المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
اعلم، أنّه قد ذكرنا في لفظة «إيّاك» ما يقتضيه حكم اللسان وما لا حاجة إلى إعادته، أو ذكر مثله، كما لا حاجة أيضا إلى ذكر كلّيّات أسرار بقيّة السورة ؛ لأنّا إنّما الكتاب بالكلام على الأصول الكلّيّة، وأمّهات الحكم والعلوم والأسرار العليّة، ليكتفي بها اللبيب حيثما أحيل عليها، فإنّ المقصود الإلماع والإيجاز، لا التصريح والإطناب، فهذه أصول ومفاتيح كلّيّة من فهمها وعرف كيف يطّرد حكمها فيما هو فرع عليها وتبع لها، عرف معظم أسرار القرآن العزيز، بل وسائر الكتب، فلا تتّكل بعد على البسط للكلام منّي، فقد اتّكلت على مزيد فهم وتأمّل منك ـ إن شاء الله تعالى ـ وإنّما أذكر فيما بعد عقيب الفراغ من وظيفة الظاهر ما تتضمّنه بقيّة السورة مما يختصّ بكلّ آية آية منها من الحكم والأسرار الباطنة، وما بعد الباطن كما سبق به الوعد ـ إن شاء الله تعالى ـ ولنشرع ـ بعد هذا التقرير والاكتفاء في ظاهر «وإيّاك» الثاني بما مرّ في «إيّاك» الأوّل ـ في الكلام بلسان الباطن، فنقول :
اعلم، أنّ متعلق الإشارة من (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليس هو متعلّق الإشارة من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ؛ لأنّ الأوّل إشارة إلى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة عند العابد، وصار منتهى مدى مقصده ووجهته، بحسب علمه أو شهوده، أو اعتقاده المتحصّل من موادّ الظنون والتخيّلات المنبّه عليها من قبل.
ومتعلّق الإشارة من (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليس مطلق ذلك المعبود من كونه معبودا فقط، بل من حيث إنّ له صلاحيّة أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه، وفي طلب الاستعانة من العبد دعوى ضرب من الاستطاعة، بصورة تعريف بحالة في العبادة، وعلمه بمكانة المعبود، وما يعامل به، مع اعتراف خفيّ بعدم الاستقلال، وكأنّه يقول : أجد
عندي قوّة على تحصيل مطالبي، لكنّي غير متيقّن ولا جازم أنّها وافية بتحصيل الغرض، فلا مندوحة عن معاونة منك لما عندي من التمكّن ؛ لأنّ المعونة منك إذا اتّحدت بما عندي من القوّة، رجوت الفوز بالبغية، والوفاء بحقّ العبادة، وإنّي شاكرك على ما منحتني من القوّة، وجدت بها عليّ ابتداء دون سؤال منّي، وبها تمكّنت من طلب العون منك، رجاء القيام بحقّك، والانفراد لك دون تردّد فيك، و تعرّض إلى غيرك. هذا لسان مرتبة العبد.
وأمّا لسان الربوبيّة المستبطنة في ذلك من كون الحقّ أنزل هذا على عباده، وأمرهم بعبادته على هذا الوجه، فهو أنّه سبحانه لمّا علم أنّ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته والعبادة له واللجأ إليه، فإنّ الشواغل والغفلات التي هي من خصائص هذه النشأة تذهل الإنسان في بعض الأوقات عن تذكّر ما يجب تذكّره واستحضاره، فاحتاج إلى التذكير وتعيين ما الأولى له الدؤوب عليه ؛ لأنّ ما لا يتعيّن لا يثمر ولا يؤثّر، لا جرم أمره تعالى أن يقول بعد تقديم الثناء عليه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تذكيرا له أنّ الذي تجده من العلم والقوّة وغيرهما، لا تظنّنّ أنّك فيه مستقلّ، أو لك بشيء من الكمالات اختصاص، بل ذلك كلّه منّي ولي، كما قال الكامل المكمّل صلىاللهعليهوآله : «إنّما نحن به وله»، فالمرتبة الربانيّة تعرّف العبد بتعذّر الاستقلال في الطرفين، وهذا من غاية العدل حيث ينبّهك الحقّ ذو الجود والفضل والإحسان والنعم التي لا تحصى، على ما لك من المدخل في تكميل صورة إحسانه، ويعتدّ لك بذلك، ويعتبره ولا يهمله ؛ كما قال سبحانه معرّفا منبّها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْه) وهذا من التضعيف، ثم قال (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)، فافهم، ترشد، ـ إن شاء الله تعالى
nbkuhZJSGVI