المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
شرح الأسماء الحسنى
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
البصير
البصير بأمور عباده، البصير عبارة عمّن رؤيته صفة ذاته لا بجارحة، وللمستمدّ من آثار هذه الحضرة ثلاثة مراتب :
[ الأوّل ]: إمّا أن يعبد اللّه كأنّه يراه .
[ الثّاني ]: وإمّا أن يعبده لعلمه بأنّ اللّه يراه، والأوّل قريب إلى التّشبيه، والثّاني إلى التّنزيه .
والثّالث: أرفع منهما، وهو للكامل المحقّق الّذي يعبد الحقّ بالحقّ، يقول بالتّشبيه ويشهد التّنزيه وبالعكس، ليس هو من المؤمنين به، لأنّ المؤمن محجوب من حيث أنّه مؤمن بقول المخبر، والمكاشف صاحب شهود، يشاهد صدق المخبر مشاهدة عين .
وصاحب هذا المقام ذو عينين: عين بصر وعين بصيرة، وإنّهما له بمثابة كفّتي الميزان، يخفض تارة ويرفع أخرى، لعلمه بالمواطن وما يقتضي كلّ موطن من الحكم، لا يتعدّى أبدا، فتراه في موطن يرحم الخلق ويرافق بهم، فإذا حضر إقامة حدّ من حدود اللّه أزال حكم الرّأفة، وأقام الحدّ، لتحقّقه بسعة الرّحمة الإلهيّة، وكمال رأفته بعباده، ومع ذلك شرع الحدود، وأمر بإقامتها، وقال تعالى: وَ لَ ا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَ ا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّ هِ .
وعذّب أقواما، وأهلكهم بأنواع العذاب بمقتضى حكمته، فصاحب البصيرة لا يزال ميزان الشّرع في يديه، يزن به أفعاله وأقواله قبل وقوعها، فإن علم أنّها يقود به إلى محلّ السّعادة أمضاها، وإلّا أمسكها، وحمى نفسه عنها، ولمّا أخبر الحقّ سبحانه وتعالى أنّه جعل للإنسان عينين أخبر عن نفسه تعالى أنّ له أعينا قال جلّ ذكره: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَ ا ، وهو أعين الخلق وَ هُمْ لَ ا يُبْصِرُونَ ، ولكن لا يعلمون إلّا من فتح اللّه عينه بنور العيان فيشاهد ذلك .
ومن أهل هذا الشهود من يستنكف عن البعض، لما يرى فيه من النّقص في الإدراك .
ومنهم: من يتلاشى رسمه في أشعة أنوار العظمة، وينمحى رقم وجوده عن لوح التّقييد، لإستغراقه في تيّار بحر الشّهود، فيرسل عنان أمره مع الحقّ في إطلاق استرسال الرّؤية، لعدم تميّزه بأحكام الشّهود المقدور، فيرى المقدور كما يراه الحقّ من حيث وقوعه، لا من حيث الحكم عليه، ويرتفع عنه الحكم بارتفاع التّميّز ، وذلك لا يقدح في حاله، لأنّها خارجة عن الوزن، لفناء صاحبه في اللّه، وفي هذا المقام يقول الحق عزّ سلطانه لعبده: «إعمل ما شئت فقد غفرت لك» .
وصاحب هذا الحال لا يشاء إلّا بمشيّة الحقّ، وإن كان الحقّ لا يبيح الفحشاء، فالفحشاء محكوم عليها في تلك الأعمال، ويزول الحكم في حقّ هذا الشّخص، ويبقى عين العمل، لوقوع السّتر بينه وبين الحكم، كما وقع بين فعل المغفور وبين العقوبة، وهو كالمقتول في سبيل اللّه عجّلت له جنّته في الدّنيا، وإن أقيم عليه الحدّ، فذلك من جهل الحاكم بالمقام الّذي هو فيه .