موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الشيخ صدر الدين القونوي

كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن

للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي

مراتب الضلال

 

 


ثم اعلم، أنّه قد كنّا نبّهناك على أنّ الضلال الحيرة، وأنّ لها ثلاث مراتب ،

كما لباقي الصفات المنبّه عليها :

فالمرتبة الأولى : تختصّ بحيرة أهل البدايات من جمهور الناس. وحكم الثانية يظهر في المتوسّطين من أهل الكشف والحجاب. وحكم الثالثة مختصّ بأكابر المحقّقين.

أمّا سبب الحيرة الأولى العامّة فهو كون الإنسان فقيرا طالبا بالذات، فلا يمرّ عليه نفس يخلو فيه من الطلب ؛ لما ذكرنا من فقره الذاتي، وذلك الطلب متعلّقة في نفس الأمر الكمال الذي هو غاية الطالب، ولنفس ذلك الطلب فروع متعلّقة بمطالب ليست مرادة لأنفسها، كالطلب المتعلّق بالمأكل والمشرب ونحوهما ممّا يعيّنه الوقت ؛ لجلب منفعة جزئيّة، أو دفع مضرّة مثلها، والغايات تتعيّن بالهمم والمقاصد والمناسبات الداعية الجاذبة وغير ذلك ممّا سبق ذكره مستوفى.

فما لم يتعيّن للإنسان وجهة يرجّحها، أو غاية يتوخّاها، أو مذهب أو اعتقاد يتقيّد به بقي حائرا قلقا ؛ لأنّه مقيّد من حيث النشأة والحال وأكثر ما هو فيه، فلا غنى له عن الركون إلى أمر يستند إليه ويربط نفسه به ويعوّل عليه.

وهكذا أمره فيما يعانيه من الأشغال والحرف أو الصنائع، فإذا جذبته المناسبة بواسطة بعض الأحكام المرتبيّة رؤية أو سماعا انجذب إلى ما يناسبه من المراتب.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى بواعث الإنسان المتعيّنة من نفسه ؛ فإنّ البواعث مخاطبات نفسانيّة داعية للمخاطب بها إلى الأصل الذي يستند إليه ذلك الباعث، وهذا هو السبب الأوّل في انتشار الملل والنحل والمذاهب المتفرّعة على ما عيّنه الحقّ بواسطة ضروب وحيه وإرشاد الرسل والأنبياء وكلّ مقتدى محقّ، فالحيرة سابقة شاملة الحكم لما ذكرناه من قبل في سرّ الهداية ولما نذكره عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وأوّل مزيل لها ـ أعني هذه الحيرة الأولى ـ تعيّن المطلب المرجّح، ثم معرفة الطريق الموصل، ثم السبب المحصّل، ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض، ثم معرفة

العوائق وكيفيّة إزالتها، فإذا تعيّنت هذه الأمور تزول هذه الحيرة.

ثم إنّ حال الإنسان ـ بعد أن يتعيّن له ما ذكرنا ويشرع في الطلب ويرجّح أمرا مّا يراه الغاية والصواب ـ على ضربين : إمّا أن يستحوشه ذلك الأمر بحيث أن لا يبقى فيه فضلة يطلب بها المزيد ـ كما هو حال أهل الاعتقادات والنحل غالبا ـ أو يبقى فيه فضلة من صحو، فتراه ـ مع ركونه إلى حال معيّن وأمر مخصوص ـ كأكثر من يرى يفحص أحيانا ويتلمّح عساه يجد ما هو أتمّ ممّا أدرك وأكثر جدوى مما يتوخّى تحصيله، أو حصّله، فإن وجد ما أقلقه ونبّهه انتقل إلى دائرة المقام الثاني. وحاله في هذا المقام كالحال المذكور في المقام الأوّل من أنّه لا يخلو من أمرين : إمّا أن يكون في كلّ ما يحصل له ويركن إليه مطمئنّا، مرتوبا، فاترا عن طلب المزيد، أو قد بقيت فيه أيضا فضلة تمنعه من الاستقرار، وسيّما إذا رأى المتوسّطين من الناس أهل هذا المقام قد تفرّقوا شيعا، وتحزّبوا أحزابا، وكلّ منهم يرى أنّه المصيب ومن وافقه، وأنّ الغير في ضلالة، ويرى مأخذ كلّ طائفة ومتمسّكها فلا يجدها تقوم على ساق، ويرى الاحتمال متطرّقا، والنقوض واردة، ويرى أنّ الحكم بالخطاء والإصابة، والحقّ والباطل، والضلال والهداية، والحسن والقبح، والضرر والنفع في هذه الأمور وغيرها من المتقابلات إنّما هو بالنسبة والإضافة، فإنّه يحار ولا يدري أيّ المعتقدات أصوب في نفس الأمر؟ وأيّ النحل والأحوال والأعمال أوفق وأنفع؟ فلا يزال حائرا حتى يغلب عليه آخر الأمر حكم مقام مّا من المقامات ـ التي يستند إليها بعض أهل العقائد والمذاهب ـ فينجذب إليه ؛ لما فيه من سرّه ويطمئنّ ويسكن أو يفتق له بالعناية أو بها ويصدّقه في طلبه وجدّه في عزيمته وبذله المجهود حال طلبه الحجاب، فيصير من أهل الكشف.

وحاله في أوّل هذا المقام كحاله فيما تقدم من أنّه إذا سمع المخاطبات العليّة، وعاين المشاهدات السنيّة، ورأى حسن معاملة الحقّ معه، وما فاز به ممّا فات أكثر العالمين، هل

يستعبده بعض ذلك أو كلّه، أو يبقى فيه بقيّة من غلّة الطالب والصحو فيثبّت وينظر في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) وفي أمثاله من الإشارات الربانيّة والتنبيهات النبويّة والكماليّة، فيتنبّه إلى أنّ كلّ ما اتّصل بالحجاب، أو تعيّن بالواسطة، فللحجاب والواسطة فيه حكم لا محالة، فلم يبق على طهارته الأصليّة ولا صرافته العليّة، فيتطرّق إليه الاحتمال، وسيّما إذا عرف سرّ الوقت والموطن والمقام الذي هو فيه، والحال والوصف الغالب عليه، أنّ لكلّ ممّا ذكر أثرا فيما يبدو له ويصل إليه، فلا يطمئنّ، وخصوصا إن تذكّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حال رؤية الريح كلّ وقت، وتغيّر لونه، ودخوله وخروجه وقلقه، وقوله لمن سأله عن ذلك : «ولعلّه كما قال قوم عاد : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) (عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) » وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاته ليلة بدر : «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض» وكقوله لمّا جاءه جبريل في المنام بصورة عائشة رضي الله عنها في سرقة حرير، وقال له : هذه زوجتك ـ ثلاث مرّات ـ بعد الثالثة : «إن يكن من عند الله يمضه» ولم يجزم ونحو ذلك مما يطول ذكره، مع قوله عليه‌السلام : «زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها» . وقوله عن العشر الفوارس من طلائع المهدي عليه‌السلام الآتي في آخر الزمان، ويمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والله إنّي لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم وألوان خيولهم»، فيطّلع على لون فرس وصورة شخص واسمه ونسبه قبل أن يخلق بستّمائة سنة وكسر، ولا يجزم، بل يخاف أن يقطع بأمنه دون ذلك، لعلمه بأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت، وأنّ حكم حضرة الذات ـ التي لا يعلم ما تقتضيه ولا ما الذي يتعيّن من كنه غيبها فتبديه، ويقتضي على إخباراته تعالى، وسيّما الواصلة بواسطة مظاهر رسالاته، والحاملة أصباغ أحكام حضرات أسمائه وصفاته

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ـ تنبيه وتأديب إلهي مانع من حصر الحقّ فيما أظهر وأخبر : «أدّبني ربي فحسّن أدبي» لا جرم كان صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ذكر عنه.

نعم، ولنعد الآن إلى إتمام حال السائر المتوسّط، وبيان سرّ حيرته، فنقول : فالإنسان المشار إليه ـ بعد تعدّيه ما ذكرنا من المراتب والأحوال وأحكام الحيرة ـ إذا تأمّل ما بيّنّاه الآن فإنّه مع كشفه وجلالة وصفه يحار ؛ لأنّه يرى من فوقه كما ذكرنا، ويعرف أنّ الحاصل له هو من فضلات تلك العطايا الأقدسيّة الحاصلة للكمّل، فيقول : لو كان ما حصل لي ولمثلي يقتضي الطمأنية لذاته، لكان الأعلى منّا بهذا الحال أجدر وأولى.

فحيث لم تقنعه ما رأى ما حصل، دلّ [على] أنّ الذي هو فيه أوجب وأرجح وأفضل، فتراه إذا ـ مع معرفة جلالة ما حصل له ـ لا يقف عنده ولا يركن إليه. وسيّما إذا رأى مشاركيه، ومن وافقه في مطلق الذوق والكشف يزيّف بعضهم ذوق البعض، ويرد بعضهم على بعض، كموسى مع الخضر وغيرهما.

وكلّ يحتجّ بالله وبما علّمه الله، والعدالة ثابتة والحقّ صدوق، ولكلّ منه سبحانه قسط، ولكن (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فما من طامّة إلّا وفوقها طامّة، ولا تقف وسر ؛ فالطريق وراء الحاصل، والأمر كما ترى و «عند الصباح يحمد القوم السّرى» والسلام.

واعلم، أنّ السرّ فيما ذكرنا هو أنّ الخلق كلّهم مظاهر الأسماء والصفات، ولكلّ اسم وصفة تجلّيات، وعلوم أحكام وآثار تظهر في كلّ من هو في دائرته وتحت حكمه وتصريفه كما بيّنّا أنّ كلّ صنف من الموجودات إنّما يستند إلى الحقّ، ويأخذ منه من حيثيّة اسم خاصّ هو سلطانه.

ولمّا كانت الأسماء متقابلة ومختلفة، وكانت أحكامها وأذواقها وآثارها وأحوالها أيضا كذلك ظهر للّبيب ـ وإن لم يكمل كشفه بعد ـ أنّ سبب الاختلاف هنا هو سبب

الاختلاف في الأصل، فهي في التعيّن تابعة للخلق، والخلق في الحكم والحال تابعون لها.

ولمّا كان كلّ اسم من وجه عيّن المسمّى، ومن وجه غيره ـ كما بيّن من قبل ـ كان حكمها أيضا ذا وجهين : فالمحجوبون من أهل العقائد غلب عليهم حكم الوجه الذي به يغاير الاسم المسمّى، وأهل الأذواق المقيّدة غلب عليهم حكم الوجه الذي يتّحد به الاسم والمسمّى، مع بقاء التمييز والتخصيص الذي تقتضيه مرتبة ذلك الاسم، والأكابر لهم الجمع والإحاطة بالتجلّي الذاتي، وحكم حضرة أحديّة الجمع، فلا يتقيّدون بذوق ولا معتقد، ويقرّرون ذوق كلّ ذائق، واعتقاد كلّ معتقد، ويعرفون وجه الصواب في الجميع والخطاء النسبي، وذلك من حيث التجلّي الذاتي، الذي هو من وجه عين كلّ معتقد، والظاهر بحكم كلّ موافق ومخالف منتقد، فحكم علمهم وشهودهم يسري في كلّ حال ومقام، ولهم أصل الأمر المشترك بين الأنام، والسلام.


nbkuhZJSGVI

 

 

البحث في نص الكتاب

كتب صدر الدين القونوي:

كتب صدر الدين القونوي:

كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن

مفتاح غيب الجمع ونفصيله

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص

الأسماء الحسنى

رسالة النصوص

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

النفحات الإلهية

مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين

المكتوبات

الوصية

إجازة الشيخ محي الدين له

التوجه الأتم إلى الحق تعالى

المراسلات بين صدرالدين القونوي وناصرالدين الطوسي

الرسالة المهدوية

الرسالة الهادية

الرسالة المفصحة

نفثة المصدور

رشح بال

الرسالة المرشدية

شرح الشجرة النعمانية {وهي تنسب خطأً إليه}



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!