المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
مراتب النعيم
واعلم، أنّ مراتب النعيم أربع : مرتبة حسّية، وأخرى خياليّة، وثالثة روحانيّة، والرابعة السرّ الجامع بينها، الخصيص بالإنسان وهو الابتهاج الإلهي بالكمال الذاتي، يسري حكمه في الظاهر والباطن وما ذكر.
ومراتب الآلام أيضا الثلاث المذكورة، وهي في مقابلة الاعتدال الحسّي والروحاني والمثالي. والمقابل للابتهاج الرابع هو صفة الغضب. المحدث كلّ ألم وتعب وانحراف في المراتب الثلاث، وفي الأجسام الطبيعيّة هو الانحراف على اختلاف مراتبه، فافهم.
وأتمّ مراتب مطلق النعيم رؤية الحقّ على الوجه الذي أنبّهك عليه، وهو أن يكون الرائي خلقا، والمرئيّ حقّا، والذي يرى به حقّ أيضا، فهذه، الرؤية اللذيذة التي لا لذّة فوقها أصلا وما سوى هذه من المشاهدات، فإمّا دون هذه، وإمّا التي تفنى ولا لذّة معها. وإلى هذه أشار صلىاللهعليهوآله بقوله في دعائه ربّه : «وارزقني لذّة النظر إلى وجهك الكريم أبدا دائما سرمدا» ولم يقل : ارزقني النظر إلى وجهك الكريم، فافهم، فالشرف والنعيم في العلم، وإلّا فمجرد الرؤية دون العلم لا يجدي.
ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر |
|
برزت له، فيرى ويجهل ما يرى
|
وتذكّر قول العلماء : اللذّة والنعيم عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم، فحيث لا إدراك لا نعيم ولا نعمة إذا ؛ فإنّ المال والجاه والمطعم الشهيّ، والمنظر البهيّ وغير ذلك إنّما يعدّ نعمة ويتنعّم به من حيث إدراك ما في كلّ واحد منها من أحكام الكمال بالنسبة إلى المدرك.
فحصول اللذّة والتنعّم وتفاوته هو بحسب ذلك القرب الكمالي وصحّة الإدراك، فبمقدار قوّة إدراك الكمال من حيث أحكامه المناسبة للمدرك تقع اللذّة ويصدق اسم النعمة على ذلك الأمر عند المدرك.
ومن تحقّق بالكمال حتى صار منبعا لأحكامه، صار هو ينبوع النعم، وسببا لنعيم المتنعّمين من كونه عين النعم ونفس اللذّة ؛ لأنّه أصل كلّ شيء، فيظهر بحكمه متى شاء فيما أراد من الصفات والأحوال التي هو جامعها بالذات.
وأمّا هو فيلتذّ بكلّ ما يلتذّ به الملتذّون، مع اختصاصه بأمر لا يشارك فيه وهو تنعّمه باستجلائه حسن كماله وما تشتمل عليه مرتبته من الجهة التي تلائم حاله حين الاستجلاء، فافهم، فهذا عزيز جدّا.
ودون صاحب هذا الحال في النعيم في الدنيا من وافقت مراداته الطبيعيّة والنفسانيّة مراد الحقّ منه وعلمه فيه، مع ملاحظة ذلك في كثير من الأوقات، وإنّما قلت : في كثير من الأوقات ؛ لاستحالة دوام ذلك في كلّ حال.
ومثله أو دونه بيسير من تمكّن من الإبراز إلى الحسّ بكل ما تنشئه إرادته في ذهنه، وهذا التمكّن شرط في الكمال لا الظهور به، وإنّما جعلت هذه الرتبة بعد الرتبة الأولى ؛ لأنّ صاحب هذا التمكّن لا بدّ وأن يكون متعوبا من جهات أخرى، هي من لوازم هذا التمكّن دون انفكاك، فاعلم ذلك.
وأكثر الناس تألّما في الدنيا من كثرت فيه الأمانيّ الشهيّة التي لم يقدّر الحقّ ظهورها في
الخارج، مع نقص عزائمه في أكثر ما يتوخّاه، وشظف العيش، أعاذنا الله من ذلك.
nbkuhZJSGVI