المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
شرح الأسماء الحسنى
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
العفوّ
العفوّ الّذي أزال عن النّفوس ظلم الذّلات برحمته، وعن القلوب صدمة الغفلات بكرامته .
اعلم أنّ حكم هذا الإسم سرى في القليل والكثير، وجمع بين الضّدّين في الحكم، مثاله الخبر الوارد في إعفاء اللّحية، فإنّها تحمل على الكثير بأن لا يقصّ منها كما يقصّ من الشارب، فإنّها إذا تركت على حالها كثرت، وقد يحتمل أنّه أراد أن يأخذ منها قليلا بحسب الزّينة الإلهيّة كما يليق بالوجه، كما ورد: «أنّه عليه السّلام كان يأخذ من طول اللّحية لا من عرضها» .
ومع شموله الكثير والقليل وجمعه بين الضّدّين لا يسري حكمه إلّا في أصحاب الهمم العالية، فإنّ اللّه عزّ وجلّ أباح لعبده أن يجازي المسيي ء بمثل إسائته بقوله تعالى: وَ جَزَ اءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَ ا فصاحب السّيّئة مأثوم، والسّيّئة الجزائيّة أيضا مثلها بالنّص من أنّها تسوء بالمجازي بها كالقصاص، فأبى العارف لعلوّ همّته أن يكون محلّا للإتّصاف بما يسمّيه الحقّ سيّئة فاختار العفو على الجزاء بالمثل فإنّ السّيّئة قد ذهبت عليها وانعدمت وإن بقي أثرها فهي لا تقبل الجزاء ولا أثرها كالجرح الحاصل من فعل المسيئ إذا اقتصّ المجروح من الجارح صار الآخر مجروحا ولم يبرئ جرح الأوّل فلو قبلت [قلّبت ] السّيّئة أو أثرها جزاءا لزال عينها منه فالسّيّئة فعل المسيئ وقد ذهب بذهاب زمان مباشرته ولم يبق إلّا المسمّى فأنزله الشّرع منزلة السّيّئة وأضيف الجزاء إليه، ولهذا قال عليه الصّلاة والسّلام في صاحب السّيّئة: «أما إنّه لو قبله كان مثله» فلو علم النّاس ما في العفو ما جازى أحد من أساء إليه، ولكنّ الحجب على أعين البصائر مسدولة فلا يسكن إلّا بحصول الأغراض بالمؤاخذة واستعجال التّشفّيّ ومن أعظم الجنايات من بهت مؤمنا ونسب إليه من المذامّ فمن كمال مكارم الأخلاق ظهور العفو منه عند ذلك وهو أن يكتم على الجاني سرّه بعدم المنازعة وإيثار الجناية على نفسه فمثل هذا لا تبلغ الأفهام كنه ما استحقّه من الأفضال الإلهيّة لكون أجره على اللّه وفي قول الحقّ: « فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّ هِ» إشارة لمن تدبّر .
ولمّا كان من شأن الحقّ أن يعفو عن كثير فلا يؤاخذ إلّا على القليل، والقليل لا بدّ أن يستهلك في جانب الكثير ولذلك قال تعالى: « قُلْ يَ ا عِبَ ادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» وما خصّ أهل دار ولا الأشراف، وهو نصّ على أنّ مآل الكلّ إلى الرّحمة .