: أنّ الفضل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك رضي الله عنهم، اجتمعوا عند وهيب بن الورد بمكة، فذكروا الرطب فقال وهيب: هو أحبّ الطعام إليّ إلاّ أني لا آكله، قيل: ولِمَ؟ قال: لأنه قد اختلط رطب مكة بهذه البساتين التي اشتروها هؤلاء، يعني زبيدة وأشباهها، فقال له ابن المبارك: رحمك الله إنْ نظرت إلى مثل هذا، ضاق عليك الخبز، فقال: وما سببه؟ قال: نظرت في أصول الضياع بمصر فإذا هي قد اختلطت بالصوافي، قال: فغشي على وهيب، فقال له سفيان: ما أردت بهذا؟ قتلت الرجل، قال ابن المبارك: والله ما أردت إلاّ أنّ أهوّن عليه، قال: فلما أفاق وهيب قال لله عليّ أنْ لا آكل خبزاً أبداً حتى ألقاه، قال: فكان يشرب اللبن، قال: فأتته أمه بلبن فقال: من أين لك هذا؟ قالت من شاة بني فلان، قال: ومن أين لهم ثمنها؟ قالت: من كذا وكذا، فرضيه، فلا أدناه من فيه، قال: قد بقي شيء فأين ترعى هذه الشاة؟ فسكتت، فقال: لتخبريني، فإذا هي ترعى مع غنم لابن عبد الصمد الهاشمي أمير مكة في الحي، فقال: هذا اللبن للمسلمين، فيه حق لا يحل لي أنْ أشربه دونهم، وهم شركائي فيه، فقالت له أمه: اشربه فإن الله يغفر لك، فقال: ما أحبّ أني شربته وأنه غفر لي، قالت: ولِمَ؟ قال: أكره أنْ أنال مغفرته بمعصية، وقد كان لطاووس اليماني بضاعة يتجر له فيها من التمر، فاشترى مضاربه ببضاعة أديماً من بعض أولياء السلطان وكتب إليه بذلك، وكتب إليه طاووس: أفسدت علينا مالنا، ما أحبّ أن أتلبس بشيء منه فبع الأديم باليمن، وتصدق بثمنه، ولا تدخل منه إلى الحرم درهماً واحداً، وأنا أستغفر الله من طعمة الفقراء، وأرجو أنْ أنجو كفافاً لا عليّ ولا لي، فيقال: إنّ ذلك كان سبب فقره ولم يكن له مال غيره، فبقي بغير معلوم من دنيا، وكان خالد القشيري لما ولّي مكة بعد ابن الزبير أجرى نهراً في طريق أهل اليمن إلى مكة، فكان طاووس ووهب بن منبه اليمانيان رضي اللّّه عنهما إ ذا مرّا عليه لم يتركا دوابهما أنْ تشرب منه، وقد كان سهل رحمه الله يقول: رجل بات في قرية جائعاً قام إلى الغداة لم يقدر أنْ يصلّي من الجوع، أعطاه الله في منزله جميع صلاة المصلّين القائمين في قريته، قيل: وكيف ذلك، قال: طلب الحلال، فلم يجده فكره أنْ يدخل جوفه حراماً فبات طاوياً فله أجر المصلين القائمين في تلك الليلة وهو سليمان التيمي رحمه الله ترك أكل الحنطة، فقيل له في ذلك، فقال: إنها تطحن في هذا الأرحى، فقال: المسلمون شركاء في الماء وهؤلاء يأخذون خراجها دون سائر الناس.

وحدثت أنّ امرأة أهدت إلى بشر بن الحارث سلة عنب، فقالت: هذه من صنيعة أبي فردها بشر عليها، فقالت: سبحان الله تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه وميراثي منه وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء، فقال: صدقت ملك أبيك ولكنك أفسدت الكرم، قالت: بماذا؟ قال: سقيته من نهر طاهر يعني طاهر بن الحسين بن مصعب بن عبد اللهّ بن طاهر صاحب المأمون، وهذا النهر هوالخندق المعترض في الجانب الغربي، لم يكن يشرب من الخندق ولا يمشي على الجسر وقد كان بشر يقول: منذ ثلاثين سنة أشتهي شواء وما أتركه زهداً فيه ولو صحّ لي درهمه لأكلته، فهذه سيرة المتقدمين وطريق السالفين، من سلكها لحق بهم وكان كأحدهم، ومن خالفها فليس على سنّة السلف، ولا من صالحيّ الخلف وسعة رحمة الله الواسعة بمشيئته السابقة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وقد كان من سيرة القدماء من أهل الورع أنْ لا يستوعب أحدهم كليّة حقّه بل يترك شيئاً خشية أنْ يستوفي الحلال كله، فيقع في الشبهة، فإنه يقال: من استوعب الحلال حام حول الحرام، فكانوايستحبون أنْ يتركوا بينهم وبين الحرام من حقهم حاجزاً من الحلال لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يرتع حول الحمى يوشك أنْ يواقعه، ومنهم من كان يترك من حقه شيئاً لغير هذه النية، ولكن لقول اللهّ عزّ وجلّ (إنَّ الله يَأمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ) النحل: 90 قالوا: فالعدل أنْ تأخذ حقك كله وتعطي الحق، والإحسان أنْ تترك بعض حقك وتبذل فوق ما عليك من الحق لتكون محسناً، ولأن اللّّه تعالى كما أمر بالعدل قد أمربالإحسان لقوله: (حَقّاً عَلَى المتَّقينَ حَقّاً عَلَى المحُسِنينَ) البقرة: 18، - 236، وهذه الطريقة قد جهلت من عمل بها فقد أظهرها، حدثونا عن بعضهم قال: أتيت بعض الورعين بدين له عليّ وكان خمسين درهماً، قال: ففتح يده فعددت فيها إلى تسع وأربعين درهماً فقبض يده، فقلت: هذا درهم قد بقي لك من حقك، قال: قد تركته لك إني أكره أنْ أستوعب مالي كله، فأقع بما ليس لي، قد كان عبد اللهّ بن المبارك وغيره يقول: من اتّقى من تسعة وتسعين شيئاً ولم يتّقِ من شيء واحد لم يكن من المتّقين، ومن تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن من التوّابين، ومن زهد في تسعة وتسعين شيئاً ولم يزهد في شيء واحد فليس من الزاهدين، وقد روى عطية السعدي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون الرجل من المتّقين حتى يترك ما لا بأس به حذاراً مما به البأس، وروينا عن أبي الدرداء: إنما التقوى أن يتقي اللهّ العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام، وبمعنى هذا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنا نترك سبعين باباً من الحلال مخافة باب واحد من الحرام، وهذا طريق قد مات أهله، فمن سلكه فقد أحياهم فأما أموال التجار والصناع والمتصرفين في المعايش المباحة بالأسباب الجائزة في العلم، مع موافقة الكتاب والسنّة فهي شبهات، ثم تتنوع بنوعين: فتكون شبهة حلال إذا عاملت المتّقين وأخذت من الورعين، وتكون شبهة حرام إذا عاملت قليلي التقوى والورع، وأما غير ذلك من أموال الجند فإنه حرام لفساد سببه ولمخالفة الأحكام، فما كان عن معاملة لهم وكسب ولم تعلم شيئاً بعينه غصباً ولا جناية فهو أسهل، وما علمته فهو نص الحرام، فاللّّه الله في نفسك انظر أيها المسكين لمعادك واحفظ لدينك، فإنّ كسبك من دينك وطمعتك من إيمانك، فإن تهاونت بذلك فقد تهاونت بالدين، ونبذت الأحكام وضيعت اليوم نفسك ولم تنظر فيما قدمت لغد ونعوذ بالله من سوء القضاء، ويقال إنّ العدو إذا ظفر من العبد بسوء الطعمة لم يعترض عليه في الأعمال، وقال: قد ظفرت منك بحاجتي، اعمل الآن ما شئت ولم يعد عليه من أعماله إلاّ ظلمة في قلبه، وقسوة وضعفاً في عزيمة، وفتوراً ومعصية وحرم التوفيق والعصمة، ولم يورث علم المكتوب والحكمة، فإن كان المتصرف في السوف على الوصف المكروه، مخالفاً للعلم في تصرفه مفارقاً للأحكام لايبالي من أي وجه ظهر وبأي سبب عليه قدر، غير متّقٍ في كسبه ولا مرعٍ لدين الله عزّ وجلّ فيه وحكمه، فهوآكل للمال بالباطل قاتل لنفسه مفسد لدينه غاشٍِ للمسلمين، والله لا يصلح عمل المفسدين كما لايضيع أجر المصلحين، ومع ذلك فهو غير ناصح لله عزّ وجلّ ولخلقه في الدين، مقامه في

الظلم وحاله الهوى، واللهّ لا يحب الظالمين، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت، فيلقى الله تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى: (وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ) الحجرات: 11، وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء: 227، وقال بعض الحكماء: الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة، فواحد يغوص فيخرج دراً، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون، وآخر يخرج سمكاً، وهؤلاء المقتصدون، وآخر في قعره قد غرق، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا، فقد غرقوا في بحر الخطايا، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة. لم وحاله الهوى، واللهّ لا يحب الظالمين، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت، فيلقى الله تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى: (وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ) الحجرات: 11، وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء: 227، وقال بعض الحكماء: الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة، فواحد يغوص فيخرج دراً، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون، وآخر يخرج سمكاً، وهؤلاء المقتصدون، وآخر في قعره قد غرق، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا، فقد غرقوا في بحر الخطايا، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا، وأوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه لا تتخذوا الأهل والمال في زمن العقوبات، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.

نحمدك يا من هيأت القلوب للتيقظ لمرضاتك، وفتحت أقفالها بأسرار معرفتك وأنوار هباتك، ونصلي ونسلّم على من أرسلته بطب القلوب، وأيدته بما أنزلت عليه من قوت القلوب وتبيين الغيوب، وعلى آله الذي تحقّقوا برياضة النفوس فتحلّوا بأنوار اليقين، وأصحابه السائرين على منهجه المبين.

أما بعد، فقد تمّ بحمده تعالى طبع كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب، للأمام الفاضل والأستاذ الكامل سيّدنا ومولانا الشيخ أبي طالب المكي رحمه الله وأثابه رضاه، وهو كتاب له من اسمه أكبر نصيب، ومن المتكلم على آفات النفوس والاستشهاد بالآي كلا مطرب غريب، وفي تبيين طريق السلف الصالح ما يجعل الغائب كأنه حاضر مبصر، وفي أحوال أهل اليقين ما يزيح الخفاء ويجلو من عين القلب النظر، وبالجملة، فهو كتاب شهرته طبقت الآفاق، وهي أقل مما فيه، وليس الخبر يكفي ما العيان يكفيه.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!