المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
مشرع الخصوص إلى معاني النصوص
للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي
وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
النص التاسع
قال رضي اللّه عنه : [ ومن النصوص الكلية نصوص ذكرتها في كتاب مفتاح غيب الجمع وتفصيله ، وفي غيره من الكتب التي أنشأتها لا بكلام أحد من الناس ، فإن ذلك ليس من دأبي ، وقد عصمني اللّه من ذلك وأغناني بهبته الخاصة العلية عن العواري الخارجية السفلية ، غير أنه لما اختص هذا الكتاب بذكر هذه النصوص ، وجب ذكر تلك النصوص أيضا هنا ] .
لما فرغ عن بيان أنواع التجليات من حيث كونها في المظاهر وغيرها ، وأن المظاهر لا أثر لها في الظاهر ، ولا للظاهر فيها على وجه حقيقي ، بل على نوع من المجاز ، شرع في بيان
أن التجليات لا تكون في غير المظاهر ، وأن أثرها المجازي ، فيما ذا يكون ، وجعلها من النصوص الكلية من حيث أنهما قاعدتان تنطبقان على جميع جزئياتها ، وإن كانا جزئين بالنسبة إلى ما تقدم .
ثم ذكرهما بلفظ الجمع على دأب أهل المعقول في استعمالها فيما فوق الواحد على أن النص الأخير في قوة نصين ، بل فيه فوائد كثيرة ، كل منها بمنزلة نص ، واعتذر عن ذكرهما من أنهما ذكرا في سائر كتبه ومن دأبه أن لا يذكر ما هو مذكور مرة سواء في كتبه أو كتب غيره ، بأن هذا الكتاب لما وضع شاملا للنصوص ، ذكر فيه جميع ما كان منها فيها بشروط كونها من كلامه لا من كلام غيره لما فيه من النقص من جهة التعليل أو شبه ، وذكر أنه من العواري عن العيوب الخارجية ، أي اللاحقة من الحجب الطبيعية العارضة عند النزول إلى البشرية التي هي السفل المانعة عن خروج ما في قوة النفس الناطقة من العلوم إلى الفعل ، وذكر أن عصمته منها بسبب الهيئات الخاصة من التجليات المذكورة .
وقال : “ أغناني “ : إشعارا بأن الغني عن التعليل إنما هو بالهيئات الخاصة وإلا فلا ، بل من تقليد المشايخ .
قال رضي اللّه عنه : [ فأقول من جملتها أن كل ما هو سبب في وجود كثرة وكثير ، فإنه من حيث هو كذلك ، لا يمكن أن يتعين بظهور ولا يبدو لناظر إلا في منظور ] .
أي : من جملة تلك النصوص ؛ إن كل ما هو سبب في وجود كثيرة وكثير ، أوردهما معا ، ليشعر باستلزام كل منهما للآخر من حيث الحقيقة ، وإن توهم الانفكاك فيما بعد واحد بجهة أخرى : كالإنسان الواحد ، فإنه من حيث الشمول كثير ووحدته باعتبار اعتبر السببية في وجودهما ، إذ تعقلهما كما في العلم الأزلي لا يحتاج إلى المظهر ، فإنه من حيث هو ، سبب وجودهما ، قيد بذلك ؛ لأن الحق سبب وجودهما وقد يتجلى بدون المظهر ، لكنه من حيث أنه سبب ، لا يمكن أن يتعين بظهور إلا في منظور قيدنا ؛ لأنه لا يمكن تعينه في ذاته بأنه سبب الكثرة ، لكن لا يظهر على التفصيل بدون مرايا الأسماء والصفات والعقول والنفوس وسائر المراتب . هذا في رؤية الحق تعالى ذاته من حيث هو سبب الكثرة ، فإن الرؤية التفصيلية المقيدة بالكثرة الفعلية لا يمكن بدون ذلك ، وإن أمكن رؤية كونه سبب وجود الكثرة بالقوة ، وكذا لا يمكن أن يبدو لناظر من العباد من حيث أنه
سبب وجود الكثرة إلا في منظور ؛ لأن تجليه تعالى في غير المظهر لا يكون إلا مع الفراغ التام ، ولا يمكن مع رؤية الكثرة ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ ومنها إن الشيء لا يصدر عنه ، ولا يثمر ما يضاده ، ولا ما يباينه على اختلاف ضروب الأثمار وأنواعه المعنوية والروحانية والمثالية والخيالية والحسية والطبيعية ، وهذا عام في كل ما يسمى مصدرا لشيء أو أشياء ، أو أصلا مثمرا ، لكن إنما يكون له هذا الوصف باعتبار تعقله من حيث هو هو ، وباعتبار آخر خفي لا يطالع عليه إلا الندر من المحققين ] .
أي : من جملة تلك النصوص إن الشيء لا يصدر عنه قصدا ولا يثمر إلى قصد ما يضاده ، وهو ما بينهما غاية الخلاف ، ولا يباينه وهو ما بينهما مخالفة يمنع صدق أحدهما على الآخر مع اختلاف ضروب ، أي : أجناس الإثمار ،
أي : الأفعال الإلهية ، واختلاف أنواع كل جنس منها المعنوية إلى المعاني المجردة والروحانية ،
أي : الأرواح والنفوس والمثالية ، أي : المنطبعة في الخيال المنفصل ، والحسية
أي : الأجسام وأوصافها والطبيعية ، أي : القوى الجسمانية ، وهذا ضابط عام في كل ما يسمى مصدرا لشيء واحد ، كالملائكة المخصوصة بأعمال أو أشياء كالإنسان أو أصلا مثمرا كالعناصر والمولدات ، أعني المعدن والنبات والحيوان ، وذلك لوجوب المناسبة بين الفاعل والمنفعل على ما تقرر في العلوم ، لكن إنما يكون له هذا الوصف ، أي كونه لا يصدر منه ما يضاده ، ولا ما يباينه باعتبار تعقله من حيث هو هو ؛ لأن المضادة والمباينة إنما تتحقق بالنسبة إليه ، إذا اعتبر وحده ، وأما مع الضميمة ، فيجوز أن يحصل المناسبة بينهما بواسطتها ، ومن هنا اختلفت ضروب الأثمار وأنواعها .
ثم ذكر رضي اللّه عنه : أن هذا الوصف يكون له أيضا اعتبار آخر ، ولا يطلع عليه إلا النّدر من المحققين ، ولست منهم حتى أطلع عليه ، ولعله من حيث أن الضميمة قد تكون أيضا مما يقتضي خلاف ذلك الضد أو المثلين ، وذلك أن لكل شيء ربّا خاصا ، وله ظهور وتجلّ أي :
وقت معين ، ولا يتأتى منه خلاف مربوبه الخاص ، فافهم ذلك “ .
قال رضي اللّه عنه : [ ومتى توهم وقوع خلاف ما ذكرنا ، فليس ذلك إلا بشرط خارج عن ذات الشيء أو شروط وبحسبها وبحسب الهيئة المتعلقة الحاصلة من تلك الجمعية أعني
جمعية الحقيقة الموصوفة بالمصدرية مع الشروط والاعتبارات الخارجية ، وأحكام المرتبة التي يتعين فيها ذلك الإجماع ، وكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ " 1 " [ الإسراء : 84 ] . ]
ومتى اعترض على هذه القاعدة الكلية بتوهم وقوع الضد والمباين أو إثمارهما من الشيء ، فليس بوارد ؛ لأننا إنما منعنا صدور هما وإثمارهما من حيث تعقله من حيث هو هو ، وهذا إنما وقع بانضمام شرط خارج عن ذات ذلك الشيء ، كالنفس الكلية عن الحق بشرط العقل الأول أو شروط كثيرة كسائر المراتب المذكورة .
وإنما وقعت هذه الأمور المتضادة والمتباينة بحسب تلك الشروط الخارجية ، وبحسب الهيئة المتعلقة قبل ذلك ؛ إشعارا بعدم اشتراط الهيئة المحسوسة الحاصلة من تلك الجمعية الحقيقية الموصوفة المصدرية والإثمار ، أي التي يعتقد المتعرض أنها هي المصدر المثمرة مع الشروط الخارجية ، ومع الاعتبارات الخارجية اللاحقة بالذات ، أو بالشرط وبسبب هذا الاجتماع ، ومع الأحكام المترتبة التي يتعين فيها ذلك الاجتماع ، أي اجتماع الشروط مع الحقيقة ، إذ بذلك تصير مرتبة معينة ، ولها أحكام ، فالمؤثر هو المجموع ، ولكل جزء جزء فيه أثر خاص ، إذ كل جزء من تلك الأجزاء المادية والصورية تعمل على شاكلته ، وفيه اقتباس مع الاستدلال على المطلوب ، فيبعد بذلك على الأصل بعدا قريبا وبعيدا ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ ولا يثمر شيء ولا يظهر عنه أيضا عينه ولا ما يشابه مشابهة تامة ، فإنه يلزم من ذلك أن يكون الوجود قد حصل مرتين ، وظهر في حقيقة واحدة ومرتبة واحدة على وجه واحد ونسق واحد ، وذلك تحصيل للحاصل ، وأنه محال لخلوه عن الفائدة ، وكونه من قبيل العبث ، ويتعالى الفاعل الحق الحكيم العليم من فعل العبث ، فلا بد من اختلاف ما بين الأصول وثمراتها ] .
شرع فيما هو في معنى النص الثالث ، أي وكما لا يثمر ولا يصدر عنه ما يضادّه ولا ما يباينه ، كذلك لا يثمر عينه ، ولا مشابه من كل وجه حتى الحقيقة والمرتبة والوجه والنسق ، والزمان والمكان وسائر العوارض .
...............................................................
( 1 ) أي : خليقته وملكته الغالبة عليه من مقامه ، فمن كان مقامه النفس ، وشاكلته مقتضى طباعها عمل ما ذكرنا من الإعراض واليأس ، ومن كان مقامه القلب ، وشاكلته السجية الفاضلة عمل بمقتضاها الشكر والصبر .
وإنما قال : أولا هنا ، ولا يثمر إشعارا بأنه إذا لم يحصل من غير قصد ، فكيف من القصد ، وإنما قال : ولا يظهر ؛ دفعا لما يتوهم من أن المرآة يظهر فيها العين أو المشابه من كل وجه ، ثم علل ذلك بأنه يلزم من ذلك أن يكون الوجود قد حصل ، ولما لم يكن الوجود حادثا أصلا لما بيناه عن وجوبه بالذات ، فسره بقوله : وظهر ، وإنما أورد لفظ قد حصل ؛ ليناسب قوله : وذلك تحصيل الحاصل في حقيقة واحدة ، ومرتبة واحدة على وجه واحد ونسق واحد ، وإنما ذكر هذه الأمور ؛ لأن الحقيقة غير المرتبة كما في الفرس والبقر في مرتبة واحدة وهي الحيوان مع اختلاف حقيقتهما ، فإن الفرس حيوان صاهل ، والبقر حيوان خائر ومعها غير الوجه ، فإنه باعتبار العوارض والكل غير النسق ؛ لأنه باعتبار الهيئة المجموعية ، وذلك تحصيل للحاصل .
أما إذا أثمر عينه فظاهر ، وأما إذا أثمر المشابهة من كل وجه ؛ فلأنه في معنى العين ، وإلا لفارقه من حيث نفسه وشخصه ، وهو من بعض الوجوه ، فكأنه رضي اللّه عنه إنما ذكره دفعا للوهم ، وإلا فهو في معنى العين أيضا .
ثم بيّن أنه محال لخلوه عن الفائدة ؛ لأنه ليس تحصيل الحاصل بالمعنى المشهور ؛ لأنه فسر الحصول بمعنى الظهور ، لا أنه فائدة فيه ، فظهوره تعالى لنفسه في نفسه وما خلا عن الفائدة فهو عبث ، وهو محال في فعل الحق ؛ لأن المبطل لا يبالي به الحكيم ؛ لأن غيره قد يفعل ، العليم لأن غيره قد يفعله جهلا ، وإذا كان كذلك ، فلا بد من الاختلاف ما بين الأصول وثمراتها ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ فالممكنات غير متناهية ، والفيض من الحق الذي هو أصل الأصول واحد ، فلا تكرار في الوجود عند من عرف ما ذكرنا ، فافهم .
ولهذا قال المحققون : إن الحق سبحانه وتعالى ما تجلى في صورة واحدة لشخص واحد مرتين ، ولا لشخصين أيضا في صورة ، فلا بدّ من فارق واختلاف من وجه ، أو وجوه ، كما أشرت إليه من قبل ، فافهم واللّه المرشد ] .
استدلال آخر على امتناع تحصيل الحاصل بمعنى الظهور ، فأظهر لوجهين آخرين :
أحدهما إن الممكنات غير متناهية على ما هو المشهور ، وكل يقتضي ظهورا ، فلو تكرر الظهور ، زاد على غير المتناهي ، فلو قوبل كل ظهور بكل ممكن ، فإن لم ينقطع الممكن قبل
الظهور ، كان الناقص مثل الزائد ، وإن انقطع كان متناهيا ، وزيادة الظهور بقدر منتهاه ، فينقطع أيضا ، فيكون غير المتناهي بل الزائد عليه متناهيا ، وهذا هو برهان التطبيق في امتناع التسلسل .
والثاني : إن الفيض من الحق تعالى واحد ولا يظهر من الواحد في مرآة واحدة ظهورين ، وإذا عرفت المقدمتان وسلمنا ، فلا تكرار في الوجود .
ولهذا قال المحققون ، ومنهم أبو طالب المكي وأتباعه : إن الحق سبحانه وتعالى ما تجلى في صورة واحدة لشخص واحد مرتين ، وإلا لتعدد الفيض ضرورة ظهوره ظهورين في مرآة واحدة في حالة واحدة ، والشيء الواحد لا يتعدد ظهوره في مرآة واحدة في حالة واحدة ، ولا لشخصين أيضا في صورة واحدة ، ولما كانت الممكنات متناهية على نهج الجواز ، لكن عدم تناهيها واجب ؛ وذلك لأنه يجوز حينئذ أن يكون الشخص الثاني تكرار الشخص الأول ، وهكذا بالنسبة إلى الممكنات ، وما لم يظهر ليس بممكن أن يظهر بالنسبة إلى العلم القديم ، فتكون الممكنات متناهية ، لكن هذا الدليل إقناعي كما هو دأب المشايخ ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من فارق بين التجليين من وجه ، وأقله التعدد ، أو وجوه باختلاف الذاتيات أو العوارض أو المجموع ، وإذ امتنع التكرار بالنسبة إلى الممكنات بعضها إلى بعض ، فبالنسبة إلى الحق ما يظهر منه أولي ، فافهم هذا المقام ؛ لتعلم أن التجليات غير متناهية وغير مشابهة بعضها لبعض ، وأن الحق لا يشبه شيئا مما تجلى فيها ، وتعلم اختلاف كشوف المشايخ ، واللّه المرشد لك إلى معرفتها .