المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
مراتب الرضا الإنساني
ثم نرجع ونقول : واعلم، أنّ للرضا المثمر للنعم والتنعّم بها في عرصة أحوال الإنسان أيضا ثلاث مراتب، كما هو الأمر في جانب الحقّ.
فأوّل درجاته فيه رضاه من حيث الباطن عن عقله، وما زيّن له من الأحوال والأعمال التي يباشرها، هذا عموما وأخصّ منه ما ورد من ذكر المؤمن له : رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلىاللهعليهوآله نبيّا، ومن حيث الظاهر رضاه عن ربّه بما تعيّن له منه من صور الأعمال والأحوال الظاهرة، التي يتقلّب فيها في حياته الدنيا ومعاشه، دون قلق مزعج يتمرّر به العيش، لا أنّه يطمئنّ ويسكن دون تمنّ وتشهّ ؛ فإنّ ذلك من أحكام المرتبة الثانية، وإنّما أعني ما عليه أكثر الناس من أهل الحرف والصنائع وأمثالهما.
وأمّا الرتبة الثانية من الرضا المقرون بقوّة الإيمان وارتفاع التهمة من جانب الحقّ فيما وعد وأخبر عاجلا في أمر الرزق، وباقي المقدورات التي الإنسان بصدد التلبّس بها، المتكرّر بيانها في الكتاب والسنّة، والمجمل في قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فإنّه من عرف أنّ الله أرأف به من نفسه، وأعرف بمصالحه، وأشدّ رعاية لها منه، ويرى دقائق ألطافه، وحسن معاملته معه، وما له عليه من النعم التي لا تحصى ممّا حرمها غيره، فإنّه يرضى عنه وعمّا يفعله معه وإن تألّم طبعه، فذلك لا يقدح، وإنّما المعتبر في هذا نفسه القدسيّة ؛ فإنّ الرضا ليس من صفات الطبع.
وأتمّ حال يكون عليه أحد من أهل هذه المرتبة الثانية أن يقرّر في نفسه ـ إذ لا يخلو في
كلّ حال يكون فيه من إرادة تقوم به، سواء كان مختارا في تلبّسه بذلك الحال أو مكرها عليه ـ أن يجعل إرادته تبعا لحكم الشرع في ذلك الحال، أو ذلك الأمر كائنا ما كان، فما أراده الشرع ورضي به، رضيه لنفسه في نفسه وفي غيره ومن غيره ؛ لاتّصافه بالإرادة لما أراده الشرع خاصّة دون غرض باق له على التعيين في أمر مّا غير ما عيّنه الشرع وسوّغه، هذا يعرفه أهل مقام الرضا ؛ فإنّ له أهلا من أكابر الصوفيّة ذائقين لحكمه، عارفين بأسراره، منصبغين بأحواله. والأدلّة والشواهد في هذا الباب بحسب الموازين المشروعة العامّة، والموازين الخاصّة والمتعارفة بين أهل هذا الشأن كثيرة لسنا نحتاج إلى ذكرها ؛ إذ القصد الإيجاز والإلماع لا البسط.
واعلم، أنّ كلّ مرتبة هاتين المرتبتين تشتمل على درجات لكلّ درجة أهل، وبين المرتبتين أيضا درجات كثيرة لها أرباب، وهكذا الأمر في كلّ ما ذكرناه من هذا القبيل في هذا الكتاب وغيره، إنّما نكتفي بذكر الأصول الحاصرة التي لا يخرج شيء عنها من جنسها. وأمّا التفاصيل المتشعّبة فقد أضربنا عنها صفحا، لرغبتنا في الإيجاز، ولو لا قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات في أثناء الكلام ؛ لأنّها كالعلاوة الخارجة عن المقصود.
ثم نرجع ونقول : وأعلى مراتب الرضا في مرتبة العبوديّة أن يصحب العبد الحقّ لا بغرض ولا تشوّف ولا توقّع مطلب معيّن ولا أن يكون علّة صحبته له ما يعلمه من كماله، أو بلغه عنه، أو عاينه منه، بل صحبة ذاتيّة لا يتعيّن لها سبب أصلا، وكلّ أمر وقع في العالم أو في نفسه يراه ويجعله كالمراد له، فيلتذّ به ويتلقّاه بالقبول والبشر والرضا، فلا يزال من هذا حاله في نعمة دائمة ونعيم مقيم، لا يتّصف بالذلّة ولا بأنّه مقهور أو مغضوب عليه، فتدركه الآلام لذلك، وعزيز صاحب هذا المقام، قلّ أن يوجد ذائقة وسبب قلّة ذائقة أمران :
أحدهما : عزّة المقام في نفسه ؛ لأنّه من النادر وجدان من يناسب الحقّ في شؤونه، بحيث يسرّه كلّ ما يفعله الحقّ وكأنّه هو فاعله والمختار له بقصد معيّن. وغير ذلك ممّا لا يمكن التصريح به.
والأمر الآخر : كون الطريق إلى تحصيل هذا المقام مجهولا، ولمّا كان الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر مّا، والطلب وصف لازم لحقيقته لا ينفكّ عنه، فليجعل متعلّق طلبه مجهولا غير معيّن إلّا من جهة واحدة، وهو أن يكون متعلّق طلبه ما شاء الحقّ إحداثه في العالم وفي نفسه أو غيره، فما رآه أو سمعه أو وجده في نفسه أو عامله به أحد، فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول قد عيّنه له الوقوع، فيكون قد وفى حقيقة كونه طالبا، ويحصل له اللذّة بكلّ واقع منه أو فيه أو في غيره أو من غيره.
فإن اقتضى ذلك الواقع التغيّر تغيّر ؛ لطلب الحقّ منه التغيّر، فهو طالب الواقع، والتغيّر هو الواقع، ليس بمقهور فيه ولا مغضوب عليه، بل ملتذّ في تغيّره، كما هو ملتذّ في الموجد للتغيير، وما ثمّ طريق إلى تحصيل هذا المقام إلّا ما ذكر، فافهم.
وما رأيت بعد الشيخ رضي الله عنه من قارب هذا إلّا شيخا واحدا اجتمعت به في المسجد الأقصى، ثم في موضع آخر، هو من أكبر من لقيت، أعرف له من العجائب ما لا يقبله أكثر العقول. صحبته وشاهدت من بركاته في نفسي وفي ذوقي غرائب رضي الله عنه.
nbkuhZJSGVI